الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (168- 169): {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}قلت: {حلالاًّ} حال، أو مفعول به، و{طيباً} نعت له، و{الخُطُوات} جمع خطوة، وهي بالفتح- مصدر خطَا يَخْطُوا، وبالضم- اسم لمسافة ما بين القدمين، ويُكَسَّر على خطاً، ويُصَحَّح على خطوات، مثلث الطاء، أعني: الضم على الإتباع، كغرفات وقربات، قال ابن مالك:والسكون على الأصل في المفرد، والفتح تخفيفاً، قال في الألفية: وقرئ في المواتر بالضم والإسكان، وفي الشاذِّ بالفتح.قال الخليل: (خطوات الشيطان، آثاره وطرقه، يقول: لا تقتدوا به). اهـ. وأصل السوء: كل ما يَسُوء صاحبه ويُحزنه. والفحشاء: ما قبحُ من القول والفعل، مصدر فحش كالبأساء والضراء واللأوَاء.قال ابن عباس: (الفحشاءُ: ما فيه حد، والسوء: ما لا حَدَّ فيه)، وقال مقاتل: (كل مافي القرآن من ذكر الفشحاء فإنه الزنا، إلا قوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ} فإنه البخل) [البَقَرَة: 268]. قال البيضاوي: السوء والفحشاء: ما أنكره العقل واستقبحه الشرع، والعطف لاختلاف الوصفين، فإنه سوءٌ لاغتمام العاقل، به، وفحشاء باستقباحه إياه، وقيل: السوء يعمُ القبائح، والفحشاء ما تجاوَز الحدَّ في القبح. اهـ.يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الناس كلوا} من جميع ما خلقنا لكم في الأرض من نباتها مما يُستطاب أكله، وحيواناتها إلا ما حرمناه عليكم، حالة كون ذلك {حلالاً} قد انحلَّت عنه التبِعَات، وزالت عنه الشبهات، {طيباً} مُستلَذاً يستلِذُّه الطبع، ويستحسنه الشرع، {ولا تتبعوا} طرق {الشيطان} فتُحَرِّموا برأيكم ما أحلَّ الله لكم، كالبَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحام، وبعض الحرث الذي جعلتموه للأصنام، فإن ذلك من تزيين الشيطان، وهو {لكم عدو مبين}. ومن شأن العدو الخِدَاع والغرور، فإنما يأمركم بما يَسُوء وجوهَكم من الذنوب، وما يُرديكم من قبائح المعاصي والعيوب، {وأن تقولوا على الله} ما لا علم لكم به من تحلِيل الحرام، أو تحريم الحلال، أو ادعاء الولد أو الصاحبة في جانب الكبير المتعال.الإشارة: اعلم أن الحق تعالى جعل للبشرية قُوتاً ونعيماً تتنعم به، وجعل للروح قوتاً ونعيماً تتلذذ به، فقُوت البشرية الطعام والشراب، ونعيمُها: الملابس والمَناكح والمَراكب. وقوت الروح: اليقين والعلوم والأنوار، ونعيمها: الشهود والاستصبار والترقي في المعارف والأسرار، فكما أن النفس تأكُل مما في الأرض حلالاً طيباً، كذلك الروح تأكل مما في الأرض حلالاً طيباً، إلا أن أكل النفس حِسّي، وأكل الروح معنوي، وهو التفكر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه: وقال الششتري رضي الله عنه: وكان شيخُ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه يقول: (مَن أراد أن يذوق فليذهب إلى السوق).وذلك لأنه مظنة الزحام، وفيه عند الأقوياء الربح التام، فيقال لهم: يا أيها الناس الكاملون في الإنسانية؛ كلوا مما في الأرض بأرواحكم وأسراركم، شهوداً واعتباراً، حلالاً طيّباً، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، فتقفوا مع ظواهر الأكوان، فتُحجبوا عن الشهود والعيان، فإنه لكم في صورة العدو المبين، لكنه في الحقيقة يحشوكم إلى الرسوخ والتمكين، لأنه كلما حرككم بنزغه فزعتم إلى ربكم في دفعه، حتى يمكنكم من حضرته، فإنما يأمركم بما يسوء وجوهكم ويغُم قلوبكم، من مفارقة شهود الأحباب، والوقوف مِنْ وراء الباب، وأن تقولوا على الله ما ليس بحق ولا صواب، كثبوت السَّوي، أو الالتفات إلى الهوى. والله تعالى أعلم. .