الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (27- 29): {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)}الفاءُ في قولِه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها. وكيفَ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ هو العاملُ في الظرفِ كأنَّه قيلَ يفعلون في حياتِهم ما يفعلون من الحيلِ، فكيفَ يفعلونَ إذا توفَّتُهم الملائكةُ، وقيلَ مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي فكيفَ حالُهم أو حياتُهم إذا توفَّتُهم الخ. وقرئ: {توفَّاهُم} على أنَّه إما ماضٍ أو مضارعٌ قد حُذفَ إحدى تاءيهِ. {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم} حالٌ من فاعلِ توفَّتهم أو من مفعولِه، وهو تصويرٌ لتوفّيهم على أهولِ الوجوهِ وأفظعها. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنَهُمَا لا يُتوفَّى أحدٌ على معصيةٍ إلا يضربُ الملائكةُ وجهَهُ ودبُره. {ذلك} التَّوفِّي الهائلُ {بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم {اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله} من الكفرِ والمعاصِي {وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ} أي ما يرضاهُ من الإيمانِ والطاعةِ حيث كفُروا بعد الإيمانِ وخرجُوا عن الطاعةِ بما صنعُوا من المعاملةِ مع اليهودِ {فَأَحْبَطَ} لأجلِ ذلكَ {أعمالهم} التي عملوها حالَ إيمانِهم من الطاعاتِ أو بعد ذلك من أعمال البرِّ التي لو عملُوها حالَ الإيمانِ لا نتفعُوا بها.{أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} هم المنافقون الذين فُصِّلتْ أحوالُهم الشنيعةُ، وُصفُوا بوصفِهم السابقِ لكونِه مداراً لِما نُعِيَ عليهم بقولِه تعالى: {أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم} فأمْ منقطعةٌ وأنْ مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ ولنْ بما في حيزِها خبرُها. والأضغانُ جمعُ ضَغنِ وهو الحقدُ، أي بل أحسبَ الذين في قلوبِهم حقدٌ وعداوةٌ للمؤمنين أنه لنْ يخرجَ الله أحقادَهم ولن يُبرزَها لرسولِه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنينَ فتبقى أمورُهم مستورةً والمعنى أنَّ ذلك مما لا يكادُ يدخلُ تحتَ الاحتمالِ..تفسير الآيات (30- 33): {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)}{وَلَوْ نَشَاء} إراءتَهم {لأريناكهم} لعرّفناكَهُم بدلائلَ تعرفُهم بأعيانِهم معرفةً متاخمةٌ للرؤيةِ. والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ العنايةِ بالإراءةِ {فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم} بعلامتهم التي نسِمهُم بها. وعن أنسٍ رضيَ الله عنه ما خَفِيَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعد هذهِ الآيةِ شيء من المنافقين كان يعرفُهم بسيماهم ولقد كنا في بعضِ الغزواتِ وفيها تسعةٌ من المنافقينَ يشكُوهم الناسُ فناموا ذاتَ ليلةٍ وأصبحوا وعلى كلِّ واحدٍ منهم مكتوبٌ هذا منافقٌ. واللامُ لامُ الجوابِ كُررتْ في المعطوفِ للتأكيدِ، والفاءُ لترتيبِ المعرفةِ على الإراءةِ، وأمَّا ما في قولِه تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} فلجوابِ قسمٍ محذوفٍ. ولحنُ القولِ نحوُه وأسلوبُه أو إمالتُه إلى جهةِ تعريضٍ وتوريةٍ، ومنه قيلَ للمُخطىءِ لاحنٌ لعدلِه بالكلامِ عن سمتِ الصوابِ. {والله يَعْلَمُ أعمالكم} فيجازيكُم بسحبِ قصدِكم، وهذا وعدٌ للمؤمنين وإيذانٌ بأنَّ حالَهم بخلافِ حالِ المنافقينَ.