الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
أَفْرَدَ ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ. هُوَ اللَّفْظُ بِحَرْفَيْنِ حَرْفًا كَالثَّانِي مُشَدَّدًا. وَيَنْقَسِمُ إِلَى كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ: فَالْكَبِيرُ: مَا كَانَ أَوَّلُ الْحَرْفَيْنِ مُتَحَرِّكًا فِيهِ؛ سَوَاءٌ كَانَا مِثْلَيْنِ، أَمْ جِنْسَيْنِ، أَمْ مُتَقَارِبَيْنِ. وَسُمِّيَ كَبِيرًا لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ؛ إِذِ الْحَرَكَةُ أَكْثَرُ مِنَ السُّكُونِ. وَقِيلَ: لِتَأْثِيرِهِ فِي إِسْكَانِ الْمُتَحَرِّكِ قَبْلَ إِدْغَامِهِ. وَقِيلَ: لِمَا فِيهِ مِنَ الصُّعُوبَةِ. وَقِيلَ: لِشُمُولِهِ نَوْعَيْ الْمِثْلَيْنِ وَالْجِنْسَيْنِ وَالْمُتَقَارِبَيْنِ. وَالْمَشْهُورُ بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْعَشْرَةِ هُوَ: أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَوَرْدَ عَنْ جَمَاعَةٍ خَارِجَ الْعَشْرَة: كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْأَعْمَشِ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ، وغَيْرِهِمْ. وَوَجْهُهُ: طَلَبُ التَّخْفِيفِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْقِرَاءَاتِ لَمْ يَذْكُرُوهُ الْبَتَّةَ كَأَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِهِ، وَابْنِ مُجَاهِدٍ فِي مُسَبَّعَتِهِ، وَمَكِّيٍّ فِي تَبْصِرَتِهِ، وَالطَّلَمَنْكِيِّ فِي رَوْضَتِهِ، وَابْنِ سُفْيَانٍ فِي هَادِيهِ، وَابْنِ شُرَيْحٍ فِي كَافِيهِ، وَالْمَهْدَوِيِّ فِي هِدَايَتِهِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ فِي تَقْرِيبِ النَّشْر: وَنَعْنِي بِالْمُتَمَاثِلَيْنِ مَا اتَّفَقَا مَخْرَجًا وَصِفَةً وَالْمُتَجَانِسَيْنِ مَا اتَّفَقَا مَخْرَجًا وَاخْتَلَفَا صِفَةً. وَالْمُتَقَارِبَيْن: مَا تَقَارَبَا مَخْرَجًا أَوْ صِفَةً. فَأَمَّا الْمُدْغَمُ مِنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَوَقَعَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا: وَهِيَ الْبَاءُ، وَالتَّاءُ، وَالثَّاءُ، وَالْحَاءُ، وَالرَّاءُ، وَالسِّينُ، وَالْعَيْنُ، وَالْغَيْنُ، وَالْفَاءُ، وَالْقَافُ، وَالْكَافُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالنُّونُ، وَالْوَاوُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ. نَحْوُ: {الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النِّسَاء: 105]، {الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا} [الْمَائِدَة: 106]، {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [الْبَقَرَة: 191]. {النِّكَاحِ حَتَّى} [الْبَقَرَة: 235]. {شَهْرُ رَمَضَانَ} [الْبَقَرَة: 185]. {النَّاسَ سُكَارَى} [الْحَجّ: 2]. {يَشْفَعُ عِنْدَهُ} [الْبَقَرَة: 255]. {يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ} [آلِ عِمْرَانَ: 85]. {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 213]. {أَفَاقَ قَالَ} [الْأَعْرَاف: 143]. {إِنَّكِ كُنْتِ} [يُوسُفَ: 29]. {لَا قِبَلَ لَهُمْ} [النَّمْل: 37]. {الرَّحِيمِ مَالِكِ} [الْفَاتِحَة: 3- 4]. {نَحْنُ نُسَبِّحُ} [الْبَقَرَة: 30]. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ} [النَّحْل: 63]. {فِيهِ هُدًى} [الْبَقَرَة: 2]. {يَأْتِيَ يَوْمٌ} [الْبَقَرَة: 254]. وَشَرْطُهُ الْمُتَمَاثِلَيْن: 1- أَنْ يَلْتَقِيَ الْمِثْلَانِ خَطًّا؛ فَلَا يُدْغَمُ فِي نَحْو: {أَنَا نَذِيرٌ} [الْعَنْكَبُوت: 50] مِنْ أَجْلِ وُجُودِ الْأَلِفِ خَطًّا. 2- وَأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، فَإِنِ الْتَقَيَا مِنْ كَلِمَةٍ فَلَا يُدْغَمُ، إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ نَحْوُ: {مَنَاسِكَكُمْ} فِي [الْبَقَرَة: 200] وَ{مَا سَلَكَكُمْ} فِي [الْمُدَّثِّر: 42]. 3- وَأَلَّا يَكُونَ الْأَوَّلُ تَاءً ضَمِيرًا لِمُتَكَلِّمٍ أَوْ خِطَابًا، فَلَا يُدْغَمُ، نَحْوَ: {كُنْتُ تُرَابًا} [النَّبَأ: 40]. {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ} [يُونُسَ: 42]. 4- وَلَا مُشَدَّدًا، فَلَا يُدْغَمُ نَحْوُ: {مَسَّ سَقَرَ} [الْقَمَر: 48]، {رَبِّ بِمَا} [الْحِجْر: 39]. 5- وَلَا مُنَوَّنًا، فَلَا يُدْغَمُ نَحْوُ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وَأَمَّا الْمُدْغَمُ مِنَ الْمُتَجَانِسَيْنِ وَالْمُتَقَارِبَيْنِ فَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ حَرْفًا، يَجْمَعُهَا (رُضْ سَنَشُدُّ حُجَّتَكَ بِذُلِّ قَثْمٍ). وَشَرْطُهُ الْمُتَجَانِسَيْنِ وَالْمُتَقَارِبَيْن: 1- أَلَّا يَكُونَ الْأَوَّلُ مُشَدَّدًا، نَحْوَ: {أَشَدَّ ذِكْرًا} [الْبَقَرَة: 200]. 2- وَلَا مُنَوَّنًا نَحْوَ: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزُّمَر: 6]. 3- وَلَا تَاءَ ضَمِيرٍ، نَحْوَ: {خَلَقْتَ طِينًا} [الْإِسْرَاء: 61]. فَالْبَاءُ تُدْغَمُ فِي الْمِيمِ فِي: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} فَقَطْ. وَالتَّاءُ فِي عَشَرَةِ أَحْرُفٍ: الثَّاء: {بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ} [الْبَقَرَة: 92]. وَالْجِيم: {الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 23]. وَالذَّال: {السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ} [هُودٍ: 114]. الزَّاي: {الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزُّمَر: 73]. وَالسِّين: {الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ} [النِّسَاء: 57] وَلَمْ يُدْغَمْ: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً} [الْبَقَرَة: 247]. لِلْجَزْمِ مَعَ خِفَّةِ الْفَتْحَةِ. وَالشِّين: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النُّور: 4]. وَالصَّاد: {وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النَّبَأ: 38]. وَالضَّاد: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [الْعَادِيَات: 1]. وَالطَّاء: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هُودٍ: 114] وَالظَّاء: {الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي} [النِّسَاء: 97] وَالثَّاءُ فِي خَمْسَةِ أَحْرُفٍ: التَّاء: {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الْحِجْر: 65] وَالذَّال: {وَالْحَرْثِ ذَلِكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 14] وَالسِّين: {وَوِرِثَ سُلَيْمَانُ} [النَّمْل: 16] وَالشِّين: {حَيْثُ شِئْتُمَا} [الْبَقَرَة: 35] وَالضَّاد: {حَدِيثُ ضَيْفِ} [الذَّارِيَات: 24]. وَالْجِيمُ: فِي حَرْفَيْن: الشِّين: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الْفَتْح: 29]. وَالتَّاء: {ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ} [الْمَعَارِج: 3]. وَالْحَاءُ فِي الْعَيْنِ فِي: {زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} [آلِ عِمْرَانَ: 185] فَقَطْ. وَالدَّالُ فِي عَشَرَةِ أَحْرُفٍ: التَّاء: {الْمَسَاجِدَ تِلْكَ} [الْبَقَرَة: 187]. {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النَّحْل: 91]. وَالثَّاء: {يُرِيدُ ثَوَابَ} [النِّسَاء: 134]. وَالْجِيم: {دَاوُدُ جَالُوتَ} [الْبَقَرَة: 251]. وَالذَّال: {وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ} [الْمَائِدَة: 97]. وَالزَّاي: {يَكَادُ زَيْتُهَا} [النُّور: 35]. وَالسِّين: {الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ} [إِبْرَاهِيمَ: 49- 50]. وَالشِّين: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} [يُوسُفَ: 26]. وَالصَّاد: {نَفْقِدُ صُوَاعَ} [يُوسُفَ: 72]. وَالضَّاد: {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ} [يُونُسَ: 21]. وَالظَّاء: {يُرِيدُ ظُلْمًا} [غَافِرٍ: 31]. وَلَا تُدْغَمُ مَفْتُوحَةً بَعْدَ سَاكِنٍ إِلَّا فِي التَّاءِ لِقُوَّةِ التَّجَانُسِ. وَالذَّالُ فِي السِّينِ فِي قَوْلِه: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} [الْكَهْف: 61]. وَالصَّادِ فِي قَوْلِه: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً} [الْجِنّ: 3]. وَالرَّاءُ فِي اللَّامِ نَحْوُ: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هُودٍ: 78]. {الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ} [الْبَقَرَة: 285- 286]. {وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 190]. فَإِنْ فُتِحَتْ وَسَكَنَ مَا قَبْلَهَا لَمْ تُدْغَمْ نَحْوُ: {وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النَّحْل: 8]. وَالسِّينُ فِي الزَّايِ فِي قَوْلِه: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التَّكْوِير: 7]. وَالشِّينِ فِي قَوْلِه: {الرَّأْسُ شَيْبًا} [مَرْيَمَ: 4]. وَالشِّينُ فِي السِّين: فِي: {ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الْإِسْرَاء: 42] فَقَطْ. وَالضَّادُ فِي: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النُّور: 62] فَقَطْ. وَالْقَافُ فِي الْكَافِ إِذَا مَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا نَحْوُ: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [الْمَائِدَة: 64]. وَكَذَا إِذَا كَانَتْ مَعَهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَهَا مِيمٌ نَحْوُ: {خَلَقَكُمْ} [الْبَقَرَة: 21]. وَالْكَافُ فِي الْقَافِ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا: نَحْوُ: {وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ} [الْبَقَرَة: 30] لَا إِنْ سَكَنَ نَحْوُ: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الْجُمُعَة: 11]. وَاللَّامُ فِي الرَّاءِ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا نَحْوُ: {رُسُلُ رَبِّكَ} [هُودٍ: 81]. أَوْ سَكَنَ وَهِيَ مَضْمُومَةٌ أَوْ مَكْسُورَةٌ نَحْوُ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} [التَّكْوِير: 19].} إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النَّحْل: 125]. لَا إِنْ فُتِحَتْ نَحْوُ: {فَيَقُولَ رَبِّ} [الْمُنَافِقُونَ: 10] إِلَّا لَامَ (قَالَ): فَإِنَّهَا تُدْغَمُ حَيْثُ وَقَعَتْ، نَحْوَ: {قَالَ رَبِّ} [آلِ عِمْرَانَ: 38]. {قَالَ رَجُلَانِ} [الْمَائِدَة: 23]. وَالْمِيمُ تُسْكَنُ عِنْدَ الْبَاءِ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا فَتَخْفَى بِغُنَّةٍ نَحْوَ: {أَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الْأَنْعَام: 53]، {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الْبَقَرَة: 113]، {مَرْيَمَ بُهْتَانًا} [النِّسَاء: 156]. وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْإِخْفَاءِ الْمَذْكُورِ فِي التَّرْجَمَةِ. وَذِكْرُ ابْنِ الْجَزَرِيِّ لَهُ فِي أَنْوَاعِ الْإِدْغَامِ تَبِعَ فِيهِ بَعْضَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ قَالَ هُوَ فِي النَّشْر: إِنَّهُ غَيْرُ صَوَابٍ. فَإِنْ سَكَنَ مَا قَبْلَهَا أُظْهِرَتْ، نَحْوُ: {إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [الْبَقَرَة: 132] وَالنُّونُ تُدْغَمُ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا فِي الرَّاءِ وَفِي اللَّامِ نَحْوُ: {تَأَذَّنَ رَبُّكَ} [الْأَعْرَاف: 167]، {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [الْبَقَرَة: 55]، فَإِنْ سَكَنَ أُظْهِرَتْ عِنْدَهُمَا، نَحْوُ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} [النَّحْل: 50]، {أَنْ تَكُونَ لَهُ} [الْبَقَرَة: 266] إِلَّا نُونَ (نَحْنُ)، فَإِنَّهَا تُدْغَمُ نَحْوَ: {وَنَحْنُ لَهُ} [الْبَقَرَة: 138]، {وَمَا نَحْنُ لَكَ} [هُودٍ: 53] لِكَثْرَةِ وُرُودِهَا وَتَكْرَارِ النُّونِ فِيهَا، وَلُزُومِ حَرَكَتِهَا وَثِقْلِهَا.
تَنْبِيهَان: الْأَوَّلُ: وَافَقَ أَبُو عَمْرٍو حَمْزَةَ وَيَعْقُوبَ فِي أَحْرُفٍ مَخْصُوصَةٍ اسْتَوْعَبَهَا ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي كِتَابَيْه: النَّشْرِ وَ التَّقْرِيبِ. الثَّانِي: أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْعَشَرَةُ عَلَى إِدْغَامِ {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يُوسُفَ: 11] وَاخْتَلَفُوا فِي اللَّفْظِ بِه: فَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِإِدْغَامِهِ مَحْضًا بِلَا إِشَارَةٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِشَارَةِ رَوْمًا وَإِشْمَامًا. ضَابِطٌ: قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: جَمِيعُ مَا أَدْغَمَهُ أَبُو عَمْرٍو مِنَ الْمِثْلَيْنِ وَالْمُتَقَارِبَيْنِ إِذَا وَصَلَ السُّورَةَ بِالسُّورَة: أَلْفُ حَرْفٍ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ، لِدُخُولِ آخِرِ (الْقَدْرِ) بِـ (لَمْ يَكُنْ). وَإِذَا بَسْمَلَ وَوَصْلَ آخِرَ السُّورَةِ بِالْبَسْمَلَةِ، أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ، لِدُخُولِ آخِرِ (الرَّعْدِ) بِأَوَّلِ (إِبْرَاهِيمَ) وَآخِرِ (إِبْرَاهِيمَ) بِأَوَّلِ (الْحِجْرِ)، وَإِذَا فَصَلَ بِالسَّكْتِ وَلَمْ يُبَسْمِلْ، أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ.
وَأَمَّا الْإِدْغَامُ الصَّغِيرُ: فَهُوَ مَا كَانَ الْحَرْفُ الْأَوَّلُ فِيهِ سَاكِنًا. وَهُوَ وَاجِبٌ وَمُمْتَنِعٌ وَجَائِزٌ، وَالَّذِي جَرَتْ عَادَةُ الْقُرَّاءُ بِذِكْرِهِ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ هُوَ الْجَائِزُ، لِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِيهِ، وَهُوَ قِسْمَان:
الْأَوَّلُ: إِدْغَامُ حَرْفٍ مِنْ كَلِمَةٍ فِي حُرُوفٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَتَنْحَصِرُ فِي: إِذْ، وَقَدْ، وَتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَهَلْ، وَبَلْ. فَـ (إِذْ) اخْتُلِفَ فِي إِدْغَامِهَا وَإِظْهَارِهَا عِنْدَ سِتَّةِ أَحْرُفٍ: التَّاءِ {إِذْ تَبَرَّأَ} [الْبَقَرَة: 166]. وَالْجِيمِ {إِذْ جَعَلَ} [الْفَتْح: 26]. وَالدَّالِ {إِذْ دَخَلْتَ} [الْكَهْف: 39]. وَالزَّايِ {إِذْ زَاغَتْ} [الْأَحْزَاب: 10]. وَالسِّينِ {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النُّور: 12]. وَالصَّادِ {وَإِذْ صَرَفْنَا} [الْأَحْقَاف: 29]. وَ(قَدْ) اخْتُلِفَ فِيهَا عِنْدَ ثَمَانِيَةِ أَحْرُفٍ اخْتُلِفَ فِي إِدْغَامِهَا: الْجِيمِ {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ} [الْبَقَرَة: 92]. وَالذَّالِ {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} [الْأَعْرَاف: 179]. وَالزَّايِ {وَلَقَدْ زَيَّنَّا} [الْمُلْك: 5]. وَالسِّينِ {قَدْ سَأَلَهَا} [الْمَائِدَة: 102]. وَالشِّينِ {قَدْ شَغَفَهَا} [يُوسُفَ: 30]. وَالصَّادِ {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} [الْإِسْرَاء: 41]. وَالضَّادِ {قَدْ ضَلُّوا} [النِّسَاء: 167]. وَالظَّاءِ {فَقَدْ ظَلَمَ} [الْبَقَرَة: 231]. وَتَاءِ التَّأْنِيثِ اخْتُلِفَ فِيهَا عِنْدَ سِتَّةِ أَحْرُفٍ اخْتُلِفَ فِي إِدْغَامِهَا: الثَّاءِ {بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هُودٍ: 95]. وَالْجِيمِ {نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} [النِّسَاء: 56]. وَالزَّايِ {خَبَتْ زِدْنَاهُمْ} [الْإِسْرَاء: 97]. وَالسِّينِ {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [الْبَقَرَة: 261]. وَالصَّادِ {هُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الْحَجّ: 40]. وَالظَّاءِ {كَانَتْ ظَالِمَةً} [الْأَنْبِيَاء: 11]. وَلَامِ (هَلْ) وَ(بَلْ) اخْتُلِفَ فِيهَا عِنْدَ ثَمَانِيَةِ أَحْرُفٍ تَخْتَصُّ (بَلْ) مِنْهَا بِخَمْسَةٍ اخْتُلِفَ فِي إِدْغَامِهَا: الزَّايِ {بَلْ زُيِّنَ} [الرَّعْد: 33]. وَالسِّينِ {بَلْ سَوَّلَتْ} [يُوسُفَ: 18]. وَالضَّادِ {بَلْ ضَلُّوا} [الْأَحْقَاف: 28]. وَالطَّاءِ {بَلْ طَبَعَ} [النِّسَاء: 155]. وَالظَّاءِ {بَلْ ظَنَنْتُمْ} [الْفَتْح: 12]. وَتَخْتَصُّ (هَلْ) بِالثَّاءِ {هَلْ ثُوِّبَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 36]. وَيَشْتَرِكَانِ فِي التَّاءِ وَالنُّونِ {هَلْ تَنْقِمُونَ} [الْمَائِدَة: 59]، {بَلْ تَأْتِيهِمْ} [الْأَنْبِيَاء: 40]، {هَلْ نَحْنُ} [الشُّعَرَاء: 203]، {بَلْ نَتَّبِعُ} [الْبَقَرَة: 170].
