الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
أَمْثِلَةُ النَّهَارِيِّ كَثِيرَةٌ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: نَزَلَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ نَهَارًا; وَأَمَّا اللَّيْلِيُّ فَتَتَبَّعْتُ لَهُ أَمْثِلَةً: مِنْهَا: آيَةُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ أَتَاهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ». وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَتْ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 144]. فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كُلُّهُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ». لَكِنْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاء: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَلَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشْرَ- أَوْ سَبْعَةَ عَشْرَ شَهْرًا- وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَإِنَّهُ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا الْعَصْرَ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِالِلَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ الْكَعْبَةِ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ». فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ نَهَارًا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. قَالَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّين: وَالْأَرْجَحُ بِمُقْتَضَى الَاسْتِدْلَالِ نُزُولُهَا بِاللَّيْلِ؛ لِأَنَّ قَضِيَّةَ أَهْلِ قُبَاءَ كَانَتْ فِي الصُّبْحِ، وَقُبَاءُ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الْبَيَانَ لَهُمْ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الصُّبْحِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَقْوَى أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ نَهَارًا، وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْخَبَرَ وَصَلَ وَقْتَ الْعَصْرِ إِلَى مَنْ هُوَ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَوَصَلَ وَقْتَ الصُّبْحِ إِلَى مَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَهْلُ قُبَاءَ. وَقَوْلُهُ: (قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ) مَجَازٌ، مِنْ إِطْلَاقِ اللَّيْلَةِ عَلَى بَعْضِ الْيَوْمِ الْمَاضِي وَالَّذِي يَلِيهِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: «مَرَرْنَا يَوْمًا وَرَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقُلْتُ: لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، فَجَلَسْتُ، فَقَرَأَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ». وَمِنْهَا: أَوَاخِرُ آلِ عِمْرَانَ، أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ، فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ التَّفَكُّرِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَذِّنُّهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَوَجَدَهُ يَبْكِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَبْكِيَ وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 190]، ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ». وَمِنْهَا: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَة: 67] أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ، حَتَّى نَزَلَتْ، فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ». وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عِصْمَةَ بْنِ مَالِكٍ الْخَطْمِيِّ، قَالَ: «كُنَّا نَحْرُسُ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ حَتَّى نَزَلَتْ، فَتَرَكَ الْحَرَسَ». وَمِنْهَا: سُورَةُ الْأَنْعَامِ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ لَيْلًا جُمْلَةً، حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ يَجْأَرُونَ بِالتَّسْبِيحِ. وَمِنْهَا: آيَةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ كَعْبٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا حَتَّى بَقِيَ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ. وَمِنْهَا: سُورَةُ مَرْيَمَ؛ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيِّ، قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: وُلِدَتْ لِيَ اللَّيْلَةَ جَارِيَةٌ، فَقَالَ: وَاللَّيْلَةَ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ مَرْيَمَ، سَمِّهَا مَرْيَمَ». وَمِنْهَا: أَوَّلُ الْحَجِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَرَكَاتٍ السَّعْدِيُّ فِي كِتَابِهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَجَزَمَ بِهِ السَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ لَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، وَقَدْ نَعَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ وَتَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ فَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ.. الْحَدِيثَ. وَمِنْهَا: آيَةُ الْإِذْنِ فِي خُرُوجِ النِّسْوَةِ فِي الْأَحْزَابِ، قَالَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّين: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 59]. فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: «خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ، فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ، أَمَا وَالِلَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ. قَالَتْ: فَانْكَفَأْتُ رَاجِعَةً إِلَى رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لِيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا؛ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَإِنَّ الْعَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ». قَالَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّين: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلًا؛ لِأَنَّهُنَّ إِنَّمَا كُنَّ يَخْرُجْنَ لِلْحَاجَةِ لَيْلًا، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ. وَمِنْهَا: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزُّخْرُف: 45] عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَمِنْهَا: أَوَّلُ الْفَتْحِ، فَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيث: «لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَقَرَأَ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)... الْحَدِيثَ». وَمِنْهَا: سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَمِنْهَا: سُورَةُ (وَالْمُرْسَلَاتِ)، قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ الْحَيَّةِ بِحِرَاءَ. قُلْتُ: هَذَا أَثَرٌ لَا يُعْرَفُ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي صَحِيحِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَهُوَ مُسْتَخْرِجُهُ عَلَى الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ عَرَفَةَ بِغَارِ مِنًى، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِدُونِ قَوْلِهُ لَيْلَةَ: عَرَفَةَ. وَالْمُرَادُ بِهَا: لَيْلَةَ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِنَّهَا الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُهَا بِمِنًى. وَمِنْهَا: الْمُعَوِّذَتَانِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي الْمَصَاحِف: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نَبَّأَنَا أَبُو دَاوُدَ، نَبَّأَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَبَّأْنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}». وَمِنْهُ: مَا نَزَلَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَذَلِكَ آيَاتٌ. مِنْهَا: آيَةُ التَّيَمُّمِ فِي الْمَائِدَةِ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ: وَحَضَرَتِ الصُّبْحُ فَالْتَمَسَ الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} إِلَى قَوْلِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْمَائِدَة: 6]. وَمِنْهَا: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آلِ عِمْرَانَ: 128]. فَفِي الصَّحِيح: أَنَّهَا نَزَلَتْ وَهُوَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ يَدْعُوَ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ. تَنْبِيهٌ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَصْنَعُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «أَصْدَقُ الرُّؤْيَا مَا كَانَ نَهَارًا؛ لِأَنَّ الِلَّهِ خَصَّنِي بِالْوَحْيِ نَهَارًا». أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكَلَالَةِ آيَتَيْن: إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ، وَهِيَ الَّتِي فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ، وَالْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ وَهِيَ الَّتِي فِي آخِرِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُمْرَ: مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «يَا عُمَرُ أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ». وَفِي الْمُسْتَدْرَك: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ الِلَّهِ مَا الْكَلَالَةُ؟ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}» [النِّسَاء: 176]. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ فِي سَفَرِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَيُعَدُّ مِنَ الصَّيْفِيِّ مَا نَزَلَ فِيهَا كَأَوَّلِ الْمَائِدَةِ، وَقَوْلُهُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَة: 3] {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ} [الْبَقَرَة: 281]. وَآيَةُ الدَّيْنِ وَسُورَةُ النَّصْرِ. وَمِنْهُ: الْآيَاتُ النَّازِلَةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَقَدْ كَانَتْ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدِ الِلَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: «أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَخْرُجُ فِي وَجْهٍ مِنْ مَغَازِيهِ إِلَا أَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أُرِيدُ الرُّومَ فَأَعْلَمَهُمْ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ الْبَأْسِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ وَجَدْبِ الْبِلَادِ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي جِهَازِهِ إِذْ قَالَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: هَلْ لَكَ فِي بَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدًا أَشَدُّ عُجْبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ يَفْتِنَنِّي، فَأْذَنْ لِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي» الْآيَةَ [التَّوْبَة: 49]». وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التَّوْبَة: 81]. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشِّتَائِيّ: قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} إِلَى قَوْلِه: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النُّور: 11- 26]. فَفِي الصَّحِيح: عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمٍ شَاتٍ. وَالْآيَاتُ الَّتِي فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، فَقَدْ كَانَتْ فِي الْبَرْدِ، فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ إِلَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، «فَأَتَانِي رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قُمْ فَانْطَلِقْ إِلَى عَسْكَرِ الْأَحْزَابِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا قُمْتُ لَكَ إِلَا حَيَاءً، مِنَ الْبَرْدِ». الْحَدِيثَ؛ وَفِيه: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الِلَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ}» [الْأَحْزَاب: 9] إِلَى آخِرِهَا. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْفِرَاشِيِّ قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَة: 67] كَمَا تَقَدَّمَ. وَآيَةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، فَفِي الصَّحِيح: «أَنَّهَا نَزَلَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ ثُلُثُهُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ». وَاسْتَشْكَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ عَائِشَةَ: «مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ فِي فِرَاشِ امْرَأَةٍ غَيْرِهَا». قَالَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّين: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَ الْوَحْيُ فِيهَا فِي فِرَاشِ أُمِّ سَلَمَةَ. قُلْتُ: ظَفِرْتُ بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجَوَابُ الَّذِي أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، فَرَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِه: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أُعْطِيتُ تِسْعًا» الْحَدِيثَ، وَفِيه: «وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ لِيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي أَهْلِهِ فَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ لِيَنْزِلُ عَلَيْهِ وَأَنَا مَعَهُ فِي لِحَافِهِ» وَعَلَى هَذَا لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا النَّوْمِيُّ: فَفِي أَمْثِلَتِهِ سُورَةُ الْكَوْثَرِ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ غَفَا إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَ رَسُولَ الِلَّهِ؟ فَقَالَ: أُنْزِلَ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بِسْمِ الِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}». وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي أَمَالِيه: فَهُمْ فَاهِمُونَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْإِغْفَاءَةِ، وَقَالُوا: مِنَ الْوَحْيِ مَا كَانَ يَأْتِيهِ فِي النَّوْمِ; لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. قَالَ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ نَزَلَ فِي الْيَقَظَةِ، وَكَأَنَّهُ خَطَرَ لَهُ فِي النَّوْمِ سُورَةُ الْكَوْثَرِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْيَقَظَةِ، أَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْكَوْثَرُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ السُّورَةُ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَفَسَّرَهَا لَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَرِيهِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَيُقَالُ: لَهَا بِرَجَاءِ الْوَحْيِ. انْتَهَى. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي غَايَةِ الِاتِّجَاهِ، وَهُوَ الَّذِي كُنْتُ أَمِيلُ إِلَيْهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَخِيرِ أَصَحُّ مِنَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُنْزِلَ عَلَيَّ آنِفًا يَدْفَعُ كَوْنَهَا نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ: نَزَلَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ، لَيْسَ الْإِغْفَاءُ إِغْفَاءَ نَوْمٍ، بَلِ الْحَالَةُ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَرِيهِ عِنْدَ الْوَحْيِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ كَانَ يُؤْخَذُ عَنِ الدُّنْيَا.
تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنُ الْعَرَبِيّ: إِنَّ مِنَ الْقُرْآنِ سَمَائِيًّا وَأَرْضِيًّا، وَمَا نَزَلَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَا نَزَلَ تَحْتَ الْأَرْضِ فِي الْغَارِ. قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا التَّمِيمِيُّ، أَنْبَأَنَا هِبَةُ الِلَّهِ الْمُفَسِّرُ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ إِلَا سِتَّ آيَاتٍ، نَزَلَتْ لَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ; ثَلَاثٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ {وَمَا مِنَّا إِلَا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [164- 166] الْآيَاتُ الثَّلَاثُ. وَوَاحِدَةٌ فِي الزُّخْرُف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} الْآيَةَ [45]. وَالْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَزَلَتَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ فِي الْفَضَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ: وَأَمَّا مَا نَزَلَ تَحْتَ الْأَرْضِ فَسُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قُلْتُ: أَمَّا الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى مُسْتَنَدٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِيهَا، إِلَّا آخِرَ الْبَقَرَةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى... الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَأُعْطِيَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ مِنْ أُمَّتِهِ بِالِلَّهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ». وَفِي الْكَامِلِ لِلْهُذَلِيّ: {آمَنَ الرَّسُولُ} [الْبَقَرَة: 285- 286] إِلَى آخِرِهَا بِقَابَ قَوْسَيْنِ.
اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ {اقْرَأْ بَاسِمِ رَبِّكَ}، رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهَا فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِي الثَّانِيةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حَتَّى بَلَغَ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعَلَق: 1- 5] فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ»... الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَصَحَّحَاهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ {اقْرَأْ بَاسِمِ رَبِّكَ}. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيح: عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى يُقْرِئُنَا فَيُجْلِسُنَا حِلَقًا، عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ، فَإِذَا تَلَا هَذِهِ السُّورَةَ: {اقْرَأْ بَاسِمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. [الْعَلَق: 1] قَالَ: هَذِهِ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِه: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ؟ فَوَالِلَّهِ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [الْعَلَق: 1]، فَكَانَ يَقُولُ: هُوَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ». وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِه: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [الْعَلَق: 1] وَ{نون وَالْقَلَمِ} [الْقَلَم: 1]. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَمَطٍ. فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}» [الْعَلَق: 1] فَيَرَوْنَ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ عَنِ الزُّهْرِيّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِحِرَاءَ، إِذْ أَتَى مَلَكٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إِلَى {مَا لَمْ يَعْلَمْ}» [الْعَلَق: 1- 5]. الْقَوْلُ الثَّانِي: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [الْمُدَّثِّر: 1]. رَوَى الشَّيْخَانِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبَدِ الِلَّه: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قُلْتُ: أَوِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}؟ قَالَ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِي، فَنَظَرْتُ أَمَامِي، وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ- يَعْنِي جِبْرِيلَ- فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَأَمَرَتْهُمْ فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}». وَأَجَابَ الْأَوَّلُ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ، عَنْ نُزُولِ سُورَةٍ كَامِلَةٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ نَزَلَتْ بِكَمَالِهَا قَبْلَ نُزُولِ تَمَامِ السُّورَةِ اقْرَأْ، فَإِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْهَا صَدْرُهَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ- أَيْضًا- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ، عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِه: «بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِرُ}». فَقَوْلُهُ الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُتَأَخِّرَةٌ، عَنْ قِصَّةِ حِرَاءَ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}. ثَانِيهَا: أَنَّ مُرَادَ جَابِرٍ بِالْأَوَّلِيَّةِ أَوَّلِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، لَا أَوَّلِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ. ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ، عَنْ هَذَا بِقَوْلِه: أَوَّلُ مَا نَزَلَ لِلنُّبُوَّة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [الْعَلَق: 1] وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ لِلرِّسَالَةِ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [الْمُدَّثِّر: 1]. رَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنَ التَّدَثُّرِ النَّاشِئِ، عَنِ الرُّعْبِ، وَأَمَّا (اقْرَأْ) ابْتِدَاءً فَنَزَلَتْ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. خَامِسُهَا: أَنَّ جَابِرًا اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ رِوَايَتِهِ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ. قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ. وَأَحْسَنُ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الْأَوَّلُ وَالْأَخِيرُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، قَالَ فِي الْكَشَّاف: ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ (اقْرَأْ)، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَا عَدَدٌ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قَالَ. بِالْأَوَّلِ وَحُجَّتُهُ: مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ: «أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ: إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، فَقَدْ وَالِلَّهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا. فَقَالَتْ: مَعَاذَ الِلَّهِ، مَا كَانَ الِلَّهُ لِيَفْعَلَ بِكَ، فَوَالِلَّهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ» الْحَدِيثَ. «فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ حَدِيثَهُ لَهُ، وَقَالَتْ: اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ. فَانْطَلَقَا فَقَصَّا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأُفُقِ فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ إِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي. فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ يَا مُحَمَّدُ قُلْ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حَتَّى بَلَغَ {وَلَا الضَّالِّينَ}». الْحَدِيثَ. هَذَا مُرْسَلٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ نُزُولِهَا بَعْدَ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ (اقْرَأْ) وَ(الْمُدَّثِّرُ). الْقَوْلُ الرَّابِعُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. حَكَاهُ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ قَوْلًا زَائِدًا. وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ، قَالَا: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ {بِسْمِ الِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَأَوَّلُ سُورَةٍ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَعِذْ، ثُمَّ قُلْ {بِسْمِ الِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وَعِنْدِي: أَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ قَوْلًا بِرَأْسِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ نُزُولِ السُّورَةِ نُزُولُ الْبَسْمَلَةِ مَعَهَا فَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَوَرَدَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا: بِأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ (اقْرَأْ) وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ (مِنْ) مُقَدَّرَةٌ: أَيْ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ. وَالْمُرَادُ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، فَإِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، وَفِي آخِرِهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَلَعَلَّ آخِرَهَا قَبْلَ نُزُولِ بَقِيَّةَ (اقْرَأْ). فَرْعٌ. أَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، يَقُولُ: أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}. وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِهَا (الْمُؤْمِنُونَ). وَيُقَالُ (الْعَنْكَبُوتُ). وَأَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}. وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِهَا {بَرَاءَةٌ} وَأَوَّلُ سُورَةٍ أَعْلَنَهَا رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ (النَّجْمُ). وَفِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لَابْنِ حَجَرٍ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَفِي دَعْوَى الَاتِّفَاقِ نَظَرٌ، لِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَذْكُورِ. وَفِي تَفْسِيرِ النَّسَفِيِّ عَنِ الْوَاقِدِيّ: أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ سُورَةُ (الَقَدْرِ). وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ أَبْيَضَ فِي جُزْئِهِ الْمَشْهُور: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عُبَيْدُ الِلَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ الْأَزْدِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، ثُمَّ {ن وَالْقَلَمِ}، ثُمَّ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ثُمَّ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ثُمَّ الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}، ثُمَّ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، ثُمَّ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، ثُمَّ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، ثُمَّ وَالْفَجْرِ، ثُمَّ وَالضُّحَى، ثُمَّ {أَلَمْ نَشْرَحْ}، ثُمَّ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ الْكَوْثَرَ، ثُمَّ {أَلْهَاكُمُ}، ثُمَّ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ}، ثُمَّ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ}، ثُمَّ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، ثُمَّ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثُمَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ثُمَّ وَالنَّجْمِ، ثُمَّ عَبَسَ، ثُمَّ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، ثُمَّ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، ثُمَّ الْبُرُوجَ، ثُمَّ وَالتِّينِ، ثُمَّ لِإِيلَافِ، ثُمَّ الْقَارِعَةَ، ثُمَّ الْقِيَامَةَ، ثُمَّ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ}، ثُمَّ وَالْمُرْسَلَاتِ، ثُمَّ ق، ثُمَّ الْبَلَدُ، ثُمَّ الطَّارِقُ، ثُمَّ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، ثُمَّ ص، ثُمَّ الْأَعْرَافَ، ثُمَّ الْجِنَّ، ثُمَّ يس، ثُمَّ الْفُرْقَانَ، ثُمَّ الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ كهيعص، ثُمَّ طه ثُمَّ الْوَاقِعَةَ، ثُمَّ الشُّعَرَاءَ، ثُمَّ طس سُلَيْمَانَ، ثُمَّ طسم الْقِصَصِ، ثُمَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ التَّاسِعَةَ- يَعْنِي يُونُسَ- ثُمَّ هُودًا، ثُمَّ يُوسُفَ، ثُمَّ الْحِجْرَ، ثُمَّ الْأَنْعَامَ، ثُمَّ الصَّافَّاتِ، ثُمَّ لُقْمَانَ، ثُمَّ سَبَأً، ثُمَّ الزُّمَرَ، ثُمَّ حم الْمُؤْمِنِ، ثُمَّ حم السَّجْدَةِ، ثُمَّ حم الزُّخْرُفِ، ثُمَّ حم الدُّخَانِ، ثُمَّ حم الْجَاثِيَةِ ثُمَّ حم الْأَحْقَافِ ثُمَّ الذَّارِيَاتَ، ثُمَّ الْغَاشِيَةَ، ثُمَّ الْكَهْفَ، ثُمَّ حم عسق، ثُمَّ تَنْزِيلَ السَّجْدَةِ، ثُمَّ الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ النَّحْلَ أَرْبَعِينَ وَبَقِيَّتَهَا بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ {إِنَّا أَرْسَلَنَا نُوحًا}، ثُمَّ الطَّوْرَ، ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ تَبَارَكَ، ثُمَّ الْحَاقَّةَ، ثُمَّ سَأَلَ، ثُمَّ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}، ثُمَّ (وَالنَّازِعَاتِ)، ثُمَّ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}، ثُمَّ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، ثُمَّ الرُّومَ، ثُمَّ الْعَنْكَبُوتَ، ثُمَّ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فَذَاكَ مَا أُنْزِلَ بِمَكَّةَ. وَأُنْزِلَ بِالْمَدِينَة: سُورَةَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ آلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ الْأَنْفَالَ، ثُمَّ الْأَحْزَابَ، ثُمَّ الْمَائِدَةَ، ثُمَّ الْمُمْتَحَنَةَ، ثُمَّ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الِلَّهِ} ثُمَّ الْحَجَّ، ثُمَّ الْمُنَافِقُونَ، ثُمَّ الْمُجَادَلَةَ، ثُمَّ التَّحْرِيمَ، ثُمَّ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ التَّغَابُنَ، ثُمَّ سَبَّحَ الْحَوَارِيِّينَ، ثُمَّ الْفَتْحَ، ثُمَّ التَّوْبَةَ، ثُمَّ خَاتِمَةَ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: هَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَفِي هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ بالْقُرْآنِ، وَقَدِ اعْتَمَدَ الْبُرْهَانُ الْجَعْبَرِيُّ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا: تَقْرِيبُ الْمَأْمُولِ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ، فَقَالَ: مَكِّيُّهَا سِتٌّ ثَمَانُونَ اعْتَلَتْ *** نُظِمَتْ عَلَى وَفْقِ النُّزُولِ لِمَنْ تَلَا اقْرَأْ وَنُونٌ مُزَّمِّلٌ مُدَّثِّرٌ *** وَالْحَمْدُ تَبَّتْ كُوِّرَتِ الْأَعْلَى عَلَا لَيْلٌ وَفَجْرٌ وَالضُّحَى شَرْحٌ وَعَصْـ *** ـرُ الْعَادِيَّاتِ وَكَوْثَرٌ أَلْهَاكُمْ تَلَا أَرَأَيْتَ قُلْ بِالْفِيلِ مَعْ فَلَقٍ كَذَا *** نَاسٌ وَقُلْ هُوَ نَجْمُهَا عَبَسٌ جَلَا قَدْرٌ وَشَمْسٌ وَالْبُرُوجُ وَتِينُهَا *** لِإِيلَافِ قَارِعَةً قِيَامَةَ أَقْبَلَا وَيْلٌ لِكُلِّ الْمُرْسَلَاتِ وَقَافُ مَعْ *** بَلَدٌ وَطَارِقُهَا مَعَ اقْتَرَبَتْ كِلَا صَادٌ وَأَعْرَافٌ وَجِنٌّ ثُمَّ يَا *** سِينٌ وَفُرْقَانٌ وَفَاطِرٌ اعْتَلَى كَافٌ وَطه ثُلَّةُ الشِّعْرِ وَنَمْـ *** ـلُ قَصُّ الْإِسْرَا يُونُسُ هُودٌ وَلَا قُلْ يُوسُفُ حِجْرٌ وَأَنْعَامٌ وَذَبْـ *** ـحٌ ثُمَّ لُقْمَانُ سَبَأْ زُمَرٌ خَلَا مَعَ غَافِرٍ مَعَ فُصِّلَتْ مَعَ زُخْرُفٍ *** وَدُخَانُ جَاثِيَةٍ وَأَحْقَافٌ تَلَا ذَرَوٌ وَغَاشِيَةٌ وَكَهْفٌ، ثُمَّ شُو *** رَى وَالْخَلِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ نَحْلٌ حَلَا وَمَضَاجِعٌ نُوحٌ وَطُورٌ وَالْفَلَا *** حُ الْمُلْكِ وَاعِيَةٌ وَسَالَ وَعَمَّ لَا غَرَقٌ مَعَ انْفَطَرَتْ وَكَدْحٌ، ثُمَّ رُو *** مُ الْعَنْكَبُوتِ وَطُفِّفَتْ فَتَكَمَّلَا وَبِطَيِّبَةٍ عِشْرُونَ ثُمَّ ثَمَانٌ الطُّو *** لَى وَعِمْرَانٌ وَأَنْفَالٌ جَلَا لِأَحْزَابِ مَائِدَةِ امْتِحَانٌ وَالنِّسَا *** مَعَ زُلْزِلَتْ ثُمَّ الْحَدِيدِ تَأَمَّلَا وَمُحَمَّدٌ وَالرَّعْدُ وَالرَّحْمَنُ الْإِنْسَـ *** ـانُ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَكُنْ حَشْرٌ مَلَا نَصْرٌ وَنُوحٌ ثُمَّ حَجَّ وَالْمُنَا *** فِقُ مَعْ مُجَادَلَةٍ وَحُجْرَاتٍ وَلَا تَحْرِيمُهَا مَعَ جُمْعَةٍ وَتَغَابُنٍ *** صَفٌّ وَفَتْحٌ تَوْبَةٌ خُتِمَتْ أُولَى أَمَّا الَّذِي قَدْ جَاءَنَا سَفَرِيُّهُ *** عُرْفِيٌ اكْمَلْتُ لَكُمْ قَدْ كُمِّلَا لَكِنْ إِذَا قُمْتُمْ فَجَيْشِيٌّ بَدَا *** وَاسْأَلْ مَنَ ارْسَلْنَا الشَّآمِيُّ اقْبَلَا إِنَّ الَّذِي فَرَضَ انْتَمَى جُحْفِيُّهَا *** وَهُوَ الَّذِي كَفَّ الْحُدَيْبِيُّ انْجَلَى
أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْقِتَالِ مِنَ الْقُرْآن: رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَك: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَال: {أُذِنَ لِلَّذِينِ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الْحَجّ: 39]. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الِلَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [الْبَقَرَة: 190]. وَفِي الْإِكْلِيلِ لِلْحَاكِم: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي الْقِتَال: {إِنَّ الِلَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التَّوْبَةَ: 111]. أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْقَتْل: آيَةُ الْإِسْرَاءِ {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} الْآيَةَ [33] أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ. أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْخَمْرِ مِنَ الْقُرْآن: رَوَى الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «نَزَلَ فِي الْخَمْرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ: فَأَوَّلُ شَيْءٍ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةُ: 219] فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، دَعْنَا نَنْتَفِعْ بِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ؛ فَسَكَتَ عَنْهُمْ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النِّسَاء: 43] فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، لَا نَشْرَبُهَا قُرْبَ الصَّلَاةِ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ، ثُمَّ نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [الْمَائِدَة: 90]، فَقَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ». أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ: آيَةُ الْأَنْعَامِ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [145]، ثُمَّ آيَةُ النَّحْلِ {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [114] إِلَى آخِرِهَا. وَبِالْمَدِينَةِ آيَةُ الْبَقَرَةِ {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} الْآيَةَ [173]، ثُمَّ آيَةُ الْمَائِدَةِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الْآيَةَ [3] قَالَهُ ابْنُ الْحَصَّارِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ النَّجْمُ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مُوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التَّوْبَة: 25] قَالَ: هِيَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، نَبَّأَنَا سَعِيدٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ بَرَاءَةٍ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التَّوْبَةُ: 41]، ثُمَّ نَزَلَ أَوَّلُهَا، ثُمَّ نَزَلَ آخِرُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ بَرَاءَةَ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا {سَنَوَاتٍ، ثُمَّ أُنْزِلَتْ بَرَاءَةٌ أَوَّلُ السُّورَةِ فَأَلْفَتْ بِهَا أَرْبَعُونَ آيَةً. وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ فِي قَوْلِه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا {قَالَ: هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي بَرَاءَةٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ تَبُوكٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، إِلَا ثَمَانٌ وَثَلَاثِينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ آلِ عِمْرَانَ {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [138]، ثُمَّ أُنْزِلَتْ بَقِيَّتُهَا يَوْمَ أُحُدٍ.
فِيهِ اخْتِلَافٌ، فَرَوَى الشَّيْخَان: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النِّسَاءُ: 176]. وَآخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ، وَالْمُرَادُ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الِلَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [الْبَقَرَة: 278]. وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ عُمَرَ: مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا. وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْه: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةُ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: آخِرُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 281]. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ وَالضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِه: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنِ ابْنِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تَرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الِلَّهِ} الْآيَةَ، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الِلَّهِ}، وَعَاشَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تِسْعَ لَيَالٍ، ثُمَّ مَاتَ لَيْلَةَ الَاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ} الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْفَضَائِلِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: آخِرُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالْعَرْشِ آيَةُ الرِّبَا وَآيَةُ الدَّيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّب: أَنَّهُ بَلَّغَهُ أَنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالْعَرْشِ آيَةُ الدَّيْنِ. مُرْسَلٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ عِنْدِي بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي آيَةِ الرِّبَا: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} وَآيَةُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَتَرْتِيبِهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّهَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فَأَخْبَرَ كُلٌّ عَنْ بَعْضِ مَا نَزَلَ بِأَنَّهُ آخِرٌ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَقَوْلُ الْبَرَاء: آخِرُ مَا نَزَلَ: يَسْتَفْتُونَكَ أَيْ: فِي شَأْنِ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ: طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي آيَةِ الرِّبَا: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ خِتَامُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الرِّبَا، إِذْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهِنَّ وَيَجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِ الْبَرَاءِ بِأَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا جَمِيعًا، فَيَصْدُقُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آخِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَدَاهُمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآخِرِيَّةُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ مُقَيَّدَةً بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَارِيثِ بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ. وَيُحْتَمَلُ عَكْسُهُ، الْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَعْنَى الْوَفَاةِ الْمُسْتَلْزَمَةِ لِخَاتِمَةِ النُّزُولِ. انْتَهَى. وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التَّوْبَة: 128- 129] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَرَوَى عَبْدُ الِلَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِيٍّ: أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ رِجَالٌ يَكْتُبُونَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [127]. ظَنُّوا أَنَّ هَذَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبِيُّ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِي بَعْدَهَا آيَتَيْنِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وَقَالَ: هَذَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: فَخَتَمَ بِمَا فَتَحَ بِهِ، بِالِلَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَا هُوَ، وَهُوَ قَوْلُهُ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الْأَنْبِيَاء: 25]. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أُبَيٍّ أَيْضًا، قَالَ: آخِرُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالِلَّهِ هَاتَانِ الْآيَتَانِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِلَفْظ: أَقْرَبُ الْقُرْآنِ بِالسَّمَاءِ عَهْدًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الِلَّهِ وَالْفَتْحُ}. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ.. الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الِلَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَالْفَتْحِ. قُلْتُ: يَعْنِي {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الِلَّهِ}. وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ الْمَشْهُور: بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الَاخْتِلَافَاتِ- إِنْ صَحَّتْ- بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَجَابَ بِمَا عِنْدَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الَانْتِصَارِ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلٌّ قَالَهُ بِضَرْبٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ كُلًّا مِنْهُمْ أَخْبَرَ عَنْ آخِرٍ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَوْ قَبْلَ مَرَضِهِ بِقَلِيلٍ، وَغَيْرُهُ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ هُوَ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الْآيَةَ- الَّتِي هِيَ آخِرُ آيَةٍ تَلَاهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَعَهَا، فَيُؤْمَرُ بِرَسْمِ مَا نَزَلَ مَعَهَا بَعْدَ رَسْمِ تِلْكَ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ آخِرُ مَا نَزَلَ فِي التَّرْتِيبِ. انْتَهَى. وَمِنْ غَرِيبِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} الْآيَةَ [الْكَهْف: 110]، وَقَالَ: إِنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا أَثَرٌ مُشْكِلٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا آيَةٌ تَنْسَخُهَا وَلَا تُغَيِّرُ حُكْمَهَا، بَلْ هِيَ مُثْبَتَةٌ مُحْكَمَةٌ. قُلْتُ: وَمِثْلُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذهِ الْآيَةُ {وَمِنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النِّسَاء: 93] هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَالنِّسَائِيِّ عَنْهُ: لَقَدْ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ، مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ هَذهِ الْآيَةُ {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 195] إِلَى آخِرِهَا. قُلْتُ: وَذَلِكَ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ الِلَّهِ، أَرَى اللَّهَ يَذْكُرُ الرِّجَالَ وَلَا يَذْكُرُ النِّسَاءَ؟ فَنَزَلَتْ {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النِّسَاء: 32]. وَنَزَلَتْ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَلَّمَاتِ} وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَهِيَ آخِرُ الثَّلَاثَةِ نُزُولًا، أَوْ آخِرُ مَا نَزَلَ بَعْدَ مَا كَانَ يَنْزِلُ فِي الرِّجَالِ خَاصَّةً». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ، فَارَقَهَا وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ». قَالَ أَنَسٌ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الِلَّهِ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ الْآيَةَ} [التَّوْبَة: 5]. قُلْتُ: يَعْنِي فِي آخِرِ سُورَةٍ نَزَلَتْ. وَفِي الْبُرْهَانِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْن: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الْأَنْعَام: 145]. مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْحَصَّارِ بِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَلَمْ يَرِدْ نَقْلٌ بِتَأْخِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ نُزُولِ السُّورَةِ، بَلْ هِيَ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُخَاصَمَتِهِمْ وَهُمْ بِمَكَّةَ. انْتَهَى. تَنْبِيهٌ: مِنَ الْمُشْكِلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَة: 3] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَظَاهِرُهَا إِكْمَالُ الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ قَبْلَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ السُّدِّيُّ، فَقَالَ: لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، مَعَ أَنَّهُ وَارِدٌ فِي آيَةِ الرِّبَا وَالدَّيْنِ وَالْكَلَالَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ: الْأَوْلَى أَنْ يَتَأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَإِجْلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ، حَتَّى حَجَّهُ الْمُسْلِمُونَ لَا يُخَالِطُهُمُ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ أَيَّدَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ يَحُجُّونَ جَمِيعًا فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ نُفِيَ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، وَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ لَا يُشَارِكُهُمْ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ. (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي).
