الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***
لما كانت اليمين للمنع في أحد نوعيها ناسب أن يذكر الحدود عقيبها لأن الحد في اللغة المنع ومنه سمي البواب حدادا لمنعه الناس عن الدخول والسجان حدادا لمنعه عن الخروج، وحدود الديار نهاياتها لمنعها عن دخول ملك الغير فيها وخروج بعضها إليه وسمي اللفظ الجامع المانع حدا لأنه يجمع معنى الشيء ويمنع دخول غيره فيه وسميت العقوبات الخالصة حدودا لأنها موانع من ارتكاب أسبابها معاودة، وحدود الله محارمه لأنها ممنوع عنها ومنه {تلك حدود الله فلا تقربوها} وحدود الله أيضا أحكامه؛ لأنها تمنع من التخطي إلى ما وراءها ومنه {حدود الله فلا تعتدوها} ولأن كفارة اليمين دائرة بين العقوبة والعبادة فناسب أن يذكر العقوبات المحصنة بعدها. قوله: (الحد عقوبة مقدرة لله تعالى) بيان لمعناه شرعا فخرج التعزير لعدم التقدير ولا ينافيه قولهم: إن أقله ثلاثة وأكثره تسعة وثلاثون سوطا؛ لأن ما بين الأقل والأكثر ليس بمقدر ولأنه يكون بغير الضرب وخرج القصاص؛ لأنه حق العبد فلا يسمى حدا اصطلاحا على المشهور وقيل يسمى به فهو العقوبة المقدرة شرعا فهو على هذا قسمان قسم يصح فيه العفو وهو القصاص وقسم لا يصح فيه وهو ما عداه وعلى الأول المشهور الحد لا يقبل الإسقاط مطلقا بعد ثبوت سببه عند الحاكم وعلى هذا يبنى عدم جواز الشفاعة فيه فإنها طلب ترك الواجب ولذا «أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد حين شفع في المخزومية التي سرقت فقال أتشفع في حد من حدود الله تعالى» وأما قبل الوصول إلى الإمام والثبوت عنده تجوز الشفاعة عند الرافع له إلى الحاكم ليطلقه؛ لأن الحد لم يثبت كذا في فتح القدير والتحقيق أن الحدود موانع قبل الفعل زواجر بعده أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعه بعده يمنع من العود إليه فهي من حقوق الله تعالى؛ لأنها شرعت لمصلحة تعود إلى كافة الناس فكان حكمها الأصلي الانزجار عما يتضرر به العباد وصيانة دار الإسلام عن الفساد ففي حد الزنا صيانة الأنساب وفي حد السرقة صيانة الأموال وفي حد الشرب صيانة العقول وفي حد القذف صيانة الأعراض فالحدود أربعة وما في البدائع من أنها خمسة وجعل الخامس حد السكر فلا حاجة إليه؛ لأن حد السكر هو حد الشرب كمية وكيفية وإن اختلف السبب واختلف العلماء رحمهم الله في أن الطهرة من الذنب من أحكامه من غير توبة فذهب كثير من العلماء إلى ذلك وذهب أصحابنا إلى أنها ليست من أحكامه، فإذا أقيم عليه الحد ولم يتب لم يسقط عنه إثم تلك المعصية عندنا عملا بآية قطاع الطريق فإنه قال تعالى: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا} فإن اسم الإشارة يعود إلى التقتيل أو التصليب أو النفي فقد جمع الله تعالى بين عذاب الدنيا والآخرة عليهم وأسقط عذاب الآخرة بالتوبة، فإن الاستثناء عائد إليه للإجماع على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا، وأما ما رواه البخاري وغيره مرفوعا أن: «من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» فيجب حمله على ما إذا تاب في العقوبة؛ لأنه هو الظاهر؛ لأن الظاهر أن ضربه أو رجمه يكون معه توبة منه لذوقه سبب فعله فتقيد به جمعا بين الأدلة وتقيد الظني مع معارضة القطعي له متعين بخلاف العكس كذا في فتح القدير وقد يقال: إذا كان الاستثناء في الآية عائدا إلى عذاب الآخرة لم يبق لقوله تعالى: {من قبل أن تقدروا عليهم} فائدة؛ لأن التوبة ترفع الذنب قبل الأخذ والقدرة عليهم وبعدها فالظاهر أنه راجع إلى عذاب الدنيا لما سيأتي أن حد قطاع الطريق يسقط بالتوبة قبل القدرة عليهم، وإنما يبقى حد العباد عليهم من القصاص إن قتلوا والقطع إن أخذوا المال فصح العفو عنهم بخلافها بعد القدرة، فإنها لا تسقط حق الله تعالى حتى لا يصح عفو أولياء المقتولين واستدل الزيلعي على عدم كونه مطهرا من الذنب بأنه يقام على الكافر ولا مطهر له اتفاقا وزاد بعضهم ويقام على كره ممن أقيم عليه الحد، والثاني ليس بشيء لجواز التكفير بما يصيب الإنسان من المكاره، وإن لم يصبر كما نص عليه الإمام الشافعي. والحاصل أن الواجب على العاصي في نفس الأمر التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، والإنابة ثم إذا اتصل بالإمام ثبوته وجب إقامة الحد على الإمام ولا يمتنع من إقامته بسبب التوبة، وفي الظهيرية رجل أتى بفاحشة ثم تاب وأناب إلى الله تعالى، فإنه لا يعلم القاضي بفاحشته لإقامة الحد عليه؛ لأن الستر مندوب إليه ا هـ. (قوله: والزنا وطء في قبل خال عن الملك وشبهته) بيان لمعناه الشرعي، واللغوي، فإنهما سواء فيه وخرج الوطء في الدبر وخرج وطء زوجته وأمته ومن له فيها شبهة ملك ودخل وطء الأب جارية ابنه، فإنه زنا شرعي بدليل أنه لا يحد قاذفه بالزنا، وإن لم يجب الحد عليه، والمراد وطء الرجل فخرج الصبي لكن يرد عليه المرأة، فإن فعلها ليس وطئا، وإنما هو تمكين منه. والجواب أن تسميتها زانية مجاز، والكلام في الحقيقة ولم يقصد المصنف تعريف الزنا الموجب للحد كما توهمه الزيلعي، فإنه لو كان كذلك لانتقض التعريف طردا وعكسا أما انتقاضه طردا، فإنه يوجد في المجنون، والمكره وفي وطء الصبية التي لا تشتهى، والميتة، والبهيمة وفي دار الحرب ولا يجب الحد في هذه المواضع وهو زنا شرعي، وأما انتقاضه عكسا فبزنا المرأة، فإن الحد انتفى ولم ينتف المحدود وهو الزنا الموجب للحد فالزنا الموجب للحد هو وطء مكلف طائع مشتهاة حالا أو ماضيا في القبل بلا شبهة ملك في دار الإسلام أو تمكينه من ذلك أو تمكينها ليصدق على ما لو كان مستلقيا فقعدت على ذكره فتركها حتى أدخلته، فإنهما يحدان في هذه الصورة وليس الموجود منه سوى التمكين. والوطء هو إدخال قدر الحشفة من الذكر في القبل أو الدبر وبهذا عرف أن تعريف الزيلعي الزنا الموجب للحد بأنه وطء مكلف في قبل المشتهاة عار عن ملكه وشبهته عن طوع ليس بتام، وإن قال إنه أتم كما لا يخفى وزاد في المحيط أن من شرائطه العلم بالتحريم حتى لو لم يعلم بالحرمة لم يجب الحد للشبهة وأصله ما روى سعيد بن المسيب أن رجلا زنى باليمن فكتب في ذلك عمر رضي الله عنه إن كان يعلم أن الله تعالى قد حرم الزنا فاجلدوه، وإن كان لا يعلم فعلموه، فإن عاد فاجلدوه ولأن الحكم في الشرعيات لا يثبت إلا بعد العلم، فإن كان الشيوع، والاستفاضة في دار الإسلام أقيم مقام العلم ولكن لا أقل من إيراث شبهة لعدم التبليغ ا هـ. وبه علم أن الكون في دار الإسلام لا يقوم مقام العلم في وجوب الحد كما هو قائم مقامه في الأحكام كلها وتعقبه في فتح القدير بأن الزنا حرام في جميع الأديان، والملل فالحربي إذا دخل دار الإسلام فأسلم فزنى وقال ظننت أنه حلال يحد ولا يلتفت إليه، وإن كان فعله أول يوم دخله فكيف يقال إذا ادعى مسلم أصلي أنه لا يعلم حرمة الزنا إنه لا يحد لانتفاء شرط الحد ولو أنه أراد أن المعنى إن شرط الحد في نفس الأمر علمه بالحرمة في نفس الأمر. فإذا لم يكن عالما لا حد عليه كان قليل الجدوى أو غير صحيح؛ لأن الشرع لما أوجب على الإمام أن يحد هذا الرجل الذي ثبت زناه عنده عرف ثبوت الوجوب في نفس الأمر؛ لأنه لا معنى لكونه واجبا في نفس الأمر؛ لأنه يكفيه فيما بينه وبين الله تعالى التوبة، والإنابة ثم إذا اتصل بالإمام ثبوته وجب على الإمام إقامة الحد ا هـ. وهو مقصور في اللغة الفصحى لغة أهل الحجاز التي جاء بها القرآن ويمد في لغة نجد، والمراد بالملك هنا الأعم من ملك العين ومن ملك حقيقة الاستمتاع ودخل تحت شبهة الملك حق الملك وشبهة النكاح وشبهة الاشتباه وقد فصلها في البدائع فقال العاري عن حقيقة الملك وعن شبهته وعن حق الملك وعن حقيقة النكاح وشبهته وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه في الملك، والنكاح جميعا ا هـ. وفي الظهيرية والذي يجن ويفيق إذا زنا في حال إفاقته أخذ بالحد، وإن قال زنيت في حال جنوني لا يحد كالبالغ إذا قال زنيت في حال الصبا. قوله (: ويثبت بشهادة أربعة بالزنا لا بالوطء، والجماع) أي يثبت الزنا عند الحاكم ظاهرا بشهادة أربعة من الرجال يشهدون بلفظ الزنا لا بلفظ الوطء، والجماع لقوله تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} وقال تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} «وقال عليه السلام للذي قذف امرأته ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك» ولأن في اشتراط الأربع تحقيق معنى الستر وهو مندوب إليه بقوله عليه السلام: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة»، والإشاعة ضده فعلى هذا فالشهادة بالزنا خلاف الأولى التي مرجعها إلى كراهة التنزيه؛ لأنها في رتبة الندب في جانب الفعل وكراهة التنزيه في جانب الترك ويجب أن يكون بالنسبة إلى من لم يعتد بالزنا ولم يتهتك به أما إذا وصل الحال إلى إشاعته، والتهتك به بل بعضهم ربما افتخر به فيجب كون الشهادة أولى من تركها؛ لأن مطلوب الشارع إخلاء الأرض عن المعاصي والفواحش، وذلك يتحقق بالتوبة من الغافلين وبالزجر لهم، فإذا أظهر حال الشره في الزنا مثلا، والشرب وعدم مبالاته فإخلاء الأرض حينئذ بالحدود وعلى هذا ذكره في غير مجلس القاضي وأداء الشهادة بمنزلة الغيبة فيه يحرم منه ما يحرم منها ويحل منه ما يحل منها وسيأتي في الشهادات أنه لا بد من الذكورة في الشهود لإدخال التاء في العدد في المنصوص وأطلقهم فشمل ما إذا كان الزوج أحدهم خلافا للشافعي هو يقول هو متهم ونحن نقول التهمة ما توجب جر نفع، والزوج مدخل على نفسه بهذه الشهادة لحوق العار وخلو الفراش خصوصا إذا كان له منها أولاد وقيده في الظهيرية بأن لا يكون الزوج قذفها فلو كان قد قذفها وشهد بالزنا ومعه ثلاثة حد الثلاثة للقذف وعلى الزوج اللعان؛ لأن شهادة الزوج لم تقبل لمكان التهمة؛ لأنه بشهادته يسعى في دفع اللعان عن نفسه ا هـ. فعلى هذا لو قال بعض الشهود إن فلانا قد زنى أو قال له زنيت ثم جاء وشهد عند القاضي لا تقبل شهادته لما ذكر في الزوج وفي المحيط ولو شهدوا على المرأة أحدهم زوجها بالزنا بابن زوجها مطاوعة لا تجوز شهادة الزوج دخل بها أو لم يدخل لوجود التهمة؛ لأنه ربما يريد إسقاط المهر قبل الدخول وإسقاط النفقة بعد الدخول ويحد الثلاثة ولا يحد الزوج ا هـ. ولا بد من اتحاد المجلس لصحة الشهادة حتى لو شهدوا متفرقين لا تقبل شهادتهم لقول عمر رضي الله عنه لو جاءوا مثل ربيعة ومضر فرادى لجلدتهم وفي الظهيرية لو جاءوا متفرقين يحدون حد القذف ولو جاءوا فرادى وقعدوا مقعد الشهود وقام إلى القاضي واحد بعد واحد قبلت شهادتهم، وإن كان خارج المسجد حدوا جميعا ا هـ. وإنما اشترط لفظ الزنا؛ لأنه هو الدال على فعل الحرام لا لفظ الوطء، والجماع وظاهر كلام المصنف أنه لا يقوم لفظ مقام لفظ الزنا فلو شهدوا أنه وطئها وطئا محرما لا يثبت به وأشار بقوله بالزنا إلى أنه لو شهد رجلان أنه زنى وآخران أنه أقر بالزنا، فإنه لا يحد قال في الظهيرية ولا تحد الشهود أيضا. وإن شهد ثلاثة بالزنا وشهد الرابع على الإقرار بالزنا فعلى الثلاثة الحد ا هـ.؛ لأن شهادة الواحد على الإقرار لا تعتبر فبقي كلام الثلاثة قذفا. قوله (فسألهم الإمام عن ماهيته وكيفيته ومكانه وزمانه، والمزنية) أي سأل الحاكم الشهود عن ماهيته أي ذاته وهو إدخال الفرج في الفرج لاحتمال أنهم عنوا غير الفعل في الفرج كما قال عليه السلام: «العينان تزنيان وزناهما النظر» الحديث، ومن الناس من يظن كل وطء حرام زنا يوجب الحد وظاهر كلامهم أنه ليس المراد بالماهية الحقيقة الشرعية كما بيناه، والكيفية هي الطواعية، والكراهية وعن المكان لاحتمال أنه زنى في دار الحرب فلا حد عليه وعن الزمان لجواز تقادم العهد ولجواز أنه زنى في زمن صباه وعن المزنية لجواز أن تكون جارية ابنه أو أمة مكاتبه فليستقص القاضي في ذلك احتيالا لدرء الحد. وفي فتح القدير وقياسه في الشهادة على زنا امرأة أن يسألهم عن الزاني بها من هو، فإن فيه أيضا الاحتمال المذكور وزيادة وهو جواز كونه صبيا أو مجنونا بأن مكنت أحدهما، فإنه لا حد عليها عند الإمام ا هـ. وأشار المصنف إلى أنه لو سألهم فلم يزيدوا على قولهم إنهما زنيا فلا حد على المشهود عليه قالوا ولا على الشهود؛ لأنهم شهدوا بالزنا ولم يثبت قذفهم؛ لأنهم لم يذكروا ما ينفي كون ما ذكروه زنا ليظهر قذفهم بخلاف ما لو وصفوه بغير صفته، فإنهم يحدون ولو بين ثلاثة ولم يزد واحد على الزنا لا يحد وما وقع في أصل المبسوط من أن الرابع لو قال أشهد أنه زان فسئل عن صفته ولم يصفه أنه يحد يحمل على أنه قاله للقاضي في مجلس غير المجلس الذي شهد فيه الثلاثة كذا في فتح القدير وإلى أنهم لو شهدوا بأنه زنى بامرأة لا يعرفونها لا يحد قال في المحيط لا يحد، وإن قال ليست بامرأتي، وإن أقر أنه زنى بامرأة لا يعرفها يحد؛ لأنه غير متهم في الإقرار على نفسه؛ لأنه عارف بحاله بخلاف الشاهد؛ لأنه متهم ا هـ. وفي الخانية شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها ثم قالوا بفلانة لا يحد الرجل ولا الشهود ا هـ. قوله (: فإن بينوه وقالوا رأيناه وطئها كالميل في المكحلة وعدلوا سرا وجهرا حكم به) لظهور الحق ووجوب الحكم به على القاضي، والمكحلة بضم الميم، والحاء وقولهم وطئها كالميل في المكحلة راجع إلى بيان الكيفية وهو زيادة بيان احتيالا للدرء وإلا السؤال عن ماهيته كاف مع أن ظاهر كلامهم أن الحكم موقوف على بيانه ولم يكتف هنا بظاهر العدالة اتفاقا بأن يقال هو مسلم ليس بظاهر الفسق احتيالا للدرء بخلاف سائر الحقوق عن الإمام وسيأتي بيان التعديل سرا وعلانية إن شاء الله تعالى وحاصل التعديل سرا أن يبعث القاضي ورقة فيها أسماؤهم وأسماء محلتهم على وجه يتميز كل منهم لمن يعرفه فيكتب تحت اسمه هو عدل مقبول الشهادة وحاصل التعديل علانية أن يجمع القاضي بين المزكي، والشاهد فيقول هذا هو الذي زكيته وفي فتح القدير واعلم أن القاضي لو كان يعلم عدالة الشهود لا يجب عليه السؤال عن عدالتهم؛ لأن علمه يغنيه عن ذلك وهو أقوى من الحاصل له من تعديل المزكي ولولا ما ثبت من إهدار الشرع علمه بالزنا في إقامة الحد بالسمع الذي ذكرناه لكان يحده بعلمه لكن ثبت ذلك هناك ولم يثبت هنا قالوا ويحبسه هنا حتى يسأل عن الشهود كي لا يهرب ولا وجه لأخذ الكفيل منه؛ لأن أخذ الكفيل نوع احتياط فلا يكون مشروعا فيما ينبني على الدرء وليس حبسه للاحتياط بل للتهمة بطريق التعزير بخلاف الديون لا يحبس فيها قبل ظهور العدالة؛ لأن الحبس أقصى عقوبة فيها فلا يجوز أن يفعله قبل الثبوت بخلاف الحدود، فإنه فيها عقوبة أخرى أغلظ منه. قوله (وبإقراره أربعا في مجالسه الأربعة كلما أقر رده) معطوف على بالبينة أي يثبت الزنا بإقراره وقدم الثبوت بالبينة عليه؛ لأنه المذكور في القرآن ولأن الثابت بها أقوى حتى لا يندفع الحد بالفرار ولا بالتقادم ولأنها حجة متعدية، والإقرار قاصر وللإقرار شرطان أحدهما أن يكون صريحا فلو أقر الأخرس بالزنا بكتابة أو إشارة لا يحد للشبهة لعدم الصراحة وكذا الشهادة على الأخرس لا تقبل لاحتمال أنه يدعي شبهة كما لو شهدوا على مجنون أنه زنى في حال إفاقته بخلاف الأعمى، فإنه يصح إقراره، والشهادة عليه وكذا الخصي، والعنين وعلى هذا فيزاد في تعريف الزنا الموجب للحد بعد قوله مكلف ناطق لما علمت أن الأخرس لا حد عليه لا بإقراره ولا ببينة. الثاني أن لا يظهر كذبه في إقراره فلو أقر فظهر مجبوبا أو أقرت فظهرت رتقاء وذلك بأن تخبر النساء بأنها رتقاء قبل الحد وذلك؛ لأن إخبارهن بالرتق يوجب شبهة في شهادة الشهود وبالشبهة يندرئ الحد ولو أقر أنه زنى بخرساء أو هي أقرت بأخرس لا حد على واحد منهما كذا في فتح القدير ولا بد أن يكون إقراره في حالة الصحو لما في المحيط السكران إذا سرق أو زنى في حال سكره يحد ولو أقر بالزنا أو بالسرقة لا يحد؛ لأن الإنشاء لا يحتمل الكذب، والإقرار يحتمل الكذب فاعتبر هذا الاحتمال في حال سكره في الإقرار بالحد لا غير ا هـ. ولا بد من أن لا يكذبه الآخر، فإن أقر الرجل بالزنا بفلانة فكذبته درئ الحد عن الرجل سواء قالت إنه تزوجني أو لا أعرفه أصلا ويقضى بالمهر عليه إن ادعته المرأة. وإن أقرت المرأة بالزنا بفلان وكذبها الرجل فلا حد عليها أيضا عند الإمام خلافا لهما في المسألتين كذا في الظهيرية وفي المحيط أصله أن الحد متى لم يجب على المرأة أصلا أو تعذر استيفاؤه عليها لا يجب على الرجل بالإجماع ومتى لم يجب على الرجل أصلا لم يجب على المرأة بالإجماع، وإن انعقد فعله موجبا للحد لكن بطل الحد عنه لمعنى