الْقِسْمُ الثَّانِي: إِدْغَامُ حُرُوفٍ قَرُبَتْ مَخَارِجُهَا، وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا اخْتُلِفَ فِيهَا. أَحَدُهَا: الْبَاءُ عِنْدَ الْفَاءِ فِي: {أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ} [النِّسَاء: 74]، {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ} [الرَّعْد: 5]، {اذْهَبْ فَمَنْ} [الْإِسْرَاء: 63]، {فَاذْهَبْ فَإِنَّ} [طه: 97]، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ} [الْحُجُرَات: 11]. الثَّانِي: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} فِي [الْبَقَرَة: 284]. الثَّالِثُ: {ارْكَبْ مَعَنَا} فِي [هُودٍ: 42]. الرَّابِعُ: {نَخْسِفْ بِهِمُ} فِي [سَبَأٍ: 9]. الْخَامِسُ: الرَّاءُ السَّاكِنَةُ عِنْدَ اللَّامِ، نَحْوُ: {يَغْفِرْ لَكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 31]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطُّور: 48]. السَّادِسُ: اللَّامُ السَّاكِنَةُ فِي الذَّالِ {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [الْبَقَرَة: 231] حَيْثُ وَقَعَ. السَّابِعُ: الثَّاءُ فِي الذَّالِ فِي: {يَلْهَثْ ذَلِكَ} [الْأَعْرَاف: 176]. الثَّامِنُ: الدَّالُ فِي الثَّاء: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ} [آلِ عِمْرَانَ: 145] حَيْثُ وَقَعَ. التَّاسِعُ: الذَّالُ فِي التَّاءِ مِنِ {اتَّخَذْتُمْ} [الْبَقَرَة: 51] وَمَا جَاءَ مِنْ لَفْظِهِ. الْعَاشِرُ: الذَّالُ فِيهَا مِنْ: {فَنَبَذْتُهَا} فِي [طه: 96]. الْحَادِي عَشَرَ: الذَّالُ فِيهَا أَيْضًا فِي {عُذْتُ بِرَبِّي} فِي [غَافِرٍ: 27] وَ[الدُّخَان: 20]. الثَّانِي عَشَرَ: الثَّاءُ مِنْ {لَبِثْتُمْ} [الْإِسْرَاء: 52] وَ{لَبِثْتُمْ} [الْبَقَرَة: 259] كَيْفَ جَاءَا. الثَّالِثَ عَشَرَ: الثَّاءُ فِيهَا فِي {أُورِثْتُمُوهَا} فِي [الْأَعْرَاف: 43] وَ[الزُّخْرُف: 72]. الرَّابِعَ عَشَرَ: الدَّالُ فِي الذَّالِ فِي {كهيعص ذِكْرَ} [مَرْيَمَ: 1- 2]. الْخَامِسَ عَشَرَ: النُّونُ فِي الْوَاوِ، مِنْ {يس وَالْقُرْآنِ}. السَّادِسَ عَشَرَ: النُّونُ فِيهَا، مِنْ {ن وَالْقَلَمِ}. السَّابِعَ عَشَرَ: النُّونُ عِنْدَ الْمِيمِ مِنْ: {طسم} أَوَّلُ (الشُّعَرَاءِ) وَ(الْقَصَصِ).
قَاعِدَةٌ: كُلُّ حَرْفَيْنِ الْتَقَيَا، أَوَّلُهُمَا سَاكِنٌ- وَكَانَا مِثْلَيْنِ، أَوْ جِنْسَيْنِ- وَجَبَ إِدْغَامُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا لُغَةً وَقِرَاءَةً. فَالْمِثْلَانِ نَحْوُ: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ} [الْبَقَرَة: 60]، {رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [الْبَقَرَة: 16]، {وَقَدْ دَخَلُوا} [الْمَائِدَة: 61]، {اذْهَبْ بِكِتَابِي} [النَّمْل: 28]، {وَقُلْ لَهُمْ} [النِّسَاء: 63]، {وَهُمْ مِنْ} [النَّمْل: 89]، {عَنْ نَفْسٍ} [الْبَقَرَة: 48]، {يُدْرِكْكُمْ} [النِّسَاء: 78]، {يُوَجِّهْهُ} [النَّحْل: 76]. وَالْجِنْسَانِ نَحْوُ: {قَالَتْ طَائِفَةٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 72]، {وَقَدْ تَبَيَّنَ} [الْعَنْكَبُوت: 38]، {إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزُّخْرُف: 39]، {بَلْ رَانَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 14]، {هَلْ رَأَيْتُمْ}، {وَقُلْ رَبِّ} [الْإِسْرَاء: 24]. مَا لَمْ يَكُنْ أَوَّلُ الْمِثْلَيْنِ حَرْفُ مَدٍّ نَحْوُ: {قَالُوا وَهُمْ} [الشُّعَرَاء: 96]، {الَّذِي يُوَسْوِسُ} [النَّاس: 5]. أَوْ أَوَّلُ الْجِنْسَيْنِ حَرْفُ حَلْقٍ نَحْوُ: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} [الزُّخْرُف: 89]. فَائِدَةٌ: كَرِهَ قَوْمٌ الْإِدْغَامَ فِي الْقُرْآنِ، وَعَنْ حَمْزَةَ أَنَّهُ كَرِهَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَحَصَّلْنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
يَلْحَقُ بِالْقِسْمَيْنِ السَّابِقَيْنِ قِسْمٌ آخَرَ اخْتُلِفَ فِي بَعْضِهِ، وَهُوَ أَحْكَامُ النُّونِ السَّاكِنَةِ وَالتَّنْوِينِ، وَلَهُمَا أَحْكَامٌ أَرْبَعَةٌ: إِظْهَارٌ، وَإِدْغَامٌ، وَإِقْلَابٌ، وَإِخْفَاءٌ. فَالْإِظْهَارُ: لِجَمِيعِ الْقُرَّاءِ عِنْدَ سِتَّةِ أَحْرُفٍ، وَهِيَ حُرُوفُ الْحَلْقِ الْهَمْزَةُ وَالْهَاءُ وَالْعَيْنُ وَالْحَاءُ وَالْغَيْنُ وَالْخَاءُ، نَحْوَ: {يَنْأَوْنَ} [الْأَنْعَام: 26]، {مَنْ آمَنَ} [الْبَقَرَة: 62]، {فَانْهَارَ} [التَّوْبَة: 109]، {مِنْ هَادٍ} [الرَّعْد: 33]، {جُرُفٍ هَارٍ} [التَّوْبَة: 109]، {أَنْعَمْتَ} [الْفَاتِحَة: 7]، {مِنْ عَمَلِ} [يُونُسَ: 61]، {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الْبَقَرَة: 7]، {وَانْحَرْ} [الْكَوْثَر: 2]، {مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 42]، {فَسَيُنْغِضُونَ} [الْإِسْرَاء: 51]، {مِنْ غِلٍّ} [الْأَعْرَاف: 43]، {إِلَهٍ غَيْرِهِ} [الْأَعْرَاف: 59] وَ{الْمُنْخَنِقَةُ} [الْمَائِدَة: 3]، {مِنْ خَيْرٍ} [الْبَقَرَة: 197]، {قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزُّخْرُف: 58]. وَبَعْضُهُمْ يُخْفِي عِنْدَ الْخَاءِ وَالْغَيْنِ. وَالْإِدْغَامُ فِي سِتَّةٍ: حَرْفَانِ بِلَا غُنَّةٍ: وَهُمَا اللَّامُ وَالرَّاءُ، نَحْوُ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [الْبَقَرَة: 24]، {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَة: 2]، {مِنْ رَبِّهِمْ} [الْبَقَرَة: 5]، {ثَمَرَةٍ رِزْقًا} [الْبَقَرَة: 25]. وَأَرْبَعَةٌ بِغُنَّةٍ وَالْإِدْغَامِ فِي سِتَّة: وَهِيَ النُّونُ وَالْمِيمُ وَالْيَاءُ وَالْوَاوُ، نَحْوَ: {عَنْ نَفْسٍ} [الْبَقَرَة: 48]، {حِطَّةٌ نَغْفِرْ} [الْبَقَرَة: 58]، {مِنْ مَالٍ} [الْمُؤْمِنُونَ: 55]، {مَثَلًا مَا} [الْبَقَرَة: 26]، {مِنْ وَالٍ} [الرَّعْد: 11]، {رَعْدٌ وَبَرْقٌ} [الْبَقَرَة: 19]، {مَنْ يَقُولُ} [الْبَقَرَة: 8]، {وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ} [الْبَقَرَة: 19]. وَالْإِقْلَابُ: عِنْدَ حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْبَاءُ نَحْوُ: {أَنْبِئْهُمْ} [الْبَقَرَة: 33]، {مِنْ بَعْدِهِمْ} [الْبَقَرَة: 253]، {صُمٌّ بُكْمٌ} [الْبَقَرَة: 18] بِقَلْبِ النُّونِ وَالتَّنْوِينِ عِنْدَ الْبَاءِ مِيمًا خَاصَّةً، فَتُخْفَى بِغُنَّةٍ. وَالْإِخْفَاءُ: عِنْدَ بَاقِي الْحُرُوفِ، وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ: التَّاءُ وَالثَّاءُ وَالْجِيمُ وَالدَّالُ وَالذَّالُ وَالزَّايُ وَالسِّينُ وَالشِّينُ وَالصَّادُ وَالضَّادُ وَالطَّاءُ وَالظَّاءُ وَالْفَاءُ وَالْقَافُ وَالْكَافُ، نَحْوَ: {كُنْتُمْ} [الْبَقَرَة: 23]، {وَمَنْ تَابَ} [هُودٍ: 112]، {جَنَّاتٍ تَجْرِي} [الْبَقَرَة: 25]، {بِالْأُنْثَى} [الْبَقَرَة: 178]، {مِنْ ثَمَرَةٍ} [الْبَقَرَة: 25]، {قَوْلًا ثَقِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 5]، {أَنْجَيْتَنَا} [يُونُسَ: 22]، {إِنْ جَعَلَ} [الْقَصَص: 71]، {خَلْقًا جَدِيدًا} [الْإِسْرَاء: 49]. {أَنْدَادًا} [الْبَقَرَة: 22]، {أَنْ دَعَوْا} [مَرْيَمَ: 91]، {كَأْسًا دِهَاقًا} [النَّبَأ: 34]، {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [الْبَقَرَة: 6]، {مِنْ ذَهَبٍ} [الْكَهْف: 31]، {وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ} [الْإِسْرَاء: 2- 3]، {تَنْزِيلٌ مِنْ} [فُصِّلَتْ: 2]، {مِنْ زَوَالٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 44]، {صَعِيدًا زَلَقًا} [الْكَهْف: 40]، {الْإِنْسَانُ} [النِّسَاء: 28]، {مِنْ سُوءٍ} [يُوسُفَ: 51]، {وَرَجُلًا سَلَمًا} [الزُّمَر: 29]، {أَنْشَرَهُ} [عَبَسَ: 22]، {إِنْ شَاءَ} [الْبَقَرَة: 70]، {غَفُورٌ شَكُورٌ} [فَاطِرٍ: 30]، {وَالْأَنْصَارِ} [التَّوْبَة: 100]، {أَنْ صَدُّوكُمْ} [الْمَائِدَة: 2]، {جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [الْمُرْسَلَات: 33]، {مَنْضُودٍ} [هُودٍ: 82]، {مَنْ ضَلَّ} [الْمَائِدَة: 105]، {وَكُلًّا ضَرَبْنَا} [الْفُرْقَان: 39]، {الْمُقَنْطَرَةِ} [آلِ عِمْرَانَ: 14]، {مِنْ طِينٍ} [الْأَنْعَام: 2]، {صَعِيدًا طَيِّبًا} [النِّسَاء: 43]، {يَنْظُرُونَ} [الْبَقَرَة: 210]، {مِنْ ظَهِيرٍ} [سَبَأٍ: 22]، {ظِلًّا ظَلِيلًا} [النِّسَاء: 57]، {فَانْفَلَقَ} [الشُّعَرَاء: 63]، {مِنْ فَضْلِهِ} [الْبَقَرَة: 90]، {خَالِدًا فِيهَا} [النِّسَاء: 14]، {انْقَلَبُوا} [يُوسُفَ: 62]، {مِنْ قَرَارٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 26]، {سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سَبَأٍ: 50]، {الْمُنْكَرِ} [آلِ عِمْرَانَ: 104]، {مِنْ كِتَابٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 81]، {كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النَّمْل: 29]. وَالْإِخْفَاءُ حَالَةٌ بَيْنَ الْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْغُنَّةِ مَعَهُ.
أَفْرَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ بِالتَّصْنِيفِ. وَالْأَصْلُ فِي الْمَدّ: مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِه: حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنِي مَسْعُودُ بْنُ يَزِيدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: «كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُقْرِئُ رَجُلًا، فَقَرَأَ الرَّجُلُ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التَّوْبَة: 60] مُرْسَلَةً. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: كَيْفَ أَقْرَأَكَهَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ أَقْرَأَنِيهَا {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} فَمَدَّ». وَهَذَا حَدِيثٌ جَلِيلٌ حُجَّةٌ، وَنَصٌّ فِي الْبَابِ، رِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ. الْمَدُّ: عِبَارَةٌ عَنْ زِيَادَةِ مَطٍّ فِي حَرْفِ الْمَدِّ عَلَى الْمَدِّ الطَّبِيعِيِّ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا تَقُومُ ذَاتُ حَرْفِ الْمَدِّ دُونَهُ. وَالْقَصْرُ: تَرْكُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَإِبْقَاءُ الْمَدِّ الطَّبِيعِيِّ عَلَى حَالِهِ. وَحَرْفُ الْمَدِّ (الْأَلِفُ) مُطْلَقًا وَ(الْوَاوُ) السَّاكِنَةُ الْمَضْمُومُ مَا قَبْلَهَا وَالْيَاءُ السَّاكِنَةُ الْمَكْسُورُ مَا قَبْلَهَا. وَسَبَبُهُ: لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ أَيِ الْمَدِّ. فَاللَّفْظِيُّ: إِمَّا هَمْزٌ أَوْ سُكُونٌ: فَالْهَمْزُ: يَكُونُ بَعْدَ حَرْفِ الْمَدِّ وَقَبْلَهُ. وَالثَّانِي نَحْوُ: آدَمَ وَرَأَى وَإِيمَانٍ وَخَاطِئِينَ وَأُوتُوا وَالْمَوْءُودَةِ. وَالْأَوَّلُ إِنْ كَانَ مَعَهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ الْمُتَّصِلُ نَحْوُ: {أُولَئِكَ}، {شَاءَ اللَّهُ} وَ{السُّوءَ} [الرُّوم: 10] وَ{مِنْ سُوءٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 30] وَ{يُضِيءُ} [النُّور: 35]. وَإِنْ كَانَ حَرْفُ الْمَدِّ آخَرَ كَلِمَةٍ وَالْهَمْزُ أَوَّلُ أُخْرَى فَهُوَ: الْمُنْفَصِلُ نَحْوُ: (بِمَا أَنْزِلَ) (يَا أَيُّهَا) (قَالُوا آمَنَّا) (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) (فِي أَنْفُسِكُمْ)، (بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ). وَوَجْهُ الْمَدِّ لِأَجْلِ الْهَمْز: أَنَّ حَرْفَ الْمَدِّ خَفِيٌّ، وَالْهَمْزُ صَعْبٌ، فَزِيدَ فِي الْخَفِيِّ لِيُتَمَكَّنَ مِنَ النُّطْقِ بِالصَّعْبِ. وَالسُّكُونُ وَأَقْسَامُهُ: إِمَّا لَازِمٌ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ فِي حَالَيْه: نَحْوُ: {الضَّالِّينَ} وَ{دَابَّةٍ} [الْبَقَرَة: 164] وَ{الم} وَ{أَتُحَاجُّونِّي} [الْأَنْعَام: 80]. أَوْ عَارِضٌ: وَهُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْوَقْفِ وَنَحْوِه: نَحْوُ: {الْعِبَادِ} [يَس: 30] وَ{الْحِسَابِ} [الْبَقَرَة: 202] وَ{نَسْتَعِينُ} وَ{الرَّحِيمِ} وَ{يُوقِنُونَ} [الْبَقَرَة: 4] حَالَةَ الْوَقْفِ وَ{فِيهِ هُدًى} [الْبَقَرَة: 2] وَ{قَالَ لَهُمْ} [الْبَقَرَة: 247] وَ{يَقُولُ رَبَّنَا} [الْبَقَرَة: 200] حَالَةَ الْإِدْغَامِ. وَوَجْهُ الْمَدِّ لِلسُّكُونِ التَّمَكُّنُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ حَرَكَةٍ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى مَدِّ نَوْعَيِ الْمُتَّصِلِ، وَذِي السَّاكِنِ اللَّازِمِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَدِّ النَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْن: وَهُمَا الْمُنْفَصِلُ، وَذُو السَّاكِنِ الْعَارِضِ، وَفِي قَصْرِهِمَا. فَأَمَّا الْمُتَّصِلُ وَمَدُّهُ فِي الْقِرَاءَة: فَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى مَدِّهِ قَدْرًا وَاحِدًا مُشَبَّعًا مِنْ غَيْرِ إِفْحَاشٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفَاضُلِهِ كَتَفَاضُلِ الْمُنْفَصِلِ، فَالطُّولِيُّ لِحَمْزَةَ وَوَرْشٍ، وَدُونَهَا لِعَاصِمٍ، وَدُونَهَا لِابْنِ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيِّ وَخَلَفٍ، وَدُونَهَا لِأَبِي عَمْرٍو وَالْبَاقِينَ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَرْتَبَتَانِ فَقَطْ: الطُّولِيُّ لِمَنْ ذَكَرَ، وَالْوَسَطِيُّ لِمَنْ بَقِيَ. وَأَمَّا ذُو السَّاكِن: وَيُقَالُ لَهُ: مَدُّ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ يَعْدِلُ حَرَكَةً، فَالْجُمْهُورُ- أَيْضًا- عَلَى مَدِّهِ مُشَبَّعًا قَدْرًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَفَاوُتِهِ. وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ: وَيُقَالُ لَهُ: مَدُّ الْفَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ وَمَدُّ الْبَسْطِ، لِأَنَّهُ يَبْسُطُ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ، وَمَدُّ الِاعْتِبَارِ لِاعْتِبَارِ الْكَلِمَتَيْنِ مِنْ كَلِمَةٍ، وَمَدُّ حَرْفٍ بِحَرْفٍ، أَيْ: مَدُّ كَلِمَةٍ بِكَلِمَةٍ، وَالْمَدُّ الْجَائِزُ، مِنْ أَجْلِ الْخِلَافِ فِي مَدِّهِ وَقَصْرِهِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ فِي مِقْدَارِ مَدِّهِ اخْتِلَافًا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَهُ سَبْعَ مَرَاتِبَ أَيْ مَدُّ الْفَصْل: الْأُولَى: الْقَصْرُ، وَهُوَ حَذْفُ الْمَدِّ الْعَرَضِيِّ وَإِبْقَاءُ ذَاتِ حَرْفِ الْمَدِّ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَهِيَ فِي الْمُنْفَصِلِ خَاصَّةً لِأَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَلِأَبِي عَمْرٍو عِنْدَ الْجُمْهُورِ. الثَّانِيَةُ: فُوَيْقَ الْقَصْرِ قَلِيلًا، وَقُدِّرَتْ بِأَلِفَيْنِ وَبَعْضُهُمْ بِأَلِفٍ وَنِصْفٍ. وَهِيَ لِأَبِي عَمْرٍو، فِي الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ عِنْدَ صَاحِبِ التَّيْسِيرِ. الثَّالِثَةُ: فُوَيْقَهَا قَلِيلًا، وَهِيَ التَّوَسُّطُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَقُدِّرَتْ بِثَلَاثِ أَلِفَاتٍ وَقِيلَ: بِأَلِفَيْنِ وَنِصْفٍ وَقِيلَ: بِأَلِفَيْنِ، عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا بِأَلْفٍ وَنِصْفٍ وَهِيَ لِابْنِ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيِّ فِي الضَّرْبَيْنِ، عِنْدَ صَاحِبِ التَّيْسِيرِ. الرَّابِعَةُ: فُوَيْقَهَا قَلِيلًا، وَقُدِّرَتْ بِأَرْبَعِ أَلِفَاتٍ، وَقِيلَ: بِثَلَاثٍ وَنِصْفٍ، وَقِيلَ: بِثَلَاثٍ، عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَهِيَ لِعَاصِمٍ فِي الضَّرْبَيْنِ عِنْدَ صَاحِبِ التَّيْسِيرِ. الْخَامِسَةُ: فُوَيْقَهَا قَلِيلًا، م وَقَدِّرَتْ بِخَمْسِ أَلِفَاتٍ، وَبِأَرْبَعٍ وَنِصْفٍ، وَبِأَرْبَعٍ عَلَى الْخِلَافِ، وَهِيَ فِيهَا لِحَمْزَةَ وَوَرْشٍ عِنْدَهُ. السَّادِسَةُ: فَوْقَ ذَلِكَ، وَقَدَّرَهَا الْهُذَلِيُّ بِخَمْسِ أَلِفَاتٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْخَامِسَةِ بِأَرْبَعٍ، وَذَكَرَ أَنَّهَا لِحَمْزَةَ. السَّابِعَةُ: الْإِفْرَاطُ، قَدَّرَهَا الْهُذَلِيُّ بِسِتٍّ، وَذَكَرَهَا لِوَرْشٍ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي تَقْدِيرِ الْمَرَاتِبِ بِالْأَلِفَاتِ لَا تَحْقِيقَ وَرَاءَهُ، بَلْ هُوَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمَرْتَبَةَ الدُّنْيَا- وَهِيَ الْقَصْرُ- إِذَا زِيدَ عَلَيْهَا أَدْنَى زِيَادَةٍ صَارَتْ ثَانِيَةً، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْقُصْوَى. وَأَمَّا الْعَارِضُ: فَيَجُوزُ فِيهِ- لِكُلٍّ مِنَ الْقُرَّاءِ- كُلٌّ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَة: الْمَدُّ وَالتَّوَسُّطُ وَالْقَصْرُ، وَهِيَ أَوْجُهُ تَخْيِيرٍ. وَأَمَّا السَّبَبُ الْمَعْنَوِيُّ: فَهُوَ قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، وَهُوَ سَبَبٌ قَوِيٌّ مَقْصُودٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ اللَّفْظِيِّ عِنْدَ الْقُرَّاءِ. وَمِنْهُ مَدُّ التَّعْظِيمِ فِي نَحْو: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الْبَقَرَة: 163]، {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصَّافَّات: 35]، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} [الْأَنْبِيَاء: 87] وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَصْحَابِ الْقَصْرِ فِي الْمُنْفَصِلِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَيُسَمَّى مَدُّ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ ابْنُ مِهْرَانَ فِي كِتَابِ الْمَدَّاتِ: إِنَّمَا سُمِّيَ مَدُّ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ إِلَهِيَّةِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهَا تَمُدُّ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَعِنْدَ الِاسْتِغَاثَةِ، وَعِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ شَيْءٍ، وَيَمُدُّونَ مَا لَا أَصْلَ لَهُ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَقَدْ وَرَدَ عَنْ حَمْزَةَ مَدَّ الْمُبَالَغَةِ لِلنَّفْيِ فِي (لَا) الَّتِي لِلتَّبْرِئَةِ، نَحْوُ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2]، {لَا شِيَةَ فِيهَا} [الْبَقَرَة: 71]، {لَا مَرَدَّ لَهُ} [الرُّوم: 43]، {لَا جَرَمَ} [هُودٍ: 22] وَقَدْرُهُ فِي ذَلِكَ وَسَطٌ، لَا يَبْلُغُ الْإِشْبَاعَ لِضَعْفِ سَبَبِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْقِصَاعِ. وَقَدْ يَجْتَمِعُ السَّبَبَان: اللَّفْظِيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ، فِي نَحْو: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصَّافَّات: 35] وَ{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [الْبَقَرَة: 256] وَ{لَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 173]. فَيُمَدُّ لِحَمْزَةَ مَدًّا مُشْبَعًا عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمَدِّ لِأَجْلِ الْهَمْزِ، وَيُلْغَى الْمَعْنَوِيُّ إِعْمَالًا لِلْأَقْوَى وَإِلْغَاءً لِلْأَضْعَفِ.
قَاعِدَةٌ: إِذَا تَغَيَّرَ سَبَبُ الْمَدِّ جَازَ الْمَدُّ مُرَاعَاةً لِلْأَصْلِ، وَالْقَصْرُ نَظَرًا لِلَّفْظِ، سَوَاءٌ كَانَ السَّبَبُ هَمْزًا أَوْ سُكُونًا، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ الْهَمْزُ بِبَيْنَ بَيْنَ، أَوْ بِإِبْدَالٍ أَوْ حَذْفٍ؛ وَالْمَدُّ أَوْلَى فِيمَا بَقِيَ لِتَغَيُّرِ أَثَرِهِ، نَحْوُ: {هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ} [الْبَقَرَة: 31]. فِي قِرَاءَةِ قَالُونَ وَالْبَزِّيِّ، وَالْقَصْرُ فِيمَا ذَهَبَ أَثَرُهُ نَحْوَهَا فِي قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو.
قَاعِدَةٌ: مَتَى اجْتَمَعَ سَبَبَانِ قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ عُمِلَ بِالْقَوِيِّ، وَأُلْغِيَ الضَّعِيفُ إِجْمَاعًا أَيْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَدِّ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا فُرُوعٌ: مِنْهَا: الْفَرْعُ السَّابِقُ فِي اجْتِمَاعِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ. وَمِنْهَا نَحْوُ: {جَاءُوا أَبَاهُمْ} [يُوسُفَ: 16] وَ{رَأَى أَيْدِيَهُمْ} [هُودٍ: 70]. إِذَا قُرِئَ لِوَرْشٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَلَا التَّوَسُّطُ بَلِ الْإِشْبَاعُ، عَمَلًا بِأَقْوَى السَّبَبَيْنِ، وَهُوَ الْمَدُّ لِأَجْلِ الْهَمْزِ بَعْدَهُ فَإِنْ وَقَفَ عَلَى {جَاءُوا} أَوْ {رَأَى} جَازَتِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ بِسَبَبِ تَقَدُّمِ الْهَمْزِ عَلَى حَرْفِ الْمَدِّ وَذَهَابِ سَبَبِيَّةِ الْهَمْزِ بَعْدَهُ. فَائِدَةٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: مَدَّاتُ الْقُرْآنِ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ. مَدُّ الْحَجْز: فِي نَحْو: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [الْبَقَرَة: 6]، {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [الْمَائِدَة: 116]، {أَإِذَا مِتْنَا} [الْمُؤْمِنُونَ: 82]، {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ} [الْقَمَر: 25] لِأَنَّهُ أَدْخَلَ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ حَاجِزًا خَفَّفَهُمَا لِاسْتِثْقَالِ الْعَرَبِ جَمْعَهُمَا، وَقَدْرُهُ أَلِفٌ تَامَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَحُصُولُ الْحَجْزِ بِذَلِكَ. وَمَدُّ الْعَدْل: فِي كُلِّ حَرْفٍ مُشَدَّدٍ وَقَبْلَهُ حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ نَحْوُ: الضَّالِّينَ لِأَنَّهُ يَعْدِلُ حَرَكَةً؛ أَيْ: يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْحَجْزِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ. وَمَدُّ التَّمْكِين: فِي نَحْو: أُولَئِكَ وَالْمَلَائِكَةُ وَسَائِرِ الْمِدَّاتِ الَّتِي تَلِيهَا هَمْزَةٌ لِأَنَّهُ جُلِبَ لِيُتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ تَحْقِيقِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنْ مَخْرَجِهَا. وَمَدُّ الْبَسْط: وَيُسَمَّى أَيْضًا مَدُّ الْفَصْلِ فِي نَحْو: بِمَا أُنْزِلَ لِأَنَّهُ يُبْسَطُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ وَيُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ. وَمَدُّ الرَّوْم: فِي نَحْو: (هَا أَنْتُمْ) لِأَنَّهُمْ يَرُومُونَ الْهَمْزَةَ مِنْ (أَنْتُمْ) وَلَا يُحَقِّقُونَهَا وَلَا يَتْرُكُونَهَا أَصْلًا، وَلَكِنْ يُلَيِّنُونَهَا، وَيُشِيرُونَ إِلَيْهَا. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَهْمِزُ (هَا أَنْتُمْ) وَقَدْرُهُ أَلِفٌ وَنِصْفٌ. وَمَدُّ الْفَرْق: فِي نَحْو: آلْآنَ لِأَنَّهُ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ وَقَدْرُهُ أَلِفٌ تَامَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَلِفِ الْمَدِّ حَرْفٌ مُشَدَّدٌ زِيدَ أَلِفٌ أُخْرَى لِيُتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، نَحْوُ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ}. وَمَدُّ الْبِنْيَة: فِي نَحْو: مَاءً وَدُعَاءً وَنِدَاءً وَ زَكَرِيَّاءَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ بُنِيَ عَلَى الْمَدِّ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْصُورِ. وَمَدُّ الْمُبَالَغَة: فِي نَحْو: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}. وَمَدُّ الْبَدَلِ مِنَ الْهَمْزَة: فِي نَحْو: آدَمَ وَآخَرَ وَآمَنَ، وَقَدْرُهُ أَلِفٌ تَامَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَمَدُّ الْأَصْل: فِي الْأَفْعَالِ الْمَمْدُودَةِ، نَحْوُ: جَاءَ وَشَاءَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَدِّ الْبِنْيَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ بُنِيَتْ عَلَى الْمَدِّ، فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقْصُورِ، وَهَذِهِ مَدَّاتٌ فِي أُصُولِ أَفْعَالٍ أُحْدِثَتْ لِمَعَانٍ. انْتَهَى.
فِيهِ تَصَانِيفُ مُفْرَدَةٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْهَمْزَ لَمَّا كَانَ أَثْقَلَ الْحُرُوفِ نُطْقًا، وَأَبْعَدَهَا مَخْرَجًا، تَنَوَّعَ الْعَرَبُ فِي تَخْفِيفِهِ بِأَنْوَاعِ التَّخْفِيفِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَكْثَرَهُمْ لَهُ تَخْفِيفًا، وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَرِدُ تَخْفِيفُهُ مِنْ طُرُقِهِمْ؛ كَابْنِ كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ فُلَيْحٍ، وَكَنَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْشٍ، وَكَأَبِي عَمْرٍو؛ فَإِنَّ مَادَّةَ قِرَاءَتِهِ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا هَمَزَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا الْخُلَفَاءُ، وَإِنَّمَا الْهَمْزُ بِدْعَةٌ ابْتَدَعُوهَا مَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ طَرِيقِ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيءَ اللَّهِ. فَقَالَ: «لَسْتُ بِنَبِيءِ اللَّهِ وَلَكِنِّي نَبِيُّ اللَّهِ». قَالَ الذَّهَبِيُّ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَحُمْرَانُ رَافِضِيٌّ لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَأَحْكَامُ الْهَمْزِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٌ لَا يُحْصِيهَا أَقَلُّ مِنْ مُجَلَّدٍ، وَالَّذِي نُورِدُهُ هُنَا: أَنَّ تَحْقِيقَهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: النَّقْلُ لِحَرَكَتِهِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهُ، فَيَسْقُطُ نَحْوُ: {قَدَ أَفْلَحَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1] بِفَتْحِ الدَّالِّ، وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ مِنْ طَرِيقِ وَرْشٍ، وَذَلِكَ حَيْثُ كَانَ السَّاكِنُ صَحِيحًا آخِرًا وَالْهَمْزَةُ أَوَّلًا. وَاسْتَثْنَى أَصْحَابُ يَعْقُوبَ عَنْ وَرْشٍ: {كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ} [الْحَاقَّة: 19- 20] فَسَكَّنُوا الْهَاءَ وَحَقَّقُوا الْهَمْزَةَ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَخَفَّفُوا وَسَكَّنُوا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: الْإِبْدَالُ بِأَنْ تُبْدَلَ الْهَمْزَةُ السَّاكِنَةُ حَرْفَ مَدٍّ مِنْ جِنْسِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا. فَتُبْدَلُ أَلْفًا بَعْدَ الْفَتْحِ، نَحْوَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ} [طه: 132]. وَاوًا بَعْدَ الضَّمِّ نَحْوَ: (يُومِنُونَ) وَيَاءً بَعْدَ الْكَسْرِ، نَحْوَ: (جِيتَ) وَبِهِ يَقْرَأُ أَبُو عَمْرٍو. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْهَمْزَةُ فَاءً أَمْ عَيْنًا أَمْ لَامًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُكُونُهَا جَزْمًا، نَحْوَ: {نَنْسَأْهَا} [الْبَقَرَة: 106] أَوْ بِنَاءً نَحْوَ: (أُرْجِئْهُ) أَوْ يَكُونَ تَرْكُ الْهَمْزِ فِيهِ أَثْقَلُ، وَهُوَ {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ} فِي [الْأَحْزَاب: 51]، أَوْ يُوقِعَ فِي الِالْتِبَاسِ، وَهُوَ {وَرِئْيًا} فِي [مَرْيَمَ: 74] فَإِنْ تَحَرَّكَتْ فَلَا خِلَافَ عَنْهُ فِي التَّحْقِيقِ نَحْوُ: {يَئُودُهُ} [الْبَقَرَة: 255]. ثَالِثُهَا: التَّسْهِيلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَرَكَتِهَا: فَإِنِ اتَّفَقَ الْهَمْزَتَانِ فِي الْفَتْح: سَهَّلَ الثَّانِيَةَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ، وَأَبْدَلَهَا وَرْشٌ أَلِفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ لَا يُدْخِلُ قَبْلَهَا أَلْفًا، وَقَالُونُ وَهِشَامٌ وَأَبُو عَمْرٍو يُدْخِلُونَهَا، وَالْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ يُحَقِّقُونَ. وَإِنِ اخْتَلَفَا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْر: سَهَّلَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو الثَّانِيَةَ، وَأَدْخَلَ قَالُونُ وَأَبُو عَمْرٍو قَبْلَهَا أَلِفًا، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ. أَوْ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَذَلِكَ فِي {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 15]، {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [ص: 8]، {أَؤُلْقِيَ} [الْقَمَر: 25] فَقَطْ، فَالثَّلَاثَةُ يُسَهِّلُونَ، وَقَالُونُ يُدْخِلُ أَلِفًا، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ. قَالَ الدَّانِيُّ: وَقَدْ أَشَارَ الصَّحَابَةُ إِلَى التَّسْهِيلِ بِكِتَابَةِ الثَّانِيَةِ وَاوًا. رَابِعُهَا: الْإِسْقَاطُ بِلَا نَقْلٍ: وَبِهِ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، إِذَا اتَّفَقَا فِي الْحَرَكَةِ وَكَانَا فِي كَلِمَتَيْنِ فَإِنِ اتَّفَقَا كَسْرًا نَحْوَ: {هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ} [الْبَقَرَة: 31] جَعَلَ وَرْشٌ وَقُنْبُلٌ: الثَّانِيَةَ كَيَاءٍ سَاكِنَةٍ. وَقَالُونُ وَالْبَزِّيُّ: الْأُولَى كَيَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو عَمْرٍو، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ. وَإِنِ اتَّفَقَا فَتْحًا، نَحْوَ: {جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الْأَعْرَاف: 34] جَعَلَ وَرْشٌ وَقُنْبُلٌ الثَّانِيَةَ كَمَدَّةٍ، وَأَسْقَطَ الثَّلَاثَةَ الْأُولَى، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ. أَوْ ضَمًّا، وَهُوَ: {أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ} [الْأَحْقَاف: 32] فَقَطْ أَسْقَطَهَا أَبُو عَمْرٍو، وَجَعَلَهَا قَالُونُ وَالْبَزِّيُّ كَوَاوٍ مَضْمُومَةٍ، وَالْآخَرَانِ يَجْعَلَانِ الثَّانِيَةَ كَوَاوٍ سَاكِنَةٍ، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّاقِط: هَلْ هُوَ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةُ؟ الْأَوَّلُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالثَّانِي عَنِ الْخَلِيلِ مِنَ النُّحَاةِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْمَدِّ، فَإِنْ كَانَ السَّاقِطُ الْأُولَى فَهُوَ مُنْفَصِلٌ، أَوِ الثَّانِيَةُ فَهُوَ مُتَّصِلٌ.