تفسير الآية رقم (170): {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}قلت: الضمير في {لهم} يعود على {من يتخذ من دونه الله أنداداً}، أو على {الناس}، من قوله: {يا أيها الناس}، أو على {اليهود} المتقدمين قبلُ، وألفى: بمعنى وجد، يتعدّى إلى مفعولين، وهما هنا: {آباءنا} والجار والمجرور، أي: نتبع في الدين ما وجدنا آباءنا كائنين عليه.يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا قيل} لهؤلاء المشركين من كفار العرب: {اتبعوا ما أنزل الله} على سوله من التوحيد، وترك الأنداد له والأمثال، وتحريم الحرام وتحليل الحلال، {قالوا بل نتبع} ما وجدنا {عليه آباءنا} من عبادة الأصنام، وارتكاب المعاصي والآثام، قال الحق جلّ جلاله: أيتبعونهم تقليداً وعَمى، ولو كان آباؤهم جهلة {لا يعقلون شيئاً} من الدين، ولا يتفكرون في سبيل المهتدين؟! وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهودَ إلى الإسلام، ورغبهم فيه، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا خيراً وأعلم منا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. اهـ.الإشارة: وإذا قيل لمن أكَبَّ على دنياه، واتخذ إلهه هواه، فأشرك في محبة الله سواه: أقلعْ عن حظوظك وهواك، وأفرد الوجهه إلى مولاك، واتبع ما أنزل الله من وجوب مخالفة الهوى ومحبة المولى، قال: بل أتبع ما وجدتُ عليه الآباء والأجداد، وأكبَّ عليه جلُّ العباد، فيقال له: أتتبعهم في متابعة الهوى، ولو كانوا لا يعقلون شياً من طرق الهدى؟ وقد قال- عليه الصلاة والسلام-: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتى يَكُونَ هَواهُ تَبعاً لِمَا جِئتُ به» ه...تفسير الآية رقم (171): {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}قلت: {ومثل} إلخ، يحتمل أن يكون على حذف مضاف، أي: مثَلُ واعظِ الذين كفروا، أو لا يحتاج إلى تقدير. وسأتي بيانه، ونَعَقَ، كضرب، ينعق نعقاً ونعيقاً، إذا صاح وزجر.يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومثل} واعظ {الذين كفروا} وداعيهم إلى الله {كمثل} الراعي الذي يرعَى البهائم، وينعق عليها؛ ليزجرها، أو يدعوها فإذا سمعَت النداء رفعَتْ رؤوسها ولم تعقِلْه، ثم عادت إلى مراعيها، فلا تسمع من الراعي يزجرها {إلاَّ دعاء ونداء}، ولا تفقه ما يقول لها، كذلك الكفار المنهمكون في الكفر، إذا دعاهم أحد إلى التوحيد لا يلتفتون إليه، ولا يفقهون ما يقول لهم، كالبهائم أو أضل.أو {مثل الذين كفروا} في انهماكهم في التقليد والجهل، مع مَنْ يدعوهم إلى الله {كمثل} بهائم الذي ينعق ويصيح عليها صاحبها فلا تسمع {إلاَّ دعاء ونداء} ولا تفقه ما يقول لها، أو {مثل الذين كفروا} في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تعقل، كمثل الناعق بغنمه، فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه في عناء وتعب من دعائه وندائه، ثم وصفهم بالصمم والبكم والعمى مجازاً، أي: هم {صُم} عن سماع الحق فلا يعقلونه، {بُكْم} عن النطق به، {عُمْي} عن النظر إلى أسبابه، أو عن الهدي فلا يبصرونه، {فهم لا يعقلون} شيئاً ولا يتدبرون.الإشارة: إذا تمكن الهوى من القلوب عَزَّ دواؤه وشقّ علاجه، وعظم على الأطباء عناؤه، فالمنهمكون في الغفلة لا ينفَع فيهم التذكير، ولا ينجح فيهم التخويف والتحذير، فالواعظ لهم كالناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، قد أعماهم الهوى، وأصمهم عن سماع أسباب الهدي:فلا يُقلع الهوى من قلوبهم إلا بسابق العناية، أو هبوب ريح الهداية، فتثير في قلوبهم خوفاً مُزْعِجاً، أو شوقاً مُقْلِقًا، أو نُوراً خارقاً {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20]. .