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ جَمَاعَةٌ أَقْدَمُهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَمِنْ أَشْهَرِهَا كِتَابُ الْوَاحِدِيِّ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ إِعْوَازٍ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ فَحَذَفَ أَسَانِيدَهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَأَلَّفَ فِيهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ حَجَرٍ كِتَابًا مَاتَ عَنْهُ مُسْوَدَّةً، فَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ كَامِلًا. وَقَدْ أَلَّفْتُ فِيهِ كِتَابًا حَافِلًا مُوجَزًا مُحَرَّرًا لَمْ يُؤَلَّفْ مَثَلُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ، سَمَّيْتُهُ لُبَابُ النُّقُولِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ. قَالَ الْجَعْبَرِيُّ: نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى قِسْمَيْن: قِسْمٌ نَزَلَ ابْتِدَاءً، وَقِسْمٌ نَزَلَ عَقِبَ وَاقِعَةٍ أَوْ سُؤَالٍ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ مَسَائِلٌ:
زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَ هَذَا الْفَنِّ، لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى التَّارِيخِ. وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، بَلْ لَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا: مَعْرِفَةُ وَجْهِ الْحِكْمَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ فِي الْقُرْآنِ. وَمِنْهَا: تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يَكُونُ عَامًّا، وَيَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، فَإِذَا عُرِفَ السَّبَبُ قَصُرَ التَّخْصِيصُ عَلَى مَا عَدَا صُورَتَهُ، فَإِنَّ دُخُولَ صُورَةِ السَّبَبِ قَطْعِيٌّ وَإِخْرَاجُهَا بِالَاجْتِهَادِ مَمْنُوعٌ كَمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ، وَالِالْتِفَاتَ إِلَى مَنْ شَذَّ، فَجَوَّزَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعْنَى وَإِزَالَةُ الْإِشْكَال: قَالَ الْوَّاحِدِيُّ: لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الْآيَةَ دُونَ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّتِهَا وَبَيَانِ نُزُولِهَا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدُ: بَيَانُ سَبَبِ النُّزُولِ طَرِيقٌ قَوِيٌّ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُوَرِّثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ. وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آلِ عِمْرَانَ: 188] وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحٌ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَ سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، وَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ. أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَان: الْخَمْرُ مُبَاحَةٌ، وَيَحْتَجَّانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ [الْمَائِدَةُ: 93] وَلَوْ عَلِمَا سَبَبَ نُزُولِهَا لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ نَاسًا قَالُوا لَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ: كَيْفَ بِمَنْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الِلَّهِ وَمَاتُوا وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَهِيَ رِجْسٌ؟ فَنَزَلَتْ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطَّلَاق: 4] فَقَدْ أَشْكَلَ مَعْنَى هَذَا الشَّرْطِ عَلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، حَتَّى قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: بِأَنَّ الْآيِسَةَ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ تُرَتِّبْ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سَبَبَ النُّزُولِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي عِدَدِ النِّسَاءِ، قَالُوا: قَدْ بَقِيَ عَدَدٌ مِنْ عِدَدِ النِّسَاءِ لَمْ يُذْكَرْنَ: الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ، فَنَزَلَتْ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، عَنْ أُبَيٍّ. فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا حُكْمُهُنَّ فِي الْعِدَّةِ وَارْتَابَ: هَلْ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ عِدَّتُهُنَّ كَاللَّاتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ لَا؟ فَمَعْنَى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) إِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ حُكْمُهُنَّ وَجَهِلْتُمْ كَيْفَ يَعْتَدِدْنَ، فَهَذَا حُكْمُهُنَّ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الِلَّهِ} [الْبَقَرَة: 115]. فَإِنَّا لَوْ تُرِكْنَا وَمَدْلُولَ اللَّفْظِ لَاقْتَضَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ سَفَرًا وَلَا حَضَرًا، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَلَمَّا عُرِفَ سَبَبُ نُزُولِهَا عَلَى أَنَّهَا فِي نَافِلَةِ السَّفَرِ، أَوْ فِيمَنْ صَلَّى بِالَاجْتِهَادِ وَبَانَ لَهُ الْخَطَأُ؛ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الِلَّهِ} [الْبَقَرَة: 158]، فَإِنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّعْيَ. فَرْضٌ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ تَمَسُّكًا بِذَلِكَ، وَقَدْ رَدَّتْ عَائِشَةُ عَلَى عُرْوَةَ فِي فَهْمِهِ ذَلِكَ بِسَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ تَأَثَّمُوا مِنَ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَزَلَتْ. وَمِنْهَا: دَفْعُ تَوَهُّمِ الْحَصْر: قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 145]: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا حَرَّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَكَانُوا عَلَى الْمُضَادَّةِ وَالْمُحَادَّةِ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ مُنَاقِضَةً لِغَرَضِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَلَالَ إِلَا مَا حَرَّمْتُمُوهُ وَلَا حَرَامَ إِلَا مَا أَحْلَلْتُمُوهُ، نَازِلًا مَنْزِلَةَ مِنْ يَقُولُ: لَا تَأْكُلِ الْيَوْمَ حَلَاوَةً، فَتَقُولُ: لَا آكُلُ الْيَوْمَ إِلَا الْحَلَاوَةَ، وَالْغَرَضُ الْمُضَادَّةُ لَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا حَرَامَ إِلَا مَا أَحْلَلْتُمُوهُ، مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الِلَّهِ بِهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ حِلَّ مَا وَرَاءَهُ، إِذِ الْقَصْدُ إِثْبَاتُ التَّحْرِيمِ لَا إِثْبَاتُ الْحِلِّ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْن: وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَلَوْلَا سَبْقُ الشَّافِعِيِّ إِلَى ذَلِكَ لَمَا كُنَّا نَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ مَالِكٍ فِي حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذَكَرَتْهُ الْآيَةُ. وَمِنْهَا: مَعْرِفَةُ اسْمِ النَّازِلِ فِيهِ الْآيَةُ وَتَعْيِينُ الْمُبْهَمُ فِيهَا، وَلَقَدْ قَالَ مَرْوَانُ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّهُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الْأَحْقَاف: 17] حَتَّى رَدَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَبَيَّنَتْ لَهُ سَبَبَ نُزُولِهَا.
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُول: هَلْ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ فِي الْقُرْآنِ؟ وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا: الْأَوَّلُ، وَقَدْ نَزَلَتْ آيَاتٌ فِي أَسْبَابٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَعْدِيَتِهَا إِلَى غَيْرِ أَسْبَابِهَا كَنُزُولِ آيَةِ الظِّهَارِ فِي سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، وَآيَةِ اللِّعَانِ فِي شَأْنِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَحَدِّ الْقَذْفِ فِي رُمَاةِ عَائِشَةَ، ثُمَّ تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ عُمُومَ اللَّفْظِ قَالَ: خَرَجَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَنَحْوُهَا لِدَلِيلٍ آخَرَ، كَمَا قُصِرَتْ آيَاتٌ عَلَى أَسْبَابِهَا اتِّفَاقًا لِدَلِيلٍ قَامَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ الْهُمَزَة: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَاصًّا وَالْوَعِيدُ عَامًّا، لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى التَّعْرِيضِ. قُلْتُ: وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظ: احْتِجَاجُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي وَقَائِعَ بِعُمُومِ آيَاتٍ نَزَلَتْ عَلَى أَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، شَائِعًا ذَائِعًا بَيْنَهُمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَعْشَرٍ، أَخْبَرْنَا أَبِي أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ، سَمِعْتُ سَعِيدَ الْمَقْبُرِيَّ يُذَاكِرُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعَّبٍ الْقُرَظِيَّ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ فِي بَعْضِ كُتُبِ الِلَّه: إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ لَبِسُوا لِبَاسَ مَسُوكِ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، يَجْتَرُّونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذَا فِي كِتَابِ الِلَّه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 204]، فَقَالَ سَعِيدٌ: قَدْ عَرَفْتُ فِيمَنْ أُنْزِلَتْ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ الْآيَةَ تَنْزِلُ فِي الرَّجُلِ ثُمَّ تَكُونُ عَامَّةً بَعْدُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ، لَمْ يَعْتَبِرْ عُمُومَ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 188]، بَلْ قَصَرَهَا عَلَى مَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. قُلْتُ: أُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنَ السَّبَبِ، لَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ خَاصٌّ، وَنَظِيرُهُ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الْأَنْعَام: 82] بِالشِّرْكِ مِنْ قَوْلِهِ {إِنَّ الشِّرْكَ لِظُلْمٍ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13] مَعَ فَهْمِ الصَّحَابَةِ الْعُمُومَ فِي كُلِّ ظُلْمٍ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُمُومِ، فَإِنَّهُ قَالَ بِهِ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ مَعَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي امْرَأَةٍ سَرَقَتْ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو ثَمِيلَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، عَنْ نَجْدَةَ الْحَنَفِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ قَوْلِه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَة: 38] أَخَاصٌّ أَوْ عَامٌّ؟ قَالَ: بَلْ عَامٌّ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: قَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَإِنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الِلَّهِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} [الْمَائِدَة: 49] نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنُّضَيْرِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَالَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ يَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ: إِنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ، وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسْبِ اللَّفْظِ، وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ: إِنْ كَانَتْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِمَنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ. انْتَهَى.
