الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
لَا: عَلَى أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، وَهِيَ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنْ تَعْمَلَ عَمَلَ (إِنَّ) وَذَلِكَ إِذَا أُرِيدَ بِهَا نَفْيُ الْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ، وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ: تَبْرِئَةً، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ نَصْبُهَا إِذَا كَانَ اسْمُهَا مُضَافًا أَوْ شِبْهَهُ، وَإِلَّا فَيُرَكَّبُ مَعَهَا، نَحْوَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)[الْبَقَرَة: 255]. (لَا رَيْبَ فِيهِ)[الْبَقَرَة: 2] فَإِنْ تَكَرَّرَتْ جَازَ التَّرْكِيبُ وَالرَّفْعُ، نَحْوَ: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ)[الْبَقَرَة: 197](لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)[الْبَقَرَة: 254]. (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) [الطُّور: 23]. ثَانِيهَا: أَنْ تَعْمَلَ عَمَلَ لَيْسَ نَحْوَ: (وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يُونُسَ: 61]. ثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا: أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً أَوْ جَوَابِيَّةً، وَلَمْ يَقَعَا فِي الْقُرْآنِ. خَامِسُهَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةً اسْمِيَّةً صَدْرُهَا مَعْرِفَةٌ أَوْ نَكِرَةٌ وَلَمْ تَعْمَلْ فِيهَا، أَوْ فِعْلًا مَاضِيًا، لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَجَبَ تَكْرَارُهَا، نَحْوَ: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) [يس: 40] (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) [الصَّافَّات: 47] (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) [الْقِيَامَة: 31]. أَوْ مُضَارِعًا، لَمْ يَجِبْ، نَحْوَ: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ) [النِّسَاء: 148] (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) [الشُّورَى: 23]. وَتَعْتَرِضُ (لَا) هَذِهِ بَيْنَ النَّاصِبِ وَالْمَنْصُوبِ، نَحْوَ: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) [النِّسَاء: 165] وَالْجَازِمِ وَالْمَجْزُومِ، نَحْوَ: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) [الْأَنْفَال: 73]. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لِطَلَبِ التَّرْكِ، فَتَخْتَصُّ بِالْمُضَارِعِ، وَتَقْتَضِي جَزْمَهُ وَاسْتِقْبَالَهُ، سَوَاءٌ كَانَ نَهْيًا، نَحْوَ: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) [الْمُمْتَحِنَة: 1] (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ) [آلِ عِمْرَانَ: 28] (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [الْبَقَرَة: 237]، أَوْ دُعَاءً، نَحْوَ: (لَا تُؤَاخِذْنَا) [الْبَقَرَة: 286]. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: التَّأْكِيدُ، وَهِيَ الزَّائِدَةُ، نَحْوَ: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الْأَعْرَاف: 12](مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) [طه: 92- 93] (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) [الْحَدِيد: 29] أَيْ: لِيَعْلَمُوا. قَالَ ابْنُ جِنِّي: (لَا) هُنَا مُؤَكِّدَةٌ، قَائِمَةٌ مَقَامَ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ مَرَّةً أُخْرَى. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِه: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الْقِيَامَة: 1]. فَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَفَائِدَتُهَا مَعَ التَّوْكِيدِ التَّمْهِيدُ لِنَفْيِ الْجَوَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُتْرَكُونَ سُدًى). وَمِثْلُهُ: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) [النِّسَاء: 65] وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ (لَأُقْسِمُ). وَقِيلَ: نَافِيَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ، فَقِيلَ: لَهُمْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْقَسَمُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا يُذْكَرُ الشَّيْءُ فِي سُورَةٍ وَجَوَابُهُ فِي سُورَةٍ، نَحْوَ: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الْحِجْر: 6]. (وَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [الْقَلَم: 2]. وَقِيلَ: مَنْفِيُّهَا أُقْسِمُ، عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ لَا إِنْشَاءٌ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَالْمَعْنَى نَفْيُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ بِالشَّيْءِ إِلَّا إِعْظَامًا لَهُ؛ بِدَلِيل: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الْوَاقِعَة: 75- 76]، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ إِعْظَامَهُ بِالْإِقْسَامِ بِهِ كَلَا إِعْظَامٍ، أَيْ: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ إِعْظَامًا فَوْقَ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} [الْأَنْعَام: 151]. فَقِيلَ: لَا نَافِيَةٌ. وَقِيلَ: نَاهِيَةٌ. وَقِيلَ: زَائِدَةٌ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 95]. فَقِيلَ: زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: يَمْتَنِعُ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ.
تَنْبِيهٌ: تَرِدُ (لَا) اسْمًا بِمَعْنَى غَيْرٍ، فَيَظْهَرُ إِعْرَابُهَا فِيمَا بَعْدَهَا، نَحْوَ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الْفَاتِحَة: 7]. (لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) [الْوَاقِعَة: 33]. (لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ) [الْبَقَرَة: 68].
فَائِدَةٌ: قَدْ تُحْذَفُ أَلِفُهَا، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ ابْنُ جِنِّي: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
لَاتَ مَعْنَاهَا: اخْتُلِفَ فِيهَا: فَقَالَ قَوْمٌ: فِعْلٌ مَاضٍ بِمَعْنَى نَقْصٍ. وَقِيلَ: أَصْلُهَا لَيْسَ، تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ فَقُلِبَتْ أَلِفًا، لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَأُبْدِلَتِ السِّينُ تَاءً. وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَتَانِ (لَا) النَّافِيَةُ زِيدَتْ عَلَيْهَا (التَّاءُ) لِتَأْنِيثِ الْكَلِمَةِ، وَحُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: هِيَ (لَا) النَّافِيَةُ وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ فِي أَوَّلِ الْحِينِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنَّهُ وَجَدَهَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ مُخْتَلِطَةً بِحِينٍ فِي الْخَطِّ. وَاخْتُلِفَ فِي عَمَلِهَا لَاتَ: فَقَالَ الْأَخْفَشُ: لَا تَعْمَلُ شَيْئًا، فَإِنْ تَلَاهَا مَرْفُوعٌ فَمُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَوْ مَنْصُوبٌ فَبِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) [ص: 3] بِالرَّفْعِ، أَيْ: كَائِنٌ لَهُمْ. وَبِالنَّصْبِ، أَيْ: لَا أَرَى حِينَ مَنَاصٍ. وَقِيلَ: تَعْمَلُ عَمَلَ (إِنَّ). وَقَالَ الْجُمْهُورُ: تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ لَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا إِلَّا أَحَدُ الْمَعْمُولَيْنِ، وَلَا تَعْمَلُ إِلَّا فِي لَفْظِ الْحِينِ، قِيلَ: أَوْ مَا رَادَفَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ حَرْفَ جَرٍّ لِأَسْمَاءِ الزَّمَانِ خَاصَّةً، وَخَرَّجَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ (وَلَاتَ حِينِ) بِالْجَرِّ.
لَا جَرَمَ مَعْنَاهَا: وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مَتْلُوَّةٍ بِأَنْ وَاسْمِهَا، وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَهَا فِعْلٌ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا: فَقِيلَ: (لَا) نَافِيَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَ(جَرَمَ) فِعْلٌ مَعْنَاهُ حَقَّ، وَ(أَنَّ) مَعَ مَا فِي حَيِّزِهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَجَرَمَ مَعْنَاهُ كَسَبَ، أَيْ: كَسَبَ لَهُمْ عَمَلُهُمُ النَّدَامَةَ، وَمَا فِي حَيِّزِهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقِيلَ: هُمَا كَلِمَتَانِ رُكِّبَتَا، وَصَارَ مَعْنَاهُمَا حَقًّا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا لَا بُدَّ، وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ.
لَكِنَّ مَعْنَاهَا: مُشَدَّدَةُ النُّون: حَرْفٌ يَنْصِبُ الِاسْمَ وَيَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِدْرَاكُ. وَفُسِّرَ: بِأَنْ تَنْسُبَ لِمَا بَعْدَهَا حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا كَلَامٌ مُخَالِفٌ لِمَا بَعْدَهَا أَوْ مُنَاقِضٌ لَهُ، نَحْوَ: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) [الْبَقَرَة: 102]. وَقَدْ تَرِدُ لِلتَّوْكِيدِ مُجَرَّدًا عَنِ الِاسْتِدْرَاكِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْبَسِيطِ. وَفُسِّرَ الِاسْتِدْرَاكُ بِرَفْعِ مَا تُوُهِّمَ ثُبُوتُهُ، نَحْوَ: مَا زَيْدٌ شُجَاعًا لَكِنَّهُ كَرِيمٌ؛ لِأَنَّ الشَّجَاعَةَ وَالْكَرَمَ لَا يَكَادَانِ يَفْتَرِقَانِ. فَنَفْيُ أَحَدِهِمَا يُوهِمُ نَفْيَ الْآخَرِ. وَمِثْلُ التَّوْكِيدِ، بِنَحْو: لَوْ جَاءَنِي أَكْرَمْتُهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجِئْ: فَأَكَّدَتْ مَا أَفَادَتْهُ (لَوْ) مِنَ الِامْتِنَاعِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عُصْفُورٍ أَنَّهَا لَهُمَا مَعًا؛ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، كَمَا أَنَّ كَأَنَّ لِلتَّشْبِيهِ الْمُؤَكَّدِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (لَكِنْ أَنَّ) فَطُرِحَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّخْفِيفِ وَنُوِّنَ (لَكِنْ) لِلسَّاكِنَيْنِ.
لَكِنْ: مُخَفَّفَةٌ، ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ لَا يَعْمَلُ، بَلْ لِمُجَرَّدِ إِفَادَةِ الِاسْتِدْرَاكِ. وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً، لِاقْتِرَانِهَا بِالْعَاطِفِ فِي قَوْلِه: (وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزُّخْرُف: 76]. وَالثَّانِي: عَاطِفَةٌ إِذَا تَلَاهَا مُفْرَدٌ، وَهِيَ أَيْضًا لِلِاسْتِدْرَاكِ، نَحْوَ: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا) [النِّسَاء: 166] لَكِنِ الرَّسُولُ [التَّوْبَة: 88](لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) [آلِ عِمْرَانَ: 198].
لَدَى وَلَدُنْ مَعْنَاهُمَا: تَقَدَّمَتَا فِي عِنْدَ.
لَعَلَّ مَعْنَاهُ: حَرْفٌ يَنْصِبُ الِاسْمَ وَيَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَلَهُ مَعَانٍ: أَشْهَرُهَا: التَّوَقُّعُ: وَهُوَ التَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ، نَحْوَ: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الْبَقَرَة: 189]. وَالْإِشْفَاقُ فِي الْمَكْرُوه: نَحْوَ: (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشُّورَى: 17]، وَذَكَرَ التَّنُوخِيُّ أَنَّهَا تُفِيدُ تَأْكِيدَ ذَلِكَ. الثَّانِي: التَّعْلِيلُ: وَخُرِّجَ عَلَيْه: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 44]. الثَّالِثُ: الِاسْتِفْهَامُ: وَخُرِّجَ عَلَيْه: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطَّلَاق: 1](وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عَبَسَ: 3]. وَلِذَا عَلَّقَ: تَدْرِي. قَالَ فِي الْبُرْهَانِ: وَحَكَى الْبَغَوَيُّ عَنِ الْوَاقِدِيّ: أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ (لَعَلَّ) فَإِنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، إِلَّا قَوْلَهُ: (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) [الشُّعَرَاء: 129]، فَإِنَّهَا لِلتَّشْبِيهِ، قَالَ: وَكَوْنُهَا لِلتَّشْبِيهِ غَرِيبٌ لَمْ يَذْكُرْهُ النُّحَاةُ، وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أَنَّ لَعَلَّ لِلتَّشْبِيهِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لِلرَّجَاءِ الْمَحْضِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ.، انْتَهَى. قُلْتُ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: (لَعَلَّكُمْ) فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى (كَيْ) غَيْرَ آيَةٍ فِي الشُّعَرَاءِ (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) يَعْنِي: كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَة: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ كَأَنَّكُمْ خَالِدُونَ).
لَمْ مَعْنَاهُ: حَرْفُ جَزْمٍ لِنَفْيِ الْمُضَارِعِ وَقَلْبِهِ مَاضِيًا، نَحْوَ: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الْإِخْلَاص: 3]. وَالنَّصْبُ بِهَا لُغَةٌ، حَكَاهَا اللِّحْيَانِيُّ، وَخَرَّجَ عَلَيْهَا قِرَاءَةَ (أَلَمْ نَشْرَحَ).
لَمَّا: عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حَرْفَ جَزْمٍ، فَتَخْتَصُّ بِالْمُضَارِعِ وَتَنْفِيهِ وَتَقْلِبُهُ مَاضِيًا كَـ (لَمْ). لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَنَّهَا لَا تَقْتَرِنُ بِأَدَاةِ شَرْطٍ، وَنَفْيُهَا مُسْتَمِرٌّ إِلَى الْحَالِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ، وَمُتَوَقَّعٌ ثُبُوتُهُ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي (لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ) [ص: 8]: الْمَعْنَى: لَمْ يَذُوقُوهُ وَذَوْقُهُ لَهُمْ مُتَوَقَّعٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الْحُجُرَات: 14]: مَا فِي (لَمَّا) مِنْ مَعْنَى التَّوَقُّعِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ. وَأَنَّ نَفْيَهَا آكَدُ مِنْ نَفْيِ لَمْ، فَهِيَ لِنَفْيِ (قَدْ فَعَلَ) وَلَمْ لِنَفْيِ (فَعَلَ) وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ تَبَعًا لِابْنِ جِنِّي: إِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (لَمْ) وَ(مَا). وَإِنَّهُمْ لَمَّا زَادُوا فِي الْإِثْبَاتِ (قَدْ) زَادُوا فِي النَّفْيِ (مَا). وَأَنَّ مَنْفِيَ (لَمَّا) جَائِزُ الْحَذْفِ اخْتِيَارًا. بِخِلَافِ (لَمْ)- وَهِيَ أَحْسَنُ مَا يُخَرَّجُ عَلَيْه: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا [هُودٍ: 111] أَيْ: لَمَّا يُهْمَلُوا أَوْ يُتْرَكُوا. قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَا أَعْرِفُ وَجْهًا فِي الْآيَةِ أَشْبَهَ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَتِ النُّفُوسُ تَسْتَبْعِدُهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يَقَعْ فِي التَّنْزِيلِ. قَالَ: وَالْحَقُّ أَلَّا يُسْتَبْعَدَ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ: (لَمَّا يُوَفَّوْا أَعْمَالَهُمْ)، أَيْ: إِنَّهُمْ إِلَى الْآنِ لَمْ يُوَفَّوْهَا وَسَيُوَفَّوْنَهَا. الثَّانِي: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمَاضِي فَتَقْتَضِي جُمْلَتَيْنِ، وُجِدَتِ الثَّانِيَةُ عِنْدَ وُجُودِ الْأُولَى، نَحْوَ: (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الْإِسْرَاء: 67]. وَيُقَالُ فِيهَا: حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا حِينَئِذٍ ظَرْفٌ بِمَعْنَى حِينٍ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: بِمَعْنَى إِذْ؛ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْمَاضِي وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ. وَجَوَابُ هَذِهِ يَكُونُ مَاضِيًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَجُمْلَةً اسْمِيَّةً بِالْفَاءِ أَوْ بِإِذَا الْفُجَائِيَّةِ، نَحْوَ: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [لُقْمَانَ: 32]. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [الْعَنْكَبُوت: 65]. وَجَوَّزَ ابْنُ عُصْفُورٍ كَوْنَهُ مُضَارِعًا، نَحْوَ: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا) [هُودٍ: 74] وَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ بِـ (جَادَلَنَا). الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حَرْفَ اسْتِثْنَاءٍ، فَتَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِيَّةِ وَالْمَاضِيَّةِ، نَحْوَ: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) [الطَّارِق: 4]. بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: (إِلَّا). (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الزُّخْرُف: 35].
لَنْ مَعْنَاهُ: حَرْفُ نَفْيٍ وَنَصْبٍ وَاسْتِقْبَالٍ، وَالنَّفْيُ بِهَا أَبْلَغُ مِنَ النَّفْيِ بِلَا، فَهِيَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، كَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الْخَبَّازِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنْ مَنَعَهُ مُكَابَرَةً، فَهِيَ لِنَفْيِ (إِنِّي أَفْعَلُ) وَ(لَا) لِنَفْيِ (أَفْعَلُ) كَمَا فِي (لَمْ) وَ(لَمَّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَرَبُ تَنْفِي الْمَظْنُونَ بِلَنْ، وَالْمَشْكُوكَ بِلَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي التِّبْيَانِ. وَادَّعَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا أَنَّهَا لِتَأْبِيدِ النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ(لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا) [الْحَجّ: 73] وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: 24]. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُهُ فِي: (لَنْ تَرَانِي) [الْأَعْرَاف: 143]: أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى. وَرَدَّ غَيْرُهُ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ لَمْ يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ فِي: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مَرْيَمَ: 26]. وَلَمْ يَصِحَّ التَّوْقِيتُ فِي: (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) [طه: 91]. وَلَكَانَ ذِكْرُ (الْأَبَدِ) فِي وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [الْبَقَرَة: 95]. تَكْرَارًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَاسْتِفَادَةُ التَّأْبِيدِ فِي: (وَلَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا) [الْحَجّ: 73]. وَنَحْوِهِ مِنْ خَارِجٍ. وَوَافَقَهُ عَلَى إِفَادَةِ التَّأْبِيدِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ فِي قَوْلِه: (لَنْ تَرَانِي) [الْأَعْرَاف: 143]: لَوْ بَقِينَا عَلَى هَذَا النَّفْيِ لَتَضَمَّنَ أَنَّ مُوسَى لَا يَرَاهُ أَبَدًا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ. وَعَكَسَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ مَقَالَةَ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَقَالَ: إِنَّ (لَنْ) لِنَفْيِ مَا قَرُبَ، وَعَدَمِ امْتِدَادِ النَّفْيِ، وَلَا يَمْتَدُّ مَعْنَى النَّفْيِ، قَالَ: وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ مُشَاكِلَةٌ لِلْمَعَانِي، وَ(لَا) آخِرُهَا الْأَلِفُ، وَالْأَلِفُ يُمْكِنُ امْتِدَادُ الصَّوْتِ بِهَا، بِخِلَافِ النُّونِ، فَطَابَقَ كُلُّ لَفْظٍ مَعْنَاهُ. قَالَ: وَلِذَلِكَ أَتَى بِـ (لَنْ) حَيْثُ لَمْ يَرِدْ بِهِ النَّفْيُ مُطْلَقًا، بَلْ فِي الدُّنْيَا، حَيْثُ قَالَ: (لَنْ تَرَانِي) [الْأَعْرَاف: 143]. وَبِـ (لَا) فِي قَوْلِه: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) [الْأَنْعَام: 103]، حَيْثُ أُرِيدَ نَفْيُ الْإِدْرَاكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ مُغَايِرٌ لِلرُّؤْيَةِ. انْتَهَى. قِيلَ: وَتَرِدُ (لَنْ) لِلدُّعَاءِ، وَخُرِّجَ عَلَيْه: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ) [الْقَصَص: 17]، الْآيَةَ.
لَوْ مَعْنَاهُ: حَرْفُ شَرْطٍ فِي الْمُضِيِّ، يُصْرَفُ الْمُضَارِعُ إِلَيْهِ، بِعَكْسِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّة: وَاخْتُلِفَ فِي إِفَادَتِهَا الِامْتِنَاعَ وَكَيْفِيَّةِ إِفَادَتِهَا إِيَّاهُ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تُفِيدُهُ بِوَجْهٍ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّرْطِ وَلَا امْتِنَاعِ الْجَوَابِ، بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ رَبْطِ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ، دَالَّةٌ عَلَى التَّعْلِيقِ فِي الْمَاضِي. كَمَا دَلَّتْ (إِنْ) عَلَى التَّعْلِيقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَمْ تَدُلَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعٍ وَلَا ثُبُوتٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ كَإِنْكَارِ الضَّرُورِيَّاتِ، إِذْ فَهْمُ الِامْتِنَاعِ مِنْهَا كَالْبَدِيهِيِّ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ: (لَوْ فَعَلَ) فَهِمَ عَدَمَ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ اسْتِدْرَاكُهُ فَتَقُولُ: لَوْ جَاءَ زَيْدٌ أَكْرَمْتُهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجِئْ. الثَّانِي: وَهُوَ لِسِيبَوَيْهِ، قَالَ: إِنَّهَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، أَيْ: أَنَّهَا تَقْتَضِي فِعْلًا مَاضِيًا كَانَ يُتَوَقَّعُ ثُبُوتُهُ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ، وَالْمُتَوَقَّعُ غَيْرُ وَاقِعٍ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَرْفٌ يَقْتَضِي فِعْلًا امْتَنَعَ لِامْتِنَاعِ مَا كَانَ يَثْبُتُ لِثُبُوتِهِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ النُّحَاةِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْمُعْرِبُونَ: أَنَّهَا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، أَيْ: يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْجَوَابِ لِامْتِنَاعِ الشَّرْطِ، فَقَوْلُكَ: لَوْ جِئْتَ لَأَكْرَمْتُكَ، دَالٌّ عَلَى امْتِنَاعِ الْإِكْرَامِ لِامْتِنَاعِ الْمَجِيءِ. وَاعْتُرِضَ بِعَدَمِ امْتِنَاعِ الْمَجِيءِ وَاعْتُرِضَ بِعَدَمِ امْتِنَاعِ الْجَوَابِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لُقْمَانَ: 27](وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) [الْأَنْفَال: 23]؛ فَإِنَّ عَدَمَ النَّفَادِ عِنْدَ فَقْدِ مَا ذُكِرَ، وَالتَّوَلِّي عِنْدَ عَدَمِ الْإِسْمَاعِ أَوْلَى. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ لِابْنِ مَالِكٍ: أَنَّهَا حَرْفٌ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ مَا يَلِيهِ وَاسْتِلْزَامَهُ لِتَالِيهِ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنَفْيِ التَّالِي. قَالَ: فَقِيَامُ زِيدٍ مِنْ قَوْلِكَ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو، مَحْكُومٌ بِانْتِفَائِهِ وَبِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا ثُبُوتُهُ لِثُبُوتِ قِيَامٍ مِنْ عَمْرٍو، وَهَلْ وَقَعَ لِعَمْرٍو قِيَامٌ آخَرُ غَيْرُ اللَّازِمِ عَنْ قِيَامِ زَيْدٍ أَوْ لَيْسَ لَهُ؟ لَا تَعَرُّضَ لِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ أَجْوَدُ الْعِبَارَاتِ.
فَائِدَةٌ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ (لَوْ) فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَبَدًا.
فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ: تَخْتَصُّ لَوِ الْمَذْكُورَةُ بِالْفِعْلِ؛ وَأَمَّا نَحْوُ: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ [الْإِسْرَاء: 100] فَعَلَى تَقْدِيرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا وَقَعَتْ (أَنَّ) بَعْدَهَا وَجَبَ كَوْنُ خَبَرِهَا فِعْلًا، لِيَكُونَ عِوَضًا عَنِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِآيَة: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ) [لُقْمَانَ: 27]، وَقَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ إِذَا كَانَ مُشْتَقًّا لَا جَامِدًا، وَرَدَّهُ ابْنُ مَالِكٍ بِقَوْلِه: لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلَاحِ *** أَدْرَكَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ وُجِدَتْ آيَةٌ فِي التَّنْزِيلِ وَقَعَ فِيهَا الْخَبَرُ اسْمًا مُشْتَقًّا، وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، كَمَا لَمْ يَتَنَبَّهْ لِآيَةِ لُقْمَانَ، وَلَا ابْنُ الْحَاجِبِ، وَإِلَّا لَمَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا ابْنُ مَالِكٍ، وَإِلَّا لَمَا اسْتَدَلَّ بِالشِّعْرِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ) [الْأَحْزَاب: 20]. وَوُجِدَتْ آيَةُ الْخَبَرِ فِيهَا ظَرْفٌ: (لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ) [الصَّافَّات: 168]. وَرَدَّ ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ وَابْنُ الدَّمَامِينِيِّ بِأَنَّ (لَوْ) فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِلتَّمَنِّي، وَالْكَلَامُ فِي الْامْتِنَاعِيَّةِ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَقَالَةَ الزَّمَخْشَرِيِّ سَبَقَهُ إِلَيْهَا السِّيرَافِيُّ، وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ وَمَا اسْتُدْرِكَ بِهِ مَنْقُولٌ قَدِيمًا فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ لِابْنِ الْخَبَّازِ، لَكِنْ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهِ، فَقَالَ فِي بَابِ (إِنَّ) وَأَخَوَاتِهَا: قَالَ السِّيرَافِيُّ: لَوْ أَنَّ زَيْدًا أَقَامَ لَأَكْرَمْتُهُ، لَا يَجُوزُ: لَوْ أَنَّ زَيْدًا حَاضِرًا لَأَكْرَمْتُهُ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تَلْفَظْ بِفِعْلٍ يَسُدُّ مَسَدَّ ذَلِكَ الْفِعْلِ. هَذَا كَلَامُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} [الْأَحْزَاب: 20]، فَأُوقِعَ خَبَرُهَا صِفَةً. وَلَهُمْ أَنَّ يُفَرِّقُوا بِأَنَّ هَذِهِ لِلتَّمَنِّي فَأُجْرِيَتْ مَجْرَى لَيْتَ، كَمَا تَقُولُ: لَيْتَهُمْ بَادُونَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَجَوَابُ (لَوْ) إِمَّا مُضَارِعٌ مَنْفِيٌّ بِـ (لَمْ) أَوْ مَاضٍ مُثْبَتٌ، أَوْ مَنْفِيٌّ بِـ (مَا). وَالْغَالِبُ عَلَى الْمُثْبَتِ دُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ، نَحْوَ: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) [الْوَاقِعَة: 65] وَمِنْ تَجَرُّدِهِ {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الْوَاقِعَة: 70]. وَالْغَالِبُ عَلَى الْمَنْفِيِّ تَجَرُّدُهُ، نَحْوَ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) [الْأَنْعَام: 112].
فَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: لَوْ جَاءَنِي زِيدٌ لَكَسَوْتُهُ، وَلَوْ زَيْدٌ جَاءَنِي لَكَسَوْتُهُ، وَلَوْ أَنَّ زَيْدًا جَاءَنِي لَكَسَوْتُهُ. أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْأَوَّل: مُجَرَّدُ رَبْطِ الْفِعْلَيْنِ، وَتَعْلِيقُ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ لَا غَيْرَ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَعْنًى زَائِدٍ عَلَى التَّعَلُّقِ السَّاذَجِ. وَفِي الثَّانِي: انْضَمَّ إِلَى التَّعْلِيقِ أَحَدُ مَعْنَيَيْنِ؛ إِمَّا نَفْيُ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ. وَأَنَّ الْمَذْكُورَ مَكْسُوٌّ لَا مَحَالَةَ، وَإِمَّا بَيَانُ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَتُخَرَّجَ عَلَيْهِ آيَةُ: (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) [الْإِسْرَاء: 100]. وَفِي الثَّالِث:، مَعَ مَا فِي الثَّانِي: زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ الَّذِي تُعْطِيهِ (أَنَّ) وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ زَيْدًا كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَجِيءَ، وَأَنَّهُ بِتَرْكِهِ الْمَجِيءَ قَدْ أَغْفَلَ حَظَّهُ. وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) [الْحُجُرَات: 5] وَنَحْوُهُ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، وَخَرِّجْ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ.
تَنْبِيهٌ: تَرِدُ (لَوْ) شَرْطِيَّةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَهِيَ الَّتِي يَصْلُحُ مَوْضِعَهَا (إِنْ) نَحْوَ: (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التَّوْبَة: 33]. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) [الْأَحْزَاب: 52]. وَمَصْدَرِيَّةً، وَهِيَ الَّتِي يَصْلُحُ مَوْضِعَهَا (أَنْ) الْمَفْتُوحَةُ، وَأَكْثَرُ وُقُوعِهَا بَعْدَ (وَدَّ) وَنَحْوِه: نَحْوَ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) [الْبَقَرَة: 109]. (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ) [الْبَقَرَة: 96](يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي) [الْمَعَارِج: 11]. أَي: الرَّدُّ وَالتَّعْمِيرُ وَالِافْتِدَاءُ. وَلِلتَّمَنِّي، وَهِيَ الَّتِي يَصْلُحُ مَوْضِعَهَا (لَيْتَ) نَحْوَ: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً) [الشُّعَرَاء: 102] وَلِهَذَا نُصِبَ الْفِعْلُ فِي جَوَابِهَا. وَلِلتَّقْلِيلِ، وَخُرِّجَ عَلَيْه: (وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) [النِّسَاء: 135].
لَوْلَا مَعْنَاهَا فِي الْقُرْآن: عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حَرْفَ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، فَتَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَيَكُونُ جَوَابُهَا فِعْلًا مَقْرُونًا بِاللَّامِ إِنْ كَانَ مُثْبَتًا، نَحْوَ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ} [الصَّافَّات: 143- 144]. وَمُجَرَّدًا مِنْهَا إِنْ كَانَ مَنْفِيًّا، نَحْوَ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النُّور: 21] وَإِنْ وَلِيَهَا ضَمِيرٌ فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ رَفْعٍ، نَحْوَ: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سَبَإٍ: 31]. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (هَلَّا) فَهِيَ لِلتَّحْضِيضِ وَالْعَرْضِ فِي الْمُضَارِعِ أَوْ مَا فِي تَأْوِيلِهِ، نَحْوَ: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النَّمْل: 46]. {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [الْمُنَافِقُونَ: 10]، وَلِلتَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ فِي الْمُضَارِعِ، نَحْوَ: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النُّور: 13]. {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ} [الْأَحْقَاف: 28]. {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} [النُّور: 16]. {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الْأَنْعَام: 43]. {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الْوَاقِعَة: 83]. {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْوَاقِعَة: 86- 87]. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِفْهَامِ، ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ، وَجَعَلَ مِنْهُ: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} [الْمُنَافِقُونَ: 10]، {لَوْلَا أُنْزِلُ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الْأَنْعَام: 8] وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِيهِمَا بِمَعْنَى (هَلَّا). الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ لِلنَّفْيِ، ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ أَيْضًا، وَجَعَلَ مِنْهُ: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} [يُونُسَ: 98]، أَيْ: {فَمَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ}، أَيْ: أَهْلُهَا، عِنْدَ مَجِيءِ الْعَذَابِ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا. وَالْجُمْهُورُ: لَمْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ. وَقَالُوا: الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ التَّوْبِيخُ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ قَبْلَ مَجِيءِ الْعَذَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ (فَهَلَّا). وَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ مُنْقَطِعٌ.
فَائِدَةٌ: نُقِلَ عَنِ الْخَلِيل: أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ (لَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا فِي الْقُرْآنِ) فَهِيَ بِمَعْنَى (هَلَّا) إِلَّا {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصَّافَّات: 143]، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يُوسُفَ: 24]. لَوْلَا فِيهِ امْتِنَاعِيَّةٌ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَهُمْ بِهَا، أَوْ لِوَاقِعِهَا. وَقَوْلُهُ: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [الْقَصَص: 82]. وَقوله: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [الْقَصَص: 10] أَيْ: لَأَبْدَتْ بِهِ، فِي آيَاتٍ أُخَرَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا مُوسَى الْخَطْمِيُّ، أَنْبَأَنَا هَارُونُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ (فَلَوْلَا) فَهُوَ (فَهَلَّا) إِلَّا حَرْفَيْن: فِي يُونُسَ: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يُونُسَ: 98]، يَقُولُ: فَمَا كَانَتْ قَرْيَةٌ، وَقَوْلِه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصَّافَّات: 143]. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ مُرَادُ الْخَلِيلِ، وَهُوَ أَنَّ مُرَادَهُ (لَوْلَا) الْمُقْتَرِنَةُ بِالْفَاءِ.
لَوْمَا منزلتها فِي الْقُرْآن: بِمَنْزِلَةِ (لَوْلَا) قَالَ تَعَالَى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} وَقَالَ الْمَالِقِيُّ: لَمْ تَرِدْ إِلَّا لِلتَّحْضِيضِ.
لَيْتَ مَعْنَاهَا فِي الْقُرْآن: حَرْفٌ يَنْصِبُ الِاسْمَ وَيَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَمَعْنَاهُ: التَّمَنِّي، وَقَالَ التَّنُوخِيُّ: إِنَّهَا تُفِيدُ تَأْكِيدَهُ.
لَيْسَ مَعْنَاهَا فِي الْقُرْآن: فِعْلٌ جَامِدٌ، وَمِنْ ثَمَّ ادَّعَى قَوْمٌ حَرْفِيَّتَهُ، وَمَعْنَاهُ: نَفْيُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فِي الْحَالِ وَنَفْيُ غَيْرِهِ بِالْقَرِينَةِ. وَقِيلَ: هِيَ لِنَفْيِ الْحَالِ وَغَيْرِهِ، وَقَوَّاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هُودٍ: 8] فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَتَرِدُ لِلنَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرَقِ الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ، كَـ (لَا) التَّبْرِئَةِ، وَهُوَ مِمَّا يُغْفَلُ عَنْهُ، وَخُرِّجَ عَلَيْه: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الْغَاشِيَة: 6].
مَا وَاسْتِعْمَالَاتهَا فِي الْقُرْآن: اسْمِيَّةٌ وَحَرْفِيَّةٌ: فَالِاسْمِيَّةُ: تَرِدُ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، نَحْوَ: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَذُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النَّحْل: 96]، وَيَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ، وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا لَا يُعْلَمُ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْعَالِمِ، نَحْوَ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشَّمْس: 5]. {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الْكَافِرُونَ: 3] أَي: اللَّهُ. وَيَجُوزُ فِي ضَمِيرِهَا مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَاجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَالَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النَّحْل: 73] وَهَذِهِ مُعَرَّفَةٌ، بِخِلَافِ الْبَاقِي. وَاسْتِفْهَامِيَّةٌ: بِمَعْنَى: أَيِّ شَيْءٍ، وَيُسْأَلُ بِهَا عَنْ أَعْيَانِ مَا لَا يُعْقَلُ وَأَجْنَاسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَجْنَاسِ الْعُقَلَاءِ وَأَنْوَاعِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، نَحْوَ: {وَمَا هِيَ}، {مَا لَوْنُهَا} [الْبَقَرَة: 68- 69]، {مَا وَلَّاهُمْ} [الْبَقَرَة: 142]، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} [طه: 17]، {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الْفُرْقَان: 60]. وَلَا يُسْأَلُ بِهَا عَنْ أَعْيَانِ أُولِي الْعِلْمِ، خِلَافًا لِمَنْ أَجَازَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء: 23] فَإِنَّهُ قَالَهُ جَهْلًا، وَلِهَذَا أَجَابَهُ مُوسَى بِالصِّفَاتِ. وَيَجِبُ حَذْفُ أَلِفِهَا إِذَا جُرَّتْ وَإِبْقَاءُ الْفَتْحَةِ دَلِيلًا عَلَيْهَا، فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَوْصُولَةِ، نَحْوَ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النَّبَإ: 1]، {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النَّازِعَات: 43]، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصَّفّ: 2]، {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النَّمْل: 35]. وَشُرْطِيَّةٌ: نَحْوَ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ} [الْبَقَرَة: 106]، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [الْبَقَرَة: 197]. {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التَّوْبَة: 7] وَهَذِهِ مَنْصُوبَةٌ بِالْفِعْلِ بَعْدَهَا. تَعَجُّبِيَّةٌ: نَحْوَ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [الْبَقَرَة: 175]. {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عَبَسَ: 17] وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: (مَا أَغَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) وَمَحَلُّهَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَمَا بَعْدَهَا خَبَرٌ، وَهِيَ نَكِرَةٌ تَامَّةٌ. وَنَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ: نَحْوَ: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [الْبَقَرَة: 26]، {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ} [النِّسَاء: 58] أَيْ: نِعْمَ شَيْئًا يَعِظُكُمْ بِهِ. وَغَيْرُ مَوْصُوفَةٍ نَحْوَ: {فَنِعِمَّا هِيَ} [الْبَقَرَة: 271] أَيْ: نِعْمَ شَيْئًا هِيَ. وَالْحَرْفِيَّةُ: تَرِدُ مَصْدَرِيَّةً: إِمَّا زَمَانِيَّةٌ: نَحْوَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُن: 16] أَيْ: مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِكُمْ. أَوْ غَيْرُ زَمَانِيَّةٍ، نَحْوَ: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} [السَّجْدَة: 14] أَيْ: بِنِسْيَانِكُمْ. وَنَافِيَةٌ: إِمَّا عَامِلَةٌ عَمَلَ لَيْسَ، نَحْوَ: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يُوسُفَ: 31]، {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهُمْ} [الْمُجَادَلَة: 2]، {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الْحَاقَّة: 47] وَلَا رَابِعَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ. أَوْ غَيْرُ عَامِلَةٍ، نَحْوَ: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 272]. {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [الْبَقَرَة: 16]. قَالَ ابْنُ الْحَاجِب: وَهِيَ لِنَفْيِ الْحَالِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي النَّفْيِ جَوَابًا لِقَدْ فِي الْإِثْبَاتِ، فَكَمَا أَنَّ (قَدْ) فِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ، فَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ جَوَابًا لَهَا. وَزَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيد: إِمَّا كَافَّةٌ، نَحْوَ: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الْأَنْعَام: 19]. {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الْكَهْف: 110]، {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} [يُونُسَ: 27]، {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الْحِجْر: 2]. أَوْ غَيْرُ كَافَّةٍ، نَحْوَ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} [مَرْيَمَ: 26]. {أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الْإِسْرَاء: 110]، {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [الْقَصَص: 28]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 159]. {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نُوحٍ: 25]، {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} [الْبَقَرَة: 26]. قَالَ الْفَارِسِيُّ: جَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الشَّرْطِ بَعْدَ (إِمَّا) مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ لِمُشَابَهَتِهِ فِعْلَ الشَّرْطِ، بِدُخُولِ مَا لِلتَّأْكِيدِ لِفِعْلِ الْقَسَمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ (مَا) كَاللَّامِ فِي الْقَسَمِ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء: زِيَادَةُ (مَا) مُؤْذِنَةٌ بِإِرَادَةِ شِدَّةِ التَّأْكِيدِ. فَائِدَةٌ: حَيْثُ وَقَعَتْ (مَا) قَبْلَ (لَيْسَ) أَوْ (لَمْ) أَوْ (لَا) أَوْ بَعْدَ (إِلَّا) فَهِيَ مَوْصُولَةٌ، نَحْوَ: {مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [الْمَائِدَة: 116]. (مَا لَمْ يَعْلَمْ) [الْعَلَق: 5]. مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 30]. (إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) [الْبَقَرَة: 32]. وَحَيْثُ وَقَعَتْ بَعْدَ كَافِ التَّشْبِيهِ فَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَحَيْثُ وَقَعَتْ بَعْدَ الْبَاءِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُهُمَا، نَحْوَ: {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الْأَعْرَاف: 162]. وَحَيْثُ وَقَعَتْ بَيْنَ فِعْلَيْنِ سَابِقُهُمَا عِلْمٌ أَوْ دِرَايَةٌ أَوْ نَظَرٌ، احْتَمَلَتِ الْمَوْصُولَةَ وَالِاسْتِفْهَامِيَّةَ، نَحْوَ: {وَأَعْلَمُ مَا تَبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [الْبَقَرَة: 33]، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الْأَحْقَاف: 9]. {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الْحَشْر: 18]. وَحَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ (إِلَّا) فَهِيَ نَافِيَةٌ، إِلَّا فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا} [الْبَقَرَة: 229]. {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [الْبَقَرَة: 237]. {بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ} [النِّسَاء: 19]. {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النِّسَاء: 22]. {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [الْمَائِدَة: 3]. {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا} [الْأَنْعَام: 80]. {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا} [الْأَنْعَام: 119]. {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} إِلَّا فِي مَوْضِعَيْ هُودٍ. {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا} [يُوسُفَ: 47]، {مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا} [يُوسُفَ: 48]. {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الْكَهْف: 16]. {وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الْحِجْر: 85] حَيْثُ كَانَ.
مَاذَا تَرِدُ عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ (مَا) اسْتِفْهَامًا وَ(ذَا) مَوْصُولَةً، وَهُوَ أَرْجَحُ الْوَجْهَيْنِ فِي: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [الْبَقَرَة: 219]، فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، أَي: الَّذِي يُنْفِقُونَهُ الْعَفْوُ، إِذِ الْأَصْلُ أَنْ تُجَابَ الِاسْمِيَّةُ بِالِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةُ بِالْفِعْلِيَّةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ (مَا) اسْتِفْهَامًا وَ(ذَا) إِشَارَةً. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ (مَاذَا) كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا عَلَى التَّرْكِيبِ، وَهُوَ أَرْجَحُ الْوَجْهَيْنِ فِي: (مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، أَيْ: يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ (مَاذَا) كُلُّهُ اسْمَ جِنْسٍ بِمَعْنَى شَيْءٍ، أَوْ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي. الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ (مَا) زَائِدَةً وَ(ذَا) لِلْإِشَارَةِ. السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ (مَا) اسْتِفْهَامًا وَ(ذَا) زَائِدَةً وَيَجُوزُ أَنْ تُخَرَّجَ عَلَيْهِ.
مَتَى: تَرِدُ اسْتِفْهَامًا عَنِ الزَّمَانِ، نَحْوَ: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 214]؛ وَشَرْطًا.
مَعَ: اسْمٌ، بِدَلِيلِ جَرِّهَا بِـ (مِنْ) فِي قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} [الْأَنْبِيَاء: 24] وَهِيَ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَأَصْلُهَا لِمَكَانِ الِاجْتِمَاعِ أَوْ وَقْتِهِ، نَحْوَ: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يُوسُفَ: 36]. {أَرْسِلْهُ مَعَنَا} [يُوسُفَ: 66 12]، {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} [يُوسُفَ: 66]. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ الِاجْتِمَاعِ وَالِاشْتِرَاكِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، نَحْوَ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التَّوْبَة: 119]. {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [الْبَقَرَة: 43]. وَأَمَّا نَحْوَ: {إِنِّي مَعَكُمْ} [الْمَائِدَة: 12]. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النَّحْل: 128]. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} [الْحَدِيد: 4]. {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشُّعَرَاء: 62]. فَالْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وَالْحِفْظُ وَالْمَعُونَةُ مَجَازًا. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَفْظُ (مَعَ) هُوَ الْمَقْصُودُ، كَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
مِنْ حَرْفُ جَرٍّ، لَهُ مَعَانٍ: أَشْهَرُهَا: ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، مَكَانًا وَزَمَانًا وَغَيْرَهُمَا، نَحْوَ: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْإِسْرَاء: 1]، {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التَّوْبَة: 108]، {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النَّمْل: 30]. وَالتَّبْعِيضُ: بِأَنْ يَسُدَّ (بَعْضُ) مَسَدَّهَا، نَحْوَ: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 92]. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ). وَالتَّبْيِينُ: وَكَثِيرًا مَا تَقَعُ بَعْدَ (مَا) وَ(مَهْمَا). نَحْوَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} [فَاطِرٍ: 2]، {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [الْبَقَرَة: 106]، {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} [الْأَعْرَاف: 132] وَمِنْ وُقُوعِهَا بَعْدَ غَيْرِهِمَا، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الْحَجّ: 30]، {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الْكَهْف: 31]. وَالتَّعْلِيلُ: نَحْوَ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نُوحٍ: 25]، {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [الْبَقَرَة: 19]. وَالْفَصْلُ:- بِالْمُهْمَلَةِ- وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى ثَانِي الْمُتَضَادَّيْنِ، نَحْوَ: {يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [الْبَقَرَة: 220].} حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آلِ عِمْرَانَ: 179]. وَالْبَدَلُ: نَحْوَ: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التَّوْبَة: 38] أَيْ: بَدَلَهَا، {لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ} [الزُّخْرُف: 60]. وَتَنْصِيصُ الْعُمُوم: نَحْوَ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 62] قَالَ فِي الْكَشَّاف: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ فِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي إِفَادَةِ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَمَعْنَى الْبَاء: نَحْوَ: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشُّورَى: 45] أَيْ: بِهِ. وَعَلَى: نَحْو: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} [الْأَنْبِيَاء: 77] أَيْ: عَلَيْهِمْ. وَفِي: نَحْو: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الْجُمُعَة: 9] أَيْ: فِيهِ. وَفِي الشَّامِلِ عَنِ الشَّافِعِيّ: أَنَّ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} بِمَعْنَى (فِي) بِدَلِيلِ قَوْلِه: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النِّسَاء: 92]. وَعَنْ: نَحْوَ: {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاء: 97] أَيْ: عَنْهُ. وَعِنْدَ: نَحْوَ: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 10] أَيْ: عِنْدَ. وَالتَّأْكِيدُ: وَهِيَ الزَّائِدَةُ فِي النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ أَوِ الِاسْتِفْهَامِ، نَحْوَ: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الْأَنْعَام: 59]. {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الْمُلْك: 3]. وَأَجَازَهَا قَوْمٌ فِي الْإِيجَابِ، وَخَرَّجُوا عَلَيْه: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الْأَنْعَام: 34]، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} [الْكَهْف: 31]. {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النُّور: 43]. {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النُّور: 30].
فَائِدَةٌ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ دَعَا قَالَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ لَازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَلَكِنَّهُ خَصَّ حِينَ قَالَ: {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ} [إِبْرَاهِيمَ: 37] فَجُعِلَ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَوْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، لَزَاحَمَتْكُمْ عَلَيْهِ الرُّومُ وَفَارِسُ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ التَّبْعِيضُ مِنْ (مِنْ). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَيْثُ وَقَعَتْ {يَغْفِرْ لَكُمْ} فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تُذْكَرْ مَعَهَا (مِنْ) كَقَوْلِهِ فِي الْأَحْزَابِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الْأَحْزَاب: 70- 71]. وَفِي الصَّفّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} إِلَى قَوْلِه: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصَّفّ: 10- 12]. وَقَالَ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ نُوحٍ [4]: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نُوحٍ: 4] وَكَذَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [10] وَفِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [31]، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ لِئَلَّا يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْوَعْدِ، ذَكَرَهُ فِي الْكَشَّافِ.
مَنْ: لَا تَقَعُ إِلَّا اسْمًا، فَتَرِدُ مَوْصُولَةً: نَحْوَ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 19]. وَشَرْطِيَّةً: نَحْوَ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النِّسَاء: 123]. وَاسْتِفْهَامِيَّةً: نَحْوَ: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]. وَنَكِرَةً مَوْصُوفَةً {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} [الْبَقَرَة: 8]، أَيْ: فَرِيقٌ يَقُولُ. وَهِيَ كَـ (مَا) فِي اسْتِوَائِهَا فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُفْرَدِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْقُرْآنِ (مَنْ) فِي الْعَالَمِ عَكْسَ (مَا) وَنُكْتَتُهُ: أَنَّ (مَا) أَكْثَرُ وُقُوعًا فِي الْكَلَامِ مِنْهَا، وَمَا لَا يَعْقِلُ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْقِلُ، فَأَعْطُوا مَا كَثُرَتْ مَوَاضِعُهُ لِلْكَثِيرِ، وَمَا قَلَّتْ لِلْقَلِيلِ، لِلْمُشَاكَلَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ: وَاخْتِصَاصُ (مَنْ) بِالْعَالَمِ وَ(مَا) بِغَيْرِهِ فِي الْمَوْصُولَتَيْنِ دُونَ الشَّرْطِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ.
مَهْمَا: اسْمٌ؛ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا فِي: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ} [الْأَعْرَاف: 132]. قَالَ: الزَّمَخْشَرِيُّ: عَادَ عَلَيْهَا ضَمِيرُ (بِهِ) وَضَمِيرُ (بِهَا) حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ وَعَلَى الْمَعْنَى. وَهِيَ شَرْطٌ لِمَا لَا يَعْقِلُ غَيْرَ الزَّمَانِ، كَالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِيهَا تَأْكِيدٌ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ أَصْلَهَا (مَا) الشَّرْطِيَّةُ وَ(مَا) الزَّائِدَةُ، أُبْدِلَتْ أَلِفُ الْأُولَى هَاءً دَفْعًا لِلتَّكْرَارِ.
النُّونُ عَلَى أَوْجُهٍ: اسْمٌ: وَهِيَ ضَمِيرُ النِّسْوَةِ، نَحْوَ: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ} [يُوسُفَ: 31]. وَحَرْفٌ، وَهِيَ نَوْعَان: نُونُ التَّوْكِيدِ، وَهِيَ خَفِيفَةٌ وَثَقِيلَةٌ، نَحْوَ: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا} [يُوسُفَ: 32]، {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [الْعَلَق: 15]. وَلَمْ تَقَعِ الْخَفِيفَةُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ. قُلْتُ: وَثَالِثٌ فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ، وَهِيَ (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءًا وَجُوهَكُمْ) [الْإِسْرَاء: 7]. وَرَابِعٌ: فِي قِرَاءَةِ الْحَسَن: {أَلْقِيًا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي فِي الْمُحْتَسَبِ. وَنُونُ الْوِقَايَةِ، وَتَلْحَقُ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ الْمَنْصُوبَةَ بِفِعْلٍ، نَحْوَ: {فَاعْبُدْنِي} [طه: 14]. {لَيَحْزُنُنِي} [يُوسُفَ: 13]. أَوْ حَرْفٍ، نَحْوَ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} [النِّسَاء: 73]، {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه: 14] وَالْمَجْرُورَةَ بِلَدُنْ، نَحْوَ: {مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الْكَهْف: 76]. أَوْ مِنْ أَوْ عَنْ نَحْوَ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الْحَاقَّة: 28]، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39].
التَّنْوِينُ: نُونٌ تُثْبَتُ لَفْظًا لَا خَطًّا، وَأَقْسَامُهُ كَثِيرَةٌ: تَنْوِينُ التَّمْكِين: وَهُوَ اللَّاحِقُ لِلْأَسْمَاءِ الْمُعْرَبَةِ، نَحْوَ: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} [الْأَعْرَاف: 154]. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هُودٍ: 50]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نُوحٍ: 1]. وَتَنْوِينُ التَّنْكِير: وَهُوَ اللَّاحِقُ لِأَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ فَرْقًا بَيْنَ مَعْرِفَتِهَا وَنَكِرَتِهَا، نَحْوَ التَّنْوِينِ اللَّاحِقِ لِأُفٍّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَوَّنَهُ، وَ(هَيْهَاتَ) فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَوَّنَهَا. وَتَنْوِينُ الْمُقَابَلَة: وَهُوَ اللَّاحِقُ لِجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ، نَحْوَ: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التَّحْرِيم: 5]. وَتَنْوِينُ الْعِوَض: إِمَّا عَنْ حَرْفِ آخِرِ (مَفَاعِلِ الْمُعْتَلِّ)، نَحْوَ: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ} [الْفَجْر: 1- 2]، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الْأَعْرَاف: 41]. أَوْ عَنِ اسْمٍ مُضَافٍ إِلَيْهِ فِي كُلٍّ وَبَعْضٍ وَأَيٍّ، نَحْوَ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الْبَقَرَة: 253]، {أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الْإِسْرَاء: 110] وَعَنِ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا إِذْ، نَحْوَ: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الْوَاقِعَة: 84] أَيْ: حِينَ إِذْ بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ. أَوْ إِذَا- عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ شَيْخِنَا وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ- نَحْوَ: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشُّعَرَاء: 42] أَيْ: إِذَا غَلَبْتُمْ. وَتَنْوِينُ الْفَوَاصِلِ فَي الْقُرْآن: الَّذِي يُسَمَّى فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ التَّرَنُّمَ بَدَلًا مِنْ حَرْفِ الْإِطْلَاقِ، وَيَكُونُ فِي الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: (قَوَارِيرًا) [الْإِنْسَان: 15]، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرٍ) [الْفَجْر: 4]، (كَلًّا سَيَكْفُرُونَ) [مَرْيَمَ: 82] بِتَنْوِينِ الثَّلَاثَةِ.
نَعَمْ: حَرْفُ جَوَابٍ، فَيَكُونُ تَصْدِيقًا لِلْمُخْبِرِ وَوَعْدًا لِلطَّالِبِ وَإِعْلَامًا لِلْمُسْتَخْبِرِ، وَإِبْدَالُ عَيْنِهَا حَاءً وَكَسْرُهَا، وَإِتْبَاعُ النُّونِ لَهَا فِي الْكَسْرِ، لُغَاتٌ قُرِئَ بِهَا.
نِعْمَ تُسْتَخْدَمُ لِلْمَدْحِ فَي الْقُرْآن: فِعْلٌ لِإِنْشَاءِ الْمَدْحِ، لَا يَتَصَرَّفُ.