عارض لا يمنع الوجوب على المرأة عنده خلافا لهما ا هـ. ولم يشترط المصنف بلوغ المقر وعقله كما في الهداية؛ لأنهما شرطا لكل تكليف وليس من شرطه الحرية فصح إقرار العبد بالزنا أو بغيره مما يوجب الحد، وإن كان مولاه غائبا وكذا القطع، والقصاص وفرق أبو حنيفة ومحمد بين حجة البينة وحجة الإقرار ولو قال العبد بعد ما أعتق زنيت وأنا عبد لزمه حد العبيد كذا في الظهيرية، وإنما شرطنا تكرار الإقرار أربعا «لحديث ماعز أنه عليه السلام أخر إقامة الحد عليه إلى أن تم إقراره أربع مرات في أربع مجالس» فلهذا قلنا لا بد من اختلاف المجالس؛ لأن لاتحاده أثرا في جمع المتفرقات فعنده يتحقق شبهة الاتحاد فيه، والعبرة لمجلس المقر؛ لأنه قائم به دون مجلس القاضي وفسر محمد المجالس المتفرقة أن يذهب المقر بحيث يتوارى عن بصر القاضي وينبغي للإمام أن يزجره عن الإقرار ويظهر له الكراهية من ذلك ويأمر بإبعاده عن مجلسه في كل مرة؛ لأنه عليه السلام فعل كذلك وفي الظهيرية ولو أقر كل يوم مرة أو كل شهر مرة، فإنه يحد ا هـ. وأشار المصنف باقتصاره على البينة، والإقرار إلى أن الزنا لا يثبت بعلم القاضي وكذلك سائر الحدود الخالصة كذا في الذخيرة وإلى أن الإقرار، والشهادة لا يجتمعان فلذا قال في الظهيرية، والذخيرة أربعة فسقة شهدوا على رجل بالزنا وأقر هو مرة واحدة لا يحد ولو كان الشهود عدولا ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يحد وذكر غيره من المشايخ أن على قول محمد يحد وعلى قول أبي يوسف لا يحد ا هـ. قوله (وسأله كما مر، فإن بينه حد) أي سأل الحاكم المقر عن الأشياء الخمسة المتقدمة للاحتمالات المذكورة، فإن بين المسئول عنه وجب الحد وظاهر كلامه أنه يسأله عن الزمان، والمزني بها وهذا هو الأصح لاحتمال أنه زنى في صباه أو زنى بجارية ابنه وهو لا يعلمها وليس فائدة السؤال عن الزمان منحصرة في احتمال التقادم وهو مضر في الشهادة دون الإقرار؛ لأن له فائدة أخرى وهو احتمال وجوده في زمان الصبا ولو سئل عن المزني بها فقال لا أعرفها قدمنا أنه يحد وكذا إذا أقر بالزنا بفلانة وهي غائبة، فإنه يحد استحسانا بخلاف ما إذا كذبته لما قدمناه وأشار بسؤال الإمام إلى أنه لا يعتبر إقراره عند غير الحاكم؛ لأنه لا ولاية له في إقامة الحدود ولو كان أربع مرات حتى لا تقبل الشهادة بذلك عليه؛ لأنه إن كان منكرا فقد رجع، وإن كان مقرا لا تعتبر الشهادة مع الإقرار كذا في التبيين وبهذا علم أن البينة على الإقرار لا تقبل أصلا. قوله (: فإن رجع عن إقراره قبل الحد أو في وسطه خلي سبيله)؛ لأن الرجوع خبر محتمل للصدق كالإقرار وليس أحد يكذبه فيه فتحقق الشبهة بالإقرار بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص وحد القذف لوجود من يكذبه ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع أطلق في الرجوع فشمل الرجوع بالقول أو بالفعل كما إذا هرب كما في الحاوي وقيد بالإقرار؛ لأنه لو ثبت الزنا بالبينة فهرب في حال الرجم اتبع بالحجارة حتى يقضى عليه كذا في الحاوي، وإنكار الإقرار رجوع كإنكار الردة توبة قال في الخانية رجل أقر عند القاضي بالزنا أربع مرات فأمر القاضي برجمه فقال والله ما أقررت بشيء يدرأ عند الحد ا هـ. وكذا يصح الرجوع عن الإقرار بالإحصان؛ لأنه لما صار شرطا للحد صار حق الله تعالى فصح الرجوع عنه لعدم المكذب كذا في الكشف الكبير من بحث العلامة، وقد ظهر بما ذكرنا أنه يصح الرجوع عن الإقرار بالحدود الخالصة كحد الشرب، والسرقة. قوله (وندب تلقينه بلعلك قبلت أو لمست أو وطئت بشبهة) لحديث ماعز في البخاري: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» وقال في الأصل ينبغي أن يقول له لعلك تزوجتها أو وطئتها بشبهة، والمقصود أن يلقنه بما يكون ذكره دارئا ليذكره كائنا ما كان كما «قال عليه السلام للسارق الذي جيء به إليه أسرقت وما أخاله سرق» أي وما أظنه سرق تلقينا له ليرجع وبهذا علم أن الزاني لو ادعى أنها زوجته سقط الحد عنه، وإن كانت زوجة للغير ولا يكلف إقامة البينة للشبهة كما لو ادعى السارق أن العين مملوكة له سقط القطع بمجرد دعواه وفي المحيط لو تزوج المزني بها أو اشتراها لا يسقط الحد في ظاهر الرواية؛ لأنه لا شبهة له وقت الفعل قوله (فإن كان محصنا رجمه في فضاء حتى يموت) «لأنه عليه السلام رجم ماعزا وقد كان أحصن» وقال في الحديث المعروف: «وزنا بعد إحصان» وعلى هذا إجماع الصحابة، وإنكار الخوارج الرجم باطل؛ لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة فجهل مركب بالدليل بل هو إجماع قطعي، وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس مما نحن فيه؛ لأن ثبوت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتر المعنى كشجاعة علي وجود حاتم، والآحاد في تفاصيل صوره وخصوصياته كذا في فتح القدير، وإنما يرجم في الفضاء لحديث البخاري: «إن ماعزا رجم بالمصلى» وفي مسلم: «فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد»، فإن المصلى كان به وهو مصلى الجنائز وفي المحيط المقضي برجمه إذا قتله إنسان أو فقأ عينه لا شيء عليه ولو قتله قبل القضاء يجب القصاص إن كان عمدا، والدية إن كان خطأ. قوله (يبدأ الشهود به) أي بالرجم يعني على وجه الشرط ولو بحصاة صغيرة هكذا روي عن علي رضي الله عنه ولأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء ثم يستعظم المباشرة فيرجع فكان في بدايته احتيال للدرء وقال الشافعي لا يشترط بدايتهم اعتبارا بالجلد قلنا كل أحد لا يحسن الجلد فربما يقع مهلكا، والإهلاك غير مستحق ولا كذلك الرجم؛ لأنه إتلاف قوله (: فإن أبوا سقط) أي إن امتنع الشهود من الابتداء سقط الحد؛ لأنه دلالة الرجوع وكذا إذا ماتوا أو غابوا في ظاهر الرواية لفوات الشرط ولا يجب الحد عليهم لو امتنعوا؛ لأنه دلالة الرجوع لا صريحه وامتناع البعض أو غيبته كالكل، وكذا إذا خرج بعض الشهود عن الأهلية بارتداد أو عمى أو خرس أو فسق سواء كان قبل القضاء أو بعده؛ لأن الإمضاء من القضاء في الحدود، وأما قطع اليدين، فإن كان بعد الشهادة امتنعت الإقامة، وإن كان القطع قبلها رمى القاضي بحضرتهم؛ لأنهم إذا كانوا مقطوعي الأيدي لم تستحق البداءة بهم، وإن قطعوا بعدها فقد استحقت وهذا يفيد أن كون الابتداء بهم شرطا إنما هو عند قدرتهم على الرجم وفي الظهيرية، وإن كان الشهود مرضى لا يستطيعون الرمي وقد حضروا رمى القاضي ثم رمى الناس وقال أبو يوسف يقام عليه الرجم، وإن لم يحضر الشهود، وإن حضروا ولم يرجموا رجم الإمام ثم الناس. وقيد المصنف بالرجم؛ لأن ما سوى الرجم من الحدود لا يجب الابتداء لا من الشهود ولا من الإمام وكذا في الظهيرية قوله (ثم الإمام ثم الناس) هكذا روي عن علي رضي الله عنه وأرضاه ويقصدون بذلك مقتله إلا من كان منهم ذا رحم محرم منه، فإنه لا يقصد مقتله، فإن بغيره كفاية كذا في التبيين وغيره وظاهره أنه يرجمه ولا يقصد مقتله مع أن ظاهر ما في المحيط أنه لا يرجمه أصلا، فإنه قال ويكره لذي الرحم المحرم أن يلي إقامة الحد، والرجم ا هـ. ولم يذكر المصنف أن الإمام إذا امتنع من الرجم بعد الشهود أنه يسقط الحد وقياسه السقوط قال في فتح القدير: واعلم أن مقتضى ما ذكر أنه لو بدأ الشهود فيما إذا ثبت بالشهادة يجب أن يثني الإمام فلو لم يثن الإمام يسقط الحد لاتحاد المأخذ فيهما ا هـ. وفي الظهيرية: والقاضي إذا أمر الناس برجم الزاني وسعهم أن يرجموه، وإن لم يعاينوا أداء الشهادة وروى ابن سماعة عن محمد أنه قال هذا إذا كان القاضي فقيها عدلا أما إذا كان فقيها غير عدل أو كان عدلا غير فقيه فلا يسعهم أن يرجموه حتى يعاينوا أداء الشهادة ا هـ. قوله (ويبدأ الإمام لو مقرا ثم الناس) كذا روي عن علي رضي الله عنه: «ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغامدية بحصاة مثل الحمصة وكانت قد اعترفت بالزنا» ولم يذكر المصنف أن الإمام لو لم يبدأ هل يحل للناس الرمي قال في فتح القدير واعلم أن مقتضى هذا أنه لو امتنع الإمام لا يحل للقوم رجمه ولو أمرهم لعلمهم بفوات شرط الرجم وهو منتف برجم ماعز، فإن القطع بأنه عليه السلام لم يحضره بل رجمه الناس بأمره عليه السلام ويمكن الجواب بأن حقيقة ما دل عليه قول علي رضي الله عنه