{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} بالأمرِ بالجهادِ ونحوهِ من التكاليفِ الشاقةِ {حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} على مشاقِّ الجهادِ علماً فعلياً يتعلقُ به الجزاءَ {وَنَبْلُوَ أخباركم} ما يخبرُ به عن أعمالِكم فيظهرُ حسنُها وقبيحُها. وقرئ: {ويبلوَ} بالياء، وقرئ: {نبلُوْ} بسكونِ الواو، على معنى ونحنُ نبلُوا.{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ} الناسَ {عَن سَبِيلِ الله وَشَاقُّواْ الرسول} وعادَوه {مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} بما شاهدُوا نعتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في التوراةِ بما ظهرَ على يديهِ من المعجزاتِ ونزلَ عليه من الآياتِ وهم قريظةُ والنضيرُ أو المطعمونَ يومَ بدرٍ. {لَن يَضُرُّواْ الله} بكُفرِهم وصدِّهم {شَيْئاً} من الأشياءِ أو شيئاً من الضررِ أو لن يضرُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمشاقَّتِه شيئاً. وقد حُذفَ المضافُ لتعظيمِه وتفظيعِ مشاقَّته. {وَسَيُحْبِطُ أعمالهم} أي مكايدَهُم التي نصبُوها في إبطالِ دينِه تعالى ومُشاقَّةِ رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فلا يصلونَ بَها إلى ما كانُوا يبغونَ من الغوائلِ ولا تُثمر لهم إلا القتلَ والجلأَ عن أوطانِهم. {ياأيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم} بما أبطلَ به هؤلاءِ أعمالَهم من الكفرِ والنفاقِ والعُجبِ والرياءِ والمنِّ والأَذَى ونحوِها، وليسَ فيه دليلٌ على إحباطِ الطاعاتِ بالكبائرِ..تفسير الآيات (34- 38): {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} حكمٌ يعمُّ كلَّ مَن ماتَ على الكُفر وإنْ صحَّ نزولُه في أصحابِ القَليبِ.{فَلاَ تَهِنُواْ} أي لا تضعُفوا {وَتَدْعُواْ إِلَى السلم} أي ولا تدْعوا الكفارَ إلى الصلحِ خَوَراً فإنَّ ذلك إعطاءُ الدنيَّةِ. ويجوزُ أن يكونَ منصوباً بإضمارِ أنْ على جوابِ النَّهي. وقرئ: {ولا تدَّعُوا} من ادَّعى القومُ بمعنى تَدَاعَوا نحوُ ارتَموا الصيدَ وتَرَامَوهُ ومنه تراءَوا الهلالَ فإنَّ صيغةَ التفاعلِ قد يُرادُ بها صدورُ الفعلِ عن المتعددِ من غير اعتبار وقوعِه عليه. ومنه قولُه تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} على أحدِ الوجهينِ. والفاءُ لترتيبِ النَّهي على ما سبقَ من الأمرِ بالطَّاعةِ. وقولُه تعالى: {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} جملةٌ حاليةٌ مقررةٌ لمعنى النَّهي مؤكدةٌ لوجوبِ الانتهاءِ، وكذا قولُه تعالى: {والله مَعَكُمْ} فإنَّ كونَهمُ الأعلينَ وكونَهُ عزَّ وجلَّ ناصرَهُم من أَقْوى موجباتِ الاجتنابِ عمَّا يُوهم الذلَّ والضراعةَ وكذا توفيتُه تعالى لأجور الأعمال حسبما يُعربُ عنه قولُه تعالى: {وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم} أيْ ولن يضيَّعها من وتَرتَ الرجلَ إذا قتلتَ له قتيلاً من ولدٍ أو أخٍ أو حميمٍ فأفردَتُه عنه من الوترِ الذي هُو الفردُ. وعُبِّرَ عن تركِ الإثابةِ في مقابلةِ الأعمالِ بالوترِ الذي هو إضاعةُ شيءٍ معتدَ به