الْهَاءُ: اسْمٌ ضَمِيرٌ غَائِبٌ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ، نَحْوَ: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الْكَهْف: 37]. وَحَرْفٌ لِلْغَيْبَةِ وَهُوَ اللَّاحِقُ لِإِيَّا. وَلِلسَّكْتِ، نَحْوَ: (مَاهِيَهْ) [الْقَارِعَة: 10](كِتَابِيَهْ) [الْحَاقَّة: 19] (حِسَابِيَهْ) [الْحَاقَّة: 26](سُلْطَانِيَهْ) [الْحَاقَّة: 29](مَالِيَهْ) [الْحَاقَّة: 28]. (لَمْ يَتَسَنَّهْ) [الْبَقَرَة: 259] وَقُرِئَ بِهَا فِي أَوَاخِرِ آيِ الْجَمْعِ- كَمَا تَقَدَّمَ وَقْفًا.
هَا: تَرِدُ اسْمَ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذْ، وَيَجُوزُ مَدُّ أَلِفِهِ فَيَتَصَرَّفُ حِينَئِذٍ لِلْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ، نَحْوَ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الْحَاقَّة: 19]. وَاسْمًا ضَمِيرًا لِلْمُؤَنَّثِ، نَحْوَ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشَّمْس: 8]. وَحَرْفَ تَنْبِيهٍ فَتَدْخُلُ عَلَى الْإِشَارَةِ نَحْوَ: هَؤُلَاءِ، هَذَانِ خَصْمَانِ [الْحَجّ: 9]. وَهَاهُنَا؛ وَعَلَى ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِإِشَارَةٍ، نَحْوَ: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ) [آلِ عِمْرَانَ: 119]. وَعَلَى نَعْتِ (أَيٍّ): فِي النِّدَاءِ، نَحْوَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ). وَيَجُوزُ فِي لُغَةِ أَسَدٍ حَذْفُ أَلِفِ هَذِهِ وَضَمِّهَا إِتْبَاعًا، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ: (أَيُّهُ الثَّقَلَانِ) [الرَّحْمَن: 31].
هَاتِ استعمالتها فِي الْقُرْآن: فِعْلُ أَمْرٍ لَا يَتَصَرَّفُ، وَمِنْ ثَمَّ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ.
هَلْ: حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ التَّصْدِيقُ دُونَ التَّصَوُّرِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى مَنْفِيٍّ وَلَا شَرْطٍ، وَلَا أَنْ، وَلَا اسْمٍ بَعْدَهُ فِعْلٌ غَالِبًا. وَلَا عَاطِفٍ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ مَعَهَا إِلَّا مُسْتَقْبَلًا، وَرُدَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الْأَعْرَاف: 44]. وَتَرِدُ بِمَعْنَى (قَدْ) وَبِهِ فُسِّرَ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الْإِنْسَان: 1]. وَبِمَعْنَى النَّفْيِ، نَحْوَ: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرَّحْمَن: 60] وَمَعَانٍ أُخَرَ سَتَأْتِي فِي مَبْحَثِ الِاسْتِفْهَامِ.
هَلُمَّ: دُعَاءٌ إِلَى الشَّيْءِ، وَفِيهِ قَوْلَان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَهُ (هَا) وَ(لُمَّ) مِنْ قَوْلِكَ: لَمَمْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: أَصْلَحْتُهُ، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ وَرُكِّبَ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ (هَلْ أُمَّ) كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ أُمَّهُ، أَيْ: اقْصُدْهُ، فَرُكِّبَا. وَلُغَةُ الْحِجَازِ تَرْكُهُ عَلَى حَالِهِ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، وَبِهَا وَرَدَ الْقُرْآنُ، وَلُغَةُ تَمِيمٍ إِلْحَاقُهُ الْعَلَامَاتِ.
هُنَا: اسْمٌ يُشَارُ بِهِ لِلْمَكَانِ الْقَرِيبِ، نَحْوَ: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [الْمَائِدَة: 24]. وَتَدْخُلُ عَلَيْهِ اللَّامُ وَالْكَافُ فَيَكُونُ لِلْبَعِيدِ، نَحْوَ: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} [الْأَحْزَاب: 11]. وَقَدْ يُشَارُ بِهِ لِلزَّمَانِ اتِّسَاعًا، وَخُرِّجَ عَلَيْه: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [يُونُسَ: 30]. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 38].
هِيتَ: اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَسْرَعَ وَبَادَرَ، قَالَ فِي الْمُحْتَسَبِ: وَفِيهَا لُغَاتٌ قُرِئَ بِبَعْضِهَا (هَيْتَ) [يُوسُفَ: 23]. بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالتَّاءِ، وَ(هِيتَ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ، وَ(هَيْتِ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَ(هَيْتُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ، وَقُرِئَ: (هِئْتُ) بِوَزْنِ جِئْتُ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ، وَقُرِئَ: (هُيِّئْتُ) وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى أُصْلِحْتُ.
هَيْهَاتَ: اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى (بَعُدَ). قَالَ تَعَالَى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 36]. قَالَ: الزَّجَّاجُ: الْبُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، قِيلَ: وَهَذَا غَلَطٌ أَوْقَعَهُ فِيهِ اللَّامُ، فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ: بَعُدَ الْأَمْرُ لِمَا تُوعَدُونَ، أَيْ: لِأَجْلِهِ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّ اللَّامَ لِتَبْيِينِ الْفَاعِلِ. وَفِيهَا لُغَاتٌ، قُرِئَ مِنْهَا: بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ وَبِالْخَفْضِ، مَعَ التَّنْوِينِ فِي الثَّلَاثَةِ وَعَدَمِهِ.
الْوَاوُ: جَارَّةٌ وَنَاصِبَةٌ، وَغَيْرُ عَامِلَةٍ. فَالْجَارَّةُ: وَاوُ الْقَسَمِ، نَحْوَ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَام: 23]. وَالنَّاصِبَةُ: وَاوُ (مَعَ) فَتَنْصِبُ الْمَفْعُولَ مَعَهُ فِي رَأْيِ قَوْمٍ، نَحْوَ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يُونُسَ: 71] وَلَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمُضَارِعَ فِي جَوَابِ النَّفْيِ أَوِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، نَحْوَ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 142]، {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ} [الْأَنْعَام: 27]. وَاوُ الصَّرْفِ عِنْدَهُمْ، وَمَعْنَاهَا: أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ يَقْتَضِي إِعْرَابًا، فَصَرَفَتْهُ عَنْهُ إِلَى النَّصْبِ، نَحْوَ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكَ الدِّمَاءَ} [الْبَقَرَة: 30] فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ. وَغَيْرُ الْعَامِلَةِ أَنْوَاعٌ الْوَاو الْغَيْر عَامِلَة: أَحَدُهَا: وَاوُ الْعَطْفِ، وَهِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَتَعْطِفُ الشَّيْءَ عَلَى مُصَاحِبِهِ، نَحْوَ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [الْعَنْكَبُوت: 15]. وَعَلَى سَابِقِهِ نَحْوَ: {أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} [الْحَدِيد: 26]. وَلَاحِقِهِ، نَحْوَ: {يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشُّورَى: 3]. وَتُفَارِقُ سَائِرَ حُرُوفِ الْعَطْفِ فِي اقْتِرَانِهَا بِإِمَّا، نَحْوَ: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الْإِنْسَان: 3]. وَبِـ (لَا) بَعْدَ نَفْيٍ، نَحْوَ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ} [سَبَإٍ: 37]. وَبِـ (لَكِنْ) نَحْوَ: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الْأَحْزَاب: 40]. وَتَعْطِفُ الْعِقْدَ عَلَى النَّيِّفِ، وَالْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ، وَعَكْسَهُ. نَحْوَ: (وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) [الْبَقَرَة: 98]، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نُوحٍ: 28]. وَالشَّيْءَ عَلَى مُرَادِفِهِ، نَحْوَ: {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [الْبَقَرَة: 157]، {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يُوسُفَ: 86]. وَالْمَجْرُورَ عَلَى الْجِوَارِ، نَحْوَ: {بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [الْمَائِدَة: 6]. وَقِيلَ: تَرِدُ بِمَعْنَى (أَوْ) وَحَمَلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 60]، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ الْخَارَزَنْجِيُّ الْوَاوَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمَنْصُوبَةِ. ثَانِيهَا: وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ، نَحْوَ: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الْأَنْعَام: 2] لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الْحَجّ: 5]. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: 282]. مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ [الْأَعْرَاف: 186]. بِالرَّفْعِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ عَاطِفَةً لَنُصِبَ (وَنُقِرُّ) وَانْجَزَمَ مَا بَعْدَهُ، وَنُصِبَ (أَجَلٌ). ثَالِثُهَا: وَاوُ الْحَالِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، نَحْوَ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [الْبَقَرَة: 30]. يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 154]. لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يُوسُفَ: 14]. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً، لِتَأْكِيدِ ثُبُوتِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ وَلُصُوقِهَا بِهِ، كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الْكَهْف: 22]. رَابِعُهَا: وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، ذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ كَالْحَرِيرِيِّ وَابْنِ خَالَوَيْهِ وَالثَّعْلَبِيِّ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا عَدُّوا يُدْخِلُونَ الْوَاوَ بَعْدَ السَّبْعَةِ، إِيذَانًا بِأَنَّهَا عَدَدٌ تَامٌّ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفٌ وَجَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) إِلَى قَوْلِه: (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الْكَهْف: 22]. وَقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} إِلَى قَوْلِه: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التَّوْبَة: 112]؛ لِأَنَّهُ الْوَصْفُ الثَّامِنُ. وَقَوْلَهُ (مُسْلِمَاتٍ) إِلَى قَوْلِه: وَأَبْكَارًا [التَّحْرِيم: 5]. وَالصَّوَابُ: عَدَمُ ثُبُوتِهَا، وَأَنَّهَا فِي الْجَمِيعِ لِلْعَطْفِ. خَامِسُهَا: الزَّائِدَةُ، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْ قَوْلِه: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ) [الصَّافَّات: 103- 104]. سَادِسُهَا: وَاوُ ضَمِيرِ الذُّكُورِ فِي اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ، نَحْوَ: الْمُؤْمِنُونَ. {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [الْقَصَص: 55]. {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا} [إِبْرَاهِيمَ: 31]. سَابِعُهَا: وَاوُ عَلَامَةِ الْمُذَكَّرِينَ فِي لُغَةِ طَيِّئٍ، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الْأَنْبِيَاء: 3].} ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [الْمَائِدَة: 71]. ثَامِنُهَا: الْوَاوُ الْمُبْدَلَةُ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَضْمُومُ مَا قَبْلَهَا، كَقِرَاءَةِ قُنْبُلٍ: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ءَأَمِنْتُمْ) [الْمُلْك: 15- 16] (قَالَ فِرْعَوْنُ ءَأَمَنْتُمْ بِهِ) [الْأَعْرَاف: 123].
وَيْكَأَنَّ استعمالتها وَمَعْنَاهَا فِي الْقُرْآن: قَالَ الْكِسَائِيُّ: كَلِمَةُ تَنَدُّمٍ وَتَعَجُّبٍ، وَأَصْلُهُ (وَيْلَكَ) وَالْكَافُ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَيِ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَعْجَبُ، وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ، وَأَنَّ عَلَى إِضْمَارِ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى: أَعْجَبُ لِأَنَّ اللَّهَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَيْ وَحْدَهَا، وَكَأَنَّ كَلِمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِلتَّحْقِيقِ لَا لِلتَّشْبِيهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ: يَحْتَمِلُ (وَيْ كَأَنَّهُ) ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَنْ يَكُونَ وَيْكَ حَرْفًا، وَأَنَّهُ حَرْفًا، وَالْمَعْنَى: (أَلَمْ تَرَ). وَأَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ، وَالْمَعْنَى (وَيْلَكَ). وَأَنْ تَكُونَ وَيْ حَرْفًا لِلتَّعَجُّبِ، وَكَأَنَّهُ حَرْفٌ، وَوُصِلَا خَطًّا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا وُصِلَ: (يَبْنَؤُمَّ)[طه: 94].
وَيْلٌ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَيْلٌ تَقْبِيحٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 18]. وَقَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ التَّحَسُّرِ وَالتَّفَجُّعِ، نَحْوَ: يَا وَيْلَتَنَا [الْكَهْف: 49]. {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ} [الْمَائِدَة: 31]. أَخْرَجَ الْحَرْبِيُّ فِي فَوَائِدِه: مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَكِ! فَجَزِعْتُ مِنْهَا، فَقَالَ لِي: يَا حُمَيْرَاءُ إِنَّ وَيْحَكِ، أَوْ وَيْسَكِ، رَحْمَةٌ فَلَا تَجْزَعِي مِنْهَا؛ وَلَكِنِ اجْزَعِي مِنَ الْوَيْلِ».
يَا: حَرْفٌ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ، حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَهِيَ أَكْثَرُ أَحْرُفِهِ اسْتِعْمَالًا، وَلِهَذَا لَا يُقَدَّرُ عِنْدَ الْحَذْفِ سِوَاهَا، نَحْوَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [نُوحٍ: 28]. {يُوسُفُ أَعْرِضْ} [يُوسُفَ: 29] وَلَا يُنَادَى اسْمُ اللَّهِ وَأَيُّهَا وَأَيَّتُهَا إِلَّا بِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتُفِيدُ التَّأْكِيدَ الْمُؤْذِنَ بِأَنَّ الْخِطَابَ الَّذِي يَتْلُوهُ مُعْتَنًى بِهِ جِدًّا. وَتَرِدُ لِلتَّنْبِيهِ، فَتَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، نَحْوَ: (أَلَّا يَا اسْجُدُوا) [النَّمْل: 25]، {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26].
تَنْبِيهٌ: هَا قَدْ أَتَيْتُ عَلَى شَرْحِ مَعَانِي الْأَدَوَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهٍ مُوجَزٍ مُفِيدٍ، مُحَصِّلٍ لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَلَمْ أَبْسُطْهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْبَسْطِ وَالْإِطْنَابِ إِنَّمَا هُوَ تَصَانِيفُنَا فِي فَنِّ الْعَرَبِيَّةِ وَكُتُبُنَا النَّحْوِيَّةُ، وَالْمَقْصُودُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ هَذَا الْكِتَابِ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ، لَا اسْتِيعَابُ الْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ.
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ خَلَائِقُ. مِنْهُمْ مَكِّيٌّ، وَكِتَابُهُ فِي الْمُشْكِلِ خَاصَّةً. وَالْحَوْفِيُّ؛ وَهُوَ أَوْضَحُهَا. وَأَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ؛ وَهُوَ أَشْهَرُهَا. وَالسَّمِينُ؛ وَهُوَ أَجَلُّهَا، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ حَشْوٍ وَتَطْوِيلٍ، وَلَخَّصَهُ السَّفَاقِسِيُّ فَحَرَّرَهُ. وَتَفْسِيرُ أَبِي حَيَّانَ مَشْحُونٌ بِذَلِكَ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا النَّوْعِ إِعْرَاب الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعْرِفَةُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْإِعْرَابَ يُمَيِّزُ الْمَعَانِيَ وَيُوقِفُ عَلَى أَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِينَ. أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: تَعَلَّمُوا اللَّحْنَ وَالْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ. وَأَخْرَجَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَن: يَا أَبَا سَعِيدٍ، الرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ يَلْتَمِسُ بِهَا حُسْنَ الْمَنْطِقِ، وَيُقِيمُ بِهَا قِرَاءَتَهُ؟ قَالَ: حَسَنٌ يَا ابْنَ أَخِي فَتَعَلَّمْهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْرَأُ الْآيَةَ فَيَعْيَا بِوَجْهِهَا، فَيَهْلِكُ فِيهَا. وَعَلَى النَّاظِرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى- الْكَاشِفِ عَنْ أَسْرَارِهِ- النَّظَرُ فِي الْكَلِمَةِ وَصِيغَتِهَا وَمَحَلِّهَا، كَكَوْنِهَا مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرًا أَوْ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا، أَوْ فِي مَبَادِئِ الْكَلَامِ أَوْ فِي جَوَابٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ أُمُورٍ عِنْدَ إِعْرَابِ الْقُرْآن: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَيْه: أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى مَا يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا قَبْلَ الْإِعْرَابِ، فَإِنَّهُ فَرْعُ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِعْرَابُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ نَصْبِ كَلَالَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النِّسَاء: 12]: إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُرَادِ بِهَا. فَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلْمَيِّتِ فَهُوَ حَالٌ، (وَيُورَثُ) خَبَرُ كَانَ أَوْ صِفَةٌ، وَ(كَانَ) تَامَّةٌ، أَوْ نَاقِصَةٌ وَ(كَلَالَةً) خَبَرٌ. أَوْ لِلْوَرَثَةِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَا كَلَالَةٍ؛ وَهُوَ- أَيْضًا- حَالٌ أَوْ خَبَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ. أَوْ لِلْقَرَابَةِ فَهُوَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَقوله: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الْحِجْر: 87]: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَثَانِي الْقُرْآنَ فَـ {مِنْ} لِلتَّبْعِيضِ، أَوِ الْفَاتِحَةَ: فَلِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آلِ عِمْرَانَ: 28]. فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ فَهِيَ مَصْدَرٌ، أَوْ بِمَعْنَى مُتَّقًى- أَيْ: أَمْرًا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ- فَمَفْعُولٌ بِهِ، أَوْ جَمْعًا- كَرُمَاةٍ- فَحَالٌ. وَقوله: {غُثَاءً أَحَوَى} [الْأَعْلَى: 5]: إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَفَافِ وَالْيُبْسِ فَهُوَ صِفَةٌ لِغُثَاءٍ، أَوْ مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ فَحَالٌ مِنَ الْمَرْعَى. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ زَلَّتْ أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْرِبِينَ رَاعَوْا فِي الْإِعْرَابِ ظَاهِرَ اللَّفْظِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مُوجِبِ الْمَعْنَى. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هُودٍ: 87]، فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ عَطْفُ أَنْ نَفْعَلَ عَلَى أَنْ نَتْرُكَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ مَا يَشَاءُونَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَطْفٌ عَلَى (مَا) فَهُوَ مَعْمُولٌ لِلتَّرْكِ، وَالْمَعْنَى أَنْ نَتْرُكَ أَنْ نَفْعَلَ، وَمُوجِبُ الْوَهْمِ الْمَذْكُور: أَنَّ الْمُعْرِبَ يَرَى أَنْ وَالْفِعْلَ مَرَّتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ. الثَّانِي: أَنْ يُرَاعِيَ مَا تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ، فَرُبَّمَا رَاعَى الْمُعْرِبُ وَجْهًا صَحِيحًا، وَلَا يَنْظُرُ فِي صِحَّتِهِ فِي الصِّنَاعَةِ فَيُخْطِئُ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النَّجْم: 51]: إِنَّ ثَمُودَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ لِـ (مَا) النَّافِيَةِ الصَّدْرُ، فَلَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى (عَادًا) أَوْ عَلَى تَقْدِير: (وَأَهْلَكَ ثَمُودَ). وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هُودٍ: 43]، {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يُوسُفَ: 92]: إِنَّ الظَّرْفَ مُتَعَلِّقٌ بَاسِمِ (لَا) وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ (لَا) حِينَئِذٍ مُطَوَّلٌ، فَيَجِبُ نَصْبُهُ وَتَنْوِينُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ. وَقَوْلُ الْحَوْفِيّ: إِنَّ الْبَاءَ مِنْ قَوْلِه: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النَّمْل: 35] مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (نَاظِرَةٌ)، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ الصَّدْرُ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ. وَكَذَا قَوْلُ غَيْرِهِ فِي: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الْأَحْزَاب: 61]: إِنَّهُ حَالٌ مِنْ مَعْمُولِ ثُقِفُوا أَوْ أُخِذُوا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَهُ الصَّدْرُ، بَلْ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُلِمًّا بِالْعَرَبِيَّةِ، لِئَلَّا يُخَرِّجَ عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ كَقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} [الْأَنْفَال: 5]: إِنَّ الْكَافَ قَسَمٌ، حَكَاهُ مَكِّيٌّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، فَشَنَّعَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ عَلَيْهِ فِي سُكُوتِهِ. وَيُبْطِلُهُ: أَنَّ الْكَافَ لَمْ تَجِئْ بِمَعْنَى وَاوِ الْقَسَمِ، وَإِطْلَاقَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ عَلَى اللَّهِ وَرَبْطَ الْمَوْصُولِ بِالظَّاهِرِ- وَهُوَ فَاعِلُ أَخْرَجَكَ- وَبَابُ ذَلِكَ الشِّعْرُ. وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي الْآيَة: إِنَّهَا مَعَ مَجْرُورِهَا خَبَرٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: هَذِهِ الْحَالُ مِنْ تَنْفِيلِكَ الْغُزَاةَ- عَلَى مَا رَأَيْتَ فِي كَرَاهَتِهِمْ لَهَا- كَحَالِ إِخْرَاجِكَ لِلْحَرْبِ فِي كَرَاهِيَتِهِمْ لَهَا. وَكَقَوْلِ ابْنِ مِهْرَانَ فِي قِرَاءَة: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَتْ) بِتَشْدِيدِ التَّاء: إِنَّهُ مِنْ زِيَادَةِ التَّاءِ فِي أَوَّلِ الْمَاضِي، وَلَا حَقِيقَةَ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَإِنَّمَا أَصْلُ الْقِرَاءَةِ (إِنَّ الْبَقَرَةَ تَشَابَهَتْ) بِتَاءِ الْوَحْدَةِ، ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي تَاءِ (تَشَابَهَتْ) فَهُوَ إِدْغَامٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَتَجَنَّبَ الْأُمُورَ الْبَعِيدَةَ، وَالْأَوْجُهَ الضَّعِيفَةَ، وَاللُّغَاتِ الشَّاذَّةَ. وَيُخَرِّجُ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْقَوِيِّ وَالْفَصِيحِ؛ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ إِلَّا الْوَجْهُ الْبَعِيدُ فَلَهُ عُذْرٌ، وَإِنْ ذَكَرَ الْجَمِيعَ لِقَصْدِ الْإِغْرَابِ وَالتَّكْثِيرِ فَصَعْبٌ شَدِيدٌ، أَوْ لِبَيَانِ الْمُحْتَمَلِ وَتَدْرِيبِ الطَّالِبِ فَحَسَنٌ فِي غَيْرِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، أَمَّا التَّنْزِيلُ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَرَّجَ إِلَّا عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إِرَادَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ شَيْءٌ فَلْيَذْكُرِ الْأَوْجُهَ الْمُحْتَمَلَةَ مِنْ غَيْرِ تَعَسُّفٍ. وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَنْ قَالَ فِي(وَقِيلِهِ) [الزُّخْرُف: 88] بِالْجَرِّ أَوِ النَّصْب: إِنَّهُ عُطِفَ عَلَى لَفْظِ السَّاعَةِ أَوْ مَحَلِّهَا، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَاعُدِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ قَسَمٌ أَوْ مَصْدَرُ (قَالَ) مُقَدَّرٌ. وَمَنْ قَالَ فِي: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} [فُصِّلَّتْ: 41]: إِنَّ خَبَرَهُ: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 44] وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ. وَمَنْ قَالَ فِي: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]: إِنَّ جَوَابَهُ {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64]. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَا الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، أَوْ: إِنَّهُ لَمُعْجِزٌ أَوْ: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}. وَمَنْ قَالَ فِي {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ} [الْبَقَرَة: 158]: إِنَّ الْوَقْفَ عَلَى جُنَاحٍ وَعَلَيْهِ إِغْرَاءٌ؛ لِأَنَّ إِغْرَاءَ الْغَائِبِ ضَعِيفٌ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي {عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} [الْأَنْعَام: 151]، فَإِنَّهُ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ إِغْرَاءَ الْمُخَاطَبِ فَصِيحٌ. وَمَنْ قَالَ فِي {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الْأَحْزَاب: 33]: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ؛ لِضَعْفِهِ بَعْدَ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ مُنَادَى. وَمَنْ قَالَ فِي: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الْأَنْعَام: 154]. بِالرَّفْعِ إِنَّ أَصْلَهُ أَحْسَنُوا، فَحُذِفَتِ الْوَاوُ اجْتِزَاءً عَنْهَا بِالضَّمَّةِ؛ لِأَنَّ بَابَ ذَلِكَ الشِّعْرُ، وَالصَّوَابُ تَقْدِيرُ مُبْتَدَإٍ؛ أَيْ: هُوَ أَحْسَنُ. وَمَنْ قَالَ فِي: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 120] بِضَمِّ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، إِنَّهُ مِنْ بَاب: إِنَّكَ إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعِ *** لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالشِّعْرِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا ضَمَّةُ إِتْبَاعٍ، وَهُوَ مَجْزُومٌ. وَمَنْ قَالَ فِي: وَأَرْجُلَكُمْ [الْمَائِدَة: 6]: إِنَّهُ مَجْرُورٌ عَلَى الْجِوَارِ؛ لِأَنَّ الْجَرَّ عَلَى الْجِوَارِ فِي نَفْسِهِ ضَعِيفٌ شَاذٌّ، لَمْ يَرِدْ مِنْهُ إِلَّا أَحْرُفٌ يَسِيرَةٌ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بِرُءُوسِكُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَسْحُ الْخُفِّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ يَكُونُ الْمَوْضِعُ لَا يَتَخَرَّجُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَرْجُوحٍ، فَلَا حَرَجَ عَلَى مُخْرِجِهِ، كَقِرَاءَةِ (نُجِّي الْمُؤْمِنِينَ) [الْأَنْبِيَاء: 88] قِيلَ: الْفِعْلُ مَاضٍ، وَيُضَعِّفُهُ إِسْكَانُ آخِرِهِ، وَإِنَابَةُ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ عَنِ الْفَاعِلِ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ بِهِ. وَقِيلَ: مُضَارِعٌ، أَصْلُهُ (نُنْجِي) بِسُكُونِ ثَانِيهٍ، وَيُضَعِّفُهُ أَنَّ النُّونَ لَا تُدْغَمُ فِي الْجِيمِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ (نُنَجِّي) بِفَتْحِ ثَانِيهِ وَتَشْدِيدِ ثَالِثِهِ، فَحُذِفَتِ النُّونُ، وَيُضَعِّفُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي التَّاءِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْأَوْجُهِ الظَّاهِرَةِ، فَتَقُولُ فِي نَحْو: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1]: يَجُوزُ كَوْنُ الْأَعْلَى صِفَةً لِلرَّبِّ وَصِفَةً لِلِاسْمِ. وَفِي نَحْو: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ} [الْبَقَرَة: 2- 3] يَجُوزُ كَوْنُ (الَّذِينَ) تَابِعًا، وَمَقْطُوعًا إِلَى النَّصْبِ بِإِضْمَارِ (أَعْنِي) أَوْ (أَمْدَحُ) وَإِلَى الرَّفْعِ بِإِضْمَارِ (هُمْ). السَّادِسُ: أَنْ يُرَاعِيَ الشُّرُوطَ الْمُخْتَلِفَةَ بِحَسَبِ الْأَبْوَابِ، وَمَتَى لَمْ يَتَأَمَّلْهَا اخْتَلَطَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابُ وَالشَّرَائِطُ. وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [النَّاس: 2- 3]: إِنَّهُمَا عَطْفُ بَيَانٍ؛ وَالصَّوَابُ: أَنَّهُمَا نَعْتَانِ، لِاشْتِرَاطِ الِاشْتِقَاقِ فِي النَّعْتِ وَالْجُمُودِ فِي عَطْفِ الْبَيَانِ. وَفِي قَوْلِهِ فِي: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64] بِنَصْبِ تَخَاصُم: إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ إِنَّمَا يُنْعَتُ بِذِي اللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ، وَالصَّوَابُ كَوْنُهُ بَدَلًا. وَفِي قَوْلِهِ فِي: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس: 66]، وَفِي: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا} [طه: 21]: إِنَّ الْمَنْصُوبَ فِيهِمَا ظَرْفٌ؛ لِأَنَّ ظَرْفَ الْمَكَانِ شَرْطُهُ الْإِبْهَامُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ عَلَى إِسْقَاطِ الْجَارِّ تَوَسُّعًا، وَهُوَ فِيهِمَا (إِلَى). وَفِي قَوْلِه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الْمَائِدَة: 117]: إِنَّ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ وَصِلَتُهَا عَطْفُ بَيَانٍ عَلَى الْهَاءِ، لِامْتِنَاعِ عَطْفِ الْبَيَانِ عَلَى الضَّمِيرِ كَنَعْتِهِ. وَهَذَا الْأَمْرُ السَّادِسُ عَدَّهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي، وَيَحْتَمِلُ دُخُولُهُ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي. السَّابِعُ: أَنْ يُرَاعِيَ فِي كُلِّ تَرْكِيبٍ مَا يُشَاكِلُهُ، فَرُبَّمَا خَرَّجَ كَلَامًا عَلَى شَيْءٍ، وَيَشْهَدُ اسْتِعْمَالٌ آخَرُ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِخِلَافِهِ. وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الْأَنْعَام: 95] إِنَّهُ عُطِفَ عَلَى {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الْأَنْعَام: 95]، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَعْطُوفًا عَلَى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الْأَنْعَام: 95]؛ لِأَنَّ عَطْفَ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ أَوْلَى، وَلَكِنَّ مَجِيءَ قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيَخْرُجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الرُّوم: 19]. بِالْفِعْلِ فِيهِمَا، يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَنْ قَالَ فِي: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2] إِنَّ الْوَقْفَ عَلَى (رَيْبَ) وَ(فِيهِ) خَبَرُ (هُدًى)، وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ السَّجْدَة: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السَّجْدَة: 2]. وَمَنْ قَالَ فِي: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لِمَنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشُّورَى: 43]: إِنَّ الرَّابِطَ الْإِشَارَةُ، وَإِنَّ الصَّابِرَ وَالْغَافِرَ جُعِلَا مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مُبَالَغَةً؛ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْإِشَارَةَ لِلصَّبْرِ وَالْغُفْرَانِ، بِدَلِيل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آلِ عِمْرَانَ: 186]، وَلَمْ يَقُلْ: (إِنَّكُمْ). وَمَنْ قَالَ فِي نَحْو: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} [الْأَنْعَام: 132]: إِنَّ الْمَجْرُورَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالصَّوَابُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَجِئْ فِي التَّنْزِيلِ مُجَرَّدًا مِنَ الْبَاءِ إِلَّا وَهُوَ مَنْصُوبٌ. وَمَنْ قَالَ فِي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخْرُف: 87]: إِنَّ الِاسْمَ الْكَرِيمَ مُبْتَدَأٌ؛ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِدَلِيل: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزُّخْرُف: 9]. تَنْبِيهٌ: وَكَذَا إِذَا جَاءَتْ قِرَاءَةٌ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِعَيْنِهِ تُسَاعِدُ أَحَدَ الْإِعْرَابَيْنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَرَجَّحَ، كَقَوْلِه: {وَلَكِنَّ الْبَرَّ مَنْ آمَنَ} [الْبَقَرَة: 177]، قِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ. وَقِيلَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ: أَنَّهُ قُرِئَ (وَلَكِنَّ الْبَارَّ). تَنْبِيهٌ: وَقَدْ يُوجَدُ مَا يُرَجِّحُ كُلًّا مِنَ الْمُحْتَمَلَاتِ، فَيُنْظَرُ فِي أَوْلَاهَا، نَحْوَ: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} [طه: 58] فَـ (مَوْعِدًا) مُحْتَمِلٌ لِلْمَصْدَرِ، وَيَشْهَدُ لَهُ: {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} [طه: 58] وَلِلزَّمَانِ، وَيَشْهَدُ لَهُ: قَالَ: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمَ الزِّينَةِ} [طه: 59] وَلِلْمَكَانِ، وَيَشْهَدُ لَهُ: {مَكَانًا سُوًى} [طه: 58]. وَإِذَا أَعْرَبَ (مَكَانًا) بَدَلًا مِنْهُ لَا ظَرْفًا لِـ (نُخْلِفُهُ) تَعَيَّنَ ذَلِكَ. الثَّامِنُ: أَنْ يُرَاعَى الرَّسْمُ. وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَنْ قَالَ فِي: سَلْسَبِيلَا [الْإِنْسَان: 18]: إِنَّهَا جُمْلَةٌ أَمْرِيَّةٌ، أَيْ: سَلْ طَرِيقًا مُوَصِّلَةً إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكُتِبَتْ مَفْصُولَةً. وَمَنْ قَالَ فِي: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]: (إِنَّهَا) إِنَّ وَاسْمُهَا، أَيْ: إِنَّ الْقِصَّةَ، وَذَانِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لَسَاحِرَانِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ- وَهُوَ بَاطِلٌ بِرَسْمِ إِنَّ مُنْفَصِلَةً، وَ(هَذَا نَصَبًا) مُتَّصِلَةً. وَمَنْ قَالَ فِي: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النِّسَاء: 18]: إِنَّ اللَّامَ لِلِابْتِدَاءِ، وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُهُ. وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الرَّسْمَ (وَلَا). وَمَنْ قَالَ فِي: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مَرْيَمَ: 69]: إِنَّ (هُمْ أَشَدُّ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَأَيُّ مَقْطُوعَةٌ عَنِ الْإِضَافَةِ. وَهُوَ بَاطِلٌ بِرَسْمِ (أَيُّهُمْ) مُتَّصِلَةً. وَمَنْ قَالَ فِي: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 3]: إِنَّ (هُمْ) ضَمِيرُ رَفْعٍ مُؤَكِّدٌ لِلْوَاوِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِرَسْمِ الْوَاوِ فِيهِمَا بِلَا أَلِفٍ بَعْدَهَا، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ. التَّاسِعُ: أَنْ يَتَأَمَّلَ عِنْدَ وُرُودِ الْمُشْتَبِهَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَنْ قَالَ فِي: {أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الْكَهْف: 12] إِنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَالْمَنْصُوبُ تَمْيِيزٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْأَمَدَ لَيْسَ مُحْصِيًا، بَلْ مُحْصًى، وَشَرْطُ التَّمْيِيزِ الْمَنْصُوبِ بَعْدَ (أَفْعَلَ) كَوْنُهُ فَاعِلًا فِي الْمَعْنَى، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ فِعْلٌ، (وَأَمَدًا) مَفْعُولٌ، مِثْلَ {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الْجِنّ: 28]. الْعَاشِرُ: أَلَّا يُخَرِّجَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، أَوْ خِلَافِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ مُقْتَضٍ، وَمِنْ ثَمَّ خُطِّئَ مَكِّيٌّ فِي قَوْلِهِ فِي: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي} [الْبَقَرَة: 264] إِنَّ الْكَافَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ: إِبْطَالًا كَإِبْطَالِ الَّذِي. وَالْوَجْهُ كَوْنُهُ حَالًا مِنَ الْوَاوِ، أَيْ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ مُشْبِهِينَ الَّذِي، فَهَذَا لَا حَذْفَ فِيهِ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْأَصْلِيِّ وَالزَّائِدِ، نَحْوَ: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [الْبَقَرَة: 237]، فَإِنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْوَاوَ فِي يَعْفُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ، فَيُشْكِلُ إِثْبَاتُ النُّونِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هِيَ فِيهِ لَامُ الْكَلِمَةِ، فَهِيَ أَصْلِيَّةٌ وَالنُّونُ ضَمِيرُ النِّسْوَةِ، وَالْفِعْلُ مَعَهَا مَبْنِيٌّ، وَوَزْنُهُ: (يَفْعُلْنَ) بِخِلَاف: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ} [الْبَقَرَة: 237] فَالْوَاوُ فِيهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ، وَلَيْسَتْ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَجْتَنِبَ إِطْلَاقَ لَفْظِ الزَّائِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الزَّائِدَ قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ، وَكِتَابُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَلِذَا فَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّعْبِيرِ بَدَلَهُ بِالتَّأْكِيدِ، وَالصِّلَةِ، وَالْمُقْحَمِ. وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّاب: اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الزَّائِدِ فِي الْقُرْآن: فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهِ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْقَوْمِ وَمُتَعَارَفِهِمْ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِزَاءِ الْحَذْفِ، هَذَا لِلِاخْتِصَارِ وَالتَّخْفِيفِ، وَهَذَا لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى ذَلِكَ وَقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمَحْمُولَةُ عَلَى الزِّيَادَةِ جَاءَتْ لِفَوَائِدَ وَمَعَانٍ تَخُصُّهَا، فَلَا أَقْضِي عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ. قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالزِّيَادَةِ إِثْبَاتُ مَعْنًى لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ عَبَثٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِلَيْنَا بِهِ حَاجَةً، لَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْأَشْيَاءِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ، فَلَيْسَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اللَّفْظِ الَّذِي عَدَّهُ هَؤُلَاءِ زِيَادَةً كَالْحَاجَةِ إِلَى اللَّفْظِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: بَلِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، بِالنَّظَرِ إِلَى مُقْتَضَى الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَانَ الْكَلَامُ دُونَهُ- مَعَ إِفَادَتِهِ أَصْلَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ- أَبْتَرَ خَالِيًا عَنِ الرَّوْنَقِ الْبَلِيغِيِّ، لَا شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْإِسْنَادِ الْبَيَانِيِّ الَّذِي خَالَطَ كَلَامَ الْفُصَحَاءِ، وَعَرَفَ مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالِهَا وَذَاقَ حَلَاوَةَ أَلْفَاظِهِمْ، وَأَمَّا النَّحْوِيُّ الْجَافِي فَعَنْ ذَلِكَ بِمُنْقَطَعِ الثَّرَى.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَدْ يَتَجَاذَبُ الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابُ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، بِأَنْ يُوجَدَ فِي الْكَلَامِ أَنَّ الْمَعْنَى يَدْعُو إِلَى أَمْرٍ وَالْإِعْرَابَ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَالْمُتَمَسَّكُ بِهِ صِحَّةُ الْمَعْنَى، وَيُئَوَّلُ لِصِحَّةِ الْمَعْنَى الْإِعْرَابُ. وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطَّارِق: 8- 9]، فَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ يَوْمٌ يَقْتَضِي الْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ (رَجْعٌ) أَيْ: أَنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَقَادِرٌ. لَكِنَّ الْإِعْرَابَ يَمْنَعُ مِنْهُ، لِعَدَمِ جَوَازِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ فَيُجْعَلُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ. وَكَذَا: {أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ} [غَافِرٍ: 10]، فَالْمَعْنَى يَقْتَضِي تَعَلُّقَ (إِنَّ) بِالْمَقْتِ. وَالْإِعْرَابُ يَمْنَعُهُ، لِلْفَصْلِ الْمَذْكُورِ، فَيُقَدَّرُ لَهُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ: هَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَهَذَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَتَفْسِيرَ الْمَعْنَى لَا تَضُرُّهُ مُخَالَفَةُ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ لَحْنِ الْقُرْآنِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النِّسَاء: 162]. وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} [الْمَائِدَة: 69]. فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أَخِي، هَذَا عَمَلُ الْكُتَّابِ، أَخْطَئُوا فِي الْكِتَابِ. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى، أَخْبَرَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: لَمَّا كُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ عُرِضَتْ عَلَى عُثْمَانَ فَوَجَدَ فِيهَا حُرُوفًا مِنَ اللَّحْنِ، فَقَالَ: لَا تُغَيِّرُوهَا؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ سَتُغَيِّرُهَا- أَوْ قَالَ: سَتُعْرِبُهَا- بِأَلْسِنَتِهَا، لَوْ كَانَ الْكَاتِبُ مِنْ ثَقِيفٍ وَالْمُمْلِي مِنْ هُذَيْلٍ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ هَذِهِ الْحُرُوفُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ وَابْنُ أُشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ. ثُمَّ أَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ نَحْوَهُ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَابْنِ أُشْتَةَ نَحْوَهُ، مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} وَيَقُولُ: هُوَ لَحْنٌ مِنَ الْكَاتِبِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ. أَوَّلًا: أَنَّهُمْ يَلْحَنُونَ فِي الْكَلَامِ فَضْلًا عَنِ الْقُرْآنِ وَهُمُ الْفُصَحَاءُ اللُّدُّ، ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ.. ثَانِيًا: فِي الْقُرْآنِ الَّذِي تَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أُنْزِلَ وَحَفِظُوهُ وَضَبَطُوهُ وَأَتْقَنُوهُ؟ ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ. ثَالِثًا: اجْتِمَاعُهُمْ كُلُّهُمْ عَلَى الْخَطَإِ وَكِتَابَتِهِ؟ ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ. رَابِعًا: عَدَمُ تَنَبُّهِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْهُ؟ ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِعُثْمَانَ أَنَّهُ يَنْهَى عَنْ تَغْيِيرِهِ؟ ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ اسْتَمَرَّتْ عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الْخَطَإِ؟ وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِالتَّوَاتُرِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ؟ هَذَا مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعَادَةً. وَقَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَنْ عُثْمَانَ؛ فَإِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ مُضْطَرِبٌ مُنْقَطِعٌ. وَلِأَنَّ عُثْمَانَ جُعِلَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ، فَكَيْفَ يَرَى فِيهِ لَحْنًا وَيَتْرُكُهُ لِتُقِيمَهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا؟ فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا جَمْعَهُ وَكِتَابَتَهُ لَمْ يُقِيمُوا ذَلِكَ وَهُمُ الْخِيَارُ، فَكَيْفَ يُقِيمُهُ غَيْرُهُمْ! وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ مُصْحَفًا وَاحِدًا، بَلْ كَتَبَ عِدَّةَ مَصَاحِفَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ اللَّحْنَ وَقَعَ فِي جَمِيعِهَا، فَبَعِيدٌ اتِّفَاقُهَا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ فِي بَعْضِهَا فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِصِحَّةِ الْبَعْضِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ اللَّحْنَ كَانَ فِي مُصْحَفٍ دُونَ مُصْحَفٍ، وَلَمْ تَأْتِ الْمَصَاحِفُ قَطُّ مُخْتَلِفَةً إِلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَحْنٍ. الثَّانِي: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ، إِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّمْزِ وَالْإِشَارَةِ وَمَوَاضِعِ الْحَذْفِ، نَحْوَ: (الْكِتَابِ)، (وَالصَّابِرِينَ) وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُئَوَّلٌ عَلَى أَشْيَاءَ خَالَفَ لَفْظُهَا رَسْمَهَا، كَمَا كَتَبُوا (وَلَا أَوْضَعُوا) وَ(لَا أَذْبَحَنَّهُ) [النَّمْل: 21] بِأَلِفٍ بَعْدَ لَا. وَ(جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [الْمَائِدَة: 29] بِوَاوٍ وَأَلِفٍ. وَ(بِأَيْدٍ) [الذَّارِيَات: 47] بِيَاءَيْنِ، فَلَوْ قُرِئَ بِظَاهِرِ الْخَطِّ لَكَانَ لَحْنًا، وَبِهَذَا الْجَوَابِ وَمَا قَبْلَهُ جَزَمَ ابْنُ أُشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ: لَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ لِأَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ، وَمَا يَشْهَدُ عَقْلٌ بِأَنَّ عُثْمَانَ وَهُوَ إِمَامُ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ إِمَامُ النَّاسِ فِي وَقْتِهِ، وَقُدْوَتُهُمْ يَجْمَعُهُمْ عَلَى الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ الْإِمَامُ فَيَتَبَيَّنُ فِيهِ خَلَلًا، وَيُشَاهِدُ فِي خَطِّهِ زَلَلًا فَلَا يُصْلِحُهُ، كَلَّا وَاللَّهِ مَا يَتَوَهَّمُ عَلَيْهِ هَذَا ذُو إِنْصَافٍ وَتَمْيِيزٍ، وَلَا يُعْتَقَدُ أَنَّهُ أَخَّرَ الْخَطَأَ فِي الْكِتَابِ لِيُصْلِحَهُ مَنْ بَعْدَهُ. وَسَبِيلُ الْجَائِينَ مِنْ بَعْدِهِ الْبِنَاءُ عَلَى رَسْمِهِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُكْمِهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عُثْمَانَ أَرَادَ بِقَوْلِه: (أَرَى فِيهِ لَحْنًا) أَرَى فِي خَطِّهِ لَحْنًا، إِذَا أَقَمْنَاهُ بِأَلْسِنَتِنَا كَانَ لَحْنُ الْخَطِّ غَيْرَ مُفْسِدٍ وَلَا مُحَرِّفٍ مِنْ جِهَةِ تَحْرِيفِ الْأَلْفَاظِ وَإِفْسَادِ الْإِعْرَابِ، فَقَدْ أَبْطَلَ وَلَمْ يُصِبْ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ مُنْبِئٌ عَنِ النُّطْقِ، فَمَنْ لَحَنَ فِي كَتْبِهِ فَهُوَ لَاحِنٌ فِي نُطْقِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عُثْمَانُ لِيُؤَخِّرَ فَسَادًا فِي هِجَاءِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ كَتْبٍ وَلَا نُطْقٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ مُوَاصِلًا لِدَرْسِ الْقُرْآنِ، مُتْقِنًا لِأَلْفَاظِهِ، مُوَافِقًا عَلَى مَا رُسِمَ فِي الْمَصَاحِفِ الْمُنْفَذَةِ إِلَى الْأَمْصَارِ وَالنَّوَاحِي. ثُمَّ أَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَارَكٍ، حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ- شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ- عَنْ هَانِئٍ الْبَرْبَرِيِّ- مَوْلَى عُثْمَانَ- قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ وَهُمْ يَعْرِضُونَ الْمَصَاحِفَ فَأَرْسَلَنِي بِكَتِفِ شَاةٍ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِيهَا: (لَمْ يَتَسَنَّ) [الْبَقَرَة: 259] وَفِيهَا (لَا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ) [الرُّوم: 30]، وَفِيهَا(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) [الطَّارِق: 17] قَالَ: فَدَعَا بِالدَّوَاةِ- فَمَحَا أَحَدَ اللَّامَيْنِ، فَكَتَبَ لِخَلْقِ اللَّهِ وَمَحَى (فَأَمْهِلْ)، وَكَتَبَ (فَمَهِّلْ) وَكَتَبَ (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أَلْحَقَ فِيهَا الْهَاءَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ: فَكَيْفَ يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ رَأَى فَسَادًا فَأَمْضَاهُ، وَهُوَ يُوقَفُ عَلَى مَا كُتِبَ وَيُرْفَعُ الْخِلَافُ إِلَيْهِ الْوَاقِعُ مِنَ النَّاسِخِينَ، لِيَحْكُمَ بِالْحَقِّ وَيُلْزِمَهُمْ إِثْبَاتُ الصَّوَابِ وَتَخْلِيدُهُ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أُشْتَةَ فِي الْمَصَاحِفِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ، عَنْ سَوَّارِ بْنِ شَبِيبٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمَصَاحِفِ، فَقَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ عُمَرُ قَدْ هَمَّ أَنْ يَجْمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ، فَطُعِنَ طَعْنَتَهُ الَّتِي مَاتَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَذَكَرَ لَهُ فَجَمَعَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ ثُمَّ بَعَثَنِي إِلَى عَائِشَةَ فَجِئْتُ بِالصُّحُفِ، فَعَرَضْنَاهَا عَلَيْهَا حَتَّى قَوَّمْنَاهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِسَائِرِهَا فَشُقِّقَتْ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ضَبَطُوهَا وَأَتْقَنُوهَا، وَلَمْ يَتْرُكُوا فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحٍ وَلَا تَقْوِيمٍ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَنْبَأَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: لَمَّا فُرِغَ مِنَ الْمُصْحَفِ أُتِيَ بِهِ عُثْمَانَ، فَنَظَرَ فِيهِ، فَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، أَرَى شَيْئًا سَنُقِيمُهُ بِأَلْسِنَتِنَا. فَهَذَا الْأَثَرُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ عَقِبَ الْفَرَاغِ مِنْ كِتَابَتِهِ، فَرَأَى فِيهِ شَيْئًا كُتِبَ عَلَى غَيْرِ لِسَانِ قُرَيْشٍ، كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي (التَّابُوةُ) وَ(التَّابُوتُ) فَوَعَدَ بِأَنَّهُ سَيُقِيمُهُ عَلَى لِسَانِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ وَفَى بِذَلِكَ عِنْدَ الْعَرْضِ وَالتَّقْوِيمِ، وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ شَيْئًا. وَلَعَلَّ مَنْ رَوَى تِلْكَ الْآثَارَ السَّابِقَةَ عَنْهُ حَرَّفَهَا، وَلَمْ يُتْقِنِ اللَّفْظَ الَّذِي صَدَرَ عَنْ عُثْمَانَ، فَلَزِمَ مِنْهُ مَا لَزِمَ مِنَ الْإِشْكَالِ؛ فَهَذَا أَقْوَى مَا يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَبَعْدُ؛ فَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ لَا يَصْلُحُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.: أَمَّا الْجَوَابُ بِالتَّضْعِيفِ فَلِأَنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِالرَّمْزِ وَمَا بَعْدَهُ، فَلِأَنَّ سُؤَالَ عُرْوَةَ عَنِ الْأَحْرُفِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُطَابِقُهُ، فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ أُشْتَةَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ جُبَارَةَ فِي شَرْحِ الرَّائِيَةِ، بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا (أَخْطَئُوا) أَيْ: فِي اخْتِيَارِ الْأَوْلَى مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لِجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ. لَا أَنَّ الَّذِي كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ خَطَأٌ لَا يَجُوزُ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَالَا يَجُوزُ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ وُقُوعِهِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَحْنٌ مِنَ الْكَاتِبِ، فَيَعْنِي: بِاللَّحْنِ الْقِرَاءَةَ وَاللُّغَةَ، يَعْنِي أَنَّهَا لُغَةُ الَّذِي كَتَبَهَا وَقِرَاءَتُهُ، وَفِيهَا قِرَاءَةٌ أُخْرَى. ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]، (إِنْ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ) سَوَاءٌ، لَعَلَّهُمْ كَتَبُوا الْأَلِفَ مَكَانَ الْيَاءِ، وَالْوَاوَ فِي قَوْلِهِ (وَالصَّابِئُونَ) مَكَانَ الْيَاءِ، قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ: يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ إِبْدَالِ حَرْفٍ فِي الْكِتَابِ بِحَرْفٍ، مِثْلَ الصَّلَوةِ وَ الزَّكَوةِ وَ الْحَيَوةِ. وَأَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ فِيهَا وَالْكِتَابَةُ بِخِلَافِهَا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى مُقْتَضَى الرَّسْمِ فَلَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْأَحْرُفِ وَوَجَّهُوهَا عَلَى أَحْسَنِ تَوْجِيهٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَارٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُجْرِي الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ فِي أَحْوَالِهِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ لِكِنَانَةَ، وَقِيلَ: لِبَنِي الْحَارِثِ. الثَّانِي: أَنَّ اسْمَ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفًا، وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، خَبَرُ إِنَّ. الثَّالِثُ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ (سَاحِرَانِ) خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَهُمَا سَاحِرَانِ. الرَّابِعُ: أَنَّ (إِنْ) هُنَا بِمَعْنَى: نَعَمْ. الْخَامِسُ: أَنَّ (هَا) ضَمِيرُ الْقِصَّةِ اسْمُ إِنَّ، وَ(ذَانِ لَسَاحِرَانِ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَتَقَدَّمَ رَدُّ هَذَا الْوَجْهِ بِانْفِصَالِ (إِنْ) وَاتِّصَالِهَا فِي الرَّسْمِ. قُلْتُ: وَظَهَرَ لِي وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْأَلِفِ لِمُنَاسَبَةِ (سَاحِرَانِ) يُرِيدَانِ كَمَا نُوِّنَ (سَلَاسِلًا) لِمُنَاسَبَةِ (وَأَغْلَالًا) [الْإِنْسَان: 4] وَ{مِنْ سَبَإٍ} لِمُنَاسَبَةِ بِنَبَإٍ [النَّمْل: 22]. وَأَمَّا قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النِّسَاء: 162] فَفِيهِ أَيْضًا أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَقْطُوعٌ إِلَى الْمَدْحِ بِتَقْدِير: (أَمْدَحُ)، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ فِي (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلُ إِلَيْكَ) أَيْ: وَيُؤْمِنُونَ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: يُؤْمِنُونَ بِدِينِ الْمُقِيمِينَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: بِإِجَابَةِ الْمُقِيمِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى (قَبْلِ) أَيْ: وَمِنْ قَبْلِ الْمُقِيمِينَ، فَحُذِفَتْ (قَبْلُ) وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ فِي (قَبْلِكُمْ). الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ فِي (إِلَيْكَ). السَّادِسُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي مِنْهُمَا. حَكَى هَذِهِ الْأَوْجُهَ أَبُو الْبَقَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَالصَّابِئُونَ) [الْمَائِدَة: 69]. فَفِيهِ أَيْضًا أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، أَيْ: وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ (إِنَّ) مَعَ اسْمِهَا، فَإِنَّ مَحَلَّهُمَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفَاعِلِ فِي هَادُوا. الرَّابِعُ: أَنَّ (إِنَّ) بِمَعْنَى نَعَمْ فَـ (الَّذِينَ آمَنُوا) وَمَا بَعْدَهُ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالصَّابِئُونَ عُطِفَ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَلَى إِجْرَاءِ صِيغَةِ الْجَمْعِ مَجْرَى الْمُفْرَدِ، وَالنُّونُ حَرْفُ الْإِعْرَابِ. حَكَى هَذِهِ الْأَوْجُهَ أَبُو الْبَقَاءِ.