تَنْبِيهٌ: قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِي لَفْظٍ لَهُ عُمُومٌ أَمَّا آيَةٌ نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ وَلَا عُمُومَ لِلَفْظِهَا فَإِنَّهَا تَقْصُرُ عَلَيْهِ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [اللَّيْل: 17- 18] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِّيُّ مَعَ قَوْلِهِ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الِلَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الْحُجُرَات: 13] عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ الِلَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَوَهِمَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلَهُ، إِجْرَاءً لَهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا صِيغَةُ عُمُومٍ، إِذِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِنَّمَا تُفِيدُ الْعُمُومَ إِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً أَوْ مُعَرَّفَةً فِي جَمْعٍ زَادَ قَوْمٌ: (أَوْ مُفْرَدٌ)، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ عَهْدٌ. وَاللَّامُ فِي الْأَتْقَى لَيْسَتْ مَوْصُولَةً، لِأَنَّهَا لَا تُوصَلُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ إِجْمَاعًا، وَالْأَتْقَى لَيْسَ جَمْعًا بَلْ هُوَ مُفْرَدٌ، وَالْعَهْدُ مَوْجُودٌ، خُصُوصًا مَعَ مَا يُفِيدُهُ صِيغَةُ (أَفْعَلَ) مِنَ التَّمْيِيزِ وَقَطْعِ الْمُشَارَكَةِ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ وَتَعَيَّنَ الْقَطْعُ بِالْخُصُوصِ وَالْقَصْرِ عَلَى مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهُ.
تَقَدَّمَ أَنَّ صُورَةَ السَّبَبِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ فِي الْعَامِّ، وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَاتُ عَلَى الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ، وَتُوضَعُ مَعَ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْآيِ الْعَامَّةِ، رِعَايَةً لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ السِّيَاقِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْخَاصُّ قَرِيبًا مِنْ صُورَةِ السَّبَبِ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيَّ الدُّخُولِ فِي الْعَامِّ، كَمَا اخْتَارَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ دُونَ السَّبَبِ وَفَوْقَ الْمُجَرَّدِ، مِثَالُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النِّسَاء: 51] إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَنَحْوِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، لَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ وَشَاهَدُوا قَتْلَى بَدْرٍ، حَرَّضُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِهِمْ وَمُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُمْ: مَنْ أَهْدَى سَبِيلًا؟ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَمْ نَحْنُ؟ فَقَالُوا: أَنْتُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْطَبِقِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ الْمَوَاثِيقِ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَمَانَةً لَازِمَةً لَهُمْ، وَلَمْ يُؤَدُّوهَا حَيْثُ قَالُوا لِلْكُفَّار: أَنْتُمْ أَهْدَى سَبِيلًا حَسَدًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ- مَعَ هَذَا الْقَوْلِ- التَّوَعُّدَ عَلَيْهِ الْمُفِيدَ لِلْأَمْرِ بِمُقَابِلِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي هِيَ بَيَانُ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِفَادَةِ أَنَّهُ الْمَوْصُوفُ فِي كِتَابِهِمْ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ {إِنَّ الِلَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النِّسَاء: 58]. فَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ، وَذَلِكَ خَاصٌّ بِأَمَانَةٍ، هِيَ صِفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِفَادَةِ أَنَّهُ الْمَوْصُوفُ فِي كِتَابِهِمْ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِه: {إِنَّ الِلَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النِّسَاء: 58]. فَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ، وَذَلِكَ خَاصٌّ بِأَمَانَةٍ، هِيَ صِفَةُ النَّبِيِّ، بِالطَّرِيقِ السَّابِقِ، وَالْعَامُّ تَالٍ لِلْخَاصِّ فِي الرَّسْمِ، مُتَرَاخٍ عَنْهُ فِي النُّزُولِ، وَالْمُنَاسَبَةُ تَقْتَضِي دُخُولَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَاصُّ فِي الْعَامِّ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِه: وَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ أَخْبَرَ، عَنْ كِتْمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى سَبِيلًا فَكَانَ ذَلِكَ خِيَانَةً مِنْهُمْ، فَانْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ. انْتَهَى. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يَرِدُ تَأَخُّرُ نُزُولِ آيَةِ الْأَمَانَاتِ، عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا بِنَحْو: سِتِّ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَا فِي الْمُنَاسَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا وَضْعُ آيَةٍ فِي مَوْضِعٍ يُنَاسِبُهَا؛ وَالْآيَاتُ كَانَتْ تُنَزَّلُ عَلَى أَسْبَابِهَا، وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَلِمَ مِنَ الِلَّهِ أَنَّهَا مَوَاضِعُهَا.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْكِتَابِ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ وَالسَّمَاعِ مِمَّنْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وَوَقَفُوا عَلَى الْأَسْبَابِ، وَبَحَثُوا عَنْ عِلْمِهَا. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ سِيرِينَ: سَأَلْتُ عُبَيْدَةَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: اتَّقِ الِلَّهَ، وَقُلْ سَدَادًا، ذَهَبَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْرٌ يَحْصُلُ لِلصَّحَابَةِ بِقَرَائِنَ تَحْتَفُّ بِالْقَضَايَا، وَرُبَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَذَا كَمَا أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ، «عَنْ عَبْدِ الِلَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ»، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ إِنْ كَانَ ابْنُ عَمَّتِكَ! فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ»... الْحَدِيثَ. قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النِّسَاء: 65]. قَالَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيث: إِذَا أَخْبَرَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَذَا فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ. وَمَشَى عَلَى هَذَا ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ، وَمَثَّلُوهُ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةَ: 223]. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: قَوْلُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا، يُرَادُ بِهِ تَارَةً سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّبَبَ، كَمَا تَقُولُ: عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآن: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ، كَمَا لَوْ ذُكِرَ السَّبَبُ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ، أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدٍ؟ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِيهِ وَأَكْثَرُ الْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَا الَاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكِرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ، فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: قَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ هَذَا الْحُكْمَ لَا أَنَّ هَذَا كَانَ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا، فَهُوَ مَنْ جِنْسِ الَاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْآيَةِ، لَا مَنْ جِنْسِ النَّقْلِ لِمَا وَقَعَ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَتَحَرَّرُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ: مَا نَزَلَتِ الْآيَةُ أَيَّامَ وُقُوعِهِ، لِيُخْرِجَ مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي سُورَةِ الْفِيلِ مِنْ أَنَّ سَبَبَهَا قِصَّةُ قُدُومِ الْحَبَشَةِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَقَائِعِ الْمَاضِيَةِ، كَذِكْرِ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَبِنَاءِ الْبَيْتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النِّسَاء: 125] سَبَبُ اتِّخَاذِهِ خَلِيلًا لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، كَمَا لَا يَخْفَى. تَنْبِيهٌ: مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُسْنَدِ مِنَ الصَّحَابِيّ: إِذَا وَقَعَ مِنْ تَابِعِيٍّ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ أَيْضًا، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ، فَقَدْ يُقْبَلُ إِذَا صَحَّ السَّنَدُ إِلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ الْآخِذِينَ، عَنِ الصَّحَابَةِ كَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوِ اعْتَضَدَ بِمُرْسَلٍ آخَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ لِنُزُولِ الْآيَةِ أَسْبَابًا مُتَعَدِّدَةً، وَطَرِيقُ الَاعْتِمَادِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الْعِبَارَةِ الْوَاقِعَة: فَإِنْ عَبَّرَ أَحَدُهُمْ بِقَوْلِه: نَزَلَتْ فِي كَذَا، وَالْآخَرُ: نَزَلَتْ فِي كَذَا، وَذَكَرَ أَمْرًا آخَرَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ لَا ذِكْرُ سَبَبِ النُّزُولِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا، كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي النَّوْعِ الثَّامِنِ وَالسَّبْعِينَ. وَإِنْ عَبَّرَ وَاحِدٌ بِقَوْلِه: نَزَلَتْ فِي كَذَا، وَصَرَّحَ الْآخَرُ بِذِكْرِ سَبَبِ خِلَافِهِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَذَاكَ اسْتِنْبَاطٌ. وَمِثَالُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أُنْزِلَتْ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 223] فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ. وَتَقَدَّمَ عَنْ جَابِرٍ التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ سَبَبِ خِلَافِهِ، فَالْمُعْتَمَدُ حَدِيثُ جَابِرٍ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ اسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ وَقَدْ وَهَمَهُ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ جَابِرٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ. وَإِنَّ ذِكْرَ وَاحِدٍ سَبَبًا وَآخَرَ سَبَبًا غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ إِسْنَادُ أَحَدِهِمَا صَحِيحًا دُونَ الْآخَرِ فَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ، مِثَالُهُ: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ جُنْدُبٍ: «اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَا قَدْ تَرَكَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}» [الضُّحَى: 1- 3]. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّهَا- وَكَانَتْ خَادِمَ رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ جَرْوًا دَخَلَ بَيْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ تَحْتَ السَّرِيرِ فَمَاتَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَالَ: يَا خَوْلَةُ مَا حَدَثَ فِي بَيْتِ رَسُولِ الِلَّهِ؟ جِبْرِيلُ لَا يَأْتِينِي فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ هَيَّأْتُ الْبَيْتَ وَكَنَسْتُهُ، فَأَهْوَيْتُ بِالْمِكْنَسَةِ تَحْتَ السَّرِيرِ، فَأَخْرَجْتُ الْجَرْوَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْعَدُ لِحْيَتُهُ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَالضُّحَى) إِلَى قَوْلِهِ (فَتَرْضَى)». وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ: قِصَّةُ إِبْطَاءِ جِبْرِيلَ بِسَبَبِ الْجَرْوِ مَشْهُورَةٌ، لَكِنَّ كَوْنَهَا سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الصَّحِيحِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ- أَيْضًا:- مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا- وَكَانَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ- فَكَانَ يَدْعُو الِلَّهَ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [الْبَقَرَة: 150] فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَقَالُوا (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [الْبَقَرَة: 115] وَقَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الِلَّهِ}. [الْبَقَرَة: 115]». وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَزَلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الِلَّهِ} أَنْ تُصَلِّيَ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ فِي التَّطَوُّعِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ- وَضَعَّفَهُ- مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ؟ فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِرٍ: 60] قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ فَنَزَلَتْ. مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ، فَنَزَلَتْ». مُعْضَلٌ غَرِيبٌ جِدًّا. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَضْعَفُهَا الْأَخِيرُ لِإِعْضَالِهِ، ثُمَّ مَا قَبْلَهُ لِإِرْسَالِهِ، ثُمَّ مَا قَبْلَهُ لِضَعْفِ رُوَاتِهِ، وَالثَّانِي صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ قَالَ: قَدْ أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّبَبِ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَصَرَّحَ فِيهِ بِذِكْرِ السَّبَبِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ- أَيْضًا-: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ- أَوْ سَعِيدٍ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْا رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، تَعَالَ فَتَمَسَّحْ بِآلِهَتِنَا، وَنَدْخُلُ مَعَكَ فِي دِينِكَ وَكَانَ يُحِبُّ إِسْلَامَ قَوْمِهِ. فَرَقَّ لَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الْآيَاتِ» [الْإِسْرَاء: 73- 77]. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ثَقِيفًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِّلْنَا سَنَةً حَتَّى يُهْدَى لِآلِهَتِنَا، فَإِذَا قَبَضْنَا الَّذِي يُهْدَى لَهَا أَحْرَزْنَاهُ، ثُمَّ أَسْلَمْنَا. فَهَمَّ أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ فَنَزَلَتْ. هَذَا يَقْتَضِي نُزُولَهَا بِالْمَدِينَةِ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي نُزُولَهَا بِمَكَّةَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، يَرْتَقِي بِهِ إِلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَوِيَ الْإِسْنَادَانِ فِي الصِّحَّةِ، فَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِكَوْنِ رَاوِيهِ حَاضِرَ الْقِصَّةِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ. مِثَالُهُ: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ سَأَلْتُمُوهُ! فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنِ الرُّوحِ، فَقَامَ سَاعَةً وَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ، ثُمَّ قَالَ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَا قَلِيلًا}» [الْإِسْرَاء: 85]. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُود: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: اسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}. الْآيَةَ. فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَالْأَوَّلُ خِلَافُهُ، وَقَدْ رَجَّحَ بِأَنَّ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَصَحُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ حَاضِرَ الْقِصَّةِ. الْحَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يُمْكِنَ نُزُولُهَا عُقَيْبَ السَّبَبَيْنِ أَوِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ، بِأَلَّا تَكُونَ مَعْلُومَةَ التَّبَاعُدِ، كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ. وَمِثَالُهُ: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ ابْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَمْحَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؛ يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ! فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}... حَتَّى بَلَغَ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}» [النُّور: 6- 9]. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «جَاءَ عُوَيْمِرٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ: اسْأَلْ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَقَتَلَهُ، أَيُقْتَلُ بِهِ، أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَابَ السَّائِلَ، فَأَخْبَرَ عَاصِمٌ عُوَيْمِرًا، فَقَالَ: وَالِلَّهِ لَآتِيَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَسْأَلَنَّهُ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآنٌ»... الْحَدِيثَ. جَمَعَ بَيْنِهِمَا بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ هِلَالٌ، وَصَادَفَ مَجِيءُ عُوَيْمِرٍ أَيْضًا، فَنَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمَا مَعًا. وَإِلَى هَذَا جَنَحَ النَّوَوِيُّ، وَسَبَقَهُ الْخَطِيبُ فَقَالَ: لَعَلَّهُمَا اتَّفَقَ لَهُمَا ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ: «عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ لَوْ رَأَيْتَ مَعَ أُمِّ رُومَانَ رَجُلًا مَا كُنْتَ فَاعِلًا بِهِ؟ قَالَ: شَرًّا قَالَ: فَأَنْتَ يَا عُمْرُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ الْأَعْجَزَ، فَإِنَّهُ لِخَبِيثٌ». فَنَزَلَتْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ. الْحَالُ السَّادِسُ: أَنْ لَا يُمْكِنَ ذَلِكَ: فَيُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ النُّزُولِ وَتَكَرُّرِهِ. مِثَالُهُ: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، عَنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: «لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ الِلَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: أَيْ عَمُّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَا اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ الِلَّهِ»، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ الِلَّه: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ» [التَّوْبَة: 113]. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ- وَحَسَّنَهُ- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ: تَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مُشْرِكَانِ! فَقَالَ: اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَجَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا، فَنَاجَاهُ طَوِيلًا، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرُ أُمِّي وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَأُنْزِلَ عَلَيَّ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}» فَجَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِتَعَدُّدِ النُّزُولِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْبَزَّارُ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ حِينَ اسْتُشْهِدَ، وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}» [النَّحْل: 126] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ، مِنْهُمْ حَمْزَةُ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الْآيَةَ. فَظَاهِرُهُ تَأْخِيرُ نُزُولِهَا إِلَى الْفَتْحِ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ نُزُولُهَا بِأُحُدٍ. قَالَ ابْنُ الْحَصَّار: وَيَجْمَعُ أَنَّهَا نَزَلَتْ أَوَّلًا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مَعَ السُّورَةِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، ثُمَّ ثَانِيًا بِأُحُدٍ، ثُمَّ ثَالِثًا يَوْمَ الْفَتْحِ تَذْكِيرًا مِنَ الِلَّهِ لِعِبَادِهِ. وَجَعَلَ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ آيَةُ الرُّوحِ. تَنْبِيهٌ: قَدْ يَكُونُ فِي إِحْدَى الْقِصَّتَيْن: (فَتَلَا) فَيَهِمُ الرَّاوِي، فَيَقُولُ: (فَنَزَلَ). مِثَالُهُ: مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ- وَصَحَّحَهُ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِذَا وَضَعَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ عَلَى ذِهِ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى ذِهِ، وَالْمَاءَ عَلَى ذِهِ، وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهِ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَا قَدَرُوا الِلَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْآيَةَ» [الْأَنْعَام: 91]. وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ بِلَفْظ: فَتَلَا رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ الِلَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِمَقْدِمِ رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلَ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {مَنْ كَانَ عَدْوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}» [الْبَقَرَة: 97]. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ: ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ رَدًّا عَلَى قَوْلِ الْيَهُودِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نُزُولَهَا حِينَئِذٍ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَقَدْ صَحَّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ قِصَّةٌ غَيْرُ قِصَّةٍ ابْنِ سَلَامٍ. تَنْبِيهٌ: عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ: أَنْ يُذْكَرَ سَبَبٌ وَاحِدٌ فِي نُزُولِ الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ يَنْزِلُ فِي الْوَقْعَةِ الْوَاحِدَةِ آيَاتٌ عَدِيدَةٌ فِي سُورٍ شَتَّى. مِثَالُهُ: مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ: «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، لَا أَسْمَعُ الِلَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ}» [آلِ عِمْرَانَ: 195] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ الِلَّهِ تَذْكُرُ الرِّجَالَ وَلَا تَذْكُرُ النِّسَاءَ؟! فَأُنْزِلَتْ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الْأَحْزَاب: 35] وَأُنْزِلَتْ {إِنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «تَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} وَأَنْزَلَ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}». وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: «أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عَلَيْه: {هَلْ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إِلَى {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الِلَّهِ} [النِّسَاء: 95] فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ أَعْمَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ}». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، «عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- أَيْضًا- قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لِوَاضِعٌ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِي، إِذَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ، فَجَعَلَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ إِذْ جَاءَ أَعْمَى، فَقَالَ: كَيْفَ لِي يَا رَسُولَ الِلَّهِ وَأَنَا أَعْمَى؟ فَأُنْزِلَتْ {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ}» [التَّوْبَة: 91]. وَمِنْ أَمْثِلَتِه: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ، فَقَالَ: «إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ يَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ فَطَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ، فَجَاءَ أَصْحَابُهُ، فَحَلَفُوا بِالِلَّهِ مَا قَالُوا، حَتَّى تَجَاوَزَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَحْلِفُونَ بِالِلَّهِ مَا قَالُوا} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 74]». وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَأَحْمَدُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَآخِرُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الْآيَةَ [الْمُجَادَلَة: 18].
تَنْبِيهٌ: تَأَمَّلْ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاشْدُدْ بِهِ يَدَيْكَ، فَإِنِّي حَرَّرَتْهُ وَاسْتَخْرَجْتُهُ بِفِكْرِي مِنِ اسْتِقْرَاءِ صَنِيعِ الْأَئِمَّةِ وَمُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِهِمْ، وَلَمْ أُسْبَقْ إِلَيْهِ.
هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مُوَافِقَاتُ عُمْرَ، وَقَدْ أَفْرَدَهَا بِالتَّصْنِيفِ جَمَاعَةٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الِلَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمْرَ وَقَلْبِهِ». قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَمَا نَزَلَ بِالنَّاسِ أَمْرٌ قَطُّ فَقَالُوا وَقَالَ: إِلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ عُمَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ عُمْرُ يَرَى الرَّأْيَ، فَيَنْزِلُ بِهِ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى؟ فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} [الْبَقَرَة: 125] وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، إِنَّ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَاجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاؤُهُ فِي الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التَّحْرِيم: 5] فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي الْحِجَابِ وَفِي أَسْرَى بَدْرٍ، وَفِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي- أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي- فِي أَرْبَعٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} الْآيَةَ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] فَلَمَّا نَزَلَتْ قُلْتُ أَنَا: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فَنَزَلَتْ {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 14]. وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ يَهُودِيًّا لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي يَذْكُرُ صَاحِبَكُمْ عَدُوٌّ لَنَا، فَقَالَ عُمَرُ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الِلَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَة: 98] فَنَزَلَتْ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ سُنَيْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا سَمِعَ مَا قِيلَ: فِي أَمْرِ عَائِشَةَ قَالَ: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النُّور: 16] فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَخِي مِيمِي فِي فَوَائِدِه: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، قَالَا: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَبُو أَيُّوبَ، فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا أَبْطَأَ عَلَى النِّسَاءِ الْخَبَرَ فِي أُحُدٍ خَرَجْنَ يَسْتَخْبِرْنَ، فَإِذَا رَجُلَانِ مَقْتُولَانِ [عَلَى دَابَّةٍ أَوْ] عَلَى بَعِيرٍ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: مِنَ الْأَنْصَار: مَنْ هَذَانِ؟ قَالُوا: فُلَانٌ وَفُلَانٌ: أَخُوهَا وَزَوْجُهَا. أَوْ زَوْجُهَا وَابْنُهَا. فَقَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: حَيٌّ قَالَتْ: فَلَا أُبَالِي، يَتَّخِذُ الِلَّهِ مِنْ عِبَادِهِ الشُّهَدَاءَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا قَالَتْ: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آلِ عِمْرَانَ: 140]. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَات: أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْعَبْدَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَمَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ اللِّوَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَهُوَ يَقُولُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَحَنَى عَلَى اللِّوَاءِ وَضَمَّهُ بِعَضُدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَا رَسُولٌ} [آلِ عِمَرَانَ: 144] يَوْمَئِذٍ، حَتَّى نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. تَذْنِيبٌ: يَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ غَيْرِ الِلَّهِ، كَالنَّبِيِّ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَجِبْرِيلَ، وَالْمَلَائِكَةِ، غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَلَا مَحْكِيٌّ بِالْقَوْلِ، كَقَوْلِه: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} الْآيَةَ، فَإِنَّ هَذَا وَارِدٌ عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ آخِرِهَا {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الْأَنْعَام: 104]. وَقَوْلُهُ: {أَفَغَيْرَ الِلَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 114] فَإِنَّهُ وَارِدٌ أَيْضًا عَلَى لِسَانِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الْآيَةَ [مَرْيَمَ: 64] وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ. وَقَوْلُهُ: {مَا مِنَّا إِلَا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصَّافَّات: 164- 166] وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ. وَكَذَا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 4] وَارِدٌ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعِبَادِ، إِلَا أَنَّهُ يُمْكِنُ هُنَا تَقْدِيرُ الْقَوْلِ، أَيْ: قُولُوا وَكَذَا الْآيَتَانِ الْأُولَيَانِ يَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِمَا (قُلْ) بِخِلَافِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ.
صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَكَرَّرَ نُزُولُهُ. قَالَ ابْنُ الْحَصَّار: قَدْ يَتَكَرَّرُ نُزُولُ الْآيَةِ تَذْكِيرًا وَمَوْعِظَةً، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ النَّحْلِ، وَأَوَّلَ سُورَةِ الرُّومِ. وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْهُ آيَةَ الرُّوحِ. وَذَكَرَ قَوْمٌ مِنْهُ الْفَاتِحَةَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 113]. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: قَدْ يَنْزِلُ الشَّيْءُ مَرَّتَيْنِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَتَذْكِيرًا عِنْدَ حُدُوثِ سَبَبِهِ وَخَوْفِ نِسْيَانِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْهُ آيَةَ الرُّوحِ، وَقَوْلُهُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ} الْآيَةَ [هُودٌ: 114]. قَالَ: فَإِنَّ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ وَهُودٍ مَكِّيَّتَانِ، وَسَبَبُ نُزُولِهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ؛ وَلِهَذَا أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَلَا إِشْكَالَ؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ أَنَّهَا جَوَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، وَجَوَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمَدِينَةِ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 113]. قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا كُلِّه: أَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ سَبَبٌ مِنْ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ تَقْتَضِي نُزُولَ آيَةٍ، وَقَدْ نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَتَضَمَّنُهَا فَيُوحِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْآيَةَ بِعَيْنِهَا؛ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِهَا وَبِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ.
تَنْبِيهٌ: قَدْ يُجْعَلُ مِنْ ذَلِكَ الْأَحْرُفُ الَّتِي تُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَيَدُلُّ لَهُ، مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُبَيٍّ «إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْه: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ». فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنِ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بَلْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَفِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ لِلسَّخَاوِيِّ بَعْدَ أَنْ حَكَى الْقَوْلَ بِنُزُولِ الْفَاتِحَةِ مَرَّتَيْن: إِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ نُزُولِهَا مَرَّةً ثَانِيَةً؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَتْ فِي الثَّانِيةِ بِبَقِيَّةِ وُجُوهِهَا، نَحْوُ: مَلِكِ وَمَالِكِ وَالسِّرَاطَ وَالصِّرَاطَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. انْتَهَى.
تَنْبِيهٌ: أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يَتَكَرَّرُ نُزُولُهُ، كَذَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ الْكَفِيلِ بِمَعَانِي التَّنْزِيلِ وَعِلَلِه: بِأَنَّ تَحْصِيلَ مَا هُوَ حَاصِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ فَوَائِدِهِ. وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ كُلَّ سَنَةٍ. وَرَدَّ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ. وَبِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْإِنْزَالِ إِلَّا أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْآنٍ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ بِهِ مِنْ قَبْلُ، فَيُقْرِؤُهُ إِيَّاهُ. وَرَدَّ بِمَنْعِ اشْتِرَاطِ قَوْلِه: لَمْ يَكُنْ نَزَلَ بِهِ مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّهُمْ يَعْنُونَ بِنُزُولِهَا مَرَّتَيْن: أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ حِينَ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ، فَأَخْبَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ كَمَا كَانَتْ بِمَكَّةَ فَظَنَّ ذَلِكَ نُزُولًا لَهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ أَقْرَأَهُ فِيهَا قِرَاءَةً أُخْرَى لَمْ يُقْرِئْهَا لَهُ بِمَكَّةَ فَظَنَّ ذَلِكَ إِنْزَالًا. انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: قَدْ يَكُونُ النُّزُولُ سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ، كَقَوْلِه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الْأَعْلَى: 14- 15] فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَدْرِي مَا وَجْهُ التَّأْوِيلِ؟ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ عِيدٌ وَلَا زَكَاةٌ وَلَا صَوْمٌ؟. وَأَجَابَ الْبَغَوِيُّ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ، كَمَا قَالَ: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} فَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ الْحِلِّ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، حَتَّى قَالَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ» وَكَذَلِكَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [الْقَمَر: 45]. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: فَقُلْتُ أَيُّ جَمْعٍ؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ وَانْهَزَمَتْ قُرَيْشٌ، نَظَرْتُ إِلَى رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ مُصَلِّتًا بِالسَّيْفِ، وَيَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فَكَانَتْ لِيَوْمِ بَدْرٍ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11] قَالَ قَتَادَةُ: وَعَدَهُ اللَّهُ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ- أَنَّهُ سَيَهْزِمُ جُنْدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} قَالَ: السَّيْفُ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى فَرْضِ الْقِتَالِ، وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصْبًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ كَانَ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الْإِسْرَاء: 81] {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}». وَقَالَ ابْنُ الْحَصَّار: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الزَّكَاةَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّاتِ كَثِيرًا، تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ الِلَّهَ سَيُنْجِزُ وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ، وَيُقِيمُ دِينَهُ وَيُظْهِرُهُ؛ حَتَّى تُفْرَضَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَسَائِرُ الشَّرَائِعِ، وَلَمْ تُؤْخَذِ الزَّكَاةُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَوْرَدَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الْأَنْعَام: 141] وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [20]، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِيهَا {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الِلَّهِ} [الْمُزَّمِّل: 20]. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الِلَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فُصِّلَتْ: 33] فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعِكْرِمَةُ، وَجَمَاعَةٌ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يُشْرَعِ الْأَذَانُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ عَنْ حُكْمِه: آيَةُ الْوُضُوءِ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ: «عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَقَطَتْ قِلَادَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ، وَنَحْنُ دَاخِلُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَنَاخَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ فَثَنَى رَأْسَهُ فِي حِجْرِي رَاقِدًا، وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ فِي قِلَادَةٍ؟ ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ وَحَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتَمَسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} إِلَى قَوْلِهِ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الْمَائِدَة: 6]» فَالْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ إِجْمَاعًا، وَفَرْضُ الْوُضُوءِ كَانَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ: مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ مُنْذُ فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ إِلَا بِوُضُوءٍ، وَلَا يَدْفَعُ ذَلِكَ إِلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ. قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي نُزُولِ آيَةِ الْوُضُوءِ مَعَ تَقَدُّمِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِيَكُونَ فَرْضُهُ مَتْلُوًّا بِالتَّنْزِيلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْآيَةِ نَزَلَ مُقَدَّمًا مَعَ فَرْضِ الْوُضُوءِ، ثُمَّ نَزَلَ بَقِيَّتُهَا- وَهُوَ ذِكْرُ التَّيَمُّمِ- فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. قُلْتُ: يَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: آيَةُ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَالْجُمُعَةُ فُرِضَتْ بِمَكَةَ، وَقَوْلُ ابْنُ الْفَرَس: إِنَّ إِقَامَةَ الْجُمُعَةِ لَمْ تَكُنْ بِمَكَّةَ قَطُّ، يَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أُبَيٍّ حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَسَمِعَ الْأَذَانَ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ أَرَأَيْتَ صَلَاتَكَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ كُلَّمَا سَمِعْتُ النِّدَاءَ بِالْجُمُعَةِ، لِمَ هَذَا؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ كَانَ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمُعَةَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ. وَمِنْ أَمْثِلَتِه: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 60]، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقَدْ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ قَبْلَهَا فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ. قَالَ ابْنُ الْحَصَّار: فَقَدْ يَكُونُ مَصْرِفُهَا قَبْلَ ذَلِكَ مَعْلُومًا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ قُرْآنٌ مَتْلُوٌّ، كَمَا كَانَ الْوُضُوءُ مَعْلُومًا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ تَأْكِيدًا بِهِ.
