الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (214- 215): {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}{أَمْ حَسِبْتُمْ} خوطب به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حثًّا لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفَرَة وتحمُّل المشاقِّ من جهتهم إثر بيانِ اختلافِ الأممِ على الأنبياء عليهم السلام، وقد بُيّن فيه مآلُ اختلافِهم وما لَقِيَ الأنبياءُ ومَنْ معهم من قبلهم من مكابدة الشدائد ومقاساة الهموم وأن عاقبة أمرِهم النصرُ وأم منقطعة والهمزةُ فيها للإنكار والاستبعاد أي بل أحسبتم {أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين أي والحال أنه لم يأتِكم مثلُهم بعد ولم تبتلوا بما ابتُلوا به من الأحوال الهائلةِ التي هي مَثَلٌ في الفظاعة والشدّة وهو متوقَّعٌ ومنتظَرٌ {مَسَّتْهُمْ} استئنافٌ وقعَ جواباً عما ينساقُ إليه الذهن كأنه قيل وكيف كان مثلهم فقيل: مسَّتْهم {البأساء} أي الشدَّةُ من الخوف والفاقةِ {والضراء} أي الآلامُ والأمراضُ {وَزُلْزِلُواْ} أي أزْعجوا إزعاجاً شديداً بما دَهَمهم من الأهوال والأفزاعِ {حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} أي انتهى أمرُهم من الشدة إلا حيث اضطَرَّهم الضَّجرُ إلى أن يقول الرسولُ وهو أعلمُ الناس بشؤون اللَّهِ تعالى وأوثقُهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بأنواره {متى} أي متى يأتي {نَصْرُ الله} طلباً وتمنياً له واسْتطالةً لمدة الشدة والعناءِ، وقرئ {حتى يقولُ} بالرفع على أنه حكايةُ حالٍ ماضيةٍ وهذا كما ترى غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ النهايات النائيةِ كيف لا والرسلُ مع علوّ كعبهم في الثبات والاصطبارِ حيث عيلَ صبرُهم وبلغوا هذا المبلغَ من الضجر والضجيج عُلم أن الأمرَ بلغ إلى غاية لا مطمَحَ وراءَها {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} على تقدير القولِ أي فقيل لهم حينئذٍ ذلك إسعافاً لمرامهم، والمرادُ بالقرب القُربُ الزمانيُّ، وفي إيثار الجملة الاسميةِ على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقيق مضمونها ما لا يخفى، واختيارُ حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعدِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتصارُ على حكايتها دون حكايةِ نفسِ النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخُلْف ويجوز أن يكون هذا وارداً من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا وارداً عند وقوعِ المحكي، وفيه رمزٌ إلى أن الوصولَ إلى جناب القدسِ لا يتسنَّى إلا برفض اللذاتِ ومكابدةِ المشاقِّ كما يُنبىء عنه قولُه عليه السلام: «حُفّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ».{يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} أي من أصناف أموالِهم {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ} ما إما شرطية وإما موصولة حُذف العائدُ إليها أي ما أنفقتموه من خير أي خير كان ففيه تجويزُ الإنفاق من جميع أنواعِ الأموالِ وبيانٌ لما في السؤال، إلا أنه جُعل من جملة ما في حيز الشرطِ أو الصلة وأُبرِز في معرِض بيانِ المصرِفِ حيث قيل: {فللوالدين والاقربين} للإيذان بأن الأهمَّ بيانُ المصارفِ المعدودة لأن الاعتدادَ بالإنفاق بحسب وقوعِه في موقعه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء عمْرُو بنُ الجَموحِ وهو شيخٌ هِمٌّ له مالٌ عظيم فقال: يا رسول الله ماذا نُنفق من أموالنا وأين نضعُها؟ فنزلت {واليتامى} أي المحتاجين منهم {والمساكين وابن السبيل} ولم يتعرضْ للسائلين والرقاب إما اكتفاءً بما ذكر في المواقع الأُخَرِ، وإما بناءً على دخولهم تحت عموم قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} فإنه شاملٌ لكل خير واقعٍ في أي مصرِفٍ كان {فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} فيوفّي ثوابَه، وليس في الآية ما ينافيه فرضُ الزكاة ليُنْسخَ به كما نُقل عن السُدي..