أنه يجب على الإمام أن يأمرهم بالابتداء اختيارا لثبوت دلالة الرجوع وعدمه وأن يبتدئ هو في الإقرار لينكشف للناس أنه لم يقصر في أمر القضاء بأن لم يتساهل في بعض شروط القضاء بالحد، فإذا امتنع حينئذ ظهرت أمارة الرجوع وفي الحاوي وينبغي للناس أن يصفوا عند الرجم كصفوف الصلاة وكلما رجم قوم تأخروا وتقدم غيرهم فرجموا ا هـ. قوله (ولو غير محصن جلده مائة) لقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} إلا أنه انتسخ في حق المحصن فبقي في حق غيره معمولا به ويكفينا في تعيين الناسخ القطع برجم النبي صلى الله عليه وسلم فيكون من نسخ الكتاب بالسنة القطعية قوله (ونصف للعبد) أي نصف جلد المائة للعبد الزاني فيجلد خمسين سوطا لقوله تعالى: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}، والمراد به الجلد؛ لأن الرجم لا يتنصف، وإذا ثبت التنصيف في الإماء لوجود الرق ثبت في العبيد دلالة وما في التبيين من أن العبيد دخلوا في اللفظ وأنث للتغليب مخالف لما في الأصول من أن الذكور لا تتبع الإناث حتى لو قال أمنوني على بناتي لا تدخل الذكور بخلاف أمنوني على بني عم الذكور، والإناث. قوله (بسوط لا تمرة له متوسطا) أي لا عقدة له؛ لأن عليا رضي الله عنه لما أراد أن يقيم الحد كسر تمرته، والمتوسط بين المبرح وهو الجارح وغير المؤلم لإفضاء الأول إلى الهلاك وخلو الثاني عن المقصود وهو الانزجار كذا في الهداية وحاصله أنه المؤلم غير الجارح قوله (ونزع ثيابه وفرق على بدنه إلا رأسه ووجهه وفرجه) أي ونزع عنه ثيابه إلا ما يستر عورته؛ لأن عليا رضي الله عنه كان يأمر بالتجريد في الحدود؛ لأن التجريد أبلغ في إيصال الألم إليه وهذا الحد مبناه على الشدة في الضرب وفي نزع الإزار كشف العورة فيتوقاه، وإنما يفرق الضرب على أعضائه؛ لأن الجمع في عضو واحد قد يفضي إلى التلف، والحد زاجر لا متلف، وإنما يتقي الأعضاء الثلاثة «لقوله عليه السلام للذي أمره بضرب الحد اتق الوجه والمذاكير» ولأن الفرج مقتل، والرأس مجمع الحواس، وكذا الوجه وهو مجمع المحاسن أيضا فلا يؤمن من فوات شيء منها بالضرب، وذلك إهلاك معنى فلا يشرع حدا وقال أبو يوسف يضرب الرأس أيضا رجع إليه بعد أن كان أولا يقول لا يضرب كما هو المذهب، وإنما يضرب سوطا لقول أبي بكر رضي الله عنه اضربوا الرأس، فإن فيه شيطانا قلنا: تأويله أنه قال ذلك فيمن أبيح قتله ونقل أنه ورد في حربي كان من دعاة الكفرة، والإهلاك فيه مستحق. قوله (ويضرب الرجل قائما في الحدود وغير ممدود) لقول علي رضي الله عنه تضرب الرجال في الحدود قياما، والنساء قعودا ولأن مبنى إقامة الحد على التشهير، والقيام أبلغ فيه ثم قوله غير ممدود فقد قيل المد أن يلقى على الأرض ويمد كما يفعل في زماننا وقيل أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه وقيل أن يمد بعد الضرب وذلك كله لا يفعل؛ لأنه زيادة على المستحق قوله (ولا ينزع ثيابها إلا الفرو، والحشو)؛ لأن في تجريدها كشف العورة، والفرو، والحشو يمنعان وصول الألم إلى الجسد، والستر حاصل بدونهما فلا حاجة إليهما فينزعان ليصل الألم إلى البدن قوله (وتضرب جالسة) لأثر علي رضي الله عنه ولأنها عورة فلو ضربت قائمة لا يؤمن كشف عورتها قوله (ويحفر لها في الرجم لا له)؛ لأن ماعزا لم يحفر له وحفر للغامدية وهو بيان للجواز وإلا فلا بأس بترك الحفر لها؛ لأنه عليه السلام لم يأمر بذلك، والإمساك غير مشروع في المرجوم. قوله (: ولا يحد عبده إلا بإذن إمامه) لقوله عليه السلام: «أربع إلى الولاة وذكر منها الحدود» ولأن الحد حق الله تعالى؛ لأن المقصود منه إخلاء العالم عن الفساد ولهذا لا يسقط بإسقاط العبد فيستوفيه من هو نائب عن الشرع وهو الإمام أو نائبه بخلاف التعزير؛ لأنه حق العبد ولهذا يعزر الصبي وحق الشرع موضوع عنه قيد بالحد؛ لأن المولى يعزر عبده بلا إذن الإمام؛ لأنه حق العبد وهو المالك، والمقصود منه التأديب ولهذا يعزر الصبي، والدابة وتقبل فيه الشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال ويصح فيه العفو. قوله (وإحصان الرجم الحرية، والتكليف، والإسلام، والوطء بنكاح صحيح وهما بصفة الإحصان) فالعبد ليس محصنا؛ لأنه غير متمكن بنفسه من النكاح الصحيح المغني عن الزنا ولا الصبي، والمجنون لعدم أهلية العقوبة، والتكليف شرط لكون الفعل زنا، وإنما جعله شرط الإحصان لأجل قوله وهما بصفة الإحصان وإلا ففعل الصبي، والمجنون ليس بزنا أصلا ولا الكافر للحديث: «من أشرك بالله فليس بمحصن» ورجمه عليه السلام اليهوديين إنما كان بحكم التوراة قبل نزول آية الرجم ثم نسخ ولا من لم يتزوج لعدم تمكنه من الوطء الحلال ولا من تزوج ولم يدخل بها للحديث الثيب بالثيب، والثيابة لا تكون بغير دخول ولأنه لم يستغن عن الزنا والدخول إيلاج الحشفة أو قدرها ولا يشترط الإنزال كما في الغسل؛ لأنه شبع ولا من دخل بغير المحصنة كمن دخل بذمية أو أمة أو صغيرة أو مجنونة لوجود النفرة عن نكاح هؤلاء لعدم تكامل النعمة ولا من دخل بامرأة محصنة ولم يكن محصنا وقته وصار محصنا وقت الزنا لما ذكرنا من عدم تكامل النعمة ولو زال الإحصان بعد ثبوته بالجنون أو العته يعود محصنا إذا أفاق وعند أبي يوسف لا يعود حتى يدخل بامرأته بعد الإفاقة وفي فتاوى قارئ الهداية المسماة بالسراجية إذا سرق الذمي أو زنى ثم أسلم إن ثبت ذلك عليه بإقراره أو بشهادة المسلمين لا يدرأ عنه الحد، وإن ثبت بشهادة أهل الذمة فأسلم لا يقام عليه الحد وسقط عنه وفي الحاوي القدسي، وإن شهد عليه أربعة بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه، فإنه يرجم، وإن لم تكن ولدت منه وشهد بالإحصان رجلان أو رجل وامرأتان رجم ا هـ. قوله (ولا يجمع بين جلد ورجم ولا بين جلد ونفي)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يجمع بين الجلد، والرجم؛ لأن الجلد يعرى عن المقصود مع الرجم؛ لأن زجر غيره يحصل بالرجم إذ هو في العقوبة أقصاها، وزجره لا يكون بعد هلاكه، وأما عدم الجمع بين الجلد، والنفي وهو التغريب فلأن الله تعالى جعل الجلد كل الموجب في قوله تعالى: {فاجلدوا} رجوعا إلى حرف الفاء وإلى كونه كل المذكور ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة ثم فيه فتح مواد البغاء فربما تتخذ زناها مكسبة وهو من أقبح وجوه الزنا وهذه الجهة مرجحة لقول علي رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة، والحديث وهو قوله عليه السلام: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» منسوخ كشطره وهو قوله: «الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة» وقد عرف طريقه في موضعه قالوا إلا إذا رأى الإمام مصلحة فيغربه على قدر ما يرى وذلك تعزير وسياسة؛ لأنه قد يفيد في بعض الأحوال فيكون الرأي فيه إلى الإمام وعليه يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كذا في الهداية وهو المراد بقوله في المختصر. (ولو غرب بما يرى صح) أي جاز وفسر التغريب في النهاية بالحبس وهو أحسن وأسكن للفتنة من نفيه إلى إقليم آخر؛ لأنه بالنفي يعود مفسدا كما كان ولهذا كان الحبس حدا في ابتداء الإسلام دون النفي وحمل النفي المذكور في قطاع الطريق عليه وفي الظهيرية، والزاني إذا ضرب الحد لا يحبس، والسارق إذا قطع يحبس حتى يتوب ا هـ. وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي. قوله (: والمريض يرجم ولا يجلد حتى يبرأ)؛ لأن الإتلاف مستحق في الرجم فلا يمنع بسبب المرض وفي الجلد غير مستحق وهو في حالة المرض يفضي إلى الهلاك ولهذا لا يقام القطع عند شدة الحر، والبرد واستثنى في الظهيرية أن يكون مريضا وقع اليأس عن برئه فحينئذ يقام عليه ا هـ. قيد بالمريض؛ لأنه لو كان ضعيف الخلقة بحيث لا يرجى برؤه فخيف عليه الهلاك إذا ضرب يجلد جلدا خفيفا مقدار ما يحتمله لما روي: «أن رجلا ضعيفا زنى فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اضربوه حده فقالوا يا رسول الله: إنه ضعيف بحيث لو ضربناه مائة قتلناه فقال عليه الصلاة والسلام خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه ضربة واحدة قال ففعلوه» رواه أحمد وابن ماجه، والعثكال، والعثكول عنقود النخل، والشمراخ شعبة منه وهو بالعين