تفسير الآيات (172- 173): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}قلت: أصل اضْطُرَّ: اضتُرِرَ، على ومن افتعل، من الضرر، أُبدلت التاء طاءً لقرب مخرج التاء من الطاء، قال في الألفية:ثم أدغمت الراء في الراء بعد ذهاب حركتها، وقرأ أبو جعفر: بكسر الطاء حيث وقع: ووجهُه: نقل حركة الراء إلى الطاء، وأصل البغي: قصد الفساد، يقال: بغي الجرح بغياً، إذا ترامى إلى الفساد، ومنه قيل للزنا: بِغاء، وللزانية: بَغِيّ، وأصل العدوان: الظلم ومجاوزة الحد، يقال: عَدَا يعدُوا عُدواناً وعَدْواً.يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا كلوا} من لذيذ {طيبات ما رزقناكم} وَقِفُو عند ما حلَّ لكم ولا تحرموا برأيكم ما أحللنا لكم، كما فعل مَنْ سَلَفَ قبلكم، {واشكروا} نعمة الله عليكم الظاهرة والباطنة {إن كنتم} تخصُّونه بعبادتكم، فقد أحلّلْنا لكم جميع ما خلقنا لكم على وجه الأرض التي تُقِلكم.{إنما} حرمنا {عليكم} ما فيه ضررُكم كالميتة لخُبْثها، {والدم} لأنه يقسي قلوبكم، {ولحم الخنزير} لأنه يُورث عدم الغيرة، وما ذكر عليه غير اسم الله، وهو الذي {أُهِلَّ به لغير الله} أي: رُفع الصوت عند ذبحه لغير الله، وهو الصنم {فمن اضطر} وألجئ إلى شيء من هذه المحرمات، {غير باغ} أي: ظالم بأكلها اختياراً، {ولا عاد} متعدّ بتعدى الحلالَ إلى الحرام، فيأكلها وهو غني عنها {فلا إثم عليه}، {أو غير باغ} غير قاطع للطريق، {ولا عاد}: مفارقة للأمة خارج عن الجماعة، فمن خرج يقطع الرحم، أو يُخيف ابنَ السبيل، أو يُفسد في الأرض، أو أَبَق من سيده، أو فرَّ من غريمه أو عاصياً بسفره، واضطر إلى شيء من هذه، فلا تحلُّ له حتى يتوب ويأكل، {فإن الله غفور رحيم}. وقال سهل بن عبد الله: {غير باغ}: غير مفارق للجماعة {ولا عاد}: مبتدع مخالف للسنّة، فلم يرخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات.الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل العِرْفان، كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلاوة الشهود والعيان، واشكروا الله الكريم المنَّان، إن كنتم تخصونه بالعبادة والإحسان أو: يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل الصفاء، ووقفوا مع الحدود ووقوف أهل الوفاء، كلوا من طيبات ما رزقناكم من ثمرات بساتين العلوم، واشكروا لله يزدكم من المواهب والفهوم، إن كنتم تعبدون الحيّ القيوم، إنما حرم عليكم ما يعوقكم عن هذه المواهب، أو ينزلكم عن منابر تلك المراتب، كالميل إلى جيفة الدنيا، أو الركون إلى متابعة الهوى، أو تأخذون منها ما قُصد به غيرُ الله، أو تقبضونها من يد غير الله، فمن اضطر إلى أخذ شيء من نجاستها، فأخَذَ القدر الذي احتاج إليه منها، دون التشوُّف إلى ما زاد عليه، غير قاصد بذلك شهوة ولا متعة، ثم إثم عليه، إن الله غفور رحيم.قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجَمَل رضي الله عنه لما تكلم على الغَنِيَّ بالله، قال: (علامته هو الذي ترك الدنيا للخلق، حتى لا يكون له فيها حق معهم، إلا ما فَضَل عنهم من بعد اضطراره واحتياجه، ويترك الآخرة لمولاه، حتى لا يكون له فيها حق إلا النظر في وجه الله، ويترك أيضاً نفسه لله حتى لا يكون فيها حق إلا حق مولاه، ولا إرادة له إلا ما أراد مولاه، ويكون كالغصن الرطب أينما مالت به الريح يلين ويميل معها، ولا ينكر على الخلق حالاً من أحوالهم). اهـ. .