تفسير الآيات (216- 217): {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} ببناء الفعل للمفعول ورفعِ القتال أي قتالُ الكفرة، وقرئ ببنائه للفاعل وهو اللَّهُ عز وجل ونصب القتالَ وقرئ {كُتِب عليكم القَتْلُ} أي قتلُ الكفرة، والواو في قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} حالية أي والحال أنه مكروهٌ لكم طبعاً على أن الكُرهَ مصدرٌ وُصف به المفعولُ مبالغة، أو بمعنى المفعولِ كالخُبز بمعنى المخبوز وقرئ بالفتح على أنه بمعنى المضموم كالضَّعف والضُّعف، أو على أنه بمعنى الإكراه مَجازاً كأنهم أُكرهوا عليه لشدة كراهتِهم له ومشقتِه عليهم {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وهو جميعُ ما كُلّفوه من الأمور الشاقةِ التي من جملتها القتالُ فإن النفوسَ تكرَهُه وتنفِرُ عنه والجملة اعتراضية دالَّةٌ على أن في القتال خيراً لهم {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} وهو جميع ما نُهوا عنه من الأمور المستلَذة وهو معطوفٌ على ما قبله لا محلَّ لهما من الإعراب {والله يَعْلَمُ} ما هو خيرٌ لكم فلذلك أمرَكم به {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي لا تعلَمونه، ولذلك تكرَهونه أو واللَّهُ يعلم ما هو خيرٌ وشرٌّ لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا في ذلك رأيَكم وامتثلوا بأمره تعالى.{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام} رُوِيَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد اللَّه بن جَحْشٍ على سرية في جُمادى الآخِرَة قبل قتالِ بدرٍ بشهرين ليترصَّدوا عِيراً لقُريش فيهم عمرُو بنُ عبدِ اللَّه الحَضْرمي وثلاثةٌ معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العِير بما فيها من تجارة الطائفِ، وكان ذلك أولَ يوم من رجبٍ وهم يظنونه من جمادى الآخِرة فقالت قريشٌ: قد استحل محمَّدٌ الشهرَ الحرامَ شهراً يأمنُ فيه الخائفُ ويبذعِرُ فيه الناسُ إلى معايشهم، فوقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العِيرَ وعظَّم ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزِلَ توبتُنا وردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العِيرَ والأُسارى» وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة، والمعنى يسألك الكفارُ أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرامِ على أن قوله عز وجل: {قِتَالٍ فِيهِ} بدلُ اشتمالٍ من الشهر، وتنكيرُه لما أن سؤالهم كان عن مُطلق القتال الواقعِ في الشهر الحرام لا عن القتال المعهودِ، ولذلك لم يقل يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وقرئ {عن قتالٍ فيه} {قُلْ} في جوابهم {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملة من مبتدأ وخبرٍ محلّها النصبُ بقل وإنما جاز وقوعُ (قتالٌ) مبتدأً مع كونه نكرةً لتخصُّصه إما بالوصف إنْ تعلق الظرفُ بمحذوفٍ وقع صفةً له أي قتالٌ كائن فيه وإما بالعمل إن تعلق به، وإنما أوثر التنكيرُ احترازاً عن توهم التعيين وإيذاناً بأن المرادَ مطلقُ القتال الواقعِ فيه أيِّ قتالٍ كان.عن عطاءٍ أنه سُئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله ما يحِلّ للناس أن يغزوا في الحَرَم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وما نُسخت، وأكثرُ الأقاويل أنها منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} مبتدأ قد تخصَّصَ بالعمل فيما بعده أي ومَنْعٌ عن الإسلام الموصِلِ للعبد إلى الله تعالى {وَكُفْرٌ بِهِ} عطفٌ على صدٌّ عاملٌ فيما بعده مثلَه أي وكفرٌ بالله تعالى وحيث كان الصدُ عن سبيل الله فرداً من أفراد الكفرِ به تعالى لم يقدَحِ العطفُ المذكورُ في حسن عطفِ قوله تعالى: {والمسجد الحرام} على سبيل الله، لأنه ليس بأجنبيَ محضٍ، وقيل: هو أيضاً معطوف على صدٌ بتقدير المضاف أي وصدُ المسجدِ الحرام {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون {مِنْهُ} أي من المسجد الحرام وهو عطفٌ على {وكفر به} {أَكْبَرُ عِندَ الله} خبرٌ للأشياء المعدودةِ، أي كبائرُ السائلين أكبر عند الله مما عُنوا بالسؤال عنه وهو ما فعلته السريةُ خطأً وبناءً على الظن، وأفعلُ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنث {والفتنة} أي ما ارتكبوه من الإخراج والشركِ وصدِّ الناسِ عن الإسلام ابتداءً وبقاءً {أَكْبَرُ مِنَ القتل} أي أفظعُ من قتل الحَضْرميّ.{وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم} بيانٌ لاستحكام عداوتهم وإصرارِهم على الفتنة في الدين {حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} الحقِّ إلى دينهم الباطلِ، وإضافةُ الدين إليهم لتذكير تأكُّدِ ما بينهما من العلاقة الموجبةِ لامتناع الافتراق {إِنِ اسْتَطَاعُواْ} إشارةٌ إلى تصلُّبهم في الدين وثباتِ قدمِهم فيه، كأنه قيل وأنى لهم ذلك {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} تحذيرٌ من الارتداد، أي ومن يفعلْ ذلك بإضلالهم وإغوائهم {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} بأن لم يرجِعْ إلى الإسلام، وفيه ترغيبٌ في الرجوعِ إلى الإسلام بعد الارتداد {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بما في حيِّز الصلةِ من الارتداد والموتِ عليه، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعْد منزلتِهم في الشر والفساد، والجمعُ للنظر إلى المعنى أي أولئك المُصِرُّون على الارتداد إلى حينِ الموتِ {حَبِطَتْ أعمالهم} الحسنةُ التي كانوا عمِلوها في حالة الإسلام حُبوطاً لا تلافيَ له قطعاً {فِى الدنيا والاخرة} بحيث لم يبْقَ لها حكمٌ من الأحكام الدنيوية والأخروية {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر سابقاً ولاحقاً من القبائح {أصحاب النار} أي مُلابِسوها ومُلازِموها {هُمْ فِيهَا خالدون} كدأب سائرِ الكَفَرة..تفسير الآيات (218- 219): {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}{إِنَّ الذين ءامَنُواْ} نزلت في أصحاب السريةِ لما ظُنَّ بهم أنهم إنْ سلِموا من الإثم فلا أجرَ لهم {والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله} كرَّر الموصولَ مع أن المرادَ بهما واحدٌ لتفخيم شأنِ الهجرةِ والجهاد فكأنهما مستقلانِ في تحقيق الرجاء {أولئك} المنعوتون بالنُّعوتِ الجليلة المذكورة {يَرْجُونَ} بما لهم من مبادئ الفوزِ {رَّحْمَةِ الله} أي ثوابه، أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز بالمرجوِّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العملَ غيرُ موجبٍ للأجر وإنما هو على طريق التفضُّلِ منه سبحانه لا لأن في فوزهم اشتباهاً {والله غَفُورٌ} مبالِغٌ في مغفرةِ ما فرَط من عباده خطأً {رَّحِيمٌ} يُجزِل لهم الأجرَ والثوابَ، والجملةُ اعتراضٌ محقَّقٌ لمضمون ما قبلها.{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} تواردَتْ في شأن الخمر أربعُ آياتٍ نزلت بمكة: {وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} فطفِق المسلمون يشربونها، ثم إن عمرَ، ومُعاذاً ونفراً من الصحابة رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين قالوا: أَفْتِنا يا رسولَ الله في الخمر فإنها مُذهبةٌ للعقل فنزلت هذه الآية، فشرِبها قومٌ وتركها آخرون، ثم دعا عبدُ الرحمن بنُ عَوْف ناساً منهم، فشرِبوا فسكِروا، فأما أحدُهم فقرأ: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فنزلت {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} الآية، فقلَّ من يشرَبُها ثم دعا عتبانُ بن مالك سعدَ بنَ أبي وقاصٍ في نفرٍ فلما سكِروا تفاخَروا وتناشدوا حتى أنشد سعدٌ شعراً فيه هجاءٌ للأنصار فضرَبه أنصاريٌّ بلَحْي بعيرٍ فشجه شجة موُضِحَة فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت {إِنَّمَا الخمر والميسر} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} فقال عمرُ رضي الله عنه: «انتهينا يا رب» وعن علي رضي الله عنه: «لو وقعت قطرةٌ منها في بئر فبُنيت في مكانها مَنارةٌ لم أؤذّنْ عليها ولو وقعت في بحر ثم جَفَّ فنبت فيه الكلأُ لم أَرْعَه». وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما: «لو أدخلتُ أُصبَعي فيها لم تَتْبَعْني» وهذا هو الإيمانُ والتقى حقاً رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والخمرُ مصدرُ خمرَه أي ستره سُمّي به من عصير العنب ما غلى واشتد وقذف بالزبد لتغطيتها العقلَ والتمييزَ كأنها نفسُ السَّتر، كما سُميت سكَراً لأنها تسكُرهما أي تحجزهما. والميسِرُ مصدرٌ ميميٌّ من يَسَر كالموعِد والمرجِع يقال: يسَرْته إذا قمَرْته، واشتقاقه إما من اليُسر لأنه أخذُ المال بيُسرٍ من غير كدّ ولا تعب، وإما من اليَسار لأنه سلبٌ له، وصفتُه أنه كانت لهم عشرةُ قِداح هي الأزلامُ والأقلام: الفذُّ والتوأمُ والرقيبُ والجَلْس والنافسُ والمُسبِلُ والمعلى والمَنيح والسَفيح والوغد لكل منها نصيبٌ معلوم من جَزور ينحرونها ويُجزّئونها عشرةَ أجزاء، وقيل: ثمانيةً وعشرين إلا الثلاثة وهي المنيحُ والسفيحُ والوغدُ للفذ سهمٌ وللتوأم سهمان وللرقيب ثلاثة وللجَلْس أربعة وللنافس خمسة وللمُسبل ستة وللمعلَّى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطةٌ ويضعونها على يديْ عدلٍ ثم يجلجلها ويُدخِلُ يده فيُخرِج باسم رجلٍ رجلٍ قِدْحاً قدحاً فمن خرج له قِدْحٌ من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعيّنَ لها ومن خرج له من تلك الثلاثة غَرِم ثمنَ الجزور مع حِرمانه وكانوا يبيعون تلك الأنصباءَ إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمّون من لا يدخُل فيه ويسمّونه البرم وفي حكمه جميعُ أنواعِ القمارِ من النرْدِ والشطرنج وغيرهما وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إياكم وهاتين اللعبتين المشؤمتين فإنهما مياسِرُ العجم» وعن علي كرم الله وجهه أن النرد والشطرنج من الميسر، وعن ابن سيرين كلُّ شيء فيه خطرٌ فهو من الميسر. والمعنى يسألونك عن حُكمهما وعما في تعاطيهما.{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي في تعاطيهما ذلك لما أن الأولَ مسلبةٌ للعقول التي هي قطبُ الدين والدنيا مع كون كلَ منهما مَتلفةً للأموال {ومنافع لِلنَّاسِ} من كسب الطرَب واللذة ومصاحبةِ الفتيان وتشجيعِ الجبان وتقوية الطبيعة، وقرئ {إثمٌ كثير} بالمثلثة، وفي تقديم بيانِ إثمِه ووصفُه بالكِبَر وتأخيرِ ذكر منافعِه مع تخصيصها بالناس من الدِلالة على غلبة الأول ما لا يخفى على ما نطقَ به قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} أي المفاسدُ المترتبةُ على تعاطيهما أعظمُ من الفوائد المترتبة عليه وقرئ {أقربُ من نفعهما}.{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر} عطفٌ على يسألونك عن الخمر إلخ عطفَ القصة على القصة، أي أيُّ شيءٍ ينفقونه قيل: هو عمْرو بنُ الجموح أيضاً سأل أولاً من أيّ جنسٍ ينفق من أجناس الأموال فلما بُيّن جوازُ الإنفاق من جميع الأجناس سأل ثانياً من أي أصنافها نُنفِقُ أمن خيارها أم من غيرها أو سأل عن مقدار ما يُنفقه منه فقيل: {قُلِ العفو} بالنصب أي ينفقون العفوَ أو أنفقوا العفوَ وقرئ بالرفع على أن ما استفهامية وذا موصولةٌ، صلتُها ينفقون أي الذي ينفقونه العفوُ قال الواحدي: أصلُ العفوِ في اللغة الزيادة، وقال القفال: العفوُ ما سُهل وتيسر مما فضَل من الكفاية وهو قول قتادةَ وعَطاءٍ والسدي، وكانت الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين يكسِبون المالَ ويُمسكون قدرَ النفقة ويتصدقون بالفضل. ورُوي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال: خذها مني صدقة فأعرض عنه فكرر ذلك مراراً حتى قال عليه السلام مغضباً: هاتِها فأخذها فحذَفها عليه حَذْفاً لو أصابته لشجته ثم قال: «يأتي أحدُكم بماله كلِّه يتصدق به ويجلِس يتكفّف الناسَ إنما الصدقةُ عن ظهر غنى» {كذلك} إشارةٌ إلى مصدر الفعل الآتي، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو درجة المشارِ إليه في الفضل مع كمال تميّزِه وانتظامِه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة، والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة، وإفرادُ حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين باعتبار القَبيل أو الفريق، أو لعدم القصد إلى تعيين المخاطب كما مر، ومحلُه النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مثلَ ذلك البيان الواضحِ الذي هو عبارةٌ عما مضى في أجوبة الأسئلة المارّة {يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} الدالةَ على الأحكام الشرعية المذكورة لا بياناً أدنى منه، وقد مر تمامُ تحقيقِه في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} وتبيين الآياتِ تنزيلُها ظاهرةَ الفحوى، واضحةَ المدلول لا أنه تعالى يبيّنها بعد أن كانت مشْتبهةً ملتبسةً، وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورة {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} لكي تتفكروا فيها وتقِفوا على مقاصدها وتعملوا بما في تضاعيفها.
|