المهملة، والثاء المثلثة كذا في المغرب. قوله (: والحامل لا تحد حتى تلد وتخرج من نفاسها لو كان حدها الجلد)؛ لأن النفاس نوع مرض فيؤخر إلى زمان البرء وقيد بحد الجلد؛ لأنه لو كان حدها الرجم رجمت إذا ولدت من غير تأخير؛ لأن التأخير لأجل الولد وقد انفصل وعن أبي حنيفة أن الرجم يؤخر إلى أن يستغني ولدها عنها إذا لم يكن أحد يقوم بتربيته؛ لأن في التأخير صيانة الولد عن الضياع وقد روي: «أنه عليه السلام قال للغامدية بعد ما وضعت ارجعي حتى يستغني ولدك» وظاهر المختار أن هذه الرواية هي المذهب، فإنه اقتصر عليها ولم يذكر المصنف أنها تحبس إذا كانت حاملا قال في الهداية ثم الحبلى تحبس إلى أن تلد إن كان الحد ثابتا بالبينة كي لا تهرب بخلاف الإقرار والله أعلم. باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه. قد قدم حقيقة الزنا وهو الذي لا يوجب الحد وهذا الباب لتفاصيله ثم بدأ ببيان الشبهة وهي ما يشبه الثابت وليس بثابت وبين أنها ثلاثة أنواع شبهة في المحل وشبهة في الفعل وشبهة في العقد قال الإمام الإسبيجابي الأصل أنه متى ادعى شبهة وأقام البينة عليها سقط الحد فبمجرد الدعوى يسقط أيضا إلا الإكراه خاصة لا يسقط الحد حتى يقيم البينة على الإكراه ا هـ. (قوله: لا حد بشبهة المحل، وإن ظن حرمته كوطء أمة ولده وولد ولده ومعتدة الكنايات)؛ لأن الشبهة إذا كانت في الموطوءة يثبت الملك فيها من وجه فلم يبق معه اسم الزنا فامتنع الحد على التقادير كلها وهي تتحقق بقيام الدليل النافي للحرمة في ذاته ولا يتوقف على ظن الجاني واعتقاده وبيانه أن قوله عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» أورث شبهة في جارية الولد للأب؛ لأن اللام فيه للملك، والمعتدة بالكنايات في بينونتها اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فمذهب عمر رضي الله عنه أنها رجعية فورث شبهة. وإن كان المختار قول علي رضي الله عنه قال الشارحون ومن هذا النوع مسائل منها الجارية المبيعة في حق البائع قبل التسليم؛ لأنها في ضمانه ويده وتعود إلى ملكه بالهلاك قبل التسليم وكذا في الفاسدة قبل القبض وبعده أما قبله فلبقاء الملك، وأما بعده فلأن له الفسخ فله حق الملك فيها وكذا إذا كان بشرط الخيار سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، فإن كان للبائع فلبقاء ملكه، وإن كان للمشتري فلأن المبيع لم يخرج عن ملك بائعه بالكلية ومنها جارية مكاتبه أو عبده المأذون له وعليه دين يحيط بماله ورقبته؛ لأن له حقا في كسب عبده فكان شبهة في حقه، ومنها الجارية الممهورة قبل التسليم في حق الزوج لما ذكرنا من المعنى في المبيعة ومنها الجارية المشتركة بينه وبين غيره؛ لأن ملكه في البعض ثابت حقيقة فالشبهة فيها أظهر ويدخل فيه وطء الرجل من الغانمين قبل القسمة جارية من الغنيمة سواء كان بعد الإحراز بدار الإسلام أو قبله لثبوت الحق له بالاستيلاء كذا في البدائع ومنها المرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الرهن؛ لأن استيفاء الدين يقع بها عند الهلاك وقد انعقد له سبب الملك في الحال فصارت كالمشتراة بشرط الخيار للبائع ففي هذه المواضع لا يجب الحد، وإن قال علمت أنها علي حرام لما ذكرنا قال في فتح القدير وينبغي أن يزاد جاريته التي هي أخته في الرضاع وجاريته قبل الاستبراء، والاستقراء يفيدك غير ذلك أيضا كالزوجة التي حرمت بردتها أو مطاوعتها لابنه أو جماعه لأمها ثم جامعها وهو يعلم أنها عليه حرام فلا حد عليه ولا على قاذفه؛ لأن بعض الأئمة لم يجزم به فاستحسن أن يدرأ بذلك الحد فالاقتصار على الستة لا فائدة فيه ا هـ. وفي الظهيرية رجل غصب جارية وزنى بها ثم ضمن قيمتها فلا حد عليه وعلى قياس قول أبي حنيفة ومحمد لا يسقط الحد وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف ينبغي أن يسقط كما يذكر في المسألة التي تليه ا هـ. رجل زنى بأمة ثم اشتراها ذكر في ظاهر الرواية أنه يحد وروي عن أبي يوسف أنه يسقط الحد وذكر أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن من زنى بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها لا حد عليه عند أبي يوسف وعليه الحد في قول أبي يوسف وذكر ابن سماعة في نوادره على عكس هذا وقال وعلى قول أبي حنيفة ومحمد عليه الحد في الوجهين وعن أبي يوسف لا حد عليه في الوجهين وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا زنى بأمة ثم اشتراها فلا حد عليه، وإن زنى بامرأة ثم تزوجها فعليه الحد، والفرق بين النكاح، والشراء أنه بالشراء يملك عينها وملك العين في محل الحل سبب لملك الحل فيجعل الطارئ قبل الاستيفاء كالمقترن بالسبب كما في باب السرقة، فإن السارق إذا ملك المسروق قبل القطع يمتنع القطع، فأما بالنكاح فلا يملك عين المرأة، وإنما ثبت له ملك الاستيفاء ولهذا لو وطئت المنكوحة بشبهة كان العقر لها فلا يورث ذلك شبهة فيما تقدم استيفاؤه منها فلا يسقط الحد عنه، وإذا زنى بأمة ثم قال اشتريتها وصاحبها فيها بالخيار وقال مولاها كذب لم أبعها لا حد عليه. وإذا جنت الأمة فزنى بها ولي الجناية، فإن قتلت رجلا عمدا فوطئها ولي القتيل ولم يدع شبهة، فإن قال علمت أنها علي حرام، فإنه لا يحد، وأما إذا قتلت رجلا خطأ فوطئها ولي القتيل قبل أن يختار المولى شيئا أجمعوا على أنه إذا اختار الفداء بعد ذلك، فإنه يحد، وأما إذا اختار دفع الجارية فالقياس أن يحد وفي الاستحسان لا يحد وبالقياس أخذ أبو حنيفة ومحمد وبالاستحسان أخذ أبو يوسف ا هـ. وأطلق في الكنايات فشمل المختلعة وفي المجتبى المختلعة ينبغي أن تكون كالمطلقة ثلاثا لحرمتها إجماعا وفي جامع النسفي لا حد عليه، وإن علم حرمتها لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في كونه بائنا ا هـ. قوله (وبشبهة في الفعل إن ظن حله كمعتدة الثلاث وأمة أبويه وزوجته وسيده) أي لا حد لأجل الشبهة في الفعل بشرط أن يظن أن الوطء حلال؛ لأن الملك، والحق غير ثابت في هذا النوع؛ لأن حرمة المطلقة ثلاثا مقطوع به فلم يبق له فيها ملك ولا حق غير أنه بقي فيها بعض الأحكام كالنفقة، والسكنى، والمنع من الخروج وثبوت النسب وحرمة أختها وأربع سواها وعدم قبول شهادة كل منهما لصاحبه فحصل الاشتباه لذلك فأورث شبهة عن ظن الحل؛ لأنه في موضع الاشتباه فيعذر أطلق في الثلاث فشمل ما إذا أوقعها جملة أو متفرقة ولا اعتبار بخلاف من أنكر وقوع الجملة لكونه مخالفا للقطعي كذا ذكر الشارحون وفيه نظر لما في صحيح مسلم من أن «الطلاق الثلاث كان واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما حتى أمضى عمر رضي الله عنه على الناس الثلاث»، وإن كان العلماء قد أجابوا عنه وأولوه فليس الدليل على وقوع الثلاث جملة واحدة بكلمة واحدة قطعيا، فإن قيل: إن العلماء قد أجمعوا عليه قلنا قد خالف أهل الظاهر في ذلك كما نقلوه في كتاب الطلاق فينبغي أن لا يحد، وإن علم الحرمة، والدليل عليه ما ذكره في الهداية من كتاب النكاح في فصل المحرمات أن الحد لا يجب بوطء المطلقة طلاقا بائنا واحدة أو ثلاثا مع العلم بالحرمة على إشارة كتاب الطلاق وعلى عبارة كتاب الحدود يجب؛ لأن الملك قد زال في حق الحل فيتحقق الزنا ا هـ. وينبغي أن تحمل إشارة كتاب الطلاق على ما إذا أوقعها بكلمة واحدة وعبارة كتاب الحدود على ما إذا أوقعها متفرقة لما ذكرنا توفيقا بينهما كما لا يخفى، وأما الزنا بأمة أبويه وزوجته وسيده، فإنه لا ملك له ولا حق ملك فيها غير أن البسوطة تجري بينهم في الانتفاع بالأموال، والرضا بذلك عادة وهي تجوز الانتفاع بالمال شرعا، فإذا ظن الوطء من هذا القبيل يعذر؛ لأن وطء الجواري من قبيل الاستخدام فيشتبه الحال، والاشتباه في محله معذور فيه ولهذه المسائل أخوات منها المطلقة على مال؛ لأن حرمتها ثابتة بالإجماع فصارت كالمطلقة ثلاثا كذا ذكره الشارحون ومرادهم الطلاق على مال بغير لفظ الخلع أما إذا كان بلفظ الخلع فقد قدمنا الاختلاف فيه وأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا فيه لكن في البدائع ولو خالعها أو طلقها على مال فوطئها في العدة ذكر الكرخي أنه ينبغي أن يكون الحكم فيه كالحكم في المطلقة ثلاثا وهو الصحيح؛ لأن زوال الملك بالخلع، والطلاق على مال مجمع