اعْلَمْ أَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ؛ صَرَّحَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي وَالْعُبَادِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَالْمَعْنَى فِيهِ أَلَّا يَنْقَطِعَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيهِ، فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ، فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ قَوْمٌ يَبْلُغُونَ هَذَا الْعَدَدَ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلَّا أَثِمَ الْكُلُّ. وَتَعْلِيمُهُ- أَيْضًا- فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْقُرَبِ فَفِي الصَّحِيح: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ». وَأَوْجُهُ التَّحَمُّلِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيث: السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَالْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ، وَالسَّمَاعُ عَلَيْهِ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ، وَالْمُنَاوَلَةُ وَالْإِجَازَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْإِعْلَامُ، وَالْوِجَادَةُ. فَأَمَّا غَيْرُ الْأَوَّلَيْنِ فَلَا يَأْتِي هُنَا، لِمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ فِي تَحَمُّلِ الْقُرْآن: فَهِيَ الْمُسْتَعْمَلَةُ سَلَفًا وَخَلَفًا. وَأَمَّا السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ فِي تَحَمُّلِ الْقُرْآنِ وَحُكْمِه: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- إِنَّمَا أَخَذُوا الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَالْمَنْعُ فِيهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا كَيْفِيَّةُ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ كَهَيْئَتِهِ، بِخِلَافِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ الْمَعْنَى أَوِ اللَّفْظُ لَا بِالْهَيْئَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَدَاءِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَكَانَتْ فَصَاحَتُهُمْ وَطِبَاعُهُمُ السَّلِيمَةُ تَقْتَضِي قُدْرَتَهُمْ عَلَى الْأَدَاءِ، كَمَا سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِلْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ عَرْضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ. وَيُحْكَى: أَنَّ الشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ بْنَ الْجَزَرِيِّ لَمَّا قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ الْخَلْقُ، لَمْ يَتَّسِعْ وَقْتُهُ لِقِرَاءَةِ الْجَمِيعِ، فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ، ثُمَّ يُعِيدُونَهَا عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَكْتَفِ بِقِرَاءَتِهِ. وَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ؛ وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُمْ وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينٍ السَّخَاوِيُّ يَقْرَأُ عَلَيْهِ اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَرُدُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّيْخُ مُشْتَغِلًا بِشُغْلٍ آخَرَ كَنَسْخٍ وَمُطَالَعَةٍ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ مِنَ الْحِفْظِ أَيِ الْقُرْآنُ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، بَلْ يَكْفِي وَلَوْ مِنَ الْمُصْحَفِ.
كَيْفِيَّاتُ الْقِرَاءَةِ ثَلَاثٌ أَي لِلْقُرْآنِ. أَحَدُهَا: التَّحْقِيقُ: وَهُوَ إِعْطَاءُ كُلِّ حَرْفٍ حَقَّهُ مِنْ إِشْبَاعِ الْمَدِّ وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ وَإِتْمَامِ الْحَرَكَاتِ وَاعْتِمَادِ الْإِظْهَارِ وَالتَّشْدِيدَاتِ وَبَيَانِ الْحُرُوفِ وَتَفْكِيكِهَا وَإِخْرَاجِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ بِالسَّكْتِ وَالتَّرْتِيلِ وَالتُّؤَدَةِ وَمُلَاحَظَةِ الْجَائِزِ مِنَ الْوُقُوف: بِلَا قَصْرٍ وَلَا اخْتِلَاسٍ، وَلَا إِسْكَانِ مُحَرَّكٍ وَلَا إِدْغَامِهِ، وَهُوَ يَكُونُ لِرِيَاضَةِ الْأَلْسُنِ وَتَقْوِيمِ الْأَلْفَاظِ. وَيُسْتَحَبُّ الْأَخْذُ بِهِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَجَاوَزَ فِيهِ إِلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ بِتَوْلِيدِ الْحُرُوفِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَتَكْرِيرِ الرَّاءَاتِ وَتَحْرِيكِ السَّوَاكِنِ وَتَطْنِينِ النُّونَاتِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْغُنَّاتِ، كَمَا قَالَ حَمْزَةُ لِبَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ يُبَالِغُ فِي ذَلِكَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا فَوْقَ الْبَيَاضِ بَرَصٌ، وَمَا فَوْقَ الْجُعُودَةِ قَطَطٌ وَمَا فَوْقَ الْقِرَاءَةِ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ؟. وَكَذَا يُحْتَرَزُ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ، كَمَنْ يَقِفُ عَلَى التَّاءِ مِنْ (نَسْتَعِينُ) وَقْفَةً لَطِيفَةً، مُدَّعِيًا أَنَّهُ يُرَتِّلُ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَذْهَبُ حَمْزَةَ وَوَرْشٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ فِيهِ الدَّانِيُّ حَدِيثًا فِي كِتَابِ التَّجْوِيدِ مُسَلْسَلًا «إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّحْقِيقَ». وَقَالَ: إِنَّهُ غَرِيبٌ مُسْتَقِيمُ الْإِسْنَادِ. الثَّانِيَةُ: الْحَدْرُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ؛ وَهُوَ إِدْرَاجُ الْقِرَاءَةِ وَسُرْعَتُهَا وَتَخْفِيفُهَا بِالْقَصْرِ وَالتَّسْكِينِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالْبَدَلِ وَالْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ، وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، مَعَ مُرَاعَاةِ إِقَامَةِ الْإِعْرَابِ وَتَقْوِيمِ اللَّفْظِ، وَتَمَكُّنِ الْحُرُوفِ بِدُونِ بَتْرِ حُرُوفِ الْمَدِّ، وَاخْتِلَاسِ أَكْثَرِ الْحَرَكَاتِ، وَذَهَابِ صَوْتِ الْغُنَّةِ، وَالتَّفْرِيطِ إِلَى غَايَةٍ لَا تَصِحُّ بِهَا الْقِرَاءَةُ، وَلَا تُوصَفُ بِهَا التِّلَاوَةُ. وَهَذَا النَّوْعُ مَذْهَبُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَمَنْ قَصَرَ الْمُنْفَصِلَ كَأَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ. الثَّالِثَةُ: التَّدْوِيرُ: وَهُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْحَدْرِ. وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ عَنْ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ مَدَّ الْمُنْفَصِلَ، وَلَمْ يَبْلُغْ فِيهِ الْإِشْبَاعَ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ الْقُرَّاءِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَدَاءِ.
تَنْبِيهٌ: سَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الَّذِي يَلِي هَذَا اسْتِحْبَابُ التَّرْتِيلِ فِي الْقِرَاءَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْقِيق:- فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ- أَنَّ التَّحْقِيقَ يَكُونُ لِلرِّيَاضَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّمْرِينِ، وَالتَّرْتِيلَ يَكُونُ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، فَكُلُّ تَحْقِيقٍ تَرْتِيلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَرْتِيلٍ تَحْقِيقًا.
مِنَ الْمُهِمَّاتِ تَجْوِيدُ الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ بِالتَّصْنِيفِ؛ وَمِنْهُمُ الدَّانِيُّ وَغَيْرُهُ أَخْرَجَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: (جَوِّدُوا الْقُرْآنَ). قَالَ الْقُرَّاءُ: التَّجْوِيدُ حِلْيَةُ الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الْحُرُوفِ حُقُوقَهَا، وَتَرْتِيبَهَا، وَرَدُّ الْحَرْفِ إِلَى مَخْرَجِهِ وَأَصْلِهِ، وَتَلْطِيفُ النُّطْقِ بِهِ عَلَى كَمَالِ هَيْئَتِهِ، مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَعَسُّفٍ وَلَا إِفْرَاطٍ وَلَا تَكَلُّفٍ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِه: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ أُعْطِيَ حَظًّا عَظِيمًا فِي تَجْوِيدِ الْقُرْآنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُمَّةَ- كَمَا هُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِفَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ- هُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِتَصْحِيحِ أَلْفَاظِهِ وَإِقَامَةِ حُرُوفِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ، الْمُتَّصِلَةِ بِالْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَقَدْ عَدَّ الْعُلَمَاءُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ تَجْوِيدٍ لَحْنًا، فَقَسَّمُوا اللَّحْنَ إِلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ، فَاللَّحْنُ خَلَلٌ يَطْرَأُ عَلَى الْأَلْفَاظِ فَيُخِلُّ، إِلَّا أَنَّ الْجَلِيَّ يُخِلُّ إِخْلَالًا ظَاهِرًا، يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْإِعْرَابِ، وَالْخَفِيَّ يُخِلُّ إِخْلَالًا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَةِ وَأَئِمَّةُ الْأَدَاءِ، الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ، وَضَبَطُوهُ مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ الْأَدَاءِ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَلَا أَعْلَمُ لِبُلُوغِ النِّهَايَةِ فِي التَّجْوِيدِ مِثْلَ رِيَاضَةِ الْأَلْسُنِ وَالتَّكْرَارِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُتَلَقَّى مِنْ فَمِ الْمُحَسِّنِ. وَقَاعِدَتُهُ: تَرْجِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْوَقْفِ وَالْإِمَالَةِ وَالْإِدْغَامِ وَأَحْكَامِ الْهَمْزِ وَالتَّرْقِيقِ وَالتَّفْخِيمِ وَمَخَارِجِ الْحُرُوفِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ. وَأَمَّا التَّرْقِيقُ: فَالْحُرُوفُ الْمُسْتَفِلَةُ كُلُّهَا مُرَقَّقَةٌ، لَا يَجُوزُ تَفْخِيمُهَا، إِلَّا اللَّامَ مِنِ اسْمِ اللَّهِ بَعْدَ فَتْحَةٍ أَوْ ضَمَّةٍ إِجْمَاعًا، أَوْ بَعْدَ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ فِي رِوَايَةٍ إِلَّا الرَّاءَ الْمَضْمُومَةَ أَوِ الْمَفْتُوحَةَ مُطْلَقًا، أَوِ السَّاكِنَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالْحُرُوفُ الْمُسْتَعْلِيَةُ كُلُّهَا مُفَخَّمَةٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهَا شَيْءٌ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَأَمَّا مَخَارِجُ الْحُرُوفِ عَدَدُهَا وَبَيَانُ مَخْرَجِ كُلِّ حَرْفٍ: فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْقُرَّاءِ وَمُتَقَدِّمِي النُّحَاةِ كَالْخَلِيلِ أَنَّهَا سَبْعَةَ عَشَرَ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْن: سِتَّةَ عَشَرَ، فَأَسْقَطُوا مَخْرَجَ الْحُرُوفِ الْجَوْفِيَّةِ، وَهِيَ حُرُوفُ الْمَدِّ وَاللِّينِ، وَجَعَلُوا مَخْرَجَ الْأَلِفِ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَالْوَاوِ مِنْ مَخْرَجِ الْمُتَحَرِّكَةِ، وَكَذَا الْيَاءُ. وَقَالَ قَوْمٌ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَأَسْقَطُوا مَخْرَجَ النُّونِ وَاللَّامِ وَالرَّاءِ، وَجَعَلُوهَا مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِب: وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ، وَإِلَّا فَلِكُلِّ حَرْفٍ مَخْرَجٌ عَلَى حِدَةٍ. قَالَ الْقُرَّاءُ: وَاخْتِبَارُ مَخْرَجِ الْحَرْفِ مُحَقَّقًا: أَنْ تَلْفِظَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَتَأْتِيَ بِالْحَرْفِ بَعْدَهُ سَاكِنًا أَوْ مُشَدَّدًا، وَهُوَ أَبْيَنُ، مُلَاحِظًا فِيهِ صِفَاتِ ذَلِكَ الْحَرْف: الْمَخْرَجُ الْأَوَّلُ: الْجَوْفُ لِلْأَلِفِ، وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ السَّاكِنَتَيْنِ بَعْدَ حَرَكَةٍ تُجَانِسُهُمَا. الثَّانِي: أَقْصَى الْحَلْقِ لِلْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ. الثَّالِثُ: وَسَطُهُ، لِلْعَيْنِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ. الرَّابِعُ: أَدْنَاهُ لِلْفَمِ، لِلْغَيْنِ وَالْخَاءِ. الْخَامِسُ: أَقْصَى اللِّسَانِ مِمَّا يَلِي الْحَلْقَ، وَمَا فَوْقَهُ مِنَ الْحَنَكِ لِلْقَافِ. السَّادِسُ: أَقْصَاهُ مِنْ أَسْفَلِ مَخْرَجِ الْقَافِ قَلِيلًا، وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْحَنَكِ لِلْكَافِ. السَّابِعُ: وَسَطُهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَسَطِ الْحَنَكِ، لِلْجِيمِ وَالشِّينِ وَالْيَاءِ. الثَّامِنُ: لِلضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، مِنْ أَوَّلِ حَافَّةِ اللِّسَانِ وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْأَضْرَاسِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَقِيلَ: الْأَيْمَنِ. التَّاسِعُ: اللَّامُ مِنْ حَافَةِ اللِّسَانِ مِنْ أَدْنَاهَا إِلَى مُنْتَهَى طَرَفِهِ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا يَلِيهَا مِنَ الْحَنَكِ الْأَعْلَى. الْعَاشِرُ: لِلنُّونِ مِنْ طَرَفِهِ أَسْفَلَ اللَّامِ قَلِيلًا. الْحَادِيَ عَشَرَ: لِلرَّاءِ مِنْ مَخْرَجِ النُّونِ، لَكِنَّهَا أَدْخَلُ فِي ظَهْرِ اللِّسَانِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: لِلطَّاءِ وَالدَّالِ وَالتَّاءِ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا مُصْعِدًا إِلَى جِهَةِ الْحَنَكِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْحَرْفُ الصَّفِيرُ: الصَّادُ وَالسِّينُ وَالزَّايُ، مِنْ بَيْنِ طَرَفِ اللِّسَانِ وَفُوَيْقَ الثَّنَايَا السُّفْلَى. الرَّابِعَ عَشَرَ: لِلظَّاءِ وَالثَّاءِ وَالذَّالِ، مِنْ بَيْنِ طَرَفِهِ، وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا. الْخَامِسَ عَشَرَ: لِلْفَاءِ، مِنْ بَاطِنِ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَأَطْرَافِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا. السَّادِسَ عَشَرَ: لِلْبَاءِ وَالْمِيمِ وَالْوَاوِ غَيْرِ الْمَدِّيَّةِ، بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ. السَّابِعَ عَشَرَ: الْخَيْشُومُ لِلْغُنَّةِ فِي الْإِدْغَامِ وَالنُّونِ وَالْمِيمِ السَّاكِنَةِ. قَالَ فِي النَّشْر: فَالْهَمْزَةُ وَالْهَاءُ اشْتَرَكَا مَخْرَجًا وَانْفِتَاحًا وَاسْتِفَالًا بَيَانُ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ مَعَ صِفَاتِهَا، وَانْفَرَدَتِ الْهَمْزَةُ بِالْجَهْرِ وَالشِّدَّةِ، وَالْعَيْنُ وَالْحَاءُ اشْتَرَكَا كَذَلِكَ، وَانْفَرَدَتِ الْحَاءُ بِالْهَمْسِ وَالرَّخَاوَةِ الْخَالِصَةِ. وَالْغَيْنُ وَالْخَاءُ اشْتَرَكَا مَخْرَجًا وَرَخَاوَةً وَاسْتِعْلَاءً وَانْفِتَاحًا، وَانْفَرَدَتِ الْغَيْنُ بِالْجَهْرِ. وَالْجِيمُ وَالشِّينُ وَالْيَاءُ اشْتَرَكَتْ مَخْرَجًا وَانْفِتَاحًا وَاسْتِفَالًا، وَانْفَرَدَتِ الْجِيمُ بِالشَّدِّ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الْيَاءِ فِي الْجَهْرِ، وَانْفَرَدَتِ الشِّينُ بِالْهَمْسِ وَالتَّفَشِّي، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الْيَاءِ فِي الرَّخَاوَةِ. وَالضَّادُ وَالظَّاءُ اشْتَرَكَا صِفَةً جَهْرًا وَرَخَاوَةً وَاسْتِعْلَاءً وَإِطْبَاقًا، وَافْتَرَقَا مَخْرَجًا، وَانْفَرَدَتِ الضَّادُ بِالِاسْتِطَالَةِ، وَالطَّاءُ وَالدَّالُ وَالتَّاءُ اشْتَرَكَتْ مَخْرَجًا وَشِدَّةً، وَانْفَرَدَتِ الطَّاءُ بِالْإِطْبَاقِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الدَّالِ فِي الْجَهْرِ، وَانْفَرَدَتِ التَّاءُ بِالْهَمْسِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الدَّالِ فِي الِانْفِتَاحِ وَالِاسْتِفَالِ. وَالظَّاءُ وَالذَّالُ وَالثَّاءُ اشْتَرَكَتْ مَخْرَجًا وَرَخَاوَةً، وَانْفَرَدَتِ الظَّاءُ بِالِاسْتِعْلَاءِ وَالْإِطْبَاقِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الذَّالِ فِي الْجَهْرِ، وَانْفَرَدَتِ الثَّاءُ بِالْهَمْسِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ الذَّالِ انْفِتَاحًا وَاسْتِفَالًا. وَالصَّادُ وَالزَّايُ وَالسِّينُ اشْتَرَكَتْ مَخْرَجًا وَرَخَاوَةً وَصَفِيرًا، وَانْفَرَدَتِ الصَّادُ بِالْإِطْبَاقِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَاشْتَرَكَتْ مَعَ السِّينِ فِي الْهَمْسِ، وَانْفَرَدَتِ الزَّايُ بِالْجَهْرِ، وَاشْتَرَكَتْ مَعَ السِّينِ فِي الِانْفِتَاحِ وَالِاسْتِفَالِ. فَإِذَا أَحْكَمَ الْقَارِئُ النُّطْقَ بِكُلِّ حَرْفٍ عَلَى حِدَتِهِ مُوَفًّى حَقَّهُ، فَلْيُعْمِلْ نَفْسَهُ بِإِحْكَامِهِ حَالَةَ التَّرْكِيبِ، لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنِ التَّرْكِيبِ مَا لَمْ يَكُنْ حَالَةَ الْإِفْرَادِ، بِحَسَبِ مَا يُجَاوِرُهَا مِنْ مُجَانِسٍ وَمُقَارِبٍ وَقَوِيٍّ وَضَعِيفٍ، وَمُفَخَّمٍ، وَمُرَقَّقٍ، فَيَجْذِبُ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ وَيَغْلِبُ الْمُفَخَّمُ الْمُرَقَّقَ، وَيَصْعُبُ عَلَى اللِّسَانِ النُّطْقُ بِذَلِكَ عَلَى حَقِّهِ إِلَّا بِالرِّيَاضَةِ الشَّدِيدَةِ، فَمَنْ أَحْكَمَ صِحَّةَ التَّلَفُّظِ حَالَةَ التَّرْكِيبِ، حَصَّلَ حَقِيقَةَ التَّجْوِيدِ. وَمِنْ قَصِيدَةِ الشَّيْخِ عَلَمِ الدِّينِ فِي التَّجْوِيدِ وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ: لَا تَحْسَبِ التَّجْوِيدَ مَدًّا مُفْرِطًا *** أَوْ مَدَّ مَا لَا مَدَّ فِيهِ لِوَانِ أَوْ أَنْ تُشَدِّدَ بَعْدَ مَدٍّ هَمْزَةً *** أَوْ أَنْ تَلُوكَ الْحَرْفَ كَالسَّكْرَانِ أَوْ أَنْ تَفُوهَ بِهَمْزَةٍ مُتَهَوِّعًا *** فَيَفِرُّ سَامِعُهَا مِنَ الْغَثَيَانِ لِلْحَرْفِ مِيزَانٌ فَلَا تَكُ طَاغِيًا *** فِيهِ وَلَا تَكُ مُخْسِرَ الْمِيزَانِ فَإِذَا هَمَزْتَ فَجِئْ بِهِ مُتَلَطِّفًا *** مِنْ غَيْرِ مَا بُهْرٍ وَغَيْرِ تَوَانِ وَامْدُدْ حُرُوفَ الْمَدِّ عِنْدَ مُسَكَّنٍ *** أَوْ هَمْزَةٍ حَسَنًا أَخَا إِحْسَانِ
فَائِدَةٌ: قَالَ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: قَدْ ابْتَدَعَ النَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَصْوَاتَ الْغِنَاءِ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا غُنِّيَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الْكَهْف: 79]. نَقَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَغَنِّيهِمْ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ. أَمَّا الْقَطَاةُ فَإِنِّي سَوْفَ أَنْعَتُهَا *** نَعْتًا يُوَافِقُ عِنْدِي بَعْضَ مَا فِيهَا وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَؤُلَاءِ: «مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ». وَمِمَّا ابْتَدَعُوهُ شَيْءٌ سَمَّوْهُ: التَّرْعِيدَ، وَهُوَ: أَنْ يُرْعِدَ صَوْتَهُ كَالَّذِي يُرْعِدُ مِنْ بَرْدٍ أَوْ أَلَمٍ. وَآخَرُ سَمَّوْهُ: التَّرْقِيصَ؛ وَهُوَ: أَنْ يَرُومَ السُّكُوتَ عَلَى السَّاكِنِ، ثُمَّ يَنْفِرُ مَعَ الْحَرَكَةِ كَأَنَّهُ فِي عَدْوٍ أَوْ هَرْوَلَةٍ. وَآخَرُ يُسَمَّى: التَّطْرِيبَ، وَهُوَ: أَنْ يَتَرَنَّمَ بِالْقُرْآنِ وَيَتَنَغَّمَ بِهِ، فَيَمُدَّ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِ الْمَدِّ وَيَزِيدَ فِي الْمَدِّ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي. وَآخَرُ يُسَمَّى: التَّحْزِينَ؛ وَهُوَ: أَنْ يَأْتِيَ عَلَى وَجْهٍ حَزِينٍ يَكَادُ يَبْكِي مَعَ خُشُوعٍ وَخُضُوعٍ. وَمِنْ ذَلِكَ نَوْعٌ أَحْدَثَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ فَيَقْرَءُونَ كُلُّهُمْ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَيَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (أَفَلَ تَعْقِلُونَ) بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَ(قَالُ آمَنَّا) بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَيَمُدُّونَ مَا لَا يُمَدُّ، لِيَسْتَقِيمَ لَهُمُ الطَّرِيقُ الَّتِي سَلَكُوهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى: التَّحْرِيفَ. انْتَهَى.
الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَخْذُ كُلِّ خَتْمَةٍ بِرِوَايَةٍ، لَا يَجْمَعُونَ رِوَايَةً إِلَى غَيْرِهَا إِلَّا أَثْنَاءَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، فَظَهَرَ جَمْعُ الْقِرَاءَاتِ فِي الْخَتْمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَلَمْ يَكُونُوا يَسْمَحُونَ بِهِ إِلَّا لِمَنْ أَفْرَدَ الْقِرَاءَاتِ، وَأَتْقَنَ طُرُقَهَا، وَقَرَأَ لِكُلِّ قَارِئٍ بِخَتْمَةٍ عَلَى حِدَةٍ، بَلْ إِذَا كَانَ لِلشَّيْخِ رِوَايَاتٌ قَرَءُوا لِكُلِّ رَاوٍ بِخَتْمَةٍ، ثُمَّ يَجْمَعُونَ لَهُ، وَهَكَذَا. وَتَسَاهَلَ قَوْمٌ، فَسَمَحُوا أَنْ يَقْرَأَ لِكُلِّ قَارِئٍ مِنَ السَّبْعَةِ بِخَتْمَةٍ، سِوَى نَافِعٍ وَحَمْزَةَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِخَتْمَةٍ لِقَالُونَ، ثُمَّ خَتْمَةٍ لِوَرْشٍ، ثُمَّ خَتْمَةٍ لِخَلَفٍ، ثُمَّ خَتْمَةٍ لِخَلَّادٍ، وَلَا يَسْمَحُ أَحَدٌ بِالْجَمْعِ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ، نَعَمْ إِذَا رَأَوْا شَخْصًا أَفْرَدَ وَجَمَعَ عَلَى شَيْخٍ مُعْتَبَرٍ، وَأُجِيزَ وَتَأَهَّلَ، وَأَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ الْقِرَاءَاتِ فِي خَتْمَةٍ، لَا يُكَلِّفُونَهُ الْإِفْرَادَ، لِعِلْمِهِمْ بِوُصُولِهِ إِلَى حَدِّ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِتْقَانِ. ثُمَّ لَهُمْ فِي الْجَمْعِ مَذْهَبَانِ عِنْدَ السَّلَفِ (فِي الْقِرَاءَاتِ): أَحَدُهُمَا: الْجَمْعُ بِالْحَرْفِ أَحَدُ مَذْهَبَا الْجَمْعِ فِي الْقِرَاءَاتِ عِنْدَ السَّلَفِ، بِأَنْ يَشْرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَإِذَا مَرَّ بِكَلِمَةٍ فِيهَا خُلْفٌ أَعَادَهَا بِمُفْرَدِهَا، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا فِيهَا، ثُمَّ يَقِفَ عَلَيْهَا إِنَّ صَلَحَتْ لِلْوَقْفِ، وَإِلَّا وَصَلَهَا بِآخِرِ وَجْهٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْوَقْفِ. وَإِنْ كَانَ الْخُلْفُ يَتَعَلَّقُ بِكَلِمَتَيْنِ كَالْمَدِّ الْمُنْفَصِلِ وَقَفَ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَاسْتَوْعَبَ الْخِلَافَ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَا بَعْدَهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ أَوْثَقُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَأَخَفُّ عَلَى الْآخِذِ، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ رَوْنَقِ الْقِرَاءَةِ وَحُسْنِ التِّلَاوَةِ. الثَّانِي: الْجَمْعُ بِالْوَقْفِ أَحَدُ مَذْهَبَا الْجَمْعِ فِي الْقِرَاءَاتِ عِنْدَ السَّلَفِ، بِأَنْ يَشْرَعَ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَدَّمَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى وَقْفٍ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى الْقَارِئِ الَّذِي بَعْدَهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْفِ، ثُمَّ يَعُودَ، وَهَكَذَا حَتَّى يَفْرُغَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّامِيِّينَ، وَهُوَ أَشَدُّ اسْتِحْضَارًا، وَأَشَدُّ اسْتِظْهَارًا، وَأَطْوَلُ زَمَنًا، وَأَجْوَدُ مَكَانًا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بِالْآيَةِ عَلَى هَذَا الرَّسْمِ. وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَيْجَاطِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ وَشَرْحِهَا: لِجَامِعِ الْقِرَاءَاتِ شُرُوطًا سَبْعَةً، حَاصِلُهَا خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: حُسْنُ الْوَقْفِ. ثَانِيهَا: حُسْنُ الِابْتِدَاءِ. ثَالِثُهَا: حُسْنُ الْأَدَاءِ. رَابِعُهَا: عَدَمُ التَّرْكِيبِ فَإِذَا قَرَأَ لِقَارِئٍ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ حَتَّى يُتِمَّ مَا فِيهَا، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَدَعْهُ الشَّيْخُ بَلْ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ، قَالَ لَمْ تَصِلْ، فَإِنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ مَكَثَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، فَإِنْ عَجَزَ ذَكَرَ لَهُ. الْخَامِسُ: رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالِابْتِدَاءُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُؤَلِّفُونَ فِي كُتُبِهِمْ فَيَبْدَأُ بِنَافِعٍ قَبْلَ ابْنِ كَثِيرٍ، وَبِقَالُونَ قَبْلَ وَرْشٍ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ بَلِ الَّذِينَ أَدْرَكْنَاهُمْ مِنَ الْأُسْتَاذَيْنِ لَا يَعُدُّونَ الْمَاهِرَ إِلَّا مَنْ يَلْتَزِمُ تَقْدِيمَ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ. وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُرَاعِي فِي الْجَمْعِ التَّنَاسُبَ: فَيَبْدَأُ بِالْقَصْرِ، ثُمَّ بِالرُّتْبَةِ الَّتِي فَوْقَهُ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ مَرَاتِبِ الْمَدِّ. وَيَبْدَأُ بِالْمُشْبَعِ ثُمَّ بِمَا دُونَهُ إِلَى الْقَصْرِ. وَإِنَّمَا يُسْلَكُ ذَلِكَ مَعَ شَيْخٍ بَارِعٍ عَظِيمِ الِاسْتِحْضَارِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيُسْلَكُ مَعَهُ تَرْتِيبٌ وَاحِدٌ. قَالَ: وَعَلَى الْجَامِعِ أَنْ يَنْظُرَ مَا فِي الْأَحْرُفِ مِنَ الْخِلَافِ أُصُولًا وَفَرْشًا، فَمَا أَمْكَنَ فِيهِ التَّدَاخُلُ اكْتُفِيَ مِنْهُ بِوَجْهٍ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ فِيهِ نُظِرَ: فَإِنْ أَمْكَنَ عَطْفُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيطٍ وَلَا تَرْكِيبٍ اعْتَمَدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْسُنْ عَطْفُهُ رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِ ابْتِدَائِهِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ الْأَوْجُهَ كُلَّهَا، مِنْ غَيْرِ إِهْمَالٍ وَلَا تَرْكِيبٍ وَلَا إِعَادَةِ مَا دَخَلَ: فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مَكْرُوهٌ، وَالثَّالِثَ مَعِيبٌ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّلْفِيقِ، وَخَلْطُ قِرَاءَةٍ بِأُخْرَى: فَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي النَّوْعِ الَّذِي يَلِي هَذَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَاتُ وَالرِّوَايَاتُ وَالطُّرُقُ وَالْأَوْجُهُ: فَلَيْسَ لِلْقَارِئِ أَنْ يَدَعَ مِنْهَا شَيْئًا أَوْ يُخِلَّ بِهِ؛ فَإِنَّهُ خَلَلٌ فِي إِكْمَالِ الرِّوَايَةِ إِلَّا الْأَوْجُهَ، فَإِنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ فَأَيُّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا: قَدْرُ مَا يُقْرَأُ حَالَ الْأَخْذِ مَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآن: فَقَدْ كَانَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى عَشْرِ آيَاتٍ لِكَائِنٍ مَنْ كَانَ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَرَأَوْهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْآخِذِ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْأَخْذُ فِي الْإِفْرَادِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي الْجَمْعِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَلَمْ يَحُدَّ لَهُ آخَرُونَ حَدًّا، وَهُوَ اخْتِيَارُ السَّخَاوِيِّ. وَقَدْ لَخَّصْتُ هَذَا النَّوْعَ، وَرَتَّبْتُ فِيهِ مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ، وَهُوَ نَوْعٌ مُهِمٌّ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقَارِئُ، كَاحْتِيَاجِ الْمُحَدِّثِ إِلَى مِثْلِهِ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ.
فَائِدَةٌ: ادَّعَى ابْنُ خَيْرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُلَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ، وَلَوْ بِالْإِجَازَةِ فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُلَ آيَةً أَوْ يَقْرَأَهَا مَا لَمْ يَقْرَأْهَا عَلَى شَيْخٍ؟ لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَقْلًا، وَلِذَلِكَ وَجْهٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي أَدَاءِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ. وَلِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ وَجْهٌ؛ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا هُوَ لِخَوْفِ أَنْ يُدْخَلَ فِي الْحَدِيثِ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَوْ يُتَقَوَّلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَالْقُرْآنُ مَحْفُوظٌ مُتَلَقًّى مُتَدَاوَلٌ مُيَسَّرٌ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ: الْإِجَازَةُ مِنَ الشَّيْخِ غَيْرُ شَرْطٍ فِي جَوَازِ التَّصَدِّي لِلْإِقْرَاءِ وَالْإِفَادَةِ، فَمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْأَهْلِيَّةَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ أَحَدٌ، وَعَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ الْأَوَّلُونَ وَالصَّدْرُ الصَّالِحُ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ عِلْمٍ، وَفِي الْإِقْرَاءِ وَالْإِفْتَاءِ، خِلَافًا لِمَا يَتَوَهَّمُهُ الْأَغْبِيَاءُ مِنِ اعْتِقَادِ كَوْنِهَا شَرْطًا. وَإِنَّمَا اصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّخْصِ لَا يَعْلَمُهَا غَالِبًا مَنْ يُرِيدُ الْأَخْذَ عَنْهُ مِنَ الْمُبْتَدِئِينَ وَنَحْوِهِمْ؛ لِقُصُورِ مَقَامِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَالْبَحْثُ عَنِ الْأَهْلِيَّةِ قَبْلَ الْأَخْذِ شَرْطٌ، فَجُعِلَتِ الْإِجَازَةُ كَالشَّهَادَةِ مِنَ الشَّيْخِ لِلْمُجَازِ بِالْأَهْلِيَّةِ.
فَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ: مَا اعْتَادَهُ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ الْقُرَّاءِ- مِنِ امْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْإِجَازَةِ إِلَّا بِأَخْذِ مَالٍ فِي مُقَابِلِهَا- لَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا، بَلْ إِنْ عَلِمَ أَهْلِيَّتَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِجَازَةُ، أَوْ عَدَمَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتِ الْإِجَازَةُ مِمَّا يُقَابَلُ بِالْمَالِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُ عَنْهَا، وَلَا الْأُجْرَةُ عَلَيْهَا. وَفِي فَتَاوَى الصَّدْرِ مَوْهُوبٌ الْجَزَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْخٍ طَلَبَ مِنَ الطَّالِبِ شَيْئًا عَلَى إِجَازَتِهِ، فَهَلْ لِلطَّالِبِ رَفْعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ وَإِجْبَارُهُ عَلَى الْإِجَازَةِ؟. فَأَجَابَ: لَا تَجِبُ الْإِجَازَةُ عَلَى الشَّيْخِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا. وَسُئِلَ أَيْضًا: عَنْ رَجُلٍ أَجَازَهُ الشَّيْخُ بِالْإِقْرَاءِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ، وَخَافَ الشَّيْخُ مِنْ تَفْرِيطِهِ، فَهَلْ لَهُ النُّزُولُ عَنِ الْإِجَازَةِ؟ فَأَجَابَ: لَا تَبْطُلُ الْإِجَازَةُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ دَيِّنٍ الْمُجَازُ لَهُ. وَأَمَّا أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ فَجَائِزٌ: فَفِي الْبُخَارِيّ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ». وَقِيلَ: إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت: أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ، فَأَهْدَى لَهُ قَوْسًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ سَرَّكَ أَنْ تُطَوَّقَ بِهَا طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا». وَأَجَابَ مَنْ جَوَّزَهُ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالًا، وَلِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِتَعْلِيمِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، ثُمَّ أَهْدَى إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ، بِخِلَافِ مَنْ يَعْقِدُ مَعَهُ إِجَارَةً قَبْلَ التَّعْلِيمِ. وَفِي الْبُسْتَانِ لِأَبِي اللَّيْث: التَّعْلِيمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لِلْحِسْبَةِ، وَلَا يَأْخُذُ بِهِ عِوَضًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَلِّمَ بِالْأُجْرَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعَلِّمَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَإِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ قَبِلَ. فَالْأَوَّلُ مَأْجُورٌ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ. وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيه: وَالْأَرْجَحُ الْجَوَازُ. وَالثَّالِثُ يَجُوزُ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُعَلِّمًا لِلْخَلْقِ، وَكَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ.
فَائِدَةٌ رَابِعَةٌ: كَانَ ابْنُ بُصْحَانَ إِذَا رَدَّ عَلَى الْقَارِئِ شَيْئًا فَاتَهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، كَتَبَهُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، فَإِذَا أَكْمَلَ الْخَتْمَةَ وَطَلَبَ الْإِجَازَةَ، سَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، فَإِنْ عَرَفَهَا أَجَازَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ يَجْمَعُ خَتْمَةً أُخْرَى. فَائِدَةٌ أُخْرَى: عَلَى مُرِيدِ تَحْقِيقِ الْقِرَاءَاتِ وَإِحْكَامِ تِلَاوَةِ الْحُرُوف: أَنْ يَحْفَظَ كِتَابًا كَامِلًا يَسْتَحْضِرُ بِهِ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَةِ، وَتَمَيِيزَ الْخِلَافِ الْوَاجِبِ مِنَ الْخِلَافِ الْجَائِزِ.
فَائِدَةٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيه: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كَرَامَةٌ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا الْبَشَرَ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يُعْطُوا ذَلِكَ، وَأَنَّهَا حَرِيصَةٌ لِذَلِكَ عَلَى اسْتِمَاعِهِ مِنَ الْإِنْسِ.
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ- وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَفِي الْأَذْكَارِ- جُمْلَةً مِنَ الْآدَابِ، وَأَنَا أُلَخِّصُهَا هُنَا، وَأَزِيدُ عَلَيْهَا أَضْعَافَهَا، وَأُفَصِّلُهَا مَسْأَلَةً مَسْأَلَةً لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُهَا.
يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِه: قَالَ تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَى مَنْ كَانَ ذَلِكَ دَأْبَهُ {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آلِ عِمْرَانَ: 113]. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْن: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ». وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ». وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ». وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ يَتَرَاءَى لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تَتَرَاءَى النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «نَوِّرُوا مَنَازِلَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: «كُلُّ مُؤْدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ، وَمَأْدُبَةُ اللَّهِ الْقُرْآنُ فَلَا تَهْجُرُوهُ». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدَةَ الْمَكِّيِّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، لَا تَتَوَسَّدُوا الْقُرْآنَ وَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَفْشُوهُ، وَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». وَقَدْ كَانَ لِلسَّلَفِ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ عَادَاتٌ: فَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي كَثْرَةِ الْقِرَاءَة: مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثَمَانِيَ خَتَمَاتٍ: أَرْبَعًا فِي اللَّيْلِ، وَأَرْبَعًا فِي النَّهَارِ. وَيَلِيه: مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَرْبَعًا. وَيَلِيه: ثَلَاثًا. وَيَلِيهِ خَتْمَتَيْنِ. وَيَلِيهِ خَتْمَةً. وَقَدْ ذَمَّتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مِخْرَاقٍ، قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: إِنَّ رِجَالًا يَقْرَأُ أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟ فَقَالَتْ: قَرَءُوا وَلَمْ يَقْرَءُوا، كُنْتُ أَقُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ التَّمَامِ، فَيَقْرَأُ بِالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ، فَلَا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا اسْتِبْشَارٌ إِلَّا دَعَا وَرَغِبَ، وَلَا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ إِلَّا دَعَا وَاسْتَعَاذَ». وَيْلِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي لَيْلَتَيْنِ. وَيَلِيهِ مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَكَرِهَ جَمَاعَاتٌ الْخَتْمَ فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ: لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ- وَصَحَّحَهُ- مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثٍ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا قَالَ: «لَا تَقْرَءُوا الْقُرْآنَ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثٍ». وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُنْذِرِ- وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ- قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِ اسْتَطَعْتَ». وَيَلِيه: مَنْ خَتَمَ فِي أَرْبَعٍ، ثُمَّ فِي خَمْسٍ، ثُمَّ فِي سِتٍّ، ثُمَّ فِي سَبْعٍ، وَهَذَا أَوْسَطُ الْأُمُورِ وَأَحْسَنُهَا، وَهُوَ فِعْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ؛ قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: أَقْرَأْهُ فِي عَشْرٍ؛ قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ». وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ- وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ- أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي كَمْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: فِي خَمْسَةَ عَشَرَ. قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: اقْرَأْهُ فِي جُمُعَةٍ». وَيْلِي ذَلِكَ: مَنْ خَتَمَ فِي ثَمَانٍ، ثُمَّ فِي عَشْرٍ، ثُمَّ فِي شَهْرٍ، ثُمَّ فِي شَهْرَيْنِ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: كَانَ أَقْوِيَاءُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْبُسْتَانِ: يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يَخْتِمَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الزِّيَادَةِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَرَضَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُكْرَهُ تَأْخِيرُ خَتْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلَا عُذْرٍ خَتْم الْقُرْآنِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ «سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كَمْ نَخْتِمُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: الْمُخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ خَتْم الْقُرْآنِ، فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ لَطَائِفُ وَمَعَارِفُ، فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ يَحْصُلُ لَهُ مَعَهُ كَمَالُ فَهْمِ مَا يَقْرَأُ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مَشْغُولًا بِنَشْرِ الْعِلْمِ، أَوْ فَصْلِ الْحُكُومَاتِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ إِخْلَالٌ بِمَا هُوَ مُرْصَدٌ لَهُ، وَلَا فَوَاتُ كَمَالِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ، مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْمَلَلِ أَوِ الْهَذْرَمَةِ فِي الْقِرَاءَةِ.
مَسْأَلَةٌ: نِسْيَانُهُ كَبِيرَةٌ، صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا، لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِه: «عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ- أَوْ آيَةٍ- أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا». وَرَوَى أَيْضًا حَدِيثَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ». وَفِي الصَّحِيحَيْن: «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهْوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا».
يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَذْكَار: وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْن: وَلَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ لِلْمُحْدِثِ قِرَاءَة الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مَعَ الْحَدَثِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذِّب: وَإِذَا كَانَ يَقْرَأُ فَعَرَضَتْ لَهُ رِيحٌ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ خُرُوجِهَا. وَأَمَّا الْجُنُبُ، وَالْحَائِضُ وَقِرَاءَة الْقُرْآنِ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِمَا الْقِرَاءَةُ، نَعَمْ يَجُوزُ لَهُمَا النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ وَإِمْرَارُهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَأَمَّا مُتَنَجِّسُ الْفَمِ وَقِرَاءَة الْقُرْآنِ فَتُكْرَهُ لَهُ الْقِرَاءَةُ. وَقِيلَ: تَحْرُمُ، كَمَسِّ الْمُصْحَفِ بِالْيَدِ النَّجِسَةِ.
وَتُسَنُّ الْقِرَاءَةُ فِي مَكَانٍ نَظِيفٍ قِرَاءَة الْقُرْآنِ، وَأَفْضَلُهُ أَفْضَلُ مَكَانٍ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْمَسْجِدُ: وَكَرِهَ قَوْمٌ الْقِرَاءَةَ فِي الْحَمَّامِ وَالطَّرِيقِ قِرَاءَة الْقُرْآنِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَذْهَبُنَا لَا تُكَرَهُ فِيهِمَا. قَالَ: وَكَرِهَهَا الشَّعْبِيُّ فِي الْحُشِّ، وَبَيْتِ الرَّحَا وَهِيَ تَدُورُ، قَالَ: وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا.
وَيُسْتَحَبُّ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَجْلِسَ مُسْتَقْبِلًا مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، مُطْرِقًا رَأْسَهُ. مَسْأَلَةٌ: وَيُسَنُّ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَاكَ تَعْظِيمًا وَتَطْهِيرًا: وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ لِلْقُرْآنِ، فَطَيِّبُوهَا بِالسِّوَاكِ». قُلْتُ: وَلَوْ قَطَعَ الْقِرَاءَةَ وَعَادَ عَنْ قُرْبٍ قَارِئ الْقُرْآنِ، فَمُقْتَضَى اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ إِعَادَةُ السِّوَاكِ أَيْضًا.
وَيُسَنُّ التَّعَوُّذُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَيْنَ مَوْضِعُهُ قَبْلَ الْقِرَاءَة: قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النَّحْل: 98] أَيْ أَرَدْتَ قِرَاءَتَهُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَوَّذُ بَعْدَهَا، لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَقَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا لِظَاهِرِ الْأَمْرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَلَوْ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَعَادَ إِلَى الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ أَعَادَ التَّعَوُّذَ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ كَانَ حَسَنًا. قَالَ: وَصِفَتُهُ الْمُخْتَارَةُ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَزِيدُونَ: (السَّمِيعِ الْعَلِيمِ). انْتَهَى. وَعَنْ حَمْزَةَ: أَسْتَعِيذُ وَنَسْتَعِيذُ وَاسْتَعَذْتُ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِمُطَابَقَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ. وَعَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ الْقَادِرِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَادِرِ). وَعَنْ أَبِي السَّمَّال: (أَعُوذُ بِاللَّهِ الْقَوِيِّ، مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ). وَعَنْ قَوْمٍ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ). وَعَنْ آخَرِينَ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). وَفِيهَا أَلْفَاظٌ أُخَرُ. قَالَ الْحُلْوَانِيُّ فِي جَامِعِه: لَيْسَ لِلِاسْتِعَاذَةِ حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ، مَنْ شَاءَ زَادَ وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ. وَفِي النَّشْرِ لِابْنِ الْجَزَرِيّ: الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ الْجَهْرُ أَمِ السِّر أَفْضَل فِي التَّعَوُّذِ بِهَا، وَقِيلَ: يُسِرُّ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: فِيمَا عَدَا الْفَاتِحَةَ. قَالَ: وَقَدْ أَطْلَقُوا اخْتِيَارَ الْجَهْرِ، وَقَيَّدَهُ أَبُو شَامَةَ بِقَيْدٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَةِ مَنْ يَسْمَعُهُ. قَالَ: لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ فَوَائِدِهِ إِظْهَارُ شِعَارِ الْقِرَاءَةِ، كَالْجَهْرِ بِالتَّلْبِيَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ. وَمِنْ فَوَائِدِه: أَنَّ السَّامِعَ يُنْصِتُ لِلْقِرَاءَةِ مِنْ أَوَّلِهَا، لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِذَا أَخْفَى التَّعَوُّذَ لَمْ يَعْلَمِ السَّامِعُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ فَاتَهُ مِنَ الْمَقْرُوءِ شَيْءٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا. قَالَ: وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْمُرَادِ باخفاء التَّعَوُّذ بِإِخْفَائِهَا: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِسْرَارُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّلَفُّظِ وَإِسْمَاعِ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: الْكِتْمَانُ، بِأَنْ يَذْكُرَهَا بِقَلْبِهِ بِلَا تَلَفُّظٍ. قَالَ: وَإِذَا قَطَعَ الْقِرَاءَةَ إِعْرَاضًا أَوْ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ- وَلَوْ رَدِّ السَّلَامِ- اسْتَأْنَفَهَا أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ فَلَا. قَالَ: وَهَلْ هِيَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ أَوْ عَيْنٍ الِاسْتِعَاذَة، حَتَّى لَوْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ جُمْلَةً، فَهَلْ يَكْفِي اسْتِعَاذَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ لَا؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اعْتِصَامُ الْقَارِئِ وَالْتِجَاؤُهُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، فَلَا يَكُونُ تَعَوُّذُ وَاحِدٍ كَافِيًا عَنْ آخَرَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ.
وَلْيُحَافِظْ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرِ بَرَاءَةٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ، فَإِذَا أَخَلَّ بِهَا كَانَ تَارِكًا لِبَعْضِ الْخَتْمَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَإِنْ قَرَأَ مِنْ أَثْنَاءِ سُورَةٍ اسْتُحِبَّتْ لَهُ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ الْعُبَادِيُّ. قَالَ الْقُرَّاءُ: وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ قِرَاءَةِ نَحْو: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فُصِّلَتْ: 47] وَ{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} [الْأَنْعَام: 141] لِمَا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْبَشَاعَةِ، وَإِيهَامِ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى الشَّيْطَانِ. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: الِابْتِدَاءُ بِالْآيِ وَسَطَ بَرَاءَةٍ، قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْبَسْمَلَةِ فِيهِ أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْجَعْبَرِيُّ.
لَا تَحْتَاجُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ إِلَى نِيَّةٍ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، إِلَّا إِذَا نَذَرَهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ النَّذْرِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوِ الْفَرْضِ، وَلَوْ عَيَّنَ الزَّمَانَ، فَلَوْ تَرَكَهَا لَمْ تَجُزْ- نَقَلَهُ الْقَمُولِيُّ فِي الْجَوَاهِرِ.
يُسَنُّ التَّرْتِيلُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآن: قَالَ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 4]. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: «أَنَّهَا نَعَتَتْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً، حَرْفًا حَرْفًا». وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ اللَّهَ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنِّي أَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ. وَأَخْرَجَ الْآجُرِّيُّ فِي حَمَلَةِ الْقُرْآنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَلَا تَهْذُوهُ هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُونُ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآن: اقْرَأْ وَارْقَ فِي الدَّرَجَاتِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَؤُهَا». قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّب: وَاتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ الْإِفْرَاطِ فِي الْإِسْرَاعِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. قَالُوا: وَقِرَاءَةُ جُزْءٍ بِتَرْتِيلٍ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ جُزْئَيْنِ فِي قَدْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِلَا تَرْتِيلٍ. قَالُوا: وَاسْتِحْبَابُ التَّرْتِيلِ لِلتَّدَبُّرِ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجْلَالِ وَالتَّوْقِيرِ، وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْأَعْجَمِيِّ الَّذِي لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ. انْتَهَى. وَفِي النَّشْر: اخْتُلِفَ؛ هَلِ الْأَفْضَلُ التَّرْتِيلُ وَقِلَّةُ الْقِرَاءَةِ أَوِ السُّرْعَةُ مَعَ كَثْرَتِهَا؟ وَأَحْسَنَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا فَقَالَ: إِنَّ ثَوَابَ قِرَاءَةِ التَّرْتِيلِ أَجَلُّ قَدْرًا، وَثَوَابُ الْكَثْرَةِ أَكْثَرُ عَدَدًا؛ لِأَنَّ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ. وَفِي الْبُرْهَانِ لِلزَّرْكَشِيّ: كَمَالُ التَّرْتِيلِ تَفْخِيمُ أَلْفَاظِهِ وَالْإِبَانَةُ عَنْ حُرُوفِهِ، وَأَلَّا يُدْغَمَ حَرْفٌ فِي حَرْفٍ. وَقِيلَ: هَذَا أَقَلُّهُ، وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى مَنَازِلِهِ، فَإِنْ قَرَأَ تَهْدِيدًا لَفِظَ بِهِ لَفْظَ الْمُتَهَدِّدِ، أَوْ تَعْظِيمًا لَفِظَ بِهِ عَلَى التَّعْظِيمِ.