الْأَوَّلُ غَالِبُ الْقُرْآنِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي السُّوَرِ الْقِصَار: اقْرَأْ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْهَا، إِلَى قَوْلِه: مَا لَمْ يَعْلَمْ. وَالضُّحَى أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْهَا، إِلَى قَوْلِه: فَتَرْضَى كَمَا فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الثَّانِي سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالْكَوْثَرِ، وَتَبَّتْ، وَلَمْ يَكُنْ , وَالنَّصْرُ، وَالْمُعَوِّذَتَانِ نَزَلَتَا مَعًا. وَمِنْهُ فِي السُّوَرِ الطِّوَالِ (الْمُرْسَلَاتُ). فَفِي الْمُسْتَدْرَك: «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ، فَنَزَلَتْ عَلَيْه: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا}، فَأَخَذْتُهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ رَطْبٌ بِهَا، فَلَا أَدْرِي بِأَيِّهَا خَتَمَ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الْمُرْسَلَات: 50] أَوْ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}» [الْمُرْسَلَات: 48]. وَمِنْهُ سُورَةُ الصَّفِّ، لِحَدِيثِهَا السَّابِقِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَمِنْهُ سُورَةُ الْأَنْعَام: فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ لَيْلًا جُمْلَةً، حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ الصَّفَّارِ- وَهُوَ مَتْرُوكٌ- عَنِ ابْنِ عَوْفٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ». وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدٍ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ: عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ خَمْسًا خَمْسًا إِلَا سُورَةَ الْأَنْعَام: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً فِي أَلْفٍ، يُشَيِّعُهَا مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ سَبْعُونَ مَلَكًا حَتَّى أَدَّوْهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، مَرْفُوعًا: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: نَزَلَتِ الْأَنْعَامُ كُلُّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، مَعَهَا خَمْسُمَائَةِ مَلَكٍ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أُنْزِلَتِ الْأَنْعَامُ جَمِيعًا وَمَعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. فَهَذِهِ شَوَاهِدُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوَاهُ: الْحَدِيثُ الْوَارِدُ أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً، رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَمْ نَرَ لَهُ إِسْنَادًا صَحِيحًا، وَقَدْ رُوِيَ مَا يُخَالِفُهُ، فَرُوِيَ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، بَلْ نَزَلَتْ آيَاتٌ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهَا، فَقِيلَ: ثَلَاثٌ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَتَبِعَهُ ابْنُ النَّقِيبِ ; مِنَ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ مُشَيَّعًا، وَهُوَ سُورَةُ الْأَنْعَامِ، شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ، نَزَلَتْ وَمَعَهَا ثَمَانُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ، نَزَلَتْ وَمَعَهَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. وَسُورَةُ يس نَزَلَتْ وَمَعَهَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزُّخْرُف: 45] نَزَلَتْ وَمَعَهَا عِشْرُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَسَائِرُ الْقُرْآنِ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مُفْرَدًا بِلَا تَشْيِيعٍ. قُلْتُ: أَمَّا سُورَةُ الْأَنْعَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهَا بِطُرُقِهِ. وَمِنْ طُرُقِهِ- أَيْضًا- مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ وَمَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُدُّ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ وَالْأَرْضُ تَرْتَجُّ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ سَبَّحَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ». قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ قَالَ الذَّهَبِيُّ: فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَأَظُنُّهُ مَوْضُوعًا. وَأَمَّا الْفَاتِحَةُ وَسُورَةُ يس وَ{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا}: فَلَمْ أَقِفْ عَلَى حَدِيثٍ فِيهَا بِذَلِكَ وَلَا أَثَرٍ. وَأَمَّا آيَةُ الْكُرْسِيّ: فَقَدْ وَرَدَ فِيهَا وَفِي جَمِيعِ آيَاتِ الْبَقَرَةِ حَدِيثٌ، أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَقَرَةُ سَنَامُ الْقُرْآنِ وَذُرْوَتُهُ، نَزَلَ مَعَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا، ثَمَانُونَ مَلَكًا وَاسْتُخْرِجَتْ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَوُصِلَتْ بِهَا». وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَالَ: خَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ جَاءَ بِهَا جِبْرِيلُ، وَمَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَبَقِيَ سُوَرٌ أُخْرَى، مِنْهَا: سُورَةُ الْكَهْفِ، قَالَ ابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِه: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِسُورَةٍ مَلْءُ عَظَمَتِهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ؟ سُورَةُ الْكَهْفِ». تَنْبِيهٌ: لِيَنْظُرَ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا مَضَى وَبَيْنَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَا جَاءَ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَمَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَفَظَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بُعِثَ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، بُعِثَ مَلَائِكَةٌ يَحْرُسُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ أَنْ يَتَشَبَّهَ الشَّيْطَانُ عَلَى صُورَةِ الْمَلَكِ. فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ الضُّرَيْس: أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ أَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ:- يَعْنِي ابْنَ جَمِيلٍ- عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: أَرْبَعُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مِنْ كَنْزِ الْعَرْشِ، لَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرُهُنَّ: أُمُّ الْكِتَابِ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَخَاتِمَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْكَوْثَرِ. قُلْتُ: أَمَّا الْفَاتِحَةُ: فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الِلَّهَ أَعْطَانِي فِيمَا مَنَّ بِهِ عَلَيَّ: إِنِّي أَعْطَيْتُكَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَهِيَ مِنْ كُنُوزِ عَرْشِي. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا: «أُعْطِيتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ». وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، «عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا نَبِيُّ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ». وَأَمَّا آخِرُ الْبَقَرَة: فَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي مَسْنَدِهِ، عَنْ أَيْفَعَ الْكُلَاعِيِّ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ أَيُّ آيَةٍ تُحِبُّ أَنْ تُصِيبَكَ وَأُمَّتُكَ؟ قَالَ: آخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا مِنْ كَنْزِ الرَّحْمَةِ مِنْ تَحْتِ عَرْشِ الِلَّهِ». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: اقْرَءُوا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَإِنَّ رَبِّي أَعْطَانِيهِمَا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ. وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: «أُعْطِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهَا نَبِيٌّ قَبْلِي. وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي». وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي». وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا آيَةُ الْكُرْسِيّ: فَتَقَدَّمَتْ فِي حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ السَّابِقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ ضَحِكَ، وَقَالَ: إِنَّهَا مَنْ كَنْزِ الرَّحْمَنِ تَحْتَ الْعَرْشِ». وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ أُعْطِيَهَا نَبِيُّكُمْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَلَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلَ نَبِيِّكُمْ. وَأَمَّا سُورَةُ الْكَوْثَر: فَلَمْ أَقِفْ فِيهَا عَلَى حَدِيثٍ، وَقَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ فِي ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَرْفُوعِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ ابْنِ حَيَّانَ وَالدَّيْلَمِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الدَّقِيقِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، بِإِسْنَادِهِ السَّابِقِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا.
مِنَ الثَّانِي الْفَاتِحَةُ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَخَاتِمَةُ الْبَقَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ قَرِيبًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَكٌ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ قَدْ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «تَرَدَّدُوا فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ {آمَنَ الرَّسُولُ} [285] إِلَى خَاتِمَتِهَا؛ فَإِنَّ الِلَّهَ اصْطَفَى بِهَا مُحَمَّدًا». وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ أَرْبَعَ آيَاتٍ لَمْ يُعْطَهُنَّ مُوسَى، وَإِنَّ مُوسَى أُعْطِيَ آيَةً لَمْ يُعْطَهَا مُحَمَّدٌ. قَالَ: وَالْآيَاتُ الَّتِي أُعْطِيهِنَّ مُحَمَّدٌ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الْبَقَرَة: 284]. حَتَّى خَتَمَ الْبَقَرَةَ، فَتِلْكَ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ. وَالْآيَةُ الَّتِي أُعْطِيهَا مُوسَى: (اللَّهُمَّ لَا تُولِجِ الشَّيْطَانَ فِي قُلُوبِنَا وَخَلِّصْنَا مِنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ لَكَ الْمَلَكُوتَ وَالْأَيْدِ وَالسُّلْطَانَ وَالْمُلْكَ وَالْحَمْدَ وَالْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ وَالدَّهْرَ الدَّاهِرَ أَبَدًا أَبَدًا آمِينَ آمِينَ). وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: السَّبْعُ الطُّوَالُ لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُعْطِيَ مُوسَى مِنْهَا اثْنَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «أَعْطَيْتُ أُمَّتِي شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ عِنْدَ الْمُصِيبَة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}» [الْبَقَرَة: 156]. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَوَّل: مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّهَا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فَبَلَغَ {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قَالَ: وَفَّى {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} إِلَى قَوْلِهِ {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النَّجْم: 1- 56]». وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الِلَّهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هَذِهِ السُّورَةُ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظِ نُسِخَ مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى مِثْلَ مَا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: نَبَّأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ {إِنَّ هَذَا لَفِيَ الصُّحُفِ الْأُولَى} [الْأَعْلَى: 18]. قَالَ: هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مِمَّا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} إِلَى قَوْلِه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: 112] وَ{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إِلَى قَوْلِه: {فِيهَا خَالِدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1- 11]. {وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلَمَّاتِ} الْآيَةَ. [الْأَحْزَاب: 35]، وَالَّتِي فِي {سَأَلَ}: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} إِلَى قَوْلِه: {قَائِمُونَ} [الْمَعَارِج: 23- 33] فَلَمْ يَفِ بِهَذِهِ السِّهَامِ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ الِلَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: إِنَّهُ- يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوْصُوفُ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الْأَحْزَاب: 45] وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ.. الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَغَيْرِهِ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: فُتِحَتِ التَّوْرَاةُ بـِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الْأَنْعَام: 1] وَخُتِمَتْ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمَّ يَتَّخِذْ وَلَدًا} إِلَى قَوْلِه: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الْإِسْرَاء: 111]. وَأَخْرَجَ- أَيْضًا- عَنْهُ، قَالَ: فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ فَاتِحَةُ الْأَنْعَام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}، وَخَاتِمَةُ التَّوْرَاةِ خَاتِمَةُ هُودٍ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هُودٍ: 123]. وَأَخْرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، قَالَ: أَوَّلُ مَا أُنْزِلُ فِي التَّوْرَاةِ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الْأَنْعَام: 151] إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْهُ، قَالَ: أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَام: بِسْمِ الِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} الْآيَاتِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْآيَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ لِمُوسَى فِي التَّوْرَاةِ أَوَّلَ مَا كَتَبَ، وَهِيَ: تَوْحِيدُ الِلَّهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ، وَالْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ، وَالْعُقُوقُ، وَالْقَتْلُ، وَالزِّنَى، وَالسَّرِقَةُ، وَالزُّورُ، وَمَدُّ الْعَيْنِ إِلَى مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ، وَالْأَمْرُ بِتَعْظِيمِ السَّبْتِ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَأُعَلِّمَنَّكَ آيَةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍّ بَعْدَ سُلَيْمَانَ غَيْرِي: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ مَيْسَرَةَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكْتُوبَةٌ فِي التَّوْرَاةِ بِسَبْعِمِائَةِ آيَةٍ: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الَقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أَوَّلُ سُورَةِ الْجُمُعَةِ. فَائِدَةٌ: يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: الْبُرْهَانُ الَّذِي أُرِيَ يُوسُفَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ الِلَّهِ {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لِحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الَانْفِطَار: 10- 12] وَقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} الْآيَةَ [يُونُسَ: 61] وَقَوْلُهُ {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرَّعْد: 33] زَادَ غَيْرُهُ آيَةً أُخْرَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الْإِسْرَاء: 32]. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يُوسُفَ: 24]. قَالَ: رَأَى آيَةً مِنْ كِتَابِ الِلَّهِ نَهَتْهُ، مَثُلَتْ لَهُ فِي جِدَارِ الْحَائِطِ.
|