عليه فلم تتحقق الشبهة فيجب الحد إلا إذا ادعى الاشتباه ومنها أم الولد إذا أعتقها مولاها لثبوت حرمتها بالإجماع وتثبت الشبهة عند الاشتباه لبقاء أثر الفراش وهي العدة ومنها الجارية المرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الحدود، فإذا قال المرتهن علمت أنها حرام ووطئتها ففيه روايتان ففي رواية كتاب الرهن لا حد عليه وهو من النوع الأول لما قدمناه. وفي رواية كتاب الحدود يجب الحد قال في الهداية وهو الأصح وتبعه الشارحون وفي التبيين وهو المختار؛ لأن الاستيفاء من عينها لا يتصور، وإنما يتصور من ماليتها فلم يكن الوطء حاصلا في محل الاستيفاء لكن لما كان الاستيفاء سببا لملك المال في الجملة وملك المال سبب لملك المتعة في الجملة حصل الاشتباه بخلاف المستأجرة وجارية الميت إذا وطئها الغريم؛ لأن الإجارة لا تفيد المتعة بحال، والغريم لا يملك عين التركة، وإنما يستوفي حقه من الثمن ولو تعلق حقه بالعين لما جاز بيعها إلا بإذنه كالرهن. والحاصل أنه إذا ظن الحل فلا حد عليه باتفاق الروايتين، والخلاف فيما إذا علم الحرمة، والأصح وجوبه لكن ذكر في الإيضاح رواية ثالثة أنه يجب الحد، وإن قال ظننت أنها حلال وإن ظنه لا يعتبر قياسا على وطء الغريم جارية الميت وهذه الرواية مخالفة لعامة الروايات كما في فتح القدير قال في الهداية، والمستعير للرهن في هذا بمنزلة المرتهن. وأما الجارية المستأجرة، والعارية، الوديعة فكجارية أخيه وسيأتي أنه يحد، وإن ظن الحل كما في المحيط، والبدائع وأطلق في ظن الحل فشمل ظن الرجل وظن الجارية، فإن ظناه فلا حد، وإن علما الحرمة وجب الحد، وإن ظنه الرجل وعلمته الجارية أو بالعكس فلا حد؛ لأن الشبهة إذا تمكنت في الفعل في أحد الجانبين تتعدى إلى الجانب الآخر ضرورة كذا في المحيط. قوله (: والنسب يثبت في الأول فقط) أي يثبت النسب في شبهة المحل بالدعوة ولا يثبت في شبهة الفعل، وإن ادعاه؛ لأن الفعل تمحض زنا في الثانية، وإن سقط الحد لأمر راجع إليه وهو اشتباه الأمر عليه ولم يتمحض في الأول للشبهة في المحل وقد قدم المصنف أن نسب ولد المعتدة البت يثبت إذا جاءت به لأقل من سنتين بغير دعوة ولسنتين فأكثر لا يثبت إلا بالدعوة وهو بعمومه يتناول المعتدة عن ثلاث طلقات فكان مخصصا لقوله هنا فقط. والحاصل أنه لا يثبت النسب في شبهة الفعل عند الدعوة إلا في المطلقة ثلاثا، والفرق أن الشبهة فيها شبهة في العقد بخلاف باقي محال شبهة الاشتباه، فإنه لا شبهة عقد فيها فلا يثبت النسب بالدعوة وسيأتي أن من شبهة الاشتباه وطء امرأة زفت وقالت النساء هي زوجتك ولم تكن زوجته معتمدا خبرهن وصرح الزيلعي بأن النسب يثبت فيه بالدعوة كما سيأتي فتحرر أن النسب لا يثبت في شبهة الفعل إلا في موضعين. قوله (وحد بوطء أمة أخيه وعمه، وإن ظن حله وامرأة وجدت في فراشه) يعني سواء ظن الحل أو الحرمة؛ لأنه لا انبساط في مال الأخ، والعم وكذا سائر المحارم سوى الأولاد لما بينا ولا اشتباه في المرأة الموجودة على فراشه لطول الصحبة فلم يكن الظن مستندا إلى دليل وهذا؛ لأنه قد ينام على فراشه غيرها من المحارم التي في بيتها أطلقه فشمل البصير، والأعمى؛ لأنه يمكنه التمييز بالسؤال وغيره إلا إذا دعاها فأجابته وقالت أنا زوجتك أو أنا فلانة باسم زوجته فواقعها؛ لأن الخيار دليل وفي التبيين، وإن جاءت بولد يثبت نسبه لما نذكره في المرقوقة ولو أجابته فقط يحد لعدم ما يوجب السقوط وأطلق في المرأة فشمل المكرهة، والطائعة فيحد لو أكرهها دونها ولا يجب المهر عندنا. قوله (: لا بأجنبية زفت وقيل هي زوجتك) أي لا يحد بوطء أجنبية زفت إليه وقال النساء: هي زوجتك قضى بذلك علي رضي الله عنه ولأنه اعتمد دليلا وهو الإخبار في موضع الاشتباه إذ الإنسان لا يميز بين امرأته وبين غيرها في أول الوهلة فصار كالمغرور ولكن لا يحد قاذفه؛ لأن الملك منعدم حقيقة فبطل به إحصانه كوطء جارية ابنه، فإنه مسقط لإحصانه حبلت أو لا وظاهر كلام المصنف أن إخبار واحدة له بأنها زوجته يكفي لإسقاط الحد عنه كما يفيده ما في فتح القدير لكن عبارة القدوري وقلن النساء بالجمع، والظاهر أنه ليس بشرط كما سنبينه؛ لأنه من المعاملات، والواحد فيها يكفي. ا هـ. قوله (وعليه مهر) بذلك قضى علي رضي الله عنه وبالعدة؛ لأن الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن الحد أو المهر وقد سقط الحد فتعين المهر وهو مهر المثل ولهذا قلنا في كل موضع سقط فيه الحد مما ذكرنا يجب فيه المهر لما ذكرنا إلا في وطء جارية الابن وقد علقت منه وادعى نسبه لما ذكرنا في النكاح أو في وطء البائع المبيعة قبل التسليم ذكرها في الزيادات وينبغي أن لا تجب بوطء جارية السيد؛ لأن المولى لا يجب له دين على عبده ولو قيل وجب ثم سقط فمستقيم على ما اختلفوا في تزويج المولى عبده بجاريته كذا في التبيين ولا يرد ما لو زنى صبي بامرأة بالغة مطاوعة قالوا لا حد على الصبي ولا مهر عليه لإسقاطها حقها حيث مكنته؛ لأن المهر وجب لكنه سقط لما ذكرنا فلم يخل وطء عنهما وفي المجتبى مراهق تزوج بالغة بغير إذن أبيه ووطئها ورد الأب النكاح فلا مهر على الصبي؛ لأن قوله غير معتبر وأراد المصنف أن يكون المهر لها عليه بذلك قضى علي رضي الله عنه خلافا لعمر رضي الله عنه حيث جعله في بيت المال كأنه جعله حق الشرع لما أن الحد حق له وهذا كالعوض عنه، والمختار قول علي رضي الله عنه؛ لأن الوطء كالجناية عليها وأرش الجنايات للمجني عليه ولو كان عوضا عن الحد لوجب على المرأة؛ لأن الحد ساقط عنها ولم يذكر المصنف ثبوت النسب فيها وقالوا يثبت نسب الولد بالدعوة لكن اختلفوا ففي التبيين أنه يثبت النسب، وإن كانت شبهة الاشتباه لعدم الملك وشبهته. وفي فتح القدير، والأوجه أنها شبهة دليل، فإن قول النساء هي زوجتك دليل شرعي مبيح للوطء، فإن قول الواحد مقبول في المعاملات ولذا حل وطء الأمة إذا جاءت إلى رجل وقالت مولاي أرسلني إليك هدية، فإذا كان دليلا غير صحيح في الواقع أوجب الشبهة التي يثبت معها النسب ا هـ. قوله (وبمحرم نكحها) أي لا يجب الحد بوطء امرأة محرم له عقد عليها عند أبي حنيفة وقالا عليه الحد إذا كان عالما بذلك؛ لأنه عقد لم يصادف محله فيلغو كما إذا أضيف إلى الذكور وهذا؛ لأن محل التصرف ما يكون محلا لحكمه وحكمه في الحل وهي من المحرمات ولأبي حنيفة أن العقد صادف محله؛ لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده، والأنثى من بنات آدم قابلة للتوالد وهو المقصود وكان ينبغي أن ينعقد في حق جميع الأحكام إلا أنه تقاعد عن إفادة حقيقة الحل فيورث الشبهة؛ لأن الشبهة ما يشبه الثابت لا نفس الثابت وحاصل الخلاف أن هذا العقد هل يوجب شبهة أم لا ومداره أنه هل ورد على ما هو محله أو لا فعند الإمام ورد على ما هو محله؛ لأن المحلية ليست بقبول الحل بل بقبول المقاصد من العقد وهو ثابت ولذا صح من غيره عليها وعندهما لا؛ لأن محل العقد ما يقبل حكمه وحكمه الحل وهذه من المحرمات في سائر الأحوال فكان الثابت صورة العقد لانعقاده وبتأمل يسير يظهر أنهم لم يتواردوا على محل واحد في المحلية فحيث نفوا محليتها أرادوا بالنسبة إلى خصوص هذا العاقد أي ليست محلا لعقد هذا العاقد ولهذا عللوه بعدم حلها ولا شك في حلها لغيره بعقد النكاح لا محليتها للعقد من حيث هو، والإمام حيث أثبت محليتها أراد محليتها لنفس العقد لا بالنظر إلى خصوص عاقد. ولذا علل بقبولها مقاصده ولا ينافيه قول الأصوليين: إن النهي عن نكاح المحارم مجاز عن النفي لعدم محله ولا قول الفقهاء: إن محل النكاح الأنثى من بنات آدم التي ليست من المحرمات؛ لأنهم أرادوا نفي المحلية لعقد النكاح الخاص وأنت علمت أن أبا حنيفة إنما أثبت محليتها للنكاح في الجملة لا بالنظر إلى خصوص ناكح لكن قد أخذ الفقيه أبو الليث بقولهما قال في الواقعات ونحن نأخذ به أيضا وفي الخلاصة الفتوى على قولهما ووجه ترجيحه أن تحقق الشبهة يقتضي تحقق الحل من وجه؛ لأن الشبهة لا محالة شبهة الحل لكن حلها ليس ثابتا من وجه وإلا وجبت العدة وثبت النسب أطلق المصنف فشمل ما إذا كان عالما بالحرمة أو لا ثم اعلم أن مسائلهم هنا تدل على أن من استحل ما حرمه الله على وجه الظن لا يكفر، وإنما يكفر إذا اعتقد الحرام حلالا لا إذا ظنه