تفسير الآيات (174- 176): {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}قلت: {ما} تعجبية، مبتدأ، وهي نكرة، وسوَّغَ الابتداء َ معنى التعجب، وجملة {أصبرهم} خبر، أي: أيُّ شيء عظيم صيَّرهم صابرين، أو استفهامية، أي: أيُّ شيء حملهم على الصبر على النار؟يقول الحقّ جلّ جلاله: في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يُصيبون من سفلتهم الهدايا والخَرَاج، ويدَّعون أن النبيّ المبعوث منهم، فلما بُعِثَ نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم خافوا ذهاب مأكلتهم ورئاستهم، فأنزل الله: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله} في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحرفونها في المعنى ويَنْزِعُونها {من الكتاب} أي: التوراة، {ويشترون} بذلك التحريف {ثمناً قليلاً} أي: عِوَضاً حقيراً يذهب ويفنَى في زمان قليل {أولئك} الذين يكتمون ويأكلون ذلك العوض الحقير- {ما يأكلون في بطونهم} إلا نار جهنم؛ لأنهم مآلهم وعقوبة أكلهم، {ولا يكلمهم الله} إهانة وغضباً عليهم حين يُكلم أولياءه ويُسلم عيلهم، {ولا يزكيهم} أي: لا يطهرهم من دنَس ذنوبهم حتى يتأهلون للحضرة، {ولهم عذاب أليم} مُوجع. {أولئك الذين} استبدلوا {الضلالة بالهدى} أي: باعوا الهدى واشتروا به الضلالة، واستبدلوا {العذاب بالمغفرة} التي كانت لهم لو آمنوا وبيّنوا، فما أجرأهم على اقتحام النار باقتحام أسبابها، أو فما أبقاهم في النار، أو ما الذي أصبرهم على النار حتى تركوا الحق ومالوا إلى الباطل؟! استفهام توبيخي.{ذلك} العذاب الذي استحقوه وتجرءوا عليه بسبب أن {الله} تعالى {نزل الكتاب} القرآن ملتبساً {بالحق}، فاختلفوا فيه؛ فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} أي: لفي خلاف وضلال بعيد.الإشارة: كل من كتم علمه، ولم ينشرْه إلا في مقابلة حظ دنيوي، صَدَق عليه قولُه تعالى: {ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار}. رُوِيَ أن بعض الصحابة كان يُقرئ أهل الصُّفّة، فأَهْدَى له أحدُهم قوساً، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: كنت أُعلِّمُ أهلَ الصفة فأهدى لي فلان قوساً، وقال: هو لله، فقال له- عليه الصلاة والسلام-: «لقدْ تقلدتَ قَوسْاً مِنْ نَارِ جَهنم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأمره بردِّه. ولعل هذا من باب الورع، فأراد عليه السلام أن يرفع همة ذلك الصحابي، وإلا فقد ورد في الحديث: «أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ علَيْهِ الأجرَ كتَابُ اللّهِ».فمن ملَكَتْه نفسه، وأسره الهوى، فقد اشترى الضلالة بالهدى، اشترى الضلالة عن طريق أولياء الله، بالهدى الذي كان له ملَكَ نفسه وهواه، وعذابَ القطيعة والحجاب، بالمغفرة والدخول مع الأحباب، فما أصبرهم على غم الحجاب وسوء الحساب، سبب ذلك اختلاف قلبه، وتفريق همه ولُبَّه، وقد قال- عليه الصلاة والسلام-: «اقْرَءوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُبُكمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا» أو كما قال: وسببت تفرق القلب وعدم حضوره، حبُّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللّهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا من قُسِمَ لَهُ، ومن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللّهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وَهِيَ رَاِغِمةً».والقلب الذي اختلَف في فهم الكتاب وتشتَّت عنه في شقاق بعيد عن الحضرة؛ لأن عُنْوان صحة القلب: جمعُه على كلام الله وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه، وقد تقدم في أول السورة درجات القراءة: فانظره إن شئت. وبالله التوفيق.
|