وَتُسَنُّ الْقِرَاءَةُ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ قِرَاءَة الْقُرْآن: فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ وَالْمَطْلُوبُ الْأَهَمُّ، وَبِهِ تَنْشَرِحُ الصُّدُورُ، وَتَسْتَنِيرُ الْقُلُوبُ، قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]. وَقَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النِّسَاء: 82]. وَصِفَةُ قِرَاءَة الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ ذَلِكَ: أَنْ يَشْغَلَ قَلْبَهُ بِالتَّفْكِيرِ فِي مَعْنَى مَا يَلْفِظُ بِهِ، فَيَعْرِفُ مَعْنَى كُلِّ آيَةٍ، وَيَتَأَمَّلُ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ، وَيَعْتَقِدُ قَبُولَ ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا قَصَّرَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى اعْتَذَرَ وَاسْتَغْفَرَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ اسْتَبْشَرَ وَسَأَلَ، أَوْ عَذَابٍ أَشْفَقَ وَتَعَوَّذَ، أَوْ تَنْزِيهٍ نَزَّهَ وَعَظَّمَ، أَوْ دُعَاءٍ تَضَرَّعَ وَطَلَبَ. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ». وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «قُمْتُ مَعَ النَّبِيِّ لَيْلَةً، فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ». وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ: «مَنْ قَرَأَ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ {وَالْمُرْسَلَاتِ} فَبَلَغَ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى». وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَسَكَتُوا، فَقَالَ: لَقَدْ قَرَأَتُهَا عَلَى الْجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الدُّعَاءِ- وَغَيْرُهُمْ- بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الْآيَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمَرْتَ بِالدُّعَاءِ، وَتَكَفَّلْتَ بِالْإِجَابَةِ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ، وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةَ حَقُّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ». وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {وَلَا الضَّالِّينَ} فَقَالَ: آمِينَ يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ». وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ قَالَ: آمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي آمِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ: «أَنَّ جِبْرِيلَ لَقَّنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ خَاتِمَةِ الْبَقَرَةِ آمِينَ». وَأَخْرَجَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ قَالَ: آمِينَ». قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنَ الْآدَابِ عِنْدَ قِرَاءَةِ بَعْضِ الْآيَاتِ إِذَا قَرَأَ نَحْوَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْزٌ ابْنُ اللَّهِ} [التَّوْبَة: 30]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [الْمَائِدَة: 64]. أَنْ يَخْفِضَ بِهَا صَوْتَهُ. كَذَا كَانَ النَّخَعِيُّ يَفْعَلُ.
لَا بَأْسَ بِتَكْرِيرِ الْآيَةِ وَتَرْدِيدِهَا: رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: «أَنَّ النَّبِيَّ قَامَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الْآيَةَ».
يُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّبَاكِي لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَالْحُزْنُ وَالْخُشُوعُ قَالَ تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الْإِسْرَاء: 109]. وَفِي الصَّحِيحَيْن: حَدِيثُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيه: فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ». وَفِي الشُّعَبِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ وَكَآبَةٍ فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ، فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا». وَفِيهِ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي «قَارِئٌ عَلَيْكُمْ سُورَةً، فَمَنْ بَكَى فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا». وَفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى حَدِيثُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِالْحُزْنِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْحُزْنِ». وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيّ: أَحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً مَنْ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ يَتَحَزَّنُ بِهِ». قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّب: وَطَرِيقُهُ فِي تَحْصِيلِ الْبُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كَيْفَ يَتَأَتَّى أَنْ يَتَأَمَّلَ مَا يَقْرَأُ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَالْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ، ثُمَّ يُفَكِّرُ فِي تَقْصِيرِهِ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ عِنْدَ ذَلِكَ حُزْنٌ وَبُكَاءٌ فَلْيَبْكِ عَلَى فَقْدِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَصَائِبِ.
يُسَنُّ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَتَزْيِينُهَا فِي الْقُرْآن: لِحَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِه: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ». وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الدَّارِمِيّ: حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا». وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ حَدِيثَ: «حُسْنُ الصَّوْتِ زِينَةُ الْقُرْآنِ». وَفِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ كَثِيرَةٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ حَسَّنَهُ مَا اسْتَطَاعَ، بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ إِلَى حَدِّ التَّمْطِيطِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ فِي الْقُرْآن: فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا، وَعَنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ الْجِيزِيّ: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلِ الْمَكْرُوهُ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الْمَدِّ، وَفِي إِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ حَتَّى يَتَوَلَّدَ مِنَ الْفَتْحَةِ أَلِفٌ، وَمِنَ الضَّمَّةِ وَاوٌ، وَمِنَ الْكَسْرَةِ يَاءٌ، أَوْ يَدْغَمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِدْغَامِ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَلَا كَرَاهَةَ. قَالَ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَة: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِفْرَاطَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ الْمُسْتَمِعُ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ. قَالَ وَهَذَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالْكَرَاهَةِ. قُلْتُ: وَفِيهِ حَدِيثُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا، وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَأَهْلِ الْفِسْقِ، فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ». أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ طَلَبُ الْقِرَاءَةِ مِنْ حَسَنِ الصَّوْتِ وَالْإِصْغَاءُ إِلَيْهَا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَا بَأْسَ بِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ فِي قِرَاءَة الْقُرْآنِ وادارته بَيْنَهُمْ الْقِرَاءَةِ وَلَا بِإِدَارَتِهَا، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ قِطْعَةً ثُمَّ الْبَعْضُ قِطْعَةً بَعْدَهَا.
يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْخِيمِ قِرَاءَة الْقُرْآن: لِحَدِيثِ الْحَاكِمِ «نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ» قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ، وَلَا يُخْضِعُ الصَّوْتَ فِيهِ كَكَلَامِ النِّسَاءِ. قَالَ: وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا كَرَاهَةُ الْإِمَالَةِ الَّتِي هِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْقُرَّاءِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ نَزَلَ بِالتَّفْخِيمِ فَرُخِّصَ مَعَ ذَلِكَ فِي إِمَالَةِ مَا يَحْسُنُ إِمَالَتُهُ.
وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ رَفْعِ الصَّوْتِ وَخَفْضِهِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْقِرَاءَةِ، وَأَحَادِيثُ تَقْتَضِي الْإِسْرَارَ وَخَفْضَ الصَّوْتِ. فَمِنَ الْأَوَّل: حَدِيثُ الصَّحِيحَيْن: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ». وَمِنَ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيّ: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ». قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِخْفَاءَ أَفْضَلُ، حَيْثُ خَافَ الرِّيَاءَ أَوْ تَأَذَّى مُصَلُّونَ أَوْ نِيَامٌ بِجَهْرِهِ، وَالْجَهْرُ بِالْقُرْآنِ وَفَوَائِده أَفْضَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّ فَائِدَتَهُ تَتَعَدَّى إِلَى السَّامِعِينَ، وَلِأَنَّهُ يُوقِظُ قَلْبَ الْقَارِئِ، وَيَجْمَعُ هَمَّهُ إِلَى الْفِكْرِ، وَيَصْرِفُ سَمْعَهُ إِلَيْهِ، وَيَطْرُدُ النَّوْمَ، وَيَزِيدُ فِي النَّشَاطِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ، وَقَالَ: «أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ لِرَبِّهِ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا يَرْفَعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضِكُمْ فِي الْقِرَاءَةِ».
الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مِنْ حِفْظِهِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ عِبَادَةٌ مَطْلُوبَةٌ: قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَالسَّلَفُ أَيْضًا، وَلَمْ أَرَ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ: وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، فَيُخْتَارُ الْقِرَاءَةُ فِيهِ لِمَنِ اسْتَوَى خُشُوعُهُ وَتَدَبُّرُهُ فِي حَالَتَيِ الْقِرَاءَةِ فِيهِ وَمِنَ الْحِفْظِ. وَيُخْتَارُ الْقِرَاءَةُ مِنَ الْحِفْظِ- لِمَنْ يَكْمُلُ بِذَلِكَ خُشُوعُهُ، وَيَزِيدُ عَلَى خُشُوعِهِ وَتَدَبُّرِهِ لَوْ قَرَأَ مِنَ الْمُصْحَفِ؛ لَكَانَ هَذَا قَوْلًا حَسَنًا. قُلْتُ: وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَالْقِرَاءَة مِنْ حِفْظ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ مَرْفُوعًا: «قِرَاءَةُ الرَّجُلِ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفُ دَرَجَةٍ وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَاعَفُ أَلْفَيْ دَرَجَةٍ». وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ «فَضْلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ نَظَرًا، عَلَى مَنْ يَقْرَؤُهُ ظَاهِرًا، كَفَضْلِ الْفَرِيضَةِ عَلَى النَّافِلَةِ». وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ»، وَقَالَ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ. وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مَوْقُوفًا: «أَدِيمُوا النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ». وَحَكَى الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ مَا بَحَثَهُ النَّوَوِيُّ قَوْلًا، وَحَكَى مَعَهُ قَوْلًا ثَالِثًا: إِنَّ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْحِفْظِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ اخْتَارَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنَ التَّدَبُّرِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ.
قَالَ فِي التِّبْيَانِ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الْقَارِئِ فَلَمْ يَدْرِ مَا بَعْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ، فَسَأَلَ عَنْهُ غَيْرَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَدَّبَ بِمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ وَبَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالُوا: إِذَا سَأَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ عَنْ آيَةٍ، فَلْيَقْرَأْ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ يَسْكُتُ، وَلَا يَقُولُ كَيْفَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ يُلَبِّسُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: إِذَا شَكَّ الْقَارِئُ فِي حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ (كَحَرَكَتِهِ أَوْ نَقْطِهِ): هَلْ بِالتَّاءِ أَوْ بِالْيَاءِ؟ فَلْيَقْرَأْهُ بِالْيَاءِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُذَكَّرٌ. وَإِنْ شَكَّ فِي حَرْفٍ: هَلْ هُوَ مَهْمُوزٌ أَوْ غَيْرُ مَهْمُوزٍ؟ فَلْيَتْرُكِ الْهَمْزَ، وَإِنْ شَكَّ فِي حِرَفٍ: هَلْ يَكُونُ مَوْصُولًا أَوْ مَقْطُوعًا؟ فَلْيَقْرَأْ بِالْوَصْلِ، وَإِنْ شَكَّ فِي حَرْفٍ: هَلْ هُوَ مَمْدُودٌ أَوْ مَقْصُورٌ؟ فَلْيَقْرَأْ بِالْقَصْرِ، وَإِنْ شَكَّ فِي حَرْفٍ: هَلْ هُوَ مَفْتُوحٌ أَوْ مَكْسُورٌ؟ فَلْيَقْرَأْ بِالْفَتْحِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرُ لَحْنٍ فِي مَوْضِعٍ، وَالثَّانِي لَحْنٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. قُلْتُ: أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي يَاءٍ وَتَاءٍ، فَاجْعَلُوهَا يَاءً، ذَكِّرُوا الْقُرْآنَ». فَفَهِمَ مِنْهُ ثَعْلَبٌ أَنَّ مَا احْتُمِلَ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ كَانَ تَذْكِيرُهُ أَجْوَدَ. وَرُدَّ: بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ تَذْكِيرِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ لِكَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ بِالتَّأْنِيثِ، نَحْوُ: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ} [الْحَجّ: 72]، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [الْقِيَامَة: 29]، {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} [إِبْرَاهِيمَ: 11] وَإِذَا امْتَنَعَ إِرَادَةُ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ فَالْحَقِيقِيُّ أَوْلَى. قَالُوا: وَلَا يَسْتَقِيمُ إِرَادَةُ أَنَّ مَا احْتَمَلَ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَاسْتَشْكَلَ عَلَى قَارِئِ الْقُرْآنِ غَلَبَ فِيهِ التَّذْكِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10]، {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الْحَاقَّة: 7] فَأَنَّثَ مَعَ جَوَازِ التَّذْكِيرِ قَالَ تَعَالَى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [الْقَمَر: 20]، {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} [يس: 80]. قَالُوا: فَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا فُهِمَ، بَلِ الْمُرَادُ بِـ (ذَكِّرُوا) الْمَوْعِظَةَ وَالدُّعَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} [ق: 45] إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْجَارَ، وَالْمَقْصُودُ ذَكِّرُوا النَّاسَ بِالْقُرْآنِ، أَي: ابْعَثُوهُمْ عَلَى حِفْظِهِ كَيْلَا يَنْسَوْهُ. قُلْتُ: أَوَّلُ الْأَثَرِ يَأْبَى هَذَا الْحَمْلَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَمْرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ثَعْلَبٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَلَمْ يُحْتَجْ فِي التَّذْكِيرِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْمُصْحَفِ ذُكِّرَ، نَحْوُ: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [الْبَقَرَة: 48]. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ- مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ كَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ- ذَهَبُوا إِلَى هَذَا، فَقَرَءُوا مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِالتَّذْكِيرِ، نَحْوُ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النُّور: 24] وَهَذَا فِي غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ.
يُكْرَهُ قَطْعُ الْقِرَاءَةِ لِمُكَالَمَةِ أَحَدٍ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيْهِ كَلَامُ غَيْرِهِ. وَأَيَّدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا فِي الصَّحِيح: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ. وَيُكْرَهُ أَيْضًا الضَّحِكُ وَالْعَبَثُ وَالنَّظَرُ إِلَى مَا يُلْهِي.
وَلَا يَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ حُكْمه مُطْلَقًا: سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا، فِي الصَّلَاةِ أَمْ خَارِجِهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، لَكِنْ فِي شَارِحِ الْبَزْدَوِيّ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. وَوَجْهُ الْمَنْع: أَنَّهُ يُذْهِبُ إِعْجَازَهُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ. وَعَنِ الْقَفَّالِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تُتَصَوَّرُ، قِيلَ لَهُ: فَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ مُرَادِ اللَّهِ وَيَعْجِزَ عَنِ الْبَعْضِ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ إِبْدَالُ لَفْظَةٍ بِلَفْظَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِخِلَافِ التَّفْسِيرِ.
لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالشَّاذِّ هَلْ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقَرْآنِ بِالشَّاذِّ؟ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ ذَكَرَ الْمَوْهُوبُ الْجَزَرِيُّ جَوَازَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، قِيَاسًا عَلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى.
الْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ هَلْ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ؟ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّب: لِأَنَّ تَرْتِيبَهُ لِحِكْمَةٍ، فَلَا يَتْرُكُهَا إِلَّا فِيمَا وَرَدَ فِيهِ الشَّرْعُ، كَصَلَاةِ صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةَ بِـ الم تَنْزِيلُ وَهَلْ أَتَى وَنَظَائِرِهِ، فَلَوْ فَرَّقَ السُّوَرَ أَوْ عَكَسَهَا جَازَ وَتَرَكَ الْأَفْضَلَ. قَالَ: وَأَمَّا قِرَاءَةُ السُّورَةِ مِنْ آخِرِهَا إِلَى أَوَّلِهَا فَمُتَّفَقٌ عَلَى مَنْعِهِ، لِأَنَّهُ يُذْهِبُ بَعْضَ نَوْعِ الْإِعْجَازِ، وَيُزِيلُ حِكْمَةَ التَّرْتِيبِ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَثَرٌ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا، قَالَ: ذَاكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ. وَأَمَّا خَلْطُ سُورَةٍ بِسُورَةٍ: فَعَدَّ الْحَلِيمِيُّ تَرْكَهُ مِنَ الْآدَابِ، لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّب: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ: يَا بِلَالُ، مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ». قَالَ: أَخْلِطُ الطَّيِّبَ بِالطَّيِّبِ. فَقَالَ: اقْرَأِ السُّورَةَ عَلَى وَجْهِهَا- أَوْ قَالَ- عَلَى نَحْوِهَا». مُرْسَلٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مَوْصُولٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِدُونِ آخِرِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ: «إِذَا قَرَأْتَ السُّورَةَ فَأَنْفِذْهَا». وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ سِيرِينَ عَنِ الرَّجُلِ يَقْرَأُ مِنَ السُّورَةِ آيَتَيْنِ، ثُمَّ يَدَعُهَا وَيَأْخُذُ فِي غَيْرِهَا؟. قَالَ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْثَمَ إِثْمًا كَبِيرًا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا ابْتَدَأْتَ فِي سُورَةٍ، فَأَرَدْتَ أَنْ تَتَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا فَتَحَوَّلْ، إِلَّا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. فَإِذَا ابْتَدَأَتْ فِيهَا فَلَا تَتَحَوَّلْ مِنْهَا حَتَّى تَخْتِمَهَا. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَقْرَءُوا بَعْضَ الْآيَةِ وَيَدَعُوا بَعْضَهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْآيَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَمَا أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بِلَالٍ، وَكَمَا كَرِهَهُ ابْنُ سِيرِينَ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّه: فَوَجْهُهُ عِنْدِي أَنْ يَبْتَدِئَ الرَّجُلُ فِي السُّورَةِ يُرِيدُ إِتْمَامَهَا، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِي أُخْرَى، فَأَمَّا مَنِ ابْتَدَأَ الْقِرَاءَةَ وَهُوَ يُرِيدُ التَّنَقُّلَ مِنْ آيَةٍ إِلَى آيَةٍ، وَتَرَكَ التَّأْلِيفَ لِآيِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَنْزَلَهُ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ قِرَاءَةِ آيَةً آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَحْسَنُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لِكِتَابِ اللَّهِ مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ، فَالْأَوْلَى لِلْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَنْقُولِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: تَأْلِيفُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ تَأْلِيفِكُمْ.
قَالَ الْحَلِيمِيُّ: يُسَنُّ اسْتِيفَاءُ كُلِّ حَرْفٍ أَثْبَتَهُ قَارِئٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِرَاءَةٍ؟.؛ لِيَكُونَ قَدْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ مَا هُوَ قُرْآنٌ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ: إِذَا ابْتَدَأَ بِقِرَاءَةِ أَحَدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ فَيَنْبَغِي أَلَّا يُزَادَ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَةِ مَا دَامَ الْكَلَامُ مُرْتَبِطًا، فَإِذَا انْقَضَى ارْتِبَاطُهُ، فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةٍ أُخْرَى. وَالْأَوْلَى دَوَامُهُ عَلَى الْأُولَى فِي هَذَا الْمَجْلِسِ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَتْ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُرَتَّبَةً عَلَى الْأُخْرَى مُنِعَ ذَلِكَ مَنْعَ تَحْرِيمٍ، كَمَنْ يَقْرَأُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [الْبَقَرَة: 37]- بِرَفْعِهِمَا أَوْ نَصْبِهِمَا، أَخَذَ رَفْعَ آدَمَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَرَفْعَ كَلِمَاتٍ مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ. وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ مَقَامِ الرِّوَايَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الرِّوَايَةِ حَرُمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ فِي الرِّوَايَةِ وَتَخْلِيطٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التِّلَاوَةِ جَازَ.