حلالا ألا ترى أنهم قالوا في نكاح المحرم لو ظن الحل، فإنه لا يحد بالإجماع ويعزر كما في الظهيرية وغيرها ولم يقل أحد إنه يكفر وكذا في نظائره وهو نظير ما ذكره القرطبي في شرح مسلم إن ظن الغيب جائز كظن المنجم، والرمال بوقوع شيء في المستقبل بتجربة أمر عادي فهو ظن صادق، والممنوع هو ادعاء علم الغيب. والظاهر أن ادعاء ظن الغيب حرام وليس بكفر بخلاف ادعاء علم الغيب، فإنه كفر وسنوضحه إن شاء الله تعالى في باب الردة. وأشار المصنف إلى أن المستأجر للزنا لو وطئها فلا حد عليه لشبهة العقد عند الإمام؛ لأن المستوفى بالزنا المنفعة وهي المعقود عليه في الإجارة وقالا يحد كما سيأتي وأطلق في المحرم فشمل المحرم نسبا ورضاعا وصهرية وأشار إلى أنه لو عقد على منكوحة الغير أو معتدته أو مطلقته الثلاث أو أمة على حرة أو تزوج مجوسية أو أمة بلا إذن سيدها أو تزوج العبد بلا إذن سيده أو تزوج خمسا في عقدة فوطئهن أو جمع بين أختين في عقدة فوطئهما أو الأخيرة لو كان متعاقبا بعد التزوج، فإنه لا حد بالوطء بالأولى وهو بالاتفاق على الأظهر أما عنده فظاهر، وأما عندهما فلأن الشبهة إنما تنتفي عندهما إذا كان مجمعا على تحريمه وهي محرمة على التأبيد وقيد بنفي الحد؛ لأن التعزير واجب إن كان عالما قالوا يوجع بالضرب الشديد أشد ما يكون من التعزير سياسة. قوله (وفي أجنبية في غير قبل ولواطة) أي لا يجب الحد في مسألتين أيضا: الأولى لو وطئ امرأة أجنبية في دبرها، فإنه لا يحد الثانية لو لاط بصبي في دبره، فإنه لا يحد ولا شك أن وطء الأجنبية في دبرها لواطة أيضا وهذا عند أبي حنيفة وقالا هو كالزنا فيحد رجما إن كان محصنا أو جلدا إن كان غير محصن؛ لأنه في معنى الزنا؛ لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حراما لقصد سفح الماء وله أنه ليس بزنا لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في موجبه من الإحراق بالنار وهدم الجدار، والتنكيس من مكان مرتفع باتباع الأحجار ونحو ذلك ولا هو في معنى الزنا؛ لأنه ليس فيه إضاعة الولد واشتباه الأنساب ولذا هو أندر وقوعا لانعدام الداعي في أحد الوجهين، والداعي إلى الزنا من الجانبين وما ورد في الحديث من الأمر بقتل الفاعل، والمفعول به فمحمول على السياسة أو على المستحل قال الزيلعي لو رأى الإمام مصلحة في قتل من اعتاده جاز له قتله ا هـ. واعلم أنهم يذكرون في حكم السياسة أن الإمام يفعلها ولم يقولوا القاضي فظاهره أن القاضي ليس له الحكم بالسياسة ولا العمل بها. قيد بعدم الحد؛ لأن التعزير واجب قالوا يوجع ضربا. زاد في الجامع الصغير أنه يودع في السجن قال في فتح القدير: حتى يموت أو يتوب ولو اعتاد اللواطة قتله الإمام محصنا كان أو غير محصن سياسة، وذكر العلامة الأكمل في شرح المشارق أن اللواطة محرمة عقلا وشرعا وطبعا بخلاف الزنا وأنه ليس بحرام طبعا فكانت أشد حرمة منه، وإنما لم يوجب الحد أبو حنيفة فيها لعدم الدليل عليه لا لخفتها، وإنما عدم الوجوب فيها للتغليظ على الفاعل؛ لأن الحد مطهر على قول بعض العلماء وفي فتح القدير وهل تكون اللواطة في الجنة أي هل يجوز كونها فيها قيل: إن كان حرمتها عقلا وسمعا لا تكون، وإن كان سمعا فقط جاز أن تكون، والصحيح أنها لا تكون فيها؛ لأنه تعالى استبعده واستقبحه فقال: {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} وسماه خبيثة فقال تعالى: {كانت تعمل الخبائث}، والجنة منزهة عنها ا هـ. وقيد بالأجنبية ليفيد أن زوجته وجاريته بالأولى في عدم وجوب الحد لكن قال في التبيين إذا فعل في عبده أو أمته أو منكوحته لا يجب الحد بالإجماع، وإنما يعزر لارتكابه المحظور وفي الحاوي القدسي وتكلموا في هذا التعزير من الجلد ورميه من أعلى موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك سوى الإخصاء المغلب، والجلد أصح ا هـ وللواطة أحكام أخر لا يجب بها العقر أي المهر ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة ولا تحل للزوج الأول في النكاح الصحيح ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة المصاهرة عند الأكثر ولا الكفارة في رمضان في رواية ولو قذف بها لا يحد خلافا لهما وكذا لو قذف امرأته بها لم يلاعن خلافا لهما وعن الصفار يكفر مستحلها عند الجمهور كذا في المجتبى وقدمنا أنه يجب الغسل بها على الفاعل، والمفعول به. قوله (وببهيمة) أي لا يحد بوطء بهيمة؛ لأنه ليس في معنى الزنا في كونه جناية وفي وجود الداعي؛ لأن الطبع السليم ينفر عنه، والحامل عليه نهاية السفه أو فرط الشبق ولهذا لا يجب ستره إلا أنه يعزر لما بينا والذي يروى أنها تذبح البهيمة وتحرق فذلك لقطع التحدث به وليس بواجب قالوا: إن كانت الدابة مما لا يؤكل لحمها تذبح وتحرق لما ذكرنا، وإن كانت مما تؤكل تذبح وتؤكل عند أبي حنيفة وقالا تحرق هذه أيضا هذا إن كانت البهيمة للفاعل، فإن كانت لغيره ففي الخانية كان لصاحبها أن يدفعها إليه بالقيمة وفي التبيين يطالب صاحبها أن يدفعها إليه بالقيمة ثم تذبح هكذا ذكروا ولا يعرف ذلك إلا سماعا فيحمل عليه ا هـ. والظاهر أنه لا يجبر على دفعها. (قوله: وبزنا في دار حرب أو بغي) أي لا يجب الحد بالزنا في دار الحرب أو في دار البغي لقوله عليه السلام: «لا تقام الحدود في دار الحرب» ولأن المقصود هو الانزجار وولاية الإمام منقطعة فيهما فيعرى الوجوب عن الفائدة أطلقه فأفاد أنه لا يقام بعد الخروج أيضا؛ لأنها لم تنعقد موجبة فلا تنقلب موجبة قيد بدار الحرب، والبغي؛ لأن من زنى في محل نزول العسكر، فإن من له ولاية الإقامة بنفسه كالخليفة وأمير مصره أن يقيم الحد عليه؛ لأنه تحت يده بخلاف أمير العسكر، والسرية؛ لأنه لم يفوض إليهما الإقامة ويستثنى من كلام المصنف ما لو زنى في العسكر، والعسكر في دار الحرب في أيام المحاربة قبل الفتح له أن يقيمه للولاية حينئذ بخلاف ما إذا زنى واحد منهم خارج العسكر، فإنه لا يقيم الحد عليه. (قوله: وبزنا حربي بذمية في حقه) أي لا يجب الحد بزنا رجل حربي مستأمن بذمية في حق الحربي المستأمن عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف آخرا يحد؛ لأن المستأمن من التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات كما أن الذمي التزمها مدة عمره ولهذا يحد حد القذف ويقتل قصاصا بخلاف حد الشرب؛ لأنه يعتقد إباحته ولهما أنه ما دخل للقرار بل لحاجته كالتجارة ونحوها فلم يصر من أهل دارنا ولهذا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب ولا يقتل المسلم ولا الذمي به، فإنما يلتزم من الحكم ما يرجع إلى تحصيل مقصوده وهو حقوق العباد؛ لأنه لما طمع في الإنصاف يلتزم الانتصاف، والقصاص وحد القذف من حقوقهم أما حد الزنا فمحض حق الشرع قيد بقوله في حقه؛ لأن الذمية تحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد لا تحد أيضا؛ لأن المرأة تابعة فامتناع الحد في حق الأصل يوجب امتناعه في حق التبع كالبالغة إذا مكنت الصبي، والمجنون قلنا: إن فعل المستأمن من زنا؛ لأنه مخاطب بالحرمات على ما هو الصحيح، وإن لم يكن مخاطبا بالشرائع على أصلنا، والتمكين من فعل هو زنا موجب للحد عليها وقيد بالحربي؛ لأن الذمي إذا زنى بحربية، فإنه يحد عندهما خلافا لمحمد، والأصل لأبي يوسف أن الحدود كلها تقام على المستأمن، والمستأمنة إلا حد الشرب كما تقام على الذمي، والذمية فسوى بين الذمي، والحربي المستأمن، والأصل عند الإمام الأعظم أنه لا يقام على المستأمن، والمستأمنة شيء من الحدود إلا حد القذف بخلاف الذمي ومحمد يقول كذلك في جميع ما ذكرنا إلا أنه يقول فعل الرجل أصل، والمرأة تبع فالامتناع في الأصل امتناع في التبع فمحل الاختلاف في حد الزنا، والسرقة، وأما حد القذف فواجب اتفاقا وحد الشرب غير واجب اتفاقا وقيد بالذمية؛ لأنه لو زنى مستأمن بمستأمنة فلا حد عليهما خلافا لأبي يوسف. والحاصل أن الزانيين إما مسلمان أو ذميان أو مستأمنان أو أحدهما مسلم، والآخر ذمي وهو صادق بصورتين أو أحدهما مسلم، والآخر مستأمن وهو صادق بصورتين أو أحدهما ذمي، والآخر مستأمن وهو صادق بصورتين فهي تسع صور، والحد واجب في الكل عند الإمام إلا في المستأمنين وإلا فيما إذا كان أحدهما مستأمنا أيا كان فلا حد عليه في ثلاث منها كما