تَذْنِيبٌ: يَقْرُبُ مِمَّا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ أُشْتَةَ فِي الْمَصَاحِفِ، مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي خَلَفٍ مَوْلَى بَنِي جُمَحٍ: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكِ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا؟ قَالَتْ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} [الْمُؤْمِنُونَ: 60] أَوْ (وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا). فَقَالَتْ: أَيَّتُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قُلْتُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا. قَالَتْ: أَيُّهُمَا؟ قُلْتُ: (وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا) فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا، وَكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، وَلَكِنَّ الْهِجَاءَ حُرِّفَ. وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِه: مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِه: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النُّور: 27] قَالَ: إِنَّمَا هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ (حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا) أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظِ (هُوَ)- فِيمَا أَحْسَبُ- مِمَّا أَخْطَأَتْ بِهِ الْكُتَّابُ. وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَرَأَ (أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا)، فَقِيلَ: لَهُ: إِنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ أَفَلَمْ يَيْأَسِ [الرَّعْد: 31] فَقَالَ أَظُنُّ الْكَاتِبَ كَتَبَهَا وَهُوَ نَاعِسٌ. وَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الْإِسْرَاء: 23]: إِنَّمَا هِيَ (وَوَصَّى رَبُّكَ) الْتَزَقَتِ الْوَاوُ بِالصَّادِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أُشْتَةَ، بِلَفْظ: (اسْتَمَدَّ مِدَادًا كَثِيرًا فَالْتَزَقَتِ الْوَاوُ بِالصَّادِ) وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ؟ قَالَ: وَقَضَى رَبُّكَ [الْإِسْرَاء: 23] قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ نَقْرَؤُهَا نَحْنُ، وَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا هِيَ (وَوَصَّى رَبُّكَ) وَكَذَلِكَ كَانَتْ تُقْرَأُ وَتُكْتَبُ، فَاسْتَمَدَّ كَاتِبُكُمْ، فَاحْتَمَلَ الْقَلَمُ مِدَادًا كَثِيرًا، فَالْتَصَقَتِ الْوَاوُ بِالصَّادِ؛ ثُمَّ قَرَأَ {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النِّسَاء: 131]، وَلَوْ كَانَتْ (قَضَى) مِنَ الرَّبِّ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ رَدَّ قَضَاءِ الرَّبِّ، وَلَكِنَّهُ وَصِيَّةٌ أَوْصَى بِهَا الْعِبَادَ. وَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ضِيَاءً) وَيَقُولُ: خُذُوا هَذِهِ الْوَاوَ وَاجْعَلُوهَا هُنَا: (وَالَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْزِعُوا هَذِهِ الْوَاوَ فَاجْعَلُوهَا فِي {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غَافِرٍ: 7]. وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أُشْتَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النُّور: 35] قَالَ: هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ، هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُورُهُ مِثْلَ نُورِ الْمِشْكَاةِ؛ إِنَّمَا هِيَ: (مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ). وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ أُشْتَةَ عَنْ هَذِهِ الْآثَارِ كُلِّهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْطَئُوا فِي الِاخْتِيَارِ، وَمَا هُوَ الْأَوْلَى لِجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، لَا أَنَّ الَّذِي كُتِبَ خَطَأٌ خَارِجٌ عَنِ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَمَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةَ: حُرِّفَ الْهِجَاءُ، أُلْقِيَ إِلَى الْكَاتِبِ هِجَاءٌ غَيْرُ مَا كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ. قَالَ: وَكَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (كَتَبَهَا وَهُوَ نَاعِسٌ) يَعْنِي فَلَمْ يَتَدَبَّرِ الْوَجْهَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَكَذَا سَائِرُهَا. وَأَمَّا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَإِنَّهُ جَنَحَ إِلَى تَضْعِيفِ الرِّوَايَاتِ، وَمُعَارَضَتِهَا بِرِوَايَاتٍ أُخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، بِثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَقْعَدُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالُوا لِزَيْدٍ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَوَهِمْتَ! إِنَّمَا هِيَ: (ثَمَانِيَةُ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ) فَقَالَ:؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الْقِيَامَة: 39] فَهُمَا زَوْجَانِ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ: الذَّكَرُ زَوْجٌ، وَالْأُنْثَى زَوْجٌ. قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ: فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ يَتَخَيَّرُونَ أَجْمَعَ الْحُرُوفِ لِلْمَعَانِي وَأَسْلَسَهَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَأَقْرَبَهَا فِي الْمَأْخَذِ، وَأَشْهَرَهَا عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْكِتَابَةِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَنَّ الْأُخْرَى كَانَتْ قِرَاءَةً مَعْرُوفَةً عِنْدَ كُلِّهِمْ، وَكَذَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. انْتَهَى.
فَائِدَةٌ: فِيمَا قُرِئَ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْإِعْرَابِ، أَوِ الْبِنَاءِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قَدْ رَأَيْتُ تَأْلِيفًا لَطِيفًا لِأَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مَالِكٍ الرُّعَيْنِيِّ، سَمَّاهُ تُحْفَةَ الْأَقْرَانِ فِيمَا قُرِئَ بِالتَّثْلِيثِ مِنْ حُرُوفِ الْقُرْآنِ. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الْفَاتِحَة: 2] قُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْكَسْرِ عَلَى إِتْبَاعِ الدَّالِ اللَّامَ فِي حَرَكَتِهَا. {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الْفَاتِحَة: 2] قُرِئَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ بِإِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ، وَبِالنَّصْبِ عَلَيْهِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَوْ عَلَى النِّدَاءِ. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الْفَاتِحَة: 3] قُرِئَ بِالثَّلَاثَةِ. {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الْبَقَرَة: 60] قُرِئَ بِسُكُونِ الشِّينِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَكَسْرِهَا وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ بَلِيٍّ. {بَيْنَ الْمَرْءِ} [الْأَنْفَال: 24] قُرِئَ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ، لُغَاتٌ فِيهِ. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [الْبَقَرَة: 258] قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقُرِئَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، بِوَزْنِ ضَرَبَ وَعَلِمَ وَحَسُنَ. {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 34] قُرِئَ بِتَثْلِيثِ الذَّالِ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النِّسَاء: 1] قُرِئَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَبِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرٍ بِهِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَالْأَرْحَامُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ تَتَّقُوهُ وَأَنْ تَحْتَاطُوا لِأَنْفُسِكُمْ فِيهِ. {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النِّسَاء: 95] قُرِئَ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِـ (الْقَاعِدُونَ) وَبِالْجَرِّ صِفَةً لِـ (الْمُؤْمِنِينَ) وَبِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [الْمَائِدَة: 6]، قُرِئَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْأَيْدِي، وَبِالْجَرِّ عَلَى الْجِوَارِ أَوْ غَيْرِهِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [الْمَائِدَة: 95] قُرِئَ بِجَرِّ (مِثْلُ) بِإِضَافَةِ (جَزَاءٌ) إِلَيْهِ، وَبِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِ (مِثْلُ) صِفَةً لَهُ، وَبِنَصْبِهِ مَفْعُولٌ بِـ (جَزَاءٌ). {وَاللَّهِ رَبِّنَا} [الْأَنْعَام: 23] قُرِئَ بِجَرِّ رَبِّنَا نَعْتًا أَوْ بَدَلًا، وَبِنَصْبِهِ عَلَى النِّدَاءِ أَوْ بِإِضْمَارِ أَمْدَحُ، وَبِرَفْعِهِ وَرَفْعِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الْأَعْرَاف: 127]. قُرِئَ بِرَفْعِ (يَذَرَكَ) وَنَصْبِهِ وَجَزْمِهِ لِلْخِفَّةِ. {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يُونُسَ: 71]. قُرِئَ بِنَصْبِ (شُرَكَاءَكُمْ) مَفْعُولًا مَعَهُ، أَوْ مَعْطُوفًا، أَوْ بِتَقْدِيرِ (وَادْعُوا) وَبِرَفْعِهِ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ (فَأَجْمِعُوا) أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَبِجَرِّهِ عَطْفًا عَلَى (كُمْ) فِي (أَمْرَكُمْ). {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} [يُوسُفَ: 105] قُرِئَ بِجَرِّ (وَالْأَرْضِ) عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَبِنَصْبِهَا مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. وَبِرَفْعِهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهَا (مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) [طه: 87] قُرِئَ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ. {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الْأَنْبِيَاء: 95] قُرِئَ بِلَفْظِ الْمَاضِي بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا، وَبِلَفْظِ الْوَصْفِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا مَعَ فَتْحِ الْحَاءِ، وَبِسُكُونِهَا مَعَ كَسْرِ الْحَاءِ (وَحَرَامٌ) بِالْفَتْحِ وَأَلِفٍ، فَهَذِهِ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ. {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النُّور: 35] قُرِئَ بِتَثْلِيثِ الدَّالِ. {يس} [يس: 1] الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِسُكُونِ النُّونِ، وَقُرِئَ شَاذًّا بِالْفَتْحِ لِلْخِفَّةِ، وَالْكَسْرِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبِالضَّمِّ عَلَى النِّدَاءِ. {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فُصِّلَتْ: 10]، قُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَشَاذًّا بِالرَّفْعِ، أَيْ: هُوَ، وَبِالْجَرِّ حَمْلًا عَلَى (الْأَيَّامِ). {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] قُرِئَ بِنَصْبِ (حِينَ) وَرَفْعِهِ وَجَرِّهِ. {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} [الزُّخْرُف: 88]. قُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَبِالْجَرِّ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَشَاذًّا بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ [الزُّخْرُف: 85]. {ق} [ق: 1] الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالسُّكُونِ، وَقُرِئَ شَاذًّا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ لِمَا مَرَّ أَيْ: لِلْخِفَّةِ وَلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. {الْحُبُكِ} [الذَّارِيَات: 7] فِيهِ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ: ضَمُّ الْحَاءِ وَالْبَاءِ، وَكَسْرُهُمَا وَفَتْحُهُمَا، وَضَمُّ الْحَاءِ وَسُكُونُ الْبَاءِ، وَضَمُّهَا وَفَتْحُ الْبَاءِ، وَكَسْرُهَا وَسُكُونُ الْبَاءِ، وَكَسْرُهَا وَضَمُّ الْبَاءِ. {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرَّحْمَن: 12] قُرِئَ بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ وَنَصْبِهَا وَجَرِّهَا. {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ} [الْوَاقِعَة: 22- 23] قُرِئَ بِرَفْعِهِمَا وَجَرِّهِمَا، وَنَصْبِهِمَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: وَيُزَوَّجُونَ. فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى كَثْرَةِ مَنْصُوبَاتِهِ مَفْعُولٌ مَعَهُ. قُلْتُ: فِي الْقُرْآنِ عِدَّةُ مَوَاضِعَ أُعْرِبَ كُلٌّ مِنْهَا مَفْعُولًا مَعَهُ: أَحَدُهَا:- وَهُوَ أَشْهَرُهَا- قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يُونُسَ: 71] أَيْ: أَجْمِعُوا أَنْتُمْ مَعَ شُرَكَائِكُمْ أَمْرَكُمْ؛ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التَّحْرِيم: 6] قَالَ: الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِ التَّفْسِير: هُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ، أَيْ: مَعَ أَهْلِيكُمْ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [الْبَيِّنَة: 1] قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (وَالْمُشْرِكِينَ) مَفْعُولًا مَعَهُ مِنَ (الَّذِينَ) أَوْ مِنَ الْوَاوِ فِي كَفَرُوا.
أَلَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي بَيَانِ الضَّمَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ مُجَلَّدَيْنِ، وَأَصْلُ وَضْعِ الضَّمِيرِ لِلِاخْتِصَارِ، وَلِهَذَا قَامَ قَوْلُهُ: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَاب: 35] مَقَامَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ كَلِمَةً لَوْ أَتَى بِهَا مُظْهَرَةً. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النُّور: 31] قَالَ: مَكِّيٌّ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى ضَمَائِرَ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنَّ فِيهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ضَمِيرًا. وَمِنْ ثَمَّ لَا يُعْدَلُ إِلَى الْمُنْفَصِلِ إِلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ الْمُتَّصِلِ، بِأَنْ يَقَعَ فِي الِابْتِدَاءِ، نَحْوَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَة: 5]، أَوْ بَعْدَ (أَلَّا) نَحْوَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الْإِسْرَاء: 23]. مَرْجِعُ الضَّمِيرِ أَيْ فِي الْقُرْآن: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَرْجِعٍ يَعُودُ إِلَيْه: وَيَكُونُ مَلْفُوظًا بِهِ سَابِقًا مُطَابِقًا بِه: نَحْوَ: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هُودٍ: 42]. {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121]. {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النُّور: 40]. أَوْ مُتَضَمِّنًا لَهُ: نَحْوَ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} [الْمَائِدَة: 8] فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَدْلِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ (اعْدِلُوا). {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النِّسَاء: 8] أَيْ: الْمَقْسُومَ، لِدَلَالَةِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ. أَوْ دَالًّا عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ نَحْوَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [الْقَدْر: 1] أَي: الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْتِزَامًا {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 178] فَـ (عُفِيَ) يَسْتَلْزِمُ عَافِيًا أُعِيدَ عَلَيْهِ الْهَاءُ مِنْ (إِلَيْهِ). أَوْ مُتَأَخِّرًا لَفْظًا لَا رُتْبَةً مُطَابِقًا نَحْوَ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]، {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الْقَصَص: 78]، {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرَّحْمَن: 39]. أَوْ رُتْبَةً أَيْضًا فِي بَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ وَنِعْمَ وَبِئْسَ وَالتَّنَازُعِ. أَوْ مُتَأَخِّرًا دَالًّا بِالِالْتِزَامِ نَحْوَ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الْوَاقِعَة: 83]. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [الْقِيَامَة: 26]. أَضْمَرَ الرُّوحَ أَوِ النَّفْسَ لِدَلَالَةِ الْحُلْقُومِ وَالتَّرَاقِي عَلَيْهَا.} حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] أَي: الشَّمْسُ، لِدَلَالَةِ الْحِجَابِ عَلَيْهَا. وَقَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَيُضْمَرُ: ثِقَةً بِفَهْمِ السَّامِعِ، نَحْوَ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرَّحْمَن: 26]. {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} [فَاطِرٍ: 45] أَي: الْأَرْضِ أَوِ الدُّنْيَا. (وَلِأَبَوَيْهِ) [النِّسَاء: 11] أَي: الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ. وَقَدْ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ الْمَذْكُورِ دُونَ مَعْنَاهُ: نَحْوَ: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فَاطِرٍ: 11] أَيْ: عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ. وَقَدْ يَعُودُ عَلَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ نَحْوَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّسَاء: 11] إِلَى قَوْلِه: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} [النِّسَاء: 11]. {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [الْبَقَرَة: 228]. بَعْدَ قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} [الْبَقَرَة: 228] فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالرَّجْعِيَّاتِ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ عَامٌّ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ. وَقَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَعْنَى: كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْكَلَالَة: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النِّسَاء: 176]، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظٌ مُثَنًّى يَعُودُ عَلَيْهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: لِأَنَّ الْكَلَالَةَ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، فَثُنِّىَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَيْهَا حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ جَمْعًا عَلَى (مَنْ) حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا. وَقَدْ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ شَيْءٍ: وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِه: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النِّسَاء: 135] أَيْ: بِجِنْسَيِ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، لِدَلَالَةِ {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} عَلَى الْجِنْسَيْنِ، وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ لَوَحَّدَهُ. وَقَدْ يُذْكَرُ شَيْئَانِ وَيُعَادُ الضَّمِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا،: وَالْغَالِبُ كَوْنُهُ الثَّانِيَ نَحْوَ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [الْبَقَرَة: 45]. فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ لِلصَّلَاةِ. وَقِيلَ: لِلِاسْتِعَانَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنِ {اسْتَعِينُوا}. {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} [يُونُسَ: 5]. أَي: الْقَمَرَ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ الشُّهُورُ. {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التَّوْبَة: 62] أَرَادَ (يُرْضُوهُمَا) فَأَفْرَدَ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ دَاعِي الْعِبَادِ وَالْمُخَاطِبُ لَهُمْ شِفَاهًا، وَيَلْزَمُ مِنْ رِضَاهُ رِضَا رَبِّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يُثَنَّى الضَّمِيرُ وَيَعُودُ عَلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْن: نَحْوَ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَن: 22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَقَدْ يَجِيءُ الضَّمِيرُ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ وَهُوَ لِغَيْرِه: نَحْوَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [الْمُؤْمِنُونَ: 12- 13] يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} [الْمُؤْمِنُونَ: 12- 13] فَهَذِهِ لِوَلَدِهِ؛ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ نُطْفَةٍ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ، وَمِنْهُ: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {قَدْ سَأَلَهَا} [الْمَائِدَة: 101- 102]، أَيْ: أَشْيَاءَ أُخَرَ مَفْهُومَةً مِنْ لَفْظِ (أَشْيَاءَ) السَّابِقَةِ. وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى مُلَابِسِ مَا هُوَ لَهُ: نَحْوَ: {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النَّازِعَات: 46] أَيْ: ضُحَى يَوْمِهَا، لَا ضُحَى الْعَشِيَّةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضُحَى لَهَا. وَقَدْ يَعُودُ عَلَى غَيْرِ مُشَاهَدٍ مَحْسُوسٍ، وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ، نَحْوَ: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [الْبَقَرَة: 117]، فَضَمِيرُ (لَهُ) عَائِدٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَابِقًا فِي عِلْمِ اللَّهِ كَوْنُهُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدِ الْمَوْجُودِ.
الْأَصْلُ عَوْدُهُ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ أَيِ الضَّمِيرُ، وَمِنْ ثَمَّ أُخِّرَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [الْأَنْعَام: 112]؛ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ لِقُرْبِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا وَمُضَافًا إِلَيْهِ فَالْأَصْلُ عَوْدُهُ لِلْمُضَافِ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَدِّثُ عَنْهُ، نَحْوَ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إِبْرَاهِيمَ: 4]. وَقَدْ يَعُودُ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، نَحْوَ: {إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غَافِرٍ: 37]. وَاخْتُلِفَ فِي {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الْأَنْعَام: 145]، فَمِنْهُمْ مَنْ أَعَادَهُ عَلَى الْمُضَافِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعَادَهُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
الْأَصْلُ تَوَافُقُ الضَّمَائِرِ فِي الْمَرْجِعِ حَذَرًا مِنَ التَّشْتِيتِ، وَلِهَذَا لَمَّا جَوَّزَ بَعْضُهُمْ فِي: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه: 39] أَنَّ الضَّمِيرَ فِي الثَّانِي: لِلتَّابُوتِ، وَفِي الْأَوَّل: لِمُوسَى عَابَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَعَلَهُ تَنَافُرًا مُخْرِجًا لِلْقُرْآنِ عَنْ إِعْجَازِهِ، فَقَالَ: وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى، وَرُجُوعُ بَعْضِهَا إِلَيْهِ وَبَعْضُهَا إِلَى التَّابُوتِ فِيهِ هُجْنَةٌ؛ لِمَا تُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ تَنَافُرِ النَّظْمِ الَّذِي هُوَ أُمُّ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَمُرَاعَاتُهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ. وَقَالَ فِي: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الْفَتْح: 9] الضَّمَائِرُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِتَعْزِيرِهِ تَعْزِيرُ دِينِهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ فَرَّقَ الضَّمَائِرَ فَقَدْ أَبْعَدَ. وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ تَوَافُقُ الضَّمَائِرِ فِي الْمَرْجِعِ، كَمَا فِي قوله: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الْكَهْف: 22] فَإِنَّ ضَمِيرَ (فِيهِمْ) لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَ(مِنْهُمْ) لِلْيَهُودِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ. وَمِثْلِه: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} [هُودٍ: 77] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَاءَ ظَنًّا بِقَوْمِهِ وَضَاقَ ذَرْعًا بِأَضْيَافِهِ. وَقوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 40]، فِيهَا اثْنَا عَشَرَ ضَمِيرًا كُلُّهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا ضَمِيرَ (عَلَيْهِ) فَلِصَاحِبِهِ، كَمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَنْزِلْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَضَمِيرُ(جَعَلَ) لَهُ تَعَالَى. وَقَدْ يُخَالَفُ بَيْنَ الضَّمَائِرِ حَذَرًا مِنَ التَّنَافُرِ نَحْوَ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التَّوْبَة: 36] الضَّمِيرُ لِلِاثْنَيْ عَشْرَ، ثُمَّ قَالَ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} [التَّوْبَة: 36] أَتَى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مُخَالِفًا لِعَوْدِهِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ. ضَمِيرُ الْفَصْل: ضَمِيرٌ بِصِيغَةِ الْمَرْفُوعِ مُطَابِقٌ لِمَا قَبْلَهُ، تَكَلُّمًا وَخِطَابًا وَغَيْبَةً، إِفْرَادًا وَغَيْرَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ مُبْتَدَإٍ أَوْ مَا أَصْلُهُ الْمُبْتَدَأُ وَقَبْلَ خَبَرٍ كَذَلِكَ، نَحْوَ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَة: 5]، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصَّافَّات: 165]، {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [الْمَائِدَة: 117]، {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} [الْمُزَّمِّل: 20]، {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا} [الْكَهْف: 39]، {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هُودٍ: 78]. وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ وُقُوعَهُ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحَبِهَا، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ (هُنَّ أَطْهَرَ) بِالنَّصْبِ. وَجَوَّزَ الْجُرْجَانِيُّ وُقُوعَهُ قَبْلَ مُضَارِعٍ، وَجَعَلَ مِنْهُ: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [الْبُرُوج: 13]، وَجَعَلَ مِنْهُ أَبُو الْبَقَاءِ {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فَاطِرٍ: 10]. وَلَا مَحَلَّ لِضَمِيرِ الْفَصْلِ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَهُ ثَلَاثُ فَوَائِدَ: الْإِعْلَامُ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ خَبَرٌ لَا تَابِعٌ. وَالتَّأْكِيدُ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ الْكُوفِيُّونَ دِعَامَةً لِأَنَّهُ يُدْعَمُ بِهِ الْكَلَامُ أَيْ: يُقَوَّى وَيُؤَكَّدُ، وَبَنَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ نَفْسُهُ هُوَ الْفَاضِلُ. وَالِاخْتِصَاصُ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الثَّلَاثَةَ فِي {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَة: 5]، فَقَالَ: فَائِدَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ خَبَرٌ لَا صِفَةٌ، وَالتَّوْكِيدُ، وَإِيجَابُ أَنَّ فَائِدَةَ الْمُسْنَدِ ثَابِتَةٌ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْقِصَّة: وَيُسَمَّى ضَمِيرَ الْمَجْهُولِ، قَالَ فِي الْمُغْنِي: خَالَفَ الْقِيَاسَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: عَوْدُهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ لُزُومًا، إِذْ لَا يَجُوزُ لِلْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ لَهُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ مُفَسِّرَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُتْبَعُ بِتَابِعٍ، فَلَا يُؤَكَّدُ وَلَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَلَا يُبْدَلُ مِنْهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا الِابْتِدَاءُ أَوْ نَاسِخُهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلْإِفْرَادِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاص: 1]، {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الْأَنْبِيَاء: 97]. {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الْحَجّ: 46]. وَفَائِدَتُهُ: الدَّلَالَةُ عَلَى تَعْظِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَتَفْخِيمِهِ، بِأَنْ يُذْكَرَ أَوَّلًا مُبْهَمًا، ثُمَّ يُفَسَّرُ. تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مَتَى أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى غَيْرِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ ضَعُفَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} [الْأَعْرَاف: 27] إِنَّ اسْمَ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْأَوْلَى كَوْنُهُ ضَمِيرَ الشَّيْطَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ (وَقَبِيلَهُ) [الْأَعْرَاف: 27] بِالنَّصْبِ، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ.
جَمْعُ الْعَلَاقَاتِ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ غَالِبًا إِلَّا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ؛ سَوَاءٌ كَانَ لِلْقِلَّةِ أَوْ لِلْكَثْرَةِ، نَحْوَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [الْبَقَرَة: 33]، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228]. وَوَرَدَ الْإِفْرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [الْبَقَرَة: 25] وَلَمْ يَقُلْ (مُطَهَّرَاتٌ). وَأَمَّا غَيْرُ الْعَاقِل: فَالْغَالِبُ فِي جَمْعِ الْكَثْرَةِ الْإِفْرَادُ، وَفِي الْقِلَّةِ الْجَمْعُ. وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} إِلَى أَنْ قَالَ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فَأَعَادَ (مِنْهَا) بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى الشُّهُورِ وَهِيَ لِلْكَثْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} [التَّوْبَة: 36] فَأَعَادَهُ جَمْعًا عَلَى أَرْبَعَةٍ حُرُمٍ وَهِيَ الْقِلَّةُ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ سِرًّا لَطِيفًا؛ وَهُوَ: أَنَّ الْمُمَيَّزَ مَعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ- هُوَ مَا زَادَ عَلَى الْعَشْرَةِ- لَمَّا كَانَ وَاحِدًا وُحِّدَ الضَّمِيرُ، وَمَعَ الْقِلَّةِ- وَهُوَ الْعَشْرَةُ فَمَا دُونَهَا- لَمَّا كَانَ جَمْعًا جُمِعَ الضَّمِيرُ.
إِذَا اجْتَمَعَ فِي الضَّمَائِرِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بُدِئَ بِاللَّفْظِ ثُمَّ بِالْمَعْنَى، هَذَا هُوَ الْجَادَّةُ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) ثُمَّ قَالَ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَة: 8] أَفْرَدَ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ ثُمَّ جَمَعَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى. وَكَذَا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الْأَنْعَام: 25]. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التَّوْبَة: 49]. قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ: وَلَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ الْبَدَاءَةُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الْأَنْعَام: 139] فَأَنَّثَ (خَالِصًا) حَمْلًا عَلَى مَعْنَى (مَا) ثُمَّ رَاعَى اللَّفْظَ، فَذَكَّرَ فَقَالَ: (مُحَرَّمٌ). انْتَهَى. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيه: إِذَا حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ جَازَ الْحَمْلُ بَعْدَهُ عَلَى الْمَعْنَى، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى ضَعُفَ الْحَمْلُ بَعْدَهُ عَلَى اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَقْوَى، فَلَا يَبْعُدُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ بَعْدَ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَيَضْعُفُ بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْقَوِيِّ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَضْعَفِ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي الْمُحْتَسَبِ لَا يَجُوزُ مُرَاجَعَةُ اللَّفْظِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُ إِلَى الْمَعْنَى، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ثُمَّ قَالَ} حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزُّخْرُف: 36- 38] فَقَدَ رَاجَعَ اللَّفْظَ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ إِلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ مَحْمُودُ بْنُ حَمْزَةَ فِي كِتَابِ الْعَجَائِبِ: ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى اللَّفْظِ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطَّلَاق: 11]، قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ (لَيْسَ): الْقَاعِدَةُ فِي (مَنْ) وَنَحْوِهِ الرُّجُوعُ مِنَ اللَّفْظِ إِلَى الْمَعْنَى، وَمِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ، وَمِنَ الْمُذَكَّرِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ، نَحْوَ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الْأَحْزَاب: 31]. {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} إِلَى قَوْلِه: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [الْبَقَرَة: 112]، أَجْمَعَ عَلَى هَذَا النَّحْوِيُّونَ. قَالَ: وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الرُّجُوعُ مِنَ الْمَعْنَى إِلَى اللَّفْظِ إِلَّا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ اسْتَخْرَجَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ} الْآيَةَ [الطَّلَاق: 11]، وَحَّدَ فِي (يُؤْمِنْ) وَ(يَعْمَلْ) وَ(يُدْخِلْهُ)، ثُمَّ جَمَعَ فِي قَوْلِه: (خَالِدِينَ) ثُمَّ وَحَّدَ فِي قَوْلِه: {أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطَّلَاق: 11] فَرَجَعَ بَعْدَ الْجَمْعِ إِلَى التَّوْحِيدِ.
التَّأْنِيثُ ضَرْبَان: حَقِيقِيٌّ وَغَيْرُهُ: فَالْحَقِيقِيُّ: لَا تُحْذَفُ تَاءُ التَّأْنِيثِ مِنْ فِعْلِهِ غَالِبًا؛ إِلَّا إِنْ وَقَعَ فَصْلٌ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْفَصْلُ حَسُنَ الْحَذْفُ، وَالْإِثْبَاتُ مَعَ الْحَقِيقِيِّ أَوْلَى، مَا لَمْ يَكُنْ جَمْعًا. وَأَمَّا غَيْرُ الْحَقِيقِيّ: فَالْحَذْفُ فِيهِ مَعَ الْفَصْلِ أَحْسَنُ، نَحْوَ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الْبَقَرَة: 275]، {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 13] فَإِنْ كَثُرَ الْفَصْلُ ازْدَادَ حُسْنًا، نَحْوَ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هُودٍ: 67] وَالْإِثْبَاتُ أَيْضًا حَسُنَ نَحْوَ: (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هُودٍ: 94] فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَذْفِ. وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. وَيَجُوزُ الْحَذْفُ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ الْفَصْلِ حَيْثُ الْإِسْنَادُ إِلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ كَانَ إِلَى ضَمِيرِهِ امْتَنَعَ. وَحَيْثُ وَقَعَ ضَمِيرٌ أَوْ إِشَارَةٌ بَيْنَ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ، أَحَدُهُمَا مُذَكَّرٌ وَالْآخَرُ مُؤَنَّثٌ، جَازَ فِي الضَّمِيرِ وَالْإِشَارَةِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الْكَهْف: 98]. فَذُكِّرَ وَالْخَبَرُ مُؤَنَّثٌ، لِتَقَدُّمِ الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [الْقَصَص: 32] ذُكِّرَ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ الْيَدُ وَالْعَصَا، وَهُمَا مُؤَنَّثَانِ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ بُرْهَانَانِ. وَكُلُّ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَجُوزُ فِيهَا التَّذْكِيرُ حَمْلًا عَلَى الْجِنْسِ، وَالتَّأْنِيثُ حَمْلًا عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الْحَاقَّة: 7]، {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [الْقَمَر: 20]. {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [الْبَقَرَة: 70] وَقُرِئَ: (تَشَابَهَتْ). {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [الْمُزَّمِّل: 18]. {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الِانْفِطَار: 1]. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يُونُسَ: 22]. {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الْأَنْبِيَاء: 81]. وَقَدْ سُئِلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النَّحْل: 36]. وَقوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الْأَعْرَاف: 30]. وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِوَجْهَيْن: لَفْظِيٌّ: وَهُوَ كَثْرَةُ حُرُوفِ الْفَاصِلِ فِي الثَّانِي، وَالْحَذْفُ مَعَ كَثْرَةِ الْحَوَاجِزِ أَكْثَرُ. وَمَعْنَوِيٌّ: وَهُوَ أَنَّ (مَنْ) فِي قوله: {مَنْ حَقَّتْ} رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا، بِدَلِيل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النَّحْل: 36] أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَلَوْ قَالَ: (ضَلَّتْ) لَتَعَيَّنَتِ التَّاءُ، وَالْكَلَامَانِ وَاحِدٌ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا كَانَ إِثْبَاتُ التَّاءِ أَحْسَنَ مِنْ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِيمَا هُوَ مِنْ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا (فَرِيقًا هَدَى). الْآيَةَ، فَالْفَرِيقُ يُذَكَّرُ، وَلَوْ قَالَ (فَرِيقٌ ضَلُّوا) لَكَانَ بِغَيْرِ تَاءٍ. وَقَوْلُهُ: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) فِي مَعْنَاهُ فَجَاءَ بِغَيْرِ تَاءٍ وَهَذَا أُسْلُوبٌ لَطِيفٌ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ أَنْ يَدَعُوا حُكْمَ اللَّفْظِ الْوَاجِبَ فِي قِيَاسِ لُغَتِهِمْ- إِذَا كَانَ فِي مَرْتَبَةِ كَلِمَةٍ لَا يَجِبُ لَهَا ذَلِكَ الْحُكْمُ.
اعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامًا لَا يَلِيقُ بِالْآخَر: أَمَّا التَّنْكِيرُ فَلَهُ أَسْبَابٌ: أَحَدُهَا: إِرَادَةُ الْوَحْدَةِ نَحْوَ: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [الْقَصَص: 20] أَيْ: رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَ{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزُّمَر: 29]. الثَّانِي: إِرَادَةُ النَّوْعِ نَحْوَ: {هَذَا ذِكْرُ} [ص: 49] أَيْ: نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [الْبَقَرَة: 7] أَيْ: نَوْعٌ غَرِيبٌ مِنَ الْغِشَاوَةِ لَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، بِحَيْثُ غَطَّى مَا لَا يُغَطِّيهِ شَيْءٌ مِنَ الْغِشَاوَاتِ. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [الْبَقَرَة: 96] أَيْ: نَوْعٍ مِنْهَا، وَهُوَ الِازْدِيَادُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْحِرْصَ لَا يَكُونُ عَلَى الْمَاضِي وَلَا عَلَى الْحَاضِرِ. وَيَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ وَالنَّوْعِيَّةَ مَعًا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النُّور: 45] أَيْ: كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَاءِ، وَكُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الدَّوَابِّ مِنْ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النُّطَفِ. الثَّالِثُ: التَّعْظِيمُ: بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَيَّنَ وَيُعْرَفَ، نَحْوَ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} [الْبَقَرَة: 279] أَيْ: بِحَرْبٍ أَيِّ حَرْبٍ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الْبَقَرَة: 10]. {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مَرْيَمَ: 15]، {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصَّافَّات: 109]. {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [الْبَقَرَة: 25]. الرَّابِعُ: التَّكْثِيرُ نَحْوَ: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الشُّعَرَاء: 41] أَيْ: وَافِرًا جَزِيلًا. وَيَحْتَمِلُ التَّعْظِيمَ وَالتَّكْثِيرَ مَعًا، نَحْوَ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [فَاطِرٍ: 4] أَيْ: رُسُلٌ عِظَامٌ ذَوُو عَدَدٍ كَثِيرٍ. الْخَامِسُ: التَّحْقِيرُ: بِمَعْنَى انْحِطَاطِ شَأْنِهِ إِلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَرَّفَ، نَحْوَ: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} [الْجَاثِيَة: 32] أَيْ: ظَنًّا حَقِيرًا لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَإِلَّا لَاتَّبَعُوهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُهُمْ، بِدَلِيل: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الْأَنْعَام: 116]. {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عَبَسَ: 18] أَيْ: مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ مَهِينٍ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِه: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} [عَبَسَ: 19]. السَّادِسُ: التَّقْلِيلُ نَحْوَ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التَّوْبَة: 72] أَيْ: رِضْوَانٌ قَلِيلٌ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ. قَلِيلٌ مِنْكَ يَكْفِينِي وَلَكِنْ *** قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الْإِسْرَاء: 1] أَيْ: لَيْلًا قَلِيلًا، أَيْ: بَعْضَ لَيْلٍ. وَأُورِدَ عَلَيْه: أَنَّ التَّقْلِيلَ رَدُّ الْجِنْسِ إِلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، لَا تَنْقِيصُ فَرْدٍ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَأَجَابَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّيْلَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ اللَّيْلَةِ، بَلْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا يُسَمَّى لَيْلًا. وَعَدَّ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الْأَسْبَاب: أَلَّا يُعْرَفَ مِنْ حَقِيقَتِهِ إِلَّا ذَلِكَ، وَجَعَلَ مِنْهُ أَنْ تَقْصِدَ التَّجَاهُلَ، وَأَنَّكَ لَا تُعَرِّفُ شَخْصَهُ، كَقَوْلِكَ: هَلْ لَكَ فِي حَيَوَانٍ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ يَقُولُ: كَذَا؟ وَعَلَيْهِ مِنْ تَجَاهُلِ الْكُفَّار: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} [سَبَإٍ: 7] كَأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ. وَعَدَّ غَيْرُهُ مِنْهَا قَصْدَ الْعُمُومِ، بِأَنْ كَانَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، نَحْوَ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2] فَلَا رَفَثَ الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 197]. أَوِ الشَّرْطِ، نَحْوَ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التَّوْبَة: 6]. أَوِ الِامْتِنَانِ، نَحْوَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الْفُرْقَان: 48]. وَأَمَّا التَّعْرِيفُ فَلَهُ أَسْبَابٌ: فَبِالْإِضْمَار: لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ.: وَبِالْعَلَمِيَّة: لِإِحْضَارِهِ بِعَيْنِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ ابْتِدَاءً بِاسْمٍ مُخْتَصٍّ بِهِ، نَحْوَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الْإِخْلَاص: 1]. {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الْفَتْح: 29]. أَوْ لِتَعْظِيمٍ أَوْ إِهَانَةٍ، حَيْثُ عِلْمُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَمِنَ التَّعْظِيم: ذِكْرُ يَعْقُوبَ بِلَقَبِهِ إِسْرَائِيلَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ بِكَوْنِهِ صَفْوَةَ اللَّهِ، أَوْ سَرِيَّ اللَّهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي مَعْنَاهُ فِي الْأَلْقَابِ. وَمِنَ الْإِهَانَةِ قَوْلُهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [الْمَسَد: 1] وَفِيهِ أَيْضًا نُكْتَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْكِنَايَةُ عَنْ كَوْنِهِ جَهَنَّمِيًّا. وَبِالْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ بِإِحْضَارِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ حِسًّا، نَحْوَ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لُقْمَانَ: 11]. وَلِلتَّعْرِيضِ بِغَبَاوَةِ السَّامِع: حَتَّى أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لَهُ الشَّيْءُ إِلَّا بِإِشَارَةِ الْحَسِّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ. وَلِبَيَانِ حَالِهِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، فَيُؤْتَى فِي الْأَوَّل: بِنَحْو: هَذَا، وَفِي الثَّانِي: بِنَحْو: ذَلِكَ وَأُولَئِكَ. وَلِقَصْدِ تَحْقِيرِهِ بِالْقُرْبِ، كَقَوْلِ الْكُفَّارِ {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الْأَنْبِيَاء: 36]، {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الْفُرْقَان: 41]، {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [الْبَقَرَة: 26] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [الْعَنْكَبُوت: 64]. وَلِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ بِالْبُعْدِ، نَحْوَ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2] ذَهَابًا إِلَى بُعْدِ دَرَجَتِهِ. وَلِلتَّنْبِيهِ- بَعْدَ ذِكْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِأَوْصَافٍ قَبْلَهُ- عَلَى أَنَّهُ جَدِيرٌ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِهَا، نَحْوَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَة: 5]. وَبِالْمَوْصُولِيَّةِ، لِكَرَاهَةِ ذِكْرِهِ بِخَاصِّ اسْمِهِ، إِمَّا سَتْرًا عَلَيْهِ، أَوْ إِهَانَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَيُؤْتَى بِالَّذِي وَنَحْوِهَا مَوْصُولَةً بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، نَحْوَ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الْأَحْقَاف: 17]. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} [يُوسُفَ: 23]. وَقَدْ يَكُونُ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ، نَحْوَ: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الْآيَةَ [فُصِّلَتْ: 30]. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [الْعَنْكَبُوت: 69]. {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} [غَافِرٍ: 60]. وَلِلِاخْتِصَارِ، نَحْوَ: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الْأَحْزَاب: 69] أَيْ: قَوْلُهُمْ إِنَّهُ آدَرُ؛ إِذْ لَوْ عَدَّدَ أَسْمَاءَ الْقَائِلِينَ لَطَالَ؛ وَلَيْسَ لِلْعُمُومِ؛ لَأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا فِي حَقِّهِ ذَلِكَ. وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَعْهُودٍ خَارِجِيٍّ أَوْ ذِهْنِيٍّ أَوْ حُضُورِيٍّ. وَلِلِاسْتِغْرَاقِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ؛ وَقَدْ مَرَّتْ أَمْثِلَتُهَا فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ. وَبِالْإِضَافَةِ لِكَوْنِهَا أَخْصَرَ طَرِيقٍ، وَلِتَعْظِيمِ الْمُضَافِ، نَحْوَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الْحِجْر: 42]. {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزُّمَر: 7] أَي: الْأَصْفِيَاءُ فِي الْآيَتَيْنِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَلِقَصْدِ الْعُمُومِ، نَحْوَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النُّور: 63] أَيْ: كُلَّ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَائِدَةٌ: سُئِلَ عَنْ الْحِكْمَةِ فِي تَنْكِيرِ (أَحَدٌ) وَتَعْرِيفِ (الصَّمَدُ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الْإِخْلَاص: 1- 2] وَأَلَّفْتُ فِي جَوَابِهِ تَأْلِيفًا مُودَعًا فِي الْفَتَاوَى، وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةً: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نُكِّرَ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ- وَهُوَ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ- غَيْرُ مُمْكِنٍ تَعْرِيفُهَا وَالْإِحَاطَةُ بِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ (أَلْ) عَلَيْهِ كَغَيْرٍ وَكُلٍّ وَبَعْضٍ، وَهُوَ فَاسِدٌ، فَقَدْ قُرِئَ شَاذًّا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ الْأَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ)، حَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الزِّينَةِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. الثَّالِثُ: وَهُوَ مِمَّا خَطَرَ لِي: أَنَّ (هُوَ) مُبْتَدَأٌ وَ(اللَّهُ) خَبَرٌ، وَكِلَاهُمَا مَعْرِفَةٌ، فَاقْتَضَى الْحَصْرَ، فَعُرِفَ الْجُزْآنِ فِي (اللَّهُ الصَّمَدُ) لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، لِيُطَابِقَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ تَعْرِيفِ (أَحَدٌ) فِيهَا لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ دُونَهُ، فَأُتِيَ بِهِ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ التَّنْكِيرِ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ. وَإِنْ جُعِلَ الِاسْمُ الْكَرِيمُ مُبْتَدَأً وَ(أَحَدٌ) خَبَرَهُ: فَفِيهِ مِنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَا فِيهِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى نَحْوِ الْأُولَى بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ لِلْحَصْرِ تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا.
إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ، أَوْ نَكِرَتَيْنِ، أَوِ الْأَوَّلُ نَكِرَةً وَالثَّانِي مَعْرِفَةً، أَوْ بِالْعَكْسِ. فَإِنْ كَانَا مَعْرِفَتَيْن: فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ غَالِبًا، دَلَالَةً عَلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ فِي اللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ، نَحْوَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الْفَاتِحَة: 6- 7]، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزُّمَر: 2- 3]، {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} [الصَّافَّات: 158]، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ}، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غَافِرٍ: 36- 37]. وَإِنْ كَانَا نَكِرَتَيْن: فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ غَالِبًا، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسِبُ هُوَ التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْهُودًا سَابِقًا، نَحْوَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الرُّوم: 54] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالضَّعْفِ الْأَوَّلِ النُّطْفَةُ، وَبِالثَّانِي الطُّفُولِيَّةُ، وَبِالثَّالِثِ الشَّيْخُوخَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سَبَإٍ: 12]: الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ الشَّهْرِ الْإِعْلَامُ بِمِقْدَارِ زَمَنِ الْغُدُوِّ وَزَمَنِ الرَّوَاحِ، وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِلْمَقَادِيرِ لَا يَحْسُنُ فِيهَا الْإِضْمَارُ، وَلَوْ أُضْمِرَ فَالضَّمِيرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَا تَقَدَّمَ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِيَّتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجَبَ الْعُدُولُ عَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الظَّاهِرِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ الْقِسْمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشَّرْح: 5- 6] فَالْعُسْرُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْيُسْرُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَة: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ». وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ نَكِرَةً وَالثَّانِي مَعْرِفَةً فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ حَمْلًا عَلَى الْعَهْدِ، نَحْوَ: {أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [الْمُزَّمِّل: 15- 16]، {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} [النُّور: 35]. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52- 53]، {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ} [الشُّورَى: 41- 42]. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مَعْرِفَةً وَالثَّانِي نَكِرَةً، فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ، بَلْ يُتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرَائِن: فَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى التَّغَايُرِ، نَحْوَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الرُّوم: 55]، {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا} [النِّسَاء: 153]، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى} [غَافِرٍ: 53- 54] قَالَ: الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ جَمِيعُ مَا أَتَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَ(الْهُدَى) إِرْشَادًا. وَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى الِاتِّحَادِ، نَحْوَ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزُّمَر: 27- 28].
تَنْبِيهٌ: قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ وَغَيْرِه: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُحَرَّرَةٍ، فَإِنَّهَا مُنْتَقَضَةٌ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّل: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرَّحْمَن: 60]: فَإِنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ وَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ الْعَمَلُ وَالثَّانِيَ الثَّوَابُ. {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أَي: الْقَاتِلَةَ بِالْمَقْتُولَةِ، وَكَذَا سَائِرُ الْآيَةِ. {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 178]. {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ثُمَّ قَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الْإِنْسَان: 1- 2] فَإِنَّ الْأَوَّلَ آدَمُ وَالثَّانِيَ: وَلَدُهُ. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الْعَنْكَبُوت: 47] فَإِنَّ الْأَوَّلَ الْقُرْآنُ، وَالثَّانِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَمِنْهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزُّخْرُف: 84]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [الْبَقَرَة: 217]. فَإِنَّ الثَّانِيَ فِيهِمَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُمَا نَكِرَتَانِ. وَمِنْهَا فِي الْقِسْمِ الثَّالِث: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النِّسَاء: 128]. {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هَوَّدَ: 3]. {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هُودٍ: 52]. {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الْفَتْح: 4]. {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النَّحْل: 88]. {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ} [يُونُسَ: 36]. فَإِنَّ الثَّانِيَ فِيهَا غَيْرُ الْأَوَّلِ. وَأَقُولُ: لَا انْتِقَاضَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ؛ فَإِنَّ اللَّامَ فِي الْإِحْسَانِ لِلْجِنْسِ فِيمَا يَظْهَرُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ. وَكَذَا آيَةُ النَّفْسِ وَالْحُرِّ بِخِلَافِ آيَةِ الْعُسْرِ؛ فَإِنَّ (أَلْ) فِيهَا إِمَّا لِلْعَهْدِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ. وَكَذَا آيَةُ الظَّنِّ، لَا نُسَلِّمُ فِيهَا أَنَّ الثَّانِيَ فِيهَا غَيْرُ الْأَوَّل:، بَلْ هُوَ عَيْنُهُ قَطْعًا؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ ظَنِّ مَذْمُومًا، كَيْفَ وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ ظَنِّيَّةٌ. وَكَذَا آيَةُ الصُّلْحِ، لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ، وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَاسْتِحْبَابُ الصُّلْحِ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ وَمِنَ الْآيَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، بَلْ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّ كُلَّ صُلْحٍ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ مَا أَحَلَّ حَرَامًا مِنَ الصُّلْحِ أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ. وَكَذَا آيَةُ الْقِتَال: لَيْسَ الثَّانِي فِيهَا عَيْنَ الْأَوَّلِ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْقِتَالُ الَّذِي وَقَعَ فِي سَرِيَّةِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْمُرَادَ بِالثَّانِي جِنْسُ الْقِتَالِ لَا ذَاكَ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا آيَةُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} [الزُّخْرُف: 84] فَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا الطَّيْبِيُّ: أَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ؛ لِإِفَادَةِ أَمْرٍ زَائِدٍ، بِدَلِيلِ تَكْرِيرِ ذِكْرِ الرَّبِّ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِه: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ} [الزُّخْرُف: 82]. وَوَجْهُهُ الْإِطْنَابُ فِي تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَشَرْطُ الْقَاعِدَةِ أَلَّا يُقْصَدَ التَّكْرِيرُ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ فِي آخِرِ كَلَامِه: إِنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الِاسْمِ مَرَّتَيْنِ كَوْنُهُ مَذْكُورًا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ أَوْ كَلَامَيْنِ بَيْنَهُمَا تَوَاصُلٌ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا: مَعْطُوفًا عَلَى الْآخَرِ، وَلَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ ظَاهِرٌ وَتَنَاسُبٌ وَاضِحٌ، وَأَنْ يَكُونَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ. وَدَفَعَ بِذَلِكَ إِيرَادَ آيَةِ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهَا مَحْكِيٌّ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ، وَالثَّانِيَ مَحْكِيٌّ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مِنْ ذَلِكَ (السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ) حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا مُفْرَدَةٌ، وَلَمْ تُجْمَعْ- بِخِلَافِ السَّمَاوَاتِ- لِثِقَلِ جَمْعِهَا وَهُوَ أَرَضُونَ، وَلِهَذَا لَمَّا أُرِيدَ ذِكْرُ جَمِيعِ الْأَرَضِينَ قَالَ: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطَّلَاق: 12]. وَأَمَّا السَّمَاءُ: فَذُكِرَتْ تَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، لِنُكَتٍ تَلِيقُ بِذَلِكَ الْمَحَلِّ، كَمَا أَوْضَحْتُهُ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ حَيْثُ أُرِيدَ الْعَدَدُ أُتِيَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ الْعَظَمَةِ وَالْكَثْرَةِ، نَحْوَ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [الصَّفّ: 1] أَيْ: جَمِيعُ سُكَّانِهَا عَلَى كَثْرَتِهِمْ. {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [الْجُمُعَة: 1] أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى اخْتِلَافِ عَدَدِهَا. {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النَّمْل: 65] إِذِ الْمُرَادُ نَفْيُ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنْ كُلِّ مَنْ هُوَ فِي وَاحِدَةٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَحَيْثُ أُرِيدَ الْجِهَةُ أُتِيَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، نَحْوَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذَّارِيَات: 22]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الْمُلْك: 16] أَيْ: مِنْ فَوْقِكُمْ. وَمِنْ ذَلِكَ (الرِّيحُ) ذُكِرَتْ مَجْمُوعَةً وَمُفْرَدَةً أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَالسِّرّ فِي ذَلِكَ، فَحَيْثُ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الرَّحْمَةِ جُمِعَتْ، أَوْ فِي سِيَاقِ الْعَذَابِ أُفْرِدَتْ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرِّيَاحِ فَهُوَ رَحْمَةٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ مِنَ الرِّيحِ فَهُوَ عَذَابٌ. وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا، وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا». وَذُكِرَ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ: أَنَّ رِيَاحَ الرَّحْمَةِ مُخْتَلِفَةُ الصِّفَاتِ وَالْمَهَبَّاتِ وَالْمَنَافِعِ، وَإِذَا هَاجَتْ مِنْهَا رِيحٌ أُثِيرَ لَهَا مِنْ مُقَابِلِهَا مَا يَكْسِرُ سَوْرَتَهَا، فَيَنْشَأُ مِنْ بَيْنِهِمَا رِيحٌ لَطِيفَةٌ تَنْفَعُ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ؛ فَكَانَتْ فِي الرَّحْمَةِ رِيَاحًا. وَأَمَّا فِي الْعَذَابِ فَإِنَّهَا تَأْتِي مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا وَلَا دَافِعَ. وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يُونُسَ: 22] وَذَلِكَ لِوَجْهَيْن: لَفْظِيٌّ: وَهُوَ الْمُقَابَلَةُ، فِي قَوْلِه: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وَرُبَّ شَيْءٍ يَجُوزُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِقْلَالًا، نَحْوَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 54]. وَمَعْنَوِيٌّ: وَهُوَ أَنَّ تَمَامَ الرَّحْمَةِ هُنَاكَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَحْدَةِ الرِّيحِ لَا بِاخْتِلَافِهَا، فَإِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَسِيرُ إِلَّا بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهَا الرِّيَاحُ كَانَ سَبَبَ الْهَلَاكِ، وَالْمَطْلُوبُ هُنَا رِيحٌ وَاحِدَةٌ، وَلِهَذَا أُكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِوَصْفِهَا بِالطَّيِّبِ. وَعَلَى ذَلِكَ أَيْضًا جَرَى قَوْلُهُ: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} [الشُّورَى: 33]. وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّر: إِنَّهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ؛ لِأَنَّ سُكُونَ الرِّيحِ عَذَابٌ وَشِدَّةٌ عَلَى أَصْحَابِ السُّفُنِ. وَمِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ (النُّورِ) وَجَمْعُ (الظُّلُمَاتِ) وَإِفْرَادُ (سَبِيلِ الْحَقِّ) وَجَمْعُ (سُبُلِ الْبَاطِلِ أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَالسِّرِّ فِي ذَلِكَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الْأَنْعَام: 153]؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ، وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ مُتَشَعِّبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ. وَالظُّلُمَاتُ بِمَنْزِلَةِ طُرُقِ الْبَاطِلِ، وَالنُّورُ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقِ الْحَقِّ، بَلْ هُمَا هُمَا. وَلِهَذَا وَحَّدَ وَلِيَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَمَعَ أَوْلِيَاءَ الْكُفَّارِ- لِتَعَدُّدِهِمْ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [الْبَقَرَة: 257]. وَمِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ (النَّاِرِ) حَيْثُ وَقَعَتْ، وَ(الْجَنَّةُ) وَقَعَتْ مَجْمُوعَةً وَمُفْرَدَةً؛ أَيْ فِي الْقُرْآَنِ وَالسَّرِّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْجِنَانَ مُخْتَلِفَةُ الْأَنْوَاعِ، فَحَسُنَ جَمْعُهَا، وَالنَّارَ مَادَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَلِأَنَّ الْجَنَّةَ رَحْمَةٌ وَالنَّارَ عَذَابٌ، فَنَاسَبَ جَمْعُ الْأُولَى وَإِفْرَادُ الثَّانِيَةِ، عَلَى حَدِّ الرِّيَاحِ وَالرِّيحِ. وَمِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ (السَّمْعِ) وَجَمْعُ (الْبَصَرِ أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَالسِّرِّ فِي ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ السَّمْعَ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرِيَّةُ فَأُفْرِدَ، بِخِلَافِ الْبَصَر: فَإِنَّهُ اشْتُهِرَ فِي الْجَارِحَةِ؛ وَلِأَنَّ مُتَعَلِّقَ السَّمْعِ الْأَصْوَاتُ وَهِيَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمُتَعَلِّقَ الْبَصَرِ الْأَلْوَانُ وَالْأَكْوَانُ وَهِيَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، فَأَشَارَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مُتَعَلِّقِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ إِفْرَادُ (الصَّدِيقِ) وَجَمْعُ (الشَّافِعِينَ أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَالسِّرِّ فِي ذَلِكَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشُّعَرَاء: 100- 101]. وَحِكْمَتُهُ كَثْرَةُ الشُّفَعَاءِ فِي الْعَادَةِ، وَقِلَّةُ الصَّدِيقِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا امْتُحِنَ بِإِرْهَاقِ ظَالِمٍ، نَهَضَتْ جَمَاعَةٌ وَافِرَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ لِشَفَاعَتِهِ رَحْمَةً، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ بِأَكْثَرِهِمْ مَعْرِفَةٌ، وَأَمَّا الصَّدِيقُ: فَأَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ. وَمِنْ ذَلِكَ: (الْأَلْبَابُ) لَمْ يَقَعْ إِلَّا مَجْمُوعًا؛ لِأَنَّ مُفْرَدَهُ ثَقِيلٌ لَفْظًا. وَمِنْ ذَلِكَ مَجِيءُ (الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) بِالْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَالسِّرِّ فِي ذَلِكَ، فَحَيْثُ أُفْرِدَا فَاعْتِبَارًا لِلْجِهَةِ، وَحَيْثُ ثُنِّيَا فَاعْتِبَارًا لِمَشْرِقِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَمَغْرِبِهِمَا، وَحَيْثُ جُمِعَا فَاعْتِبَارًا لِتَعَدُّدِ الْمَطَالِعِ فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْ فَصْلَيِ السَّنَةِ. وَأَمَّا وَجْهُ اخْتِصَاصِ كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا وَقَعَ فِيه: فَفِي سُورَةِ الرَّحْمَةِ وَقَعَ بِالتَّثْنِيَةِ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ السُّورَةِ سِيَاقُ الْمُزْدَوِجَيْنِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا نَوْعَيِ الْإِيجَادِ وَهُمَا الْخَلْقُ وَالتَّعْلِيمُ. ثُمَّ ذَكَرَ سِرَاجَيِ الْعَالَم: الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. ثُمَّ نَوْعَيِ النَّبَات: مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ وَمَا لَا سَاقَ لَهُ، وَهُمَا النَّجْمُ وَالشَّجَرُ، ثُمَّ نَوْعَيِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. ثُمَّ نَوْعَيِ الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ. ثُمَّ نَوْعَيِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمَا الْحُبُوبُ وَالرَّيَاحِينُ. ثُمَّ نَوْعَيِ الْمُكَلَّفِينَ وَهُمَا: الْإِنْسُ وَالْجَانُّ. ثُمَّ نَوْعَيِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، ثُمَّ نَوْعَيِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ؛ فَلِهَذَا حَسُنَ تَثْنِيَةُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَجُمِعَا فِي قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [الْمَعَارِج: 40]، وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ.