يُسَنُّ الِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَرْكُ اللَّغَطِ وَالْحَدِيثِ بِحُضُورِ الْقِرَاءَة: قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الْأَعْرَاف: 204].
يُسَنُّ السُّجُودُ عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَة: وَهِيَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ: فِي الْأَعْرَافِ وَالرَّعْدِ، وَالنَّحْلِ وَالْإِسْرَاءِ وَمَرْيَمَ وَفِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ وَالْفُرْقَانِ وَالنَّمْلِ وَ{الم تَنْزِيلُ} وَفُصِّلَتْ وَالنَّجْمِ وَ{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَ{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، وَأَمَّا ص فَمُسْتَحَبَّةٌ. وَلَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ أَيْ: مُتَأَكِّدَاتِهِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ آخِرَ الْحِجْرِ. نَقَلَهُ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَوْقَاتُ الْمُخْتَارَةُ لِلْقِرَاءَةِ أَفْضَلهَا أَفْضَلُهَا مَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ اللَّيْلُ ثُمَّ نِصْفُهُ الْأَخِيرُ: وَهِيَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مَحْبُوبَةٌ، وَأَفْضَلُ النَّهَارِ بَعْدَ الصُّبْحِ. وَلَا تُكْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِمَعْنًى فِيهِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ مَشَايِخِه: أَنَّهُمْ كَرِهُوا الْقِرَاءَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ- وَقَالُوا: هُوَ دِرَاسَةُ يَهُودَ- فَغَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَا أَصْلَ لَهُ. وَيُخْتَارُ مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَرَفَةَ، ثُمَّ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ. وَمِنَ الْأَعْشَارِ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَمِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ. وَيُخْتَارُ لِابْتِدَائِهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَلِخَتْمِهِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَالْأَفْضَلُ الْخَتْمُ أَوَّلَ النَّهَارِ أَوْ أَوَّلَ اللَّيْلِ لِمَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: إِذَا وَافَقَ خَتْمُ الْقُرْآنِ أَوَّلَ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنْ وَافَقَ خَتْمُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ. قَالَ فِي الْإِحْيَاء: وَيَكُونُ الْخَتْمُ أَوَّلَ النَّهَارِ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَأَوَّلَ اللَّيْلِ فِي رَكْعَتَيْ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، يُسْتَحَبُّ الْخَتْمُ فِي الشِّتَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَفِي الصَّيْفِ أَوَّلَ النَّهَارِ.
يُسَنُّ صَوْمُ يَوْمِ الْخَتْمِ حُكْمه: أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَنْ يَحْضُرَ أَهْلُهُ وَأَصْدِقَاؤُهُ: أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَدَعَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ مُجَاهِدٌ وَعِنْدَهُ ابْنُ أَبِي لُبَابَةَ، وَقَالَا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَيْكَ لِأَنَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْتِمَ الْقُرْآنَ، وَالدُّعَاءُ يُسْتَجَابُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ، وَيَقُولُ: عِنْدَهُ تُنَزَّلُ الرَّحْمَةُ.
يُسْتَحَبُّ التَّكْبِيرُ مِنَ الضُّحَى إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ حُكْمه: وَهِيَ قِرَاءَةُ الْمَكِّيِّينَ. أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي بَزَّةَ، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بْنَ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيِّ، فَلَمَّا بَلَغْتُ الضُّحَى، قَالَ: كَبِّرْ حَتَّى تَخْتِمَ، فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، فَأَمَرَنِي بِذَلِكَ وَقَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَنِي بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَنِي مُجَاهِدٌ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَمْرَهُ بِذَلِكَ. وَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَأَمَرَهُ. بِذَلِكَ كَذَا أَخْرَجْنَاهُ مَوْقُوفًا. ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ بَزَّةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ- أَعْنِي الْمَرْفُوعَ- الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ- وَصَحَّحَهُ- وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ عَنِ الْبَزِّيِّ. وَعَنْ مُوسَى بْنِ هَارُونَ قَالَ: قَالَ لِي الْبَزِّيُّ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ تَرَكْتَ التَّكْبِيرَ فَقَدْتَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ نَبِيِّكَ. قَالَ الْحَافِظُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا يَقْتَضِي تَصْحِيحَهُ لِلْحَدِيثِ. وَرَوَى أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الْبَزِّيّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَطَعَ عَنْهُ الْوَحْيُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَلَى مُحَمَّدًا رَبُّهُ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الضُّحَى، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلَمْ يُرْوَ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِصِحَّةٍ وَلَا ضَعْفٍ. وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: نُكْتَةُ التَّكْبِيرِ التَّشْبِيهُ لِلْقِرَاءَةِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ: إِذَا أَكْمَلَ عِدَّتَهُ يُكَبِّرُ، فَكَذَا هُنَا يُكَبِّرُ إِذَا أَكْمَلَ عِدَّةَ السُّورَةِ. قَالَ: وَصِفَتُهُ أَنْ يَقِفَ بَعْدَ كُلِّ سُورَةٍ وَقْفَةً، وَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَكَذَا قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي تَفْسِيرِه: يُكَبِّرُ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ تَكْبِيرَةً وَلَا يَصِلُ آخِرَ السُّورَةِ بِالتَّكْبِيرِ، بَلْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ. قَالَ: وَمَنْ لَا يُكَبِّرُ مِنَ الْقُرَّاءِ، حُجَّتُهُمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقُرْآنِ، بِأَنْ يُدَاوَمَ عَلَيْهِ فَيُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْهُ. وَفِي النَّشْرِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي ابْتِدَائِهِ، هَلْ هُوَ مِنْ أَوَّلِ الضُّحَى أَوْ مِنْ آخِرِهَا؟. وَفِي انْتِهَائِه: هَلْ هُوَ أَوَّلُ سُورَةِ النَّاسِ أَوْ آخِرُهَا؟. وَفِي وَصْلِهِ بِأَوَّلِهَا أَوْ آخِرِهَا وَقَطْعِهِ، وَالْخِلَافُ فِي الْكُلِّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ: هَلْ هُوَ لِأَوَّلِ السُّورَةِ أَوْ لِآخِرِهَا؟. وَفِي لَفْظِه: فَقِيلَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَسَوَاءٌ فِي التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا. صَرَّحَ بِهِ السَّخَاوِيُّ وَأَبُو شَامَةَ.
يُسَنُّ الدُّعَاءُ عَقِبَ الْخَتْمِ حُكْمه: لِحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ». وَفِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَمِدَ الرَّبَّ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فَقَدْ طَلَبَ الْخَيْرَ مَكَانَهُ».
يُسَنُّ إِذَا فَرِغَ مِنَ الْخَتْمَةِ أَنْ يَشْرَعَ فِي أُخْرَى عَقِبَ الْخَتْم: لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِه: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ، الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ». وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ {قُلْ أَعْوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} افْتَتَحَ مِنَ الْحَمْدِ، ثُمَّ قَرَأَ مِنَ الْبَقَرَةِ إِلَى {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ثُمَّ دَعَا بِدُعَاءِ الْخَتْمَةِ، ثُمَّ قَامَ.
عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ تَكْرِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ عِنْدَ الْخَتْمِ حُكْمه: لَكِنَّ عَمَلَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِ- قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ مَا وَرَدَ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ خَتْمَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْرَأَ أَرْبَعًا لِيَحْصُلَ لَهُ خَتْمَتَانِ!. قُلْنَا: الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُصُولِ خَتْمَةٍ، إِمَّا الَّتِي قَرَأَهَا، وَإِمَّا الَّتِي حَصَلَ ثَوَابُهَا بِتَكْرِيرِ السُّورَةِ. انْتَهَى. قُلْتُ وَحَاصِلُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى جَبْرِ مَا لَعَلَّهُ حَصَلَ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْ خَلَلٍ. وَكَمَا قَاسَ الْحَلِيمِيُّ التَّكْبِيرَ عِنْدَ الْخَتْمِ عَلَى التَّكْبِيرِ عِنْدَ إِكْمَالِ رَمَضَانَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ تَكْرِيرُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ عَلَى إِتْبَاعِ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ.
يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الْقُرْآنِ مَعِيشَةً يُتَكَسَّبُ بِهَا حُكْمه: وَأَخْرَجَ الْآجُرِّيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ بِهِ». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ صَالِحٍ حَدِيثَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ ظَالِمٍ لِيَرْفَعَ مِنْهُ، لُعِنَ بِكُلِّ حِرَفٍ عَشْرَ لَعَنَاتٍ».
يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا بَلْ أُنْسِيتُهَا لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ.
الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ وَمَذْهَبُنَا خِلَافُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْم: 39].
الِاقْتِبَاسُ: تَضْمِينُ الشِّعْرِ أَوِ النَّثْرِ بَعْضَ الْقُرْآنِ، لَا عَلَى أَنَّهُ مِنْهُ. بِأَلَّا يُقَالَ فِيه: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَحْوُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ اقْتِبَاسًا. وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ تَحْرِيمُهُ وَتَشْدِيدُ النَّكِيرِ عَلَى فَاعِلِهِ. وَأَمَّا أَهْلُ مَذْهَبِنَا: فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَلَا أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ، مَعَ شُيُوعِ الِاقْتِبَاسِ فِي أَعْصَارِهِمْ وَاسْتِعْمَالِ الشُّعَرَاءِ لَهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ فَسُئِلَ عَنْهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَأَجَازَهُ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ إِلَى آخِرِهِ وَقَوْلِه: «اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانَا، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ». وَفِي سِيَاقِ كَلَامٍ لِأَبِي بَكْرٍ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. وَفِي آخِرِ حَدِيثٍ لِابْنِ عُمَرَ: قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ فِي مَقَامِ الْمَوَاعِظِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ، وَفِي النَّثْرِ، لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِهِ فِي الشِّعْرِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ صَرَّحَ بِأَنَّ تَضْمِينَهُ فِي الشِّعْرِ مَكْرُوهٌ وَفِي النَّثْرِ جَائِزٌ. وَاسْتَعْمَلَهُ أَيْضًا فِي النَّثْرِ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ خُطْبَةِ الشِّفَا. وَقَالَ الشَّرَفُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْمُقْرِئِ الْيَمَنِيُّ صَاحِبُ مُخْتَصَرِ الرَّوْضَةِ فِي شَرْحِ بَدِيعِيَّتِه: مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ وَمَدْحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ فِي النَّظْمِ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَغَيْرُهُ مَرْدُودٌ. وَفِي شَرْحِ بَدِيعِيَّةِ ابْنِ حُجَّةَ: الِاقْتِبَاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مَقْبُولٌ. وَمُبَاحٌ. وَمَرْدُودٌ. فَالْأَوَّلُ: مَا كَانَ فِي الْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْعُهُودِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِي الْقَوْلِ وَالرَّسَائِلِ وَالْقِصَصِ. وَالثَّالِثُ: عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: مَا نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِمَّنْ يَنْقُلُهُ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قِيلَ: عَنْ أَحَدِ بَنِي مَرْوَانَ أَنَّهُ وَقَّعَ عَلَى مُطَالَعَةٍ فِيهَا شِكَايَةُ عُمَّالِه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ. وَالْآخَرُ تَضْمِينُ آيَةٍ فِي مَعْنَى هَزْلٍ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِه: أَرْخَى إِلَى عُشَّاقِهِ طَرْفَهُ *** هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ وَرِدْفُهُ يَنْطِقُ مِنْ خَلْفِهِ *** لِمِثْلِ ذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ قُلْتُ: وَهَذَا التَّقْسِيمُ حَسَنٌ جِدًّا، وَبِهِ أَقُولُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ بْنُ السُّبْكِيِّ فِي طَبَقَاتِهِ فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ عَبْدِ الْقَاهِرِ بْنِ الطَّاهِرِ التَّمِيمِيِّ الْبَغْدَادِيِّ مِنْ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ وَأَجِلَّائِهِمْ، أَنَّ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ: يَا مَنْ عَدَى ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ *** ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللَّهِ فِي آيَاتِهِ *** إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ وَقَالَ: اسْتِعْمَالُ مِثْلِ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ مِثْلَ هَذَا الِاقْتِبَاسِ فِي شِعْرِهِ لَهُ فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُ جَلِيلُ الْقَدْرِ، وَالنَّاسُ يَنْهَوْنَ عَنْ هَذَا، وَرُبَّمَا أَدَّى بَحْثُ بَعْضِهِمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَفْعَلُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَيَثِبُونَ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَثْبَةَ مَنْ لَا يُبَالِي. وَهَذَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَقَدْ فَعَلَ هَذَا وَأَسْنَدَ عَنْهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ. قُلْتُ: لَيْسَ هَذَانِ الْبَيْتَانِ مِنْ الِاقْتِبَاسِ لِتَصْرِيحِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْهُ. وَأَمَّا أَخُوهُ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ، فَقَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ: الْوَرَعُ اجْتِنَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنْ يُنَزَّهَ عَنْ مِثْلِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قُلْتُ: رَأَيْتُ اسْتِعْمَالَ الِاقْتِبَاسِ لِأَئِمَّةٍ أَجِلَّاءَ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّافِعِيُّ، قَالَ: وَأَنْشَدَهُ فِي أَمَالِيهِ وَرَوَاهُ عَنْهُ أَئِمَّةٌ كِبَارٌ: الْمُلْكُ لِلَّهِ الَّذِي عَنَتِ الْوُجُو *** هُ لَهُ وَذَلَّتْ عِنْدَهُ الْأَرْبَابُ مُتَفَرِّدٌ بِالْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ قَدْ *** خَسِرَ الَّذِينَ تَجَاذَبُوهُ وَخَابُوا دَعْهُمْ وَزَعْمَ الْمُلْكِ يَوْمَ غُرُورِهِمْ *** فَسَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: أَنْشَدَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ لِنَفْسِهِ. سَلِ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَاتَّقِهِ *** فَإِنَّ التُّقَى خَيْرُ مَا تَكْتَسِبُ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَصْنَعْ لَهُ *** وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَيَقْرُبُ مِنْ الِاقْتِبَاسِ شَيْئَان: أَحَدُهُمَا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهَا الْكَلَامُ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَان: ذَكَرَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي هَذَا اخْتِلَافًا، فَرَوَى النَّخَعِيُّ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُتَأَوَّلَ الْقُرْآنُ لِشَيْءٍ يَعْرِضُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب: أَنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِمَكَّةَ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ}، ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}. وَأَخْرَجَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُحَكِّمَةِ أَتَى عَلِيًّا وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ. فَقَالَ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر: 65]. فَأَجَابَهُ فِي الصَّلَاةِ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفُّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الرُّوم: 60]. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُكَرَهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ، صَرَّحَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعِمَادُ الْبَيْهَقِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيِّ. كَمَا نَقَلَهُ الصَّلَاحُ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ. الثَّانِي: التَّوْجِيهُ بِالْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي الشِّعْرِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا شَكٍّ، وَرُوِّينَا عَنِ الشَّرِيفِ تَقِيِّ الدِّينِ الْحُسَيْنِيِّ أَنَّهُ لَمَّا نَظَمَ قَوْلَهُ: مَجَازٌ حَقِيقَتُهَا فَاعْبُرُوا *** وَلَا تَعْمُرُوا هَوِّنُوهَا تَهُنْ وَمَا حُسْنُ بَيْتٍ لَهُ زُخْرُفٌ *** تَرَاهُ إِذَا زُلْزِلَتْ لَمْ يَكُنْ! خَشِيَ أَنْ يَكُونَ ارْتَكَبَ حَرَامًا، لِاسْتِعْمَالِهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْقُرْآنِيَّةَ فِي الشِّعْرِ، فَجَاءَ إِلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْشَدَهُ إِيَّاهُمَا، فَقَالَ لَهُ: قُلْ: (وَمَا حُسْنُ كَهْفٍ)، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي أَفَدْتَنِي وَأَفْتَيْتَنِي. خَاتِمَةٌ: قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ: لَا يَجُوزُ تَعَدِّي أَمْثِلَةِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَى الْحَرِيرِيِّ قَوْلَهُ: (فَأَدْخَلَنِي بَيْتًا أَحْرَجَ مِنَ التَّابُوتِ، وَأَوْهَى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ). وَأَيُّ مَعْنًى أَبْلَغُ مِنْ مَعْنًى أَكَّدَهُ اللَّهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ؛ حَيْثُ قَالَ: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لِبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [الْعَنْكَبُوت: 41] فَأَدْخَلَ إِنَّ وَبَنَى أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَبَنَاهُ مِنَ الْوَهْنِ، وَأَضَافَهُ إِلَى الْجَمْعِ، وَعَرَّفَ الْجَمْعَ بِاللَّامِ، وَأَتَى فِي خَبَرِ إِنَّ بِاللَّامِ. لَكِنِ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [الْبَقَرَة: 26]. وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَثَلَ بِمَا دُونَ الْبَعُوضَةِ فَقَالَ: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ». قُلْتُ: قَدْ قَالَ قَوْمٌ فِي الْآيَةِ إِنَّ مَعْنَى قوله: {فَمَا فَوْقَهَا} فِي الْخِسَّةِ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا بِقَوْلِه: مَعْنَاهُ: (فَمَا دُونَهَا) فَزَالَ الْإِشْكَالُ.
|