لا يخفى. (قوله: وبزنا صبي أو مجنون بمكلفة بخلاف عكسه) أي لا يجب الحد إذا زنى صبي أو مجنون بمكلفة ويجب الحد إذا زنى بالغ بصبية أو مجنونة؛ لأن فعل الزنا يتحقق منه وهي محل الفعل ولهذا يسمى هو واطئا وزانيا، والمرأة موطوءة ومزنيا بها إلا أنها سميت زانية مجازا تسمية للفعل باسم الفاعل كالراضية بمعنى المرضية أو لكونها مسببة بالتمكين فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنا وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه مؤثم على مباشرته وفعل الصبي ليس بهذه الصفة فلا يناط به الحد وقد ذكر بعضهم أن كلما انتفى الحد عن الرجل انتفى عن المرأة وهو منقوض بزنا المكره بالمطاوعة، والمستأمن بالذمية، والمسلمة فالأولى أن لا تجعل قاعدة؛ لأن الحكم في كل موضع بمقتضى الدليل قال في التبيين وعبارات أصحابنا أن فعلها مع الصبي، والمجنون ليس بزنا يشير إلى أن إحصانها لا يسقط بذلك كما لا يسقط إحصان الصبي، والمجنون حتى يجب الحد على قاذفهما بعد البلوغ، والإفاقة وقد قدمنا حكم المهر. (قوله: وبالزنا بمستأجرة) أي لا يجب الحد بوطء من استأجرها ليزني بها عند أبي حنيفة وقالا يجب الحد لعدم شبهة الملك ولهذا لا يثبت النسب ولا تجب العدة وله أن الله تعالى سمى المهر أجرة بقوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} فصار شبهة؛ لأن الشبهة ما يشبه الحقيقة لا الحقيقة فصار كما لو قال: أمهرتك كذا لأزني بك قيدنا بأن يكون استأجرها ليزني بها؛ لأنه لو استأجرها للخدمة فزنى بها يجب الحد اتفاقا؛ لأن العقد لم يضف إلى المستوفي بالوطء، والعقد المضاف إلى محل يورث الشبهة في ذلك المحل لا في محل آخر. (قوله: وبإكراه) أي لا يجب الحد بالزنا بإكراه أطلقه فشمل ما إذا كان المكره السلطان أو غيره أما إذا كان المكره السلطان فكان أبو حنيفة أولا يقول عليه الحد وهو قول زفر؛ لأن الزنا من الرجل لا يتصور إلا بعد انتشار الآلة وهذا آية الطوع ووجه قوله الآخر أن السبب الملجئ قائم ظاهر أو هو قيام السيف على رأسه، والانتشار دليل محتمل؛ لأنه قد يكون من غير قصد كما في النائم فلا يزول اليقين بالمحتمل، وأما إذا أكرهه غير السلطان، فإنه يحد عند الإمام وقالا لا يحد لتحقق الإكراه من غير سلطان عندهما؛ لأن المؤثر خوف الهلاك ويتحقق من غيره وله أنه من غيره لا يدوم إلا نادرا لتمكنه من الاستغاثة بالسلطان وبجماعة المسلمين ويمكنه دفع شره بنفسه بالسلاح، والنادر لا حكم له فلا يسقط الحد بخلاف السلطان؛ لأنه لا يمكنه الاستغاثة بغيره ولا الخروج بالسلاح عليه قالوا: هذا اختلاف عصر وزمان؛ لأنه لم يمكن في زمن أبي حنيفة لغير السلطان من القوة ما لا يمكن دفعها بالسلطان وفي زمنهما ظهرت القوة لكل متغلب فيفتى بقولهما كذا في الظهيرية فلذا أطلق في المختصر. (قوله: وبإقرار إن أنكره الآخر) أي لا يجب الحد بإقرار أحد الزانيين إذا أنكره الآخر؛ لأن دعوى النكاح يحتمل الصدق وهو يقوم بالطرفين فأورث شبهة، وإذا سقط الحد وجب المهر تعظيما لخطر البضع أطلقه فشمل ما إذا قال: لم أطأ أصلا أو قال تزوجت وشمل ما إذا كان المنكر الرجل أو المرأة وهو قول الإمام وقالا: إن ادعى المنكر منهما الشبهة بأن قال تزوجته فهو كما قال، وإن أنكر بأن قال ما زنيت ولم يدع ما يسقط الحد وجب على المقر الحد دون المنكر وحاصل دليل الإمام أن الزنا فعل مشترك بينهما قائم بهما فانتفاؤه عن أحدهما يورث شبهة في الآخر، وإذا سقط الحد وجب المهر تعظيما لأمر البضع، وإن كانت هي منكرة لأمر النكاح؛ لأنه من ضرورة سقوط الحد وأشار المصنف إلى أنه لو زنى بامرأة خرساء لا حد على واحد منهما قال في الأصل وجعل الجواب في الخرساء كالجواب فيما إذا كانت المرأة ناطقة وادعت المرأة النكاح بخلاف ما إذا كانت المرأة مجنونة أو صبية يجامع مثلها كان على الرجل الحد وبخلاف ما إذا كانت المرأة غائبة وأقر الرجل أنه زنى بها أو شهد عليه الشهود، فإنه يقام الحد على الرجل كذا في الظهيرية. قوله (: ومن زنى بأمة فقتلها لزمه الحد، والقيمة) معناه قتلها بفعل الزنا؛ لأنه جنى جنايتين فيوفر على كل واحدة منهما حكمها وعن أبي يوسف أنه لا يحد؛ لأن تقرر ضمان القيمة سبب لملك الأمة وصار كما إذا اشتراها بعد ما زنى بها وهو على هذا الخلاف واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه كما إذا ملك المسروق قبل القطع. ولهما أنه ضمان قتل فلا يوجب الملك؛ لأنه ضمان دم ولو كان يوجبه إنما يوجبه في العين كما في هبة المسروق لا في منافع البضع؛ لأنها استوفيت، والملك يثبت مستندا فلا يظهر في المستوفى لكونها معدومة وهذا بخلاف ما إذا زنى بها فأذهب عينها حيث يجب عليه قيمتها ويسقط الحد؛ لأن الملك هناك يثبت في الجثة العمياء وهي عين فأورث شبهة وأشار المصنف إلى أنه لو زنى بحرة فقتلها به يجب الحد عليه اتفاقا؛ لأن الحرة لا تملك بالضمان، وإن لم يقتلها، وإنما أفضاها بأن اختلط المسلكان، فإن كانت كبيرة مطاوعة له من غير دعوى شبهة فعليهما الحد ولا شيء عليه في الإفضاء لرضاها به ولا مهر عليه لوجوب الحد، وإن كان مع دعوى شبهة فلا حد ولا شيء في الإفضاء ويجب العقر، وإن كانت مكرهة من غير دعوى شبهة فعليه الحد دونها ولا مهر لها ثم ينظر في الإفضاء، فإن لم يستمسك بولها فعليه دية المرأة كاملة؛ لأنه فوت جنس المنفعة على الكمال. وإن كان يستمسك بولها حد وضمن ثلث الدية لما أن جنايته جائفة، وإن كان مع دعوى شبهة فلا حد عليها، وإن كان البول يستمسك فعليه ثلث الدية ويجب المهر في ظاهر الرواية، وإن لم يستمسك فعليه الدية كاملة ولا يجب المهر عندهما خلافا لمحمد، وإن كانت صغيرة يجامع مثلها فهي كالكبيرة فيما ذكرنا إلا في حق سقوط الأرش برضاها، وإن كانت صغيرة لا يجامع مثلها، فإن كان يستمسك بولها لزمه ثلث الدية، والمهر كاملا ولا حد عليه لتمكن القصور في معنى الزنا وهو الإيلاج في قبل المشتهاة ولهذا لا تثبت به حرمة المصاهرة، والوطء الحرام في دار الإسلام يوجب المهر إذا انتفى الحد فيجب ثلث الدية لكونه جائفة على ما بينا، وإن كان لا يستمسك ضمن الدية ولا يضمن المهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد يضمن المهر أيضا لما ذكرنا ولنا أن الدية ضمان كل العضو، والمهر ضمان جزء منه وضمان الجزء يدخل في ضمان الكل إذا كانا في عضو واحد كما إذا قطع إصبع إنسان ثم قطع كفه قبل البرء يدخل أرش الإصبع في أرش الكف ويسقط إحصانه بهذا الوطء لوجود صورة الزنا وهو الوطء الحرام وفي المحيط لو كسر فخذ امرأة في الزنا أو جرحها ضمن الدية في ماله وحده؛ لأنه شبه العمد وفي شبهه تجب الدية في ماله يعني به فيما دون النفس، وإن جنت الأمة فزنى بها ولي الجناية. فإن كانت الجناية توجب القصاص بأن قتلت نفسا عمدا فلا حد عليه وعليه العقر؛ لأن من العلماء من قال يملكها في هذه الصورة فأورث شبهة، وإن كانت الجناية لا توجب القصاص، فإن فداها المولى يجب عليه الحد بالاتفاق؛ لأن الزاني لم يملك الجثة، وإن دفعها بالجناية فعلى الخلاف وفي الفوائد الظهيرية لو غصبها ثم زنى بها ثم ضمن قيمتها فلا حد عليه عندهم جميعا خلافا للشافعي أما لو زنا بها ثم غصبها وضمن قيمتها لم يسقط الحد وفي جامع قاضي خان لو زنى بحرة ثم نكحها لا يسقط الحد بالاتفاق. (قوله: والخليفة يؤخذ بالقصاص، والأموال لا بالحد)؛ لأن الأول حقوق العباد لما أن حق استيفائها لمن له الحق فيكون الإمام فيه كغيره، وإن احتاج إلى المنعة فالمسلمون منعته فيقدر بهم على الاستيفاء فكان الوجوب مقيدا وبهذا يعلم أنه يجوز استيفاء القصاص بدون قضاء القاضي، والقضاء لتمكين الولي من استيفائه لا أنه شرط كما صرحوا به، وأما الثاني أعني الحدود، فإنما لا تقام عليه؛ لأن الحد حق الله تعالى، والإمام هو المكلف بإقامته وتعذر إقامته على نفسه؛ لأن إقامته بطريق الجزاء، والنكال ولا يفعل ذلك أحد بنفسه ولا ولاية لأحد عليه ليستوفيه وفائدة الإيجاب الاستيفاء، فإذا تعذر لم يجب وفعل نائبه كفعله؛ لأنه بأمره أطلق في الحد فشمل حد القذف؛ لأن المغلب فيه حق الشرع فكان كبقية الحدود، والمراد بالخليفة الإمام الذي ليس فوقه إمام وقيد به احترازا عن أمير البلدة، فإنه يقام عليه الحدود بأمر الإمام والله أعلم.
|