فَائِدَةٌ: حَيْثُ وَرَدَ (الْبَارُّ) مَجْمُوعًا فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّينَ قِيلَ: (أَبْرَارٌ). وَفِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ قِيلَ: (بَرَرَةٌ). ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ، وَوَجْهُهُ: بِأَنَّ الثَّانِيَ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ بَارٍّ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ (بَرٍّ) مُفْرَدِ الْأَوَّلِ. وَحَيْثُ وَرَدَ (الْأَخُ) مَجْمُوعًا فِي النَّسَبِ قِيلَ: (إِخْوَةٌ). وَفِي الصَّدَاقَةِ قِيلَ: (إِخْوَانٌ) قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ فِي الصَّدَاقَة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الْحُجُرَات: 10]. وَفِي النَّسَب: {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النُّور: 31]. فَائِدَةٌ: أَلَّفَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ كِتَابًا فِي الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ، ذَكَرَ فِيهِ جَمْعَ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدًا، وَمُفْرَدَ مَا وَقَعَ جَمْعًا، وَأَكْثَرُهُ مِنَ الْوَاضِحَاتِ، وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ مِنْ خَفِيِّ ذَلِكَ: (الْمَنُّ): لَا وَاحِدَ لَهُ. (السَّلْوَى): لَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِوَاحِدٍ. (النَّصَارَى) قِيلَ: جَمْعُ نَصْرَانِيٍّ وَقِيلَ: جَمْعُ نَصِيرٍ كَنَدِيمٍ وَقَبِيلٍ. (الْعَوَانُ) جَمْعُهُ عَوْنٌ. (الْهُدَى) لَا وَاحِدَ لَهُ. (الْإِعْصَارُ) جَمْعُهُ أَعَاصِيرُ. (الْأَنْصَارُ) وَاحِدُهُ نَصِيرٌ، كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. (الْأَزْلَامُ) وَأَحَدُهَا زَلَمٌ، وَيُقَالُ: زُلَمٌ بِالضَّمِّ. (مِدْرَارًا) جَمْعُهُ مَدَارِيرُ. (أَسَاطِيرُ:): وَاحِدُهُ أُسْطُورَةٌ، وَقِيلَ: أَسْطَارُ، جَمْعُ سَطْرٍ. (الصُّورُ): جَمْعُ صُورَةٍ، وَقِيلَ: وَاحِدُ الْأَصْوَارِ. (فُرَادَى): جَمْعُ أَفْرَادٍ، جَمْعُ فَرْدٍ. (قِنْوَانٌ:): جَمْعُ قِنْوٍ، وَ(صِنْوَانٌ:): جَمْعُ صِنْوٍ، وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ جَمْعٌ وَمُثَنًّى بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا هَذَانِ، وَلَفْظٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ (لَيْسَ). (الْحَوَايَا): جَمْعُ حَاوِيَةٍ، وَقِيلَ: حَاوِيَاءُ. (نُشُرًا:): جَمْعُ نُشُورٍ. {عِضِينَ} [الْحِجْر: 91] وَ{عِزِينَ} [الْمَعَارِج: 37]. جَمْعُ عِضَةٍ وَعِزَةٍ. {الْمَثَانِي} [الْحِجْر: 87] جَمْعُ مَثْنًى. (تَارَةً) [الْإِسْرَاء: 69] جَمْعُهَا تَارَاتٌ وَتِيَرٌ. أَيْقَاظًا [الْكَهْف: 18] جَمْعُ يَقِظٍ (الْأَرَائِكِ) جَمْعُ أَرِيكَةٍ (سَرِيٌّ) جَمْعُهُ سِرْيَانٌ، كَخَصِيِّ وَخِصْيَانٍ (آنَاءِ اللَّيْلِ) جَمْعُ إِنَا- بِالْقَصْرِ- كَمِعًى، وَقِيلَ: إِنْيٌ كَقِرْدٍ، وَقِيلَ: إِنْوَةٌ كَفِرْقَةٍ. (الصَّيَاصِي) جَمْعُ صَيْصِيَةٍ. (مِنْسَأَةٌ) جَمْعُهَا مَنَاسِئٌ. الْحَرُورُ [فَاطِرٍ: 21] جَمْعُهُ حُرُورٌ، بِالضَّمِّ. {وَغَرَابِيبُ} [فَاطِرٍ: 27] جَمْعُ غِرْبِيبٍ، أَتْرَابٌ [ص: 52] جَمْعُ تِرْبٍ (الْآلَاءُ) جَمْعُ إِلًى كَمِعًى، وَقِيلَ: أُلَى كَقَفَى. وَقِيلَ: إِلْيٌ كَقِرْدٍ، وَقِيلَ: أَلَوٌ. {التَّرَاقِيَ} [الْقِيَامَة: 26] جَمْعُ تَرْقُوَةٍ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (الْأَمْشَاجُ) جَمْعُ مَشِيجٍ. {أَلْفَافًا} [النَّبَإ: 16] جَمْعُ لِفٍّ، بِالْكَسْرِ. {الْعِشَارُ} [التَّكْوِير: 4] جَمْعُ عُشَرٍ. {بِالْخُنَّسِ} [التَّكْوِير: 15] جَمْعُ خَانِسَةٍ، وَكَذَا {الْكُنَّسِ} [التَّكْوِير: 16]. {الزَّبَانِيَةَ} [الْعَلَق: 18] جَمْعُ زِبْنِيَةٍ، وَقِيلَ: زَابِنٌ، وَقِيلَ: زَبَانِي {أَشْتَاتًا} [النُّور: 61] جَمْعُ شَتٍّ وَشَتِيتٍ. {أَبَابِيلَ} [الْفِيل: 3] لَا وَاحِدَ لَهُ، وَقِيلَ: وَاحِدُهُ إِبَّوْلٌ مِثْلَ عِجَّوْلٍ، وَقِيلَ: إِبِّيلٌ مِثْلُ إِكْلِيلٌ.
فَائِدَةٌ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَعْدُولَةِ إِلَّا أَلْفَاظُ الْعَدَد: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) [النِّسَاء: 3]. [فَاطِرٍ: 1] وَمِنْ غَيْرِهَا(طُوًى) [طه: 12] فِيمَا ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، وَمِنَ الصِّفَات: أُخَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7]. قَالَ الرَّاغِبُ: وَغَيْرُهُ هِيَ مَعْدُولَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، فَإِنَّ (أَفْعَلَ) إِمَّا أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُ (مِنْ) لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، فَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ وَتُحْذَفُ مِنْهُ (مِنْ) فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَيُثَنَّى وَيُجْمَعُ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهَا جُوِّزَ فِيهَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَة: لَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مَعْدُولَةً عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مَعَ كَوْنِهَا وَصْفًا لِنَكِرَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ مِنْ وَجْهٍ وَغَيْرُ مُقَدَّرٍ مِنْ وَجْهٍ.
قَاعِدَةٌ: مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَارَةً تَقْتَضِي مُقَابَلَةَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا، كَقَوْلِه: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نُوحٍ: 7] أَيْ: اسْتَغْشَى كُلٌّ مِنْهُمْ ثَوْبَهُ. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النِّسَاء: 23] أَيْ: عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أُمُّهُ. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّسَاء: 11] أَيْ: كُلًّا فِي أَوْلَادِهِ. {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الْبَقَرَة: 233] أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ تُرْضِعُ وَلَدَهَا. وَتَارَةً يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْجَمْعِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، نَحْوَ: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النُّور: 4] وَجَعَلَ مِنْهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّين: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [الْبَقَرَة: 25]. وَتَارَةً يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ أَحَدَهُمَا: وَأَمَّا مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَد: فَالْغَالِبُ أَلَّا يَقْتَضِيَ تَعْمِيمَ الْمُفْرَدِ، وَقَدْ يَقْتَضِيهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [الْبَقَرَة: 184] الْمَعْنَى: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ، {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النُّور: 4]؛ لِأَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ.
مِنْ ذَلِكَ (الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا) لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَشْيَةَ أَعْلَى مِنْهُ، وَهِيَ أَشَدُّ الْخَوْفِ؛فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَجَرَةٌ خَشِيَّةٌ، أَيْ: يَابِسَةٌ، وَهُوَ فَوَاتٌ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْخَوْفُ مِنْ نَاقَةٍ خَوْفَاءَ، أَيْ: بِهَا دَاءٌ، وَهُوَ نَقْصٌ، وَلَيْسَ بِفَوَاتٍ؛ وَلِذَلِكَ خُصَّتِ الْخَشْيَةُ بِاللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرَّعْد: 21]. وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا بِأَنَّ الْخَشْيَةَ تَكُونُ مِنْ عِظَمِ الْمُخْتَشَى، وَإِنْ كَانَ الْخَاشِي قَوِيًّا، وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ الْخَائِفِ وَإِنْ كَانَ الْمَخُوفُ أَمْرًا يَسِيرًا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الْخَاءَ وَالشِّينَ وَالْيَاءَ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ، نَحْوَ: شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ الْكَبِيرِ، وَخَيْشٌ لِمَا غَلُظَ مِنَ اللِّبَاسِ، وَلِذَا وَرَدَتِ الْخَشْيَةُ غَالِبًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوَ: {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 74]، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِرٍ: 28]. وَأَمَّا {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْل: 50]. فَفِيهِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، فَإِنَّهُ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ قُوَّتَهُمْ وَشِدَّةَ خَلْقِهِمْ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْخَوْفِ، لِبَيَانِ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا غِلَاظًا شِدَادًا فَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعَالَى ضُعَفَاءُ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْفَوْقِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ ضَعْفُ الْبَشَرِ مَعْلُومًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ (الشُّحُّ وَالْبُخْلُ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) وَالشُّحُّ هُوَ أَشَدُّ الْبُخْلِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الشُّحُّ بُخْلٌ مَعَ حِرْصٍ. وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْبُخْلِ وَ(الضَّنِّ): بِأَنَّ الضَّنَّ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَوَارِي وَالْبُخْلَ بِالْهِبَاتِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: هُوَ ضَنِينٌ بِعِلْمِهِ وَلَا يُقَالُ بَخِيلٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَارِيَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا وَهَبَ شَيْئًا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، بِخِلَافِ الْعَارِيَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التَّكْوِير: 24] وَلَمْ يَقُلْ: بِبَخِيلٍ. وَمِنْ ذَلِكَ (السَّبِيلُ وَالطَّرِيقُ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) وَالْأَوَّلُ أَغْلَبُ وُقُوعًا فِي الْخَيْرِ، وَلَا يَكَادُ اسْمُ الطَّرِيقِ يُرَادُ بِهِ الْخَيْرُ إِلَّا مَقْرُونًا بِوَصْفٍ أَوْ إِضَافَةٍ تُخَلِّصُهُ لِذَلِكَ، كَقوله: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَحْقَاف: 30] وَقَالَ الرَّاغِبُ: السَّبِيلُ الطَّرِيقُ الَّتِي فِيهَا سُهُولَةٌ، فَهُوَ أَخَصُّ. وَمِنْ ذَلِكَ (جَاءَ وَأَتَى فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) فَالْأَوَّلُ: يُقَالُ فِي الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ، وَالثَّانِي: فِي الْمَعَانِي وَالْأَزْمَانِ، وَلِهَذَا وَرَدَ (جَاءَ) فِي قَوْلِه: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بِعِيرٍ} [يُوسُفَ: 72]، {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يُوسُفَ: 18]، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الْفَجْر: 23] وَ(أَتَى) فِي: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النَّحْل: 1]، {أَتَاهَا أَمْرُنَا} [يُونُسَ: 24]. وَأَمَّا (وَجَاءَ رَبُّكَ) [الْفَجْر: 22] أَيْ: أَمْرُهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْوَالُ الْقِيَامَةِ الْمُشَاهَدَةُ، وَكَذَا {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الْأَعْرَاف: 34]؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ كَالْمُشَاهَدَةِ، وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْحُضُورِ فِي قَوْلِه: {حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [الْبَقَرَة: 180]. وَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِه: {جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الْحِجْر: 63- 64]؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ الْعَذَابُ وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ، بِخِلَافِ الْحَقِّ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِتْيَانُ: مَجِيءٌ بِسُهُولَةٍ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمَجِيءِ، قَالَ: وَمِنْهُ قِيلَ: لِلسَّائِلِ الْمَارِّ عَلَى وَجْهِه: أَتِيٌّ وَأَتَاوِيٌّ. وَمِنْ ذَلِكَ (مَدَّ وَأَمَدَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) قَالَ الرَّاغِبُ: أَكْثَرُ مَا جَاءَ الْإِمْدَادُ فِي الْمَحْبُوبِ، نَحْوَ: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطَّوْر: 22]. وَالْمَدُّ فِي الْمَكْرُوهِ، نَحْوَ: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مَرْيَمَ: 79]. وَمِنْ ذَلِكَ (سَقَى وَأَسْقَى فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) فَالْأَوَّلُ: لِمَا لَا كُلْفَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي شَرَابِ الْجَنَّةِ نَحْوَ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا} [الْإِنْسَان: 21]. وَالثَّانِي: لِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي مَاءِ الدُّنْيَا، نَحْوَ: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الْجِنّ: 16]. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِسْقَاءُ أَبْلَغُ مِنَ السَّقْيِ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاءَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَا يَسْقِي مِنْهُ وَيَشْرَبُ، وَالسَّقْيَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَشْرَبُ. وَمِنْ ذَلِكَ (عَمِلَ وَفَعَلَ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) فَالْأَوَّلُ: لِمَا كَانَ مِنِ امْتِدَادِ زَمَانٍ؛ نَحْوَ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} [سَبَإٍ: 13]. {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]؛ لِأَنَّ خَلْقَ الْأَنْعَامِ وَالثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِامْتِدَادٍ. وَالثَّانِي: بِخِلَافِهِ، نَحْوَ: {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الْفِيل: 1]. {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الْفَجْر: 6]. {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إِبْرَاهِيمَ: 45]؛ لِأَنَّهَا إِهْلَاكَاتٌ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النَّحْل: 50] أَيْ: فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ. وَلِهَذَا عَبَّرَ بِالْأَوَّل: فِي قَوْلِه: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الْبَقَرَة: 25] حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُثَابَرَةَ عَلَيْهَا لَا الْإِتْيَانَ بِهَا مَرَّةً أَوْ بِسُرْعَةٍ، وَبِالثَّانِي: فِي قَوْلِه: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الْحَجّ: 77] حَيْثُ كَانَ بِمَعْنَى سَارِعُوا كَمَا قَالَ، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [الْبَقَرَة: 148]. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 4] حَيْثُ كَانَ الْقَصْدُ يَأْتُونَ بِهَا عَلَى سُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ تَوَانٍ. وَمِنْ ذَلِكَ (الْقُعُودُ وَالْجُلُوسُ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) فَالْأَوَّلُ: لِمَا فِيهِ لُبْثٌ، بِخِلَافِ الثَّانِي.: وَلِهَذَا يُقَالُ: قَوَاعِدُ الْبَيْتِ وَلَا يُقَالُ جَوَالِسُهُ، لِلُزُومِهَا وَلُبْثِهَا، وَيُقَالُ: جَلِيسُ الْمَلِكِ، وَلَا يُقَالُ قَعِيدُهُ؛ لِأَنَّ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّخْفِيفُ. وَلِهَذَا اسْتُعْمِلَ الْأَوَّلُ: فِي قوله: {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [الْقَمَر: 55]، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا زَوَالَ لَهُ، بِخِلَاف: {تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} [الْمُجَادَلَة: 11] لِأَنَّهُ يُجْلَسُ فِيهِ زَمَانًا يَسِيرًا. وَمِنْ ذَلِكَ (التَّمَامُ وَالْكَمَالُ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [الْمَائِدَة: 3]. فَقِيلَ: الْإِتْمَامُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْأَصْلِ، وَالْإِكْمَالُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْعَوَارِضِ بَعْدَ تَمَامِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [الْبَقَرَة: 196] أَحْسَنَ مِنْ (تَامَّةٍ) فَإِنَّ التَّمَامَ مِنَ الْعَدَدِ قَدْ عُلِمَ، وَإِنَّمَا نَفَى احْتِمَالَ نَقْصٍ فِي صِفَاتِهَا. وَقِيلَ: (تَمَّ) يُشْعِرُ بِحُصُولِ نَقْصٍ قَبْلَهُ، وَ(كَمُلَ) لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْكَمَالُ اسْمٌ لِاجْتِمَاعِ أَبْعَاضِ الْمَوْصُوفِ بِهِ، وَالتَّمَامُ اسْمٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَوْصُوفُ، وَلِهَذَا يُقَالُ: الْقَافِيَةُ تَمَامُ الْبَيْتِ، وَلَا يُقَالُ: كَمَالُهُ، وَيَقُولُونَ: الْبَيْتُ بِكَمَالِهِ، أَيْ: بِاجْتِمَاعِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ (الْإِعْطَاءُ وَالْإِيتَاءُ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) قَالَ الْخَوْبِيُّ: لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا وَظَهَرَ لِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ يُنْبِئُ عَنْ بَلَاغَةِ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِيتَاءَ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَهُ مُطَاوِعٌ، تَقُولُ أَعْطَانِي فَعُطَوْتُ، وَلَا يُقَالُ فِي الْإِيتَاء: آتَانِي فَأُتِيتُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: آتَانِي فَأَخَذْتُ. وَالْفِعْلُ الَّذِي لَهُ مُطَاوِعٌ أَضْعَفُ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي لَا مُطَاوِعَ لَهُ لِأَنَّكَ تَقُولُ: قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْفَاعِلِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولٍ فِي الْمَحَلِّ، لَوْلَاهُ مَا ثَبَتَ الْمَفْعُولُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ قَطَعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا مُطَاوِعَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ ضَرَبْتُهُ فَانْضَرَبَ، أَوْ فَمَا انْضَرَبَ، وَلَا قَتَلْتُهُ فَانْقَتَلَ، وَلَا فَمَا انْقَتَلَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَفْعَالٌ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْفَاعِلِ ثَبَتَ لَهَا الْمَفْعُولُ فِي الْمَحَلِّ، وَالْفَاعِلُ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا مُطَاوِعَ لَهَا، فَالْإِيتَاءُ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ. قَالَ: وَقَدْ تَفَكَّرْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُ ذَلِكَ مُرَاعًى، قَالَ تَعَالَى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ: 26]؛ لِأَنَّ الْمُلْكَ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يُعْطَاهُ إِلَّا مَنْ لَهُ قُوَّةٌ، وَكَذَا {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَة: 269]. {آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الْحِجْر: 87] لِعِظَمِ الْقُرْآنِ وَشَأْنِهِ. وَقَالَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الْكَوْثَر: 1]: لِأَنَّهُ مَوْرُودٌ فِي الْمَوْقِفِ مُرْتَحَلٌ عَنْهُ، قَرِيبٌ إِلَى مَنَازِلِ الْعِزِّ فِي الْجَنَّةِ، فَعَبَّرَ فِيهِ بِالْإِعْطَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُتْرَكُ عَنْ قُرْبٍ وَيُنْتَقَلُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَكَذَا: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحَى: 5]، لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْرِيرِ الْإِعْطَاءِ وَالزِّيَادَةِ إِلَى أَنْ يَرْضَى كُلَّ الرِّضَا؛ وَهُوَ مُفَسَّرٌ- أَيْضًا- بِالشَّفَاعَةِ، وَهِيَ نَظِيرُ الْكَوْثَرِ فِي الِانْتِقَالِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْهُ. وَكَذَا: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [طَه: 50] لِتَكَرُّرِ حُدُوثِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَوْجُودَاتِ. {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التَّوْبَة: 29]؛ لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَبُولٍ مِنَّا، وَإِنَّمَا يُعْطَوْنَهَا عَنْ كُرْهٍ.
فَائِدَةٌ: قَالَ الرَّاغِبُ: خُصَّ دَفْعُ الصَّدَقَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِيتَاءِ، نَحْوَ: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَة: 277]. {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَة: 177]. قَالَ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِي وَصْفِ الْكِتَابِ (آتَيْنَا) فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ (أُوتُوا)؛ لِأَنَّ (أُوتُوا) قَدْ يُقَالُ إِذَا أُوتِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ قَبُولٌ، وَ(آتَيْنَاهُمْ) يُقَالُ فِيمَنْ كَانَ مِنْهُ قَبُولٌ. وَمِنْ ذَلِكَ (السَّنَةُ وَالْعَامُ فِي الْقُرْآنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ) قَالَ الرَّاغِبُ: الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُ السَّنَةِ فِي الْحَوْلِ الَّذِي فِيهِ الشِّدَّةُ وَالْجَدْبُ، وَلِهَذَا يُعَبَّرُ عَنِ الْجَدْبِ بِالسَّنَةِ. وَالْعَامُ مَا فِيهِ الرَّخَاءُ وَالْخِصْبُ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ النُّكْتَةُ فِي قَوْلِه: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [الْعَنْكَبُوت: 14] حَيْثُ عَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَثْنَى بِالْعَامِ وَعَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِالسَّنَةِ.
الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، إِذَا كَانَ السُّؤَالُ مُتَوَجِّهًا، وَقَدْ يُعْدَلُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا يَقْتَضِيهِ السُّؤَالُ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّ السُّؤَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَيُسَمِّيهِ السَّكَّاكِيُّ: الْأُسْلُوبَ الْحَكِيمَ. وَقَدْ جِيءَ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي السُّؤَالِ وَقَدْ يَجِيءُ أَنْقَصَ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ ذَلِكَ. مِثَالُ مَا عُدِلَ عَنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [الْبَقَرَة: 189]. سَأَلُوا عَنِ الْهِلَال: لِمَ يَبْدُو دَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ ثُمَّ يَتَزَايَدُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَمْتَلِئَ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ؟ فَأُجِيبُوا بِبَيَانِ حِكْمَةِ ذَلِكَ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَهَمَّ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ لَا مَا سَأَلُوا عَنْهُ. كَذَا قَالَ السَّكَّاكِيُّ وَمُتَابِعُوهُ. وَاسْتَرْسَلَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي الْكَلَامِ إِلَى أَنْ قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يَطَّلِعُ عَلَى دَقَائِقِ الْهَيْئَةِ بِسُهُولَةٍ. وَأَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي، مِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ غَيْرِ مَا حَصَلَ الْجَوَابُ بِهِ! وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ لِيَعْلَمُوهَا؟ فَإِنَّ نَظْمَ الْآيَةِ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَا قَالُوهُ. وَالْجَوَابُ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ الِاحْتِمَالِ الَّذِي قُلْنَاهُ، وَقَرِينَةٌ تُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ؛ إِذِ الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ الْمُطَابَقَةُ لِلسُّؤَالِ، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْأَصْلِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ يَرِدْ بِإِسْنَادٍ لَا صَحِيحٍ وَلَا غَيْرِهِ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، بَلْ وَرَدَ مَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ، فَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهُمْ «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ خُلِقَتِ الْأَهِلَّةُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}». فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، لَا عَنْ كَيْفِيَّتِهِ مِنْ جِهَةِ الْهَيْئَةِ. وَلَا يَظُنُّ ذُو دِينٍ بِالصَّحَابَةِ- الَّذِينَ هُمْ أَدَقُّ فَهْمًا، وَأَغْزَرُ عِلْمًا- أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يَطَّلِعُ عَلَى دَقَائِقِ الْهَيْئَةِ بِسُهُولَةٍ، وَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا آحَادُ الْعَجَمِ الَّذِينَ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُمْ أَبْلَدُ أَذْهَانًا مِنَ الْعَرَبِ بِكَثِيرٍ، هَذَا لَوْ كَانَ لِلْهَيْئَةِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ، فَكَيْفَ وَأَكْثَرُهَا فَاسِدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؟ وَقَدْ صَنَّفْتُ كِتَابًا فِي نَقْضِ أَكْثَرِ مَسَائِلِهَا بِالْأَدِلَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي صَعَدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَرَآهَا عِيَانًا، وَعَلِمَ مَا حَوَتْهُ مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَأَتَاهُ الْوَحْيُ مِنْ خَالِقِهَا. وَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ وَقَعَ عَمَّا ذَكَرُوهُ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُجَابُوا عَنْهُ بِلَفْظٍ يَصِلُ إِلَى أَفْهَامِهِمْ؛ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لَمَّا سَأَلُوا عَنِ الْمَجَرَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَلَكُوتِيَّاتِ. نِعْمَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِهَذَا الْقِسْمِ جَوَابُ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشُّعَرَاء: 23- 24]؛ لِأَنَّ (مَا) سُؤَالٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَالْجِنْسِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ فِي حَقِّ الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَطَأً؛ لِأَنَّهُ لَا جِنْسَ لَهُ فَيُذْكَرُ، وَلَا تُدْرَكُ ذَاتُهُ، عَدَلَ إِلَى الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ، بِبَيَانِ الْوَصْفِ الْمُرْشِدِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلِهَذَا تَعَجَّبَ فِرْعَوْنُ مِنْ عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلسُّؤَالِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشُّعَرَاء: 25] أَيْ: جَوَابُهُ الَّذِي لَمْ يُطَابِقِ السُّؤَالَ، فَأَجَابَ مُوسَى بِقَوْلِه: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشُّعَرَاء: 26] الْمُتَضَمِّنِ إِبْطَالَ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ فِرْعَوْنَ نَصًّا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ فِي الْأَوَّلِ ضِمْنًا، إِغْلَاظًا، فَزَادَ فِرْعَوْنُ فِي الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُوسَى لَمْ يَتَفَطَّنُوا، أَغْلَظَ فِي الثَّالِث: بِقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشُّعَرَاء: 28]. وَمِثَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ فِي الْقُرْآن: قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الْأَنْعَام: 643] فِي جَوَابِ {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الْأَنْعَام: 63]. وَقَالَ مُوسَى {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه: 18] فِي جَوَابِ {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] زَادَ فِي الْجَوَابِ اسْتِلْذَاذًا بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشُّعَرَاء: 71] فِي جَوَاب: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشُّعَرَاء: 70] زَادُوا فِي الْجَوَابِ إِظْهَارًا لِلِابْتِهَاجِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُوَاظَبَتِهَا، لِيَزْدَادَ غَيْظُ السَّائِلِ. وَمِثَالُ النَّقْصِ مِنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِيَ أَنْ أُبَدِّلَهُ} [يُونُسَ: 15] فِي جَوَاب: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهِ {أَجَابَ عَنِ التَّبْدِيلِ دُونَ الِاخْتِرَاعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِي إِمْكَانِ الْبَشَرِ دُونَ الِاخْتِرَاعِ. فَطَوَى ذِكْرَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ مُحَالٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّبْدِيلُ أَسْهَلُ مِنَ الِاخْتِرَاعِ، وَقَدْ نُفِيَ إِمْكَانُهُ، فَالِاخْتِرَاعُ أَوْلَى. تَنْبِيهٌ: قَدْ يُعْدَلُ عَنِ الْجَوَابِ أَصْلًا إِذَا كَانَ السَّائِلُ قَصْدُهُ التَّعَنُّتُ، نَحْوَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الْإِسْرَاء: 85]. قَالَ صَاحِبُ الْإِفْصَاحِ: إِنَّمَا سَأَلَ الْيَهُودُ تَعْجِيزًا وَتَغْلِيظًا، إِذْ كَانَ الرُّوحُ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى وَجِبْرِيلَ وَمَلَكٍ آخَرَ وَصِنْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَصَدَ الْيَهُودُ أَنْ يَسْأَلُوهُ، فَبِأَيِّ مُسَمًّى أَجَابَهُمْ؟ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ، فَجَاءَهُمُ الْجَوَابُ مُجْمَلًا، وَكَانَ هَذَا الْإِجْمَالُ كَيْدًا يَرُدُّ بِهِ كَيْدَهُمْ.
قِيلَ: أَصْلُ الْجَوَابِ أَنْ يُعَادَ فِيهِ نَفْسُ السُّؤَال: لِيَكُونَ وِفْقَهُ، نَحْوَ: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ} [يُوسُفَ: 90] فَـ (أَنَا) فِي جَوَابِهِ هُوَ (أَنْتَ) فِي سُؤَالِهِمْ. وَكَذَا {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 81] فَهَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أُتُوا عِوَضَ ذَلِكَ بِحُرُوفِ الْجَوَابِ، اخْتِصَارًا وَتَرْكًا لِلتَّكْرَارِ. وَقَدْ يُحْذَفُ السُّؤَالُ مِنَ الإجابة ثِقَة بِفَهْمِ السَّامِعِ ثِقَةً بِفَهْمِ السَّامِعِ بِتَقْدِيرِهِ، نَحْوَ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يُونُسَ: 34]، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ وَاحِدٍ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ (قُلِ اللَّهُ) جَوَابَ سُؤَالٍ، كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ: فَمَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟.
الْأَصْلُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُشَاكِلًا لِلسُّؤَال: فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ. وَيَجِيءُ كَذَلِكَ فِي الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ، فِي جَوَاب: مَنْ قَرَأَ؟ إِنَّهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْفِعْلِ، عَلَى جَعْلِ الْجَوَابِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً. قَالَ: وَإِنَّمَا قَدَّرْتُهُ كَذَلِكَ- لَا مُبْتَدَأً- مَعَ احْتِمَالِهِ.. جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْأَجْوِبَةِ إِذَا قَصَدُوا تَمَامَهَا. قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} [يس: 78- 79]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزُّخْرُف: 9]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [الْمَائِدَة: 4]. فَلَمَّا أَتَى بِالْفِعْلِيَّةِ مَعَ فَوَاتِ مُشَاكَلَةِ السُّؤَالِ، عُلِمَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْفِعْلِ أَوَّلًا أَوْلَى. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ: أَطْلَقَ النَّحْوِيُّونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ (زَيْدًا) فِي جَوَاب: مَنْ قَامَ؟ فَاعِلٌ، عَلَى تَقْدِير: قَامَ زَيْدٌ؛ وَالَّذِي تُوجِبُهُ صِنَاعَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ فِي الْفَاعِلِ الَّذِي حُذِفَ فِعْلُهُ فِي إجابة سُؤَال: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ لِوَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُطَابِقُ الْجُمْلَةَ الْمَسْئُولَ بِهَا فِي الِاسْمِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ التَّطَابُقُ فِي قوله: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النَّحْل: 30] فِي الْفِعْلِيَّةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعِ التَّطَابُقُ فِي قوله: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النَّحْل: 24]؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ طَابَقُوا لَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْإِنْزَالِ؛ وَهُمْ مِنَ الْإِذْعَانِ بِهِ عَلَى مَفَاوِزَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّبْسَ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ السَّائِلِ إِلَّا فِيمَنْ فَعَلَ الْفِعْلَ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلَّقُ غَرَضِ السَّائِلِ، وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَعْلُومٌ عِنْدَهُ؛ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، فَحَرِيٌّ أَنْ يَقَعَ فِي الْأَوَاخِرِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ التَّكْمِلَاتِ وَالْفَضَلَاتِ. وَأَشْكَلَ عَلَى هَذَا {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الْأَنْبِيَاء: 63] فِي جَوَابِ {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا} [الْأَنْبِيَاء: 62]؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنِ الْفَاعِلِ لَا عَنِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوهُ عَنِ الْكَسْرِ، بَلْ عَنِ الْكَاسِرِ، وَمَعَ ذَلِكَ صَدَرَ الْجَوَابُ بِالْفِعْلِ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْجَوَابَ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، إِذْ (بَلْ) لَا تَصْلُحُ أَنْ يَصْدُرَ بِهَا الْكَلَامُ وَالتَّقْدِيرُ: (مَا فَعَلْتُهُ بَلْ فَعَلَهُ). قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِر: حَيْثُ كَانَ السُّؤَالُ مَلْفُوظًا بِهِ فَالْأَكْثَرُ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي الْجَوَابِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْمِ وَحْدَهُ، وَحَيْثُ كَانَ مُضْمَرًا فَالْأَكْثَرُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِضَعْفِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَمِنْ غَيْرِ الْأَكْثَرِ (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ) [النُّور: 36- 37] فِي قِرَاءَةِ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. فَائِدَةٌ: أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ. وَأَوْرَدَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِلَفْظِ (أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا)، وَقَالَ: مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ فِي الْبَقَرَة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [الْبَقَرَة: 186]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [الْبَقَرَة: 189]. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ} [الْبَقَرَة: 215]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 217]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [الْبَقَرَة: 219]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [الْبَقَرَة: 220]. {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [الْبَقَرَة: 219]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [الْبَقَرَة: 222]. وَالتَّاسِعُ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [الْمَائِدَة: 4]. وَالْعَاشِرُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الْأَنْفَال: 1]. وَالْحَادِيَ عَشَرَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النَّازِعَات: 42]. وَالثَّانِي عَشَرَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105]. وَالثَّالِثَ عَشَرَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الْإِسْرَاء: 85]. وَالرَّابِعَ عَشَرَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الْكَهْف: 83]. قُلْتُ: السَّائِلُ عَنِ الرُّوحِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي سُورَةِ الإسراء وَالْكَهْف مُشْرِكُو مَكَّةَ وَالْيَهُودُ، كَمَا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، لَا الصَّحَابَةُ فَالْخَالِصُ اثْنَا عَشَرَ، كَمَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ. فَائِدَةٌ: قَالَ الرَّاغِبُ: السُّؤَالُ إِذَا كَانَ لِلتَّعْرِيفِ تَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي:، تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِـ (عَنْ) وَهُوَ أَكْثَرُ، نَحْوَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الْإِسْرَاء: 85]. وَإِذَا كَانَ لِاسْتِدْعَاءِ مَالٍ فَإِنَّهُ يُعَدَّى بِنَفْسِهِ أَوْ بِمِنْ، وَبِنَفْسِهِ أَكْثَرُ، نَحْوَ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الْأَحْزَاب: 53]. {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} [الْمُمْتَحِنَة: 10]. {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مَنْ فَضْلِهِ} [النِّسَاء: 32].
الِاسْمُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَلَا يَحْسُنُ وَضْعُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَر: فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الْكَهْف: 18] وَقِيلَ: (يَبْسُطُ) لَمْ يُؤَدِّ الْغَرَضَ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِمُزَاوَلَةِ الْكَلْبِ الْبَسْطَ، وَأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، فَبَاسِطٌ أَشْعَرَ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ. وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} [فَاطِرٍ: 3]. لَوْ قِيلَ: (رَازِقُكُمْ) لَفَاتَ مَا أَفَادَهُ الْفِعْلُ مِنْ تَجَدُّدِ الرِّزْقِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَلِهَذَا جَاءَتِ الْحَالُ فِي صُورَةِ الْمُضَارِعِ، مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ الَّذِي يُفِيدُهُ مَاضٍ، نَحْوَ: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يُوسُفَ: 16] إِذِ الْمُرَادُ أَنْ يُفِيدَ صُورَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَجِيءِ، وَأَنَّهُمْ آخِذُونَ فِي الْبُكَاءِ يُجَدِّدُونَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمُسَمَّى حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةَ، وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ. وَلِهَذَا أَيْضًا عُبِّرَ بِـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) وَلَمْ يَقُلْ: (الْمُنْفِقُونَ)، كَمَا قِيلَ: (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُتَّقُونَ)؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَمْرٌ فِعْلِيٌّ، شَأْنُهُ الِانْقِطَاعُ وَالتَّجَدُّدُ. بِخِلَافِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ لَهُ حَقِيقَةً تَقُومُ بِالْقَلْبِ، يَدُومُ مُقْتَضَاهَا، وَكَذَلِكَ التَّقْوَى وَالْإِسْلَامُ وَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالْهُدَى وَالْعَمَى وَالضَّلَالَةُ وَالْبَصَرُ؛ كُلُّهَا لَهَا مُسَمَّيَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ مَجَازِيَّةٌ تَسْتَمِرُّ، وَآثَارٌ تَتَجَدَّدُ وَتَنْقَطِعُ، فَجَاءَتْ بِالِاسْتِعْمَالَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: فِي سُورَةِ الْأَنْعَام: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الْأَنْعَام: 95] قَالَ: الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّين: لَمَّا كَانَ الِاعْتِنَاءُ بِشَأْنِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَشَدَّ أَتَى فِيهِ بِالْمُضَارِعِ، لِيَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ، كَمَا فِي قَوْلِه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [الْبَقَرَة: 15]. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالتَّجَدُّدِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِع الْحُصُولُ: وَفِي الْمُضَارِعِ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَكَرَّرَ وَيَقَعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [الْبَقَرَة: 15]. قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْجَوَابُ عَمَّا يُورَدُ مِنْ نَحْو: (عَلِمَ اللَّهُ كَذَا) فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَتَجَدَّدُ، وَكَذَا سَائِرُ الصِّفَاتِ الدَّائِمَةِ الَّتِي يُسْتَعْمَلُ فِيهَا الْفِعْلُ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَعْنَى (عَلِمَ اللَّهُ كَذَا) بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَقَعَ عِلْمُهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعِلْمَ فِي زَمَنٍ مَاضٍ أَعَمُّ مِنَ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى الدَّوَامِ قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَبَعْدَهُ وَغَيْرَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشُّعَرَاء: 78]، الْآيَاتِ، فَأَتَى بِالْمَاضِي فِي الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، وَبِالْمُضَارِعِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِطْعَامِ وَالْإِسْقَاءِ وَالشِّفَاءِ، لِأَنَّهَا مُتَكَرِّرَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ تَقَعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. الثَّانِي: مُضْمَرُ الْفِعْلِ فِيمَا ذَكَرَ كَمُظْهَرِهِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّ سَلَامَ الْخَلِيلِ أَبْلَغُ مِنْ سَلَامِ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ: {فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هُودٍ: 69] فَإِنَّ نَصْبَ (سَلَامًا) إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ، أَيْ: سَلَّمْنَا سَلَامًا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُؤْذِنَةٌ بِحُدُوثِ التَّسْلِيمِ مِنْهُمْ، إِذِ الْفِعْلُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ وُجُودِ الْفَاعِلِ. بِخِلَافِ سَلَامِ إِبْرَاهِيمَ؛ فَإِنَّهُ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ، فَاقْتَضَى الثُّبُوتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا يَعْرِضُ لَهُ الثُّبُوتُ، فَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُحَيِّيَهُمْ بِأَحْسَنِ مِمَّا حَيَّوْهُ بِهِ. الثَّالِثُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَى الثُّبُوتِ، وَالْفِعْلِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَان: وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو الْمُطَرِّفِ بْنُ عُمَيْرَةَ فِي كِتَابِ التَّمْوِيهَاتِ عَلَى التِّبْيَانِ لِابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ غَرِيبٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، فَإِنَّ الِاسْمَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ فَقَطْ؛ أَمَّا كَوْنُهُ يُثْبِتُ الْمَعْنَى لِلشَّيْءِ فَلَا. ثُمَّ أَوْرَدَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 15- 16]. وَقَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 57- 58]. وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّر: طَرِيقَةُ الْعَرَبِيَّةِ تَلْوِينُ الْكَلَامِ، وَمَجِيءُ الْفِعْلِيَّةِ تَارَةً وَالِاسْمِيَّةِ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِمَا ذَكَرُوهُ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ تَصْدُرُ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْخُلَّصِ، اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِدُونِ التَّأْكِيدِ، نَحْوَ: {رَبَّنَا آمَنَّا} [آلِ عِمْرَانَ: 53]. وَلَا شَيْءَ بَعْدَ {آمَنَ الرَّسُولُ} [الْبَقَرَة: 285] وَقَدْ جَاءَ التَّأْكِيدُ فِي كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [الْبَقَرَة: 11].
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَبِيلُ الْوَاجِبَاتِ فِي الْمَصْدَرِ الْإِتْيَانُ بِالْمَصْدَرِ مَرْفُوعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [الْبَقَرَة: 229]. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [الْبَقَرَة: 178]. وَسَبِيلُ الْمَنْدُوبَاتِ فِي الْمَصْدَرِ الْإِتْيَانُ بِهِ مَنْصُوبًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَضَرْبُ الرِّقَابِ} [مُحَمَّدٍ: 4]. وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا: هَلْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلزَّوْجَاتِ وَاجِبَةً؟ لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِه: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [الْبَقَرَة: 240]. بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [الذَّارِيَات: 25]، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَنْدُوبٌ، وَالثَّانِيَ وَاجِبٌ. وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ أَثْبَتُ وَآكَدُ مِنَ الْفِعْلِيَّةِ.
هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: عَطْفٌ عَلَى اللَّفْظِ شُرُوطه وَهُوَ الْأَصْلُ، وَشَرْطُهُ إِمْكَانُ تَوَجُّهِ الْعَامِلِ إِلَى الْمَعْطُوفِ. وَعَطْفٌ عَلَى الْمَحَلِّ وَشُرُوطه، وَلَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: إِمْكَانُ ظُهُورِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ فِي الصَّحِيحِ، فَلَا يَجُوزُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرًا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَرَرْتُ زَيْدًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ، فَلَا يَجُوزُ: هَذَا الضَّارِبُ زَيْدًا وَأَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمُسْتَوْفِيَ لِشُرُوطِ الْعَمَلِ الْأَصْلُ إِعْمَالُهُ لَا إِضَافَتُهُ. الثَّالِثُ: وُجُودُ الْمُحْرِزِ، أَي: الطَّالِبِ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ، فَلَا يَجُوزُ: إِنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا قَاعِدَانِ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ لِرَفْعِ عَمْرٍو هُوَ الِابْتِدَاءُ، وَهُوَ قَدْ زَالَ بِدُخُولِ (إِنَّ). وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّرْطِ الْكِسَائِيُّ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 69]. وَأُجِيبُ بِأَنَّ خَبَرَ (إِنَّ) فِيهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَأْجُورُونَ أَوْ آمِنُونَ. وَلَا تَخْتَصُّ مُرَاعَاةُ الْمَوْضِعِ بِأَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي اللَّفْظِ زَائِدًا. وَقَدْ أَجَازَ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِه: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هُودٍ: 60] أَنْ يَكُونَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ هَذِهِ. وَعَطْفُ التَّوَهُّمِ شُرُوطُهُ نَحْوَ: (لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا وَلَا قَاعِدٍ) بِالْخَفْضِ، عَلَى تَوَهُّمِ دُخُولِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ. وَشَرْطُ جَوَازِه: صِحَّةُ دُخُولِ ذَلِكَ الْعَامِلِ الْمُتَوَهَّمِ، وَشَرْطُ حُسْنِهِ كَثْرَةُ دُخُولِهِ هُنَاكَ. وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْعَطْفُ فِي الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ: بَدَا لِي أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى *** وَلَا سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا وَفِي الْمَجْزُومِ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِ أَبِي عَمْرٍو {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} [الْمُنَافِقُونَ: 10] خَرَّجَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّوَهُّمِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى (لَوْلَا أَخَّرْتَنِي فَأَصَّدَّقَ) وَمَعْنَى (أَخِّرْنِي أَصَّدَّقْ) وَاحِدٌ. وَقِرَاءَةُ قُنْبُلٍ: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ) [يُوسُفَ: 90] خَرَّجَهُ الْفَارِسِيُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ (مَنْ) الْمَوْصُولَةَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ. وَفِي الْمَنْصُوبِ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَابْنِ عَامِرٍ: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هُودٍ: 71] بِفَتْحِ الْبَاءِ، لِأَنَّهُ عَلَى مَعْنَى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ). وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} [الصَّافَّات: 7]: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الصَّافَّات: 6]. وَهُوَ: إِنَّا خَلَقْنَا الْكَوَاكِبَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قِرَاءَة: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوا) [الْقَلَم: 9] إِنَّهُ عَلَى مَعْنَى (أَنْ تُدْهِنَ). وَقِيلَ: فِي قِرَاءَةِ حَفْصٍ {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} [غَافِرٍ: 36]، بِالنَّصْب: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى (لَعَلِّي أَنْ أَبْلُغَ)؛ لِأَنَّ خَبَرَ (لَعَلَّ) يَقْتَرِنُ بِأَنْ كَثِيرًا. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ} [الرُّوم: 46]. إِنَّهُ عَلَى تَقْدِير: (لِيُبَشِّرَكُمْ وَيُذِيقَكُمْ).
تَنْبِيهٌ عَلَى عَطْفِ التَّوَهُّم: ظَنَّ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوَهُّمِ الْغَلَطُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ، وَابْنُ هِشَامٍ بَلْ هُوَ مَقْصِدٌ صَوَابٌ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ: جَوَّزَ الْعَرَبِيُّ فِي ذِهْنِهِ مُلَاحَظَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَعَطَفَ مُلَاحِظًا لَهُ، لَا أَنَّهُ غَلِطَ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَدَبُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى.
مَسْأَلَةٌ: اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَعَكْسِهِ، فَمَنَعَهُ الْبَيَانِيُّونَ وَابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُصْفُورٍ، وَنَقَلَهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَأَجَازَهُ الصَّفَّارُ وَجَمَاعَةٌ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} فِي سُورَةِ [الْبَقَرَة: 25]. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فِي سُورَةِ الصَّفِّ [13]. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأُولَى: لَيْسَ الْمُعْتَمَدُ بِالْعَطْفِ الْأَمْرَ حَتَّى يُطْلَبَ لَهُ مُشَاكِلٌ، بَلِ الْمُرَادُ عَطْفُ جُمْلَةِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى جُمْلَةِ ثَوَابِ الْكَافِرِينَ. وَفِي الثَّانِيَة: إِنَّ الْعَطْفَ عَلَى (أَفَتُؤْمِنُونَ) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى (آمَنُوا). وَرُدَّ بِأَنَّ الْخِطَابَ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَبِـ (بَشِّرْ) لِلنَّبِيِّ وَبِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي {أَفَتُؤْمِنُونَ} إِنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلتِّجَارَةِ لَا طَلَبٌ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: الْأَمْرَانِ مَعْطُوفَانِ عَلَى (قُلْ) مَقْدَّرَةٍ قَبْلَ {يَا أَيُّهَا} وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ.
مَسْأَلَةٌ: اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ عَطْفِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ وَعَكْسِه: فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ. وَقَدْ لَهِجَ بِهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ كَثِيرًا، وَرَدَّ بِهِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الْأَنْعَام: 121]. فَقَالَ: هِيَ حُجَّةٌ لِلْجَوَازِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ: أَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ عَاطِفَةً، لِتَخَالُفِ الْجُمْلَتَيْنِ بِالِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ. وَلَا لِلِاسْتِئْنَافِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوَاوِ أَنْ تَرْبِطَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا. فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ جُمْلَةً مُقَيَّدَةً لِلنَّهْيِ، وَالْمَعْنَى لَا تَأْكُلُوا مِنْهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِسْقًا، وَمَفْهُومُهُ جَوَازُ الْأَكْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِسْقًا، وَالْفِسْقُ قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِه: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الْأَنْعَام: 145]. فَالْمَعْنَى: لَا تَأْكُلُوا مِنْهُ إِذَا سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ. وَمَفْهُومُهُ: فَكُلُوا مِنْهُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَوْ أُبْطِلَ الْعَطْفُ بِتَخَالُفِ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ لَكَانَ صَوَابًا.
مَسْأَلَةٌ: اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيِ عَامِلَيْن: فَالْمَشْهُورُ عَنْ سِيبَوَيْهِ الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ السَّرَّاجِ وَابْنُ هِشَامٍ. وَجَوَّزَهُ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الْجَاثِيَة: 3- 5] فِيمَنْ نَصَبَ (آيَاتٍ) الْأَخِيرَةَ.
مَسْأَلَةٌ: اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارّ: فَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى الْمَنْعِ، وَبَعْضُهُمْ وَالْكُوفِيُّونَ عَلَى الْجَوَازِ. وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النِّسَاء: 1]. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 217]: إِنَّ الْمَسْجِدَ مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرِ (بِهِ) وَإِنْ لَمْ يُعَدِ الْجَارُّ. قَالَ: وَالَّذِي نَخْتَارُهُ جَوَازُ ذَلِكَ؛ لِوُرُودِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا نَظْمًا وَنَثْرًا. قَالَ: وَلَسْنَا مُتَعَبَّدِينَ بِاتِّبَاعِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، بَلْ نَتَّبِعُ الدَّلِيلَ.
|