من الأنفس والأموال مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السَّنَّةِ إبرازاً لغايةِ اللطفِ بتصويرِ الثوابِ بصورةِ الحقِّ المستحقِّ وتنزيلِ تركِ الإثابةِ منزلةَ إضاعةِ أعظمِ الحقوقِ وإتلافِها، وقد مرَّ في قولِه تعالى: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} لا ثباتَ لها ولا اعتدادَ بها {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي ثوابَ إيمانِكم وتقواكم من الباقياتِ الصالحاتِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ. {وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم} بحيثُ يخلُّ أداؤُها بمعاشِكم، وإنما اقتصرَ على نَزْرٍ يسيرٍ منَها هُو ربعُ العُشرِ تُؤدونَها إلى فقرائِكم. {ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا} أي أموالَكم {فَيُحْفِكُمْ} أي يُجهدْكُم بطلبِ الكلِّ فإن الإحفاءَ والإلحافَ المبالغةُ وبلوغُ الغايةِ، يقالُ أحفَى شاربَهُ إذا استأصلَهُ، {تَبْخَلُواْ} فلا تُعطُوا {وَيُخْرِجْ أضغانكم} أي أحقادَكُم. وضميرُ يُخرج لله تعالى ويعضدُه القراءةُ بنونِ العظمةِ، أو للبخلِ لأنه سببُ الأضغانِ، وقرئ: {يَخرجُ} من الخروجِ بالياءِ والتاءِ مُسنَداً إلى الأضغانِ.{ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} أي أنتُم أيها المخاطبونَ هؤلاء الموصوفونَ. وقولُه تعالى: {تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} استثنافٌ مقررٌ لذلكَ أو صلةٌ لهؤلاءِ على أنَّه بمَعْنى الذينَ، أي هَا أنتُم الذين تُدعَونَ ففيهِ توبيخٌ عظيمٌ وتحقيرٌ مَنْ شأنِهم. والإنفاقُ في سبيلِ الله يعمُّ الغزوِ والزكاةَ وغيرَهُما. {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ} أي ناسٌ يبخلونَ وهو في حيزِ الدليلِ على الشرطيةِ السابقةِ..سورة الفتح: .تفسير الآية رقم (1): {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)}{أَنَا فتحنا لَكَ} فتحُ البلدِ عبارةٌ عن الظَّفرِ به عُنوةً أو صُلحاً بحِراب أو بدونِه فإنَّه ما لم يُظفرْ به منغلقٌ، مأخوذٌ من فتحِ بابِ الدارِ. وإسنادُه إلى نونِ العظمةِ لاستنادِ أفعالِ العبادِ إليه تعالى خلقاً وإيجاداً، والمرادُ به فتحُ مكةَ شرَّفها الله وهو المرويُّ عن أنسٍ رضيَ الله عنه، بُشّر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من الحديبيةِ، والتعبيرُ عنه بصيغةِ الماضِي على سَنَنِ سائِر الأخبارِ الربانيةِ للإيذانِ بتحققهِ لا محالةَ تأكيداً للتبشيرِ كَما أنَّ تصديرَ الكلامِ بحرفِ التحقيقِ لذلكَ، وفيه من الفخامةِ المنبئةِ عن عظمةِ شأنِ المخِبرِ جلَّ جلالُه وعزَّ سلطانُه ما لا يخفى، وقيلَ هو ما أتيحَ له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في تلك السنةِ من فتحِ خيبرَ وهو المرويُّ عن مجاهدٍ وقيل هو صلحُ الحديبيةِ فإنَّه وإن لم يكُن فيه حِرابٌ شديدٌ بل ترامٍ بين الفريقينِ بسهامٍ وحجارةٍ لكن لما كان الظهورُ للمسلمين حيثُ سألهم المشركون الصُّلحَ كان فتحاً بلا ريبَ، ورُويَ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: رَمَوا المشركين حتى أدخلُوهم ديارَهُم. وعن الكلبيِّ ظهرُواً عليهم حتى سألُوا الصُّلحَ وقد رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسلامُ حين بلغه أنَّ رجلاً قال ما هذا بفتحٍ لقد صُدِدْنا عن البيت وصُدّ هدْيُنا قال بل هو أعظمُ الفتوحِ، وقد رضي المشركون أنْ يدفعوكم بالراحِ ويسألوكم القَضيّةَ ويرغبُوا إليكم في الأمانِ وقد رأوا منكم ما يكرهون. وعن الشعبيِّ نزلتْ بالحديبيةِ وأصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوةِ ما لم يُصِبْ في غزوةٍ حيثُ أصاب أن بويعَ بَيعةَ الرضوانِ وغُفرَ له ما تقدمَ من ذنبِه وما تأخرَ وبلغ الهديُ محِلَّه وأُطعِموا نخلَ خيبرَ وظهرت الرومُ على فارسَ ففرحَ به المسلمون وكان في فتح الحديبيةِ آيةٌ عظيمةٌ هي أنه نُزح ماؤها حتى لم يبقَ فيها قطرةٌ فتمضمضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم مجَّه فيها فدرَّتْ بالماءِ حتى شربَ جميعُ من كان معه وشِبعَ وقيل: فجاش الماءُ حتى امتلأتْ ولم ينفدْ ماؤها بعدُ، وقيل هو جميعُ ما فتحَ له عليه الصلاةُ والسلامُ من الفتوحِ وقيل هو ما فتح الله له عليه الصلاةُ والسلامُ من الإسلامِ والنبوةِ والدعوةِ بالحجةِ والسيفِ ولا فتحَ أبينُ منه وأعظمُ وهو رأسُ الفتوحِ كافةً إذ لا فتحَ من فتوحِ الإسلامِ إلا وهو شعبةٌ وفرعٌ من فروعِه وقيل الفتحُ بمعنى القضاءِ ومنه الفتاحةُ للحكومةِ والمعنى قضينا لك على أهلِ مكةَ أنْ تدخلَها من قابلٍ وهو المرويُّ عن قتادةَ رضي الله عنه وأياً ما كان فخذفُ المفعولِ للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ والإيذانِ بأن مناطَ التبشيرِ نفسُ الفتحِ الصادرِ عنه سبحانَهُ لا خصوصيةُ المفتوحِ {فَتْحاً مُّبِيناً} بيناً ظاهرَ الأمرِ مكشوفَ الحالِ أو فارقاً بين الحقِّ والباطلِ..تفسير الآيات (2- 4): {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)}وقوله تعالى: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله} غايةٌ للفتحِ منْ حيثُ إنَّه مترتبٌ على سعيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في إعلاءِ كلمةِ الله تعالى بمكابدةِ مشاقِّ الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوبِ، والالتفاتُ إلى اسم الذاتِ المستتبعِ لجميعِ الصفاتِ للإشعارِ بأن كلَّ واحدٍ ممَّا انتظم في سلك الغايةِ من أفعالِه تعالى صادرٌ عنه تعالى من حيثيةٍ غيرِ حيثيةِ الآخرِ مترتبةٍ على صفةٍ من صفاتِه تعالى: {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي جميعَ ما فرَطَ منك من تركِ الأَوْلى، وتسميتُه ذنباً بالنظرِ إلى منصبه الجليلِ. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإعلاءِ الدِّين وضمِّ الملكِ إلى النبوةِ وغيرهما مما أفاضَه عليه من النعمِ الدينيةِ والدنيويةِ. {وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً} في تبليغِ الرسالةِ وإقامةِ مراسمِ الرياسةِ. وأصلُ الاستقامةِ وإن كانتْ حاصلةً قبلَ الفتحِ لكنْ حصلَ بعد ذلكَ من اتِّضاحِ سبلِ الحقِّ واستقامةِ مناهجهِ ما لم يكُنْ حاصلاً قبلُ. {وَيَنصُرَكَ الله} إظهارُ الاسمِ الجليلِ لكونِه خاتمةَ الغاياتِ ولإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأنِ النصرِ كما يعربُ عنه تأكيدُه بقولِه تعالى: {نَصْراً عَزِيزاً} أي نصراً فيه عزةٌ أو قوياً منيعاً على وصفِ المصدرِ بوصفِ صاحبِه مجازاً للمبالغةِ أو عزيزاً صاحبُه. {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة} بيانٌ لما أفاضَ عليهم منْ مبادِي الفتحِ من الثباتِ والطُّمأنينةِ أي أنزلَها {فِى قُلُوبِ المؤمنين} بسبب الصلحِ والأمنِ إظهاراً لفضلِه تعالى عليهم بتيسيرِ الأمنِ بعد الخوفِ {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} أي يقيناً مُنضماً إلى يقينِهم أو أنزل فيها السكونَ إلى ما جاءَ به عليهِ الصلاةُ والسلامُ من الشرائعِ ليزدادُوا إيماناً بها مقروناً مع إيمانِهم بالوحدانيةِ واليومِ الآخرِ عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ أولَ ما أتاهُم به النبيُّ صلى الله عليه وسلم التوحيدُ ثم الصلاةُ والزكاةُ ثم الحجُّ والجهادُ فازدادُوا إيماناً معَ إيمانِهم، أو أنزلَ فيها الوقارَ والعظمةَ لله تعالى ولرسولِه ليزدادوا باعتقادِ ذلك إيماناً إلى إيمانهم. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض} يدبرُ أمَرها كيفما يريدُ يسلطُ بعضَها على بعضٍ تارةً ويوقعُ بينهما السلمَ أخرى حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَمِ والمصالحِ {وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلمِ بجميعِ الأمورِ {حَكِيماً} في تقديرِه وتدبيرِه..تفسير الآيات (5- 6): {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)}وقولُه تعالى: {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ ما ذُكِرَ من كونِ جنودِ السمواتِ والأرضِ لهُ تعالى من مَعْنى التصرفِ والتدبيرِ أي دبرَ ما دبرَ من تسليطِ المؤمنينَ ليعرفُوا نعمةَ الله في ذلكَ ويشكرُوها فيدخلَهم الجنةَ {وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} أي يُغطيها ولا يُظهرها. وتقديمُ الإدخالِ في الذكرِ على التكفيرِ مع أن الترتيبَ في الوجودِ على العكسِ للمسارعةِ إلى بيانِ ما هو المطلبُ الأَعْلى {وَكَانَ ذلك} أي ما ذُكِرَ من الإدخالِ والتكفيرِ {عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} لا يُقادرُ قدره لأنَّه مُنتهى ما يمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ من جلبِ نفعٍ ودفعِ ضُرَ. وعندَ الله حالٌ منْ فَوزاً لأنَّه صفتُه في الأصلِ فلمَّا قدمَ عليهِ صارَ حالاً أي كائناً عند الله أي في علمِه تعالى وقضائِه والجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ.{وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} عطفٌ على يُدخل. وفي تقديمِ المنافقينَ على المشركينَ ما لا يَخفْى من الدلالةِ على أنَّهم أحقُّ منُهم بالعذابِ. {الظانين بالله ظَنَّ السوء} أي ظنَّ الأمرِ السوءِ وهو أنْ لا ينصرَ رسولَه والمؤمنين {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} أي ما يظنونَهُ ويتربصونَهُ بالمؤمنينَ فهو حائقٌ بهم ودائرٌ عليهم. وقرئ: {دائرةُ السُّوء} بالضمِّ وهُمَا لُغتانِ من ساءَ، كالكُره والكَره خلا أنَّ المفتوحَ غلبَ في أنْ يضافَ إليهِ ما يُرادُ ذمُّه من كلِّ شيءٍ وأما المضمومُ فجارٍ مَجْرى الشرِّ {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} عطفٌ على ما استحقُّوه في الآخرةِ على ما استوجبُوه في الدُّنيا. والواوُ في الأخيرينِ مع أنَّ حقَّهما الفاءُ المفيدةُ لسببيةِ ما قبلَها لما بعدَها للإيذانِ باستقلالِ كلَ منهُما في الوعيدِ وأصالتِه من غيرِ اعتبارِ استتباعِ بعضِها لبعضٍ {وَسَاءتْ مَصِيراً} أي جهنمُ.
|