الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (90- 92): {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}{قَالُواْ أَءنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ} استفهامُ تقريرٍ ولذلك أكدوه بأن واللام قالوه استغراباً وتعجباً، وقرئ {إنك} بالإيجاب، قيل: عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به، وقيل: تبسم فعرفوه بثناياه، وقيل: رفع التاجَ عن رأسه فرأوا علامةً بقَرنه تشبه الشامة البيضاء وكان لسارةَ ويعقوبَ مثلُها وقرئ {أإنك} أو {أنت يوسف} على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف، فحذف الأولُ لدلالة الثاني عليه وفيه زيادةُ استغراب {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} جواباً عن مسألتهم وقد زاد عليه قوله: {وهذا أَخِى} أي من أبويّ مبالغةً في تعريف نفسه وتفخيماً لشأن أخيه وتكملةً لما أفاده قوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ حسبما يفيده قولُه: {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا} فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلالِ؟ فأنا يوسفُ وهذا أخي قد منّ الله علينا بالخلاص عما ابتُلينا به، والاجتماعِ بعد الفُرقةِ، والعزة بعد الذِلة، والأُنس بعد الوحشة، ولا يبعد أن يكون فيه إشارةٌ إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجهَ لطلبكم، ثم علل ذلك بطريق الاستئنافِ التعليلي بقوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} أي يفعل التقوى في جميع أحوالِه أو يقِ نفسه عما يوجب سخطَ الله تعالى وعذابه {وَيِصْبِرْ} على المحن أو على مشقة الطاعاتِ أو عن المعاصي التي تستلذها النفس {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي أجرهم، وإنما وُضع المظهرُ موضع المضمرِ تنبيهاً على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان.{قَالُواْ تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا} اختارك وفضلك علينا بما ذكرت من النعوت الجليلة {وَإِن كُنَّا} وإن الشأن كنا {لخاطئين} لمتعمِّدين للذنب إذ فعلنا بك ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا، وفيه إشعارٌ بالتوبة والاستغفار ولذلك {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ} أي لا عتْبَ ولا تأنيب {عَلَيْكُمْ} وهو تفعيل من الثرب وهو الشحمُ الغاشي للكرِش ومعناه إزالته كما أن التجليد إزالةُ الجلد والتقريعُ إزالة القرع لأنه إذا ذهب كان ذلك غايةَ الهُزال فضرب مثلاً للتقريع الذي يذهب بماء الوجوه وقوله عز وعلا: {اليوم} منصوب بالتثريب أو بالمقدر خبراً لِلا أي لا أثر بكم أو لا تثريبَ مستقرٌ عليكم اليوم الذي هو مظنةٌ له فما ظنُّكم بسائر الأيام أو بقوله: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} لأنه حينئذ صفح عن جريمتهم وعفا عن جريرتهم بما فعلوا من التوبة {وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} يغفر الصغائرَ والكبائرَ ويتفضل على التائب بالقَبول، ومن كرمه عليه الصلاة والسلام أن إخوتَه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرةً وعشياً ونحن نستحيي منك بما فرَط منا فيك، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أهلَ مصرَ وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلّغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلّغ، ولقد شرُفت بكم الآن وعظُمتُ في العيون حيث علم الناسُ أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام..تفسير الآيات (93- 96): {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)}{اذهبوا بِقَمِيصِى هذا} قيل: هو الذي كان عليه حينئذ، وقيل: هو القميصُ المتوارَث الذي كان في التعويذ أمره جبريلُ بإرساله إليه وأوحى إليه أن فيحَ ريحِ الجنةِ لا يقع على مبتلىً إلا عُوفي {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} يكن بصيراً أو يأت إليَّ بصيراً، وينصره قوله: {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي بأبي وغيره ممن ينتظمه لفظُ الأهل جميعاً من النساء والذراري. قيل: إنما حمل القميصَ يهوذا وقال: أنا أحزنتُه بحمل القميصِ ملطخاً بالدم إليه فأُفرِحه كما أحزنته، وقيل: حمله وهو حافٍ حاسرٌ من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرةُ ثمانين فرسخاً.{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} خرجت من عريش مصر، يقال: فصَل من البلد فصولاً إذا انفصل منه وجاوز حيطانَه، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {انفصل العير} {قَالَ أَبُوهُمْ} يعقوبُ عليه الصلاة والسلام لمن عنده {إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أوجده الله سبحانه ما عبق بالقميص من ريح يوسف من ثمانين فرسخاً حين أقبل به يهوذا {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} أي تنسُبوني إلى الفند وهو الخرفُ وإنكارُ العقل وفسادُ الرأي مِنُ هرمٍ، يقال: شيخٌ مفنّد ولا يقال عجوزٌ مفنّدة إذ لم تكن في شبيبتها ذاتَ رأي فتُفَنّد في كِبَرها، وجواب لولا محذوف أي لصدقتموني {قَالُواْ} أي الحاضرون عنده {تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} لفي ذهابك عن الصواب قدُماً في إفراط محبتِك ليوسف ولَهجِك بذكره ورجائِك للقائه وكان عندهم أنه قد مات.{فَلَمَّا أَن جَاء البشير} وهو يهوذا {أَلْقَاهُ} أي ألقى البشيرُ القميصَ {على وَجْهِهِ} أي وجه يعقوب أو ألقاه يعقوبُ على وجه نفسه {فارتد} عاد {بَصِيراً} لما انتعش فيه من القوة {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ} يعني قولَه: إني لأجد ريحَ يوسف، فالخطابُ لمن كان عنده بكنعان أو قولَه: ولا تيأسوا من رَوْح الله فالخطابُ لبنيه وهو الأنسب بقوله: {إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فإن مدارَ النهي المذكورِ إنما هو العلمُ الذي أوتي يعقوبُ من جهة الله سبحانه وعلى هذا يجوز أن يكون هذا مقولَ القولِ أي ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصرَ وأمرتُكم بالتحسس ونهيتُكم عن اليأس من رَوْح الله تعالى وأعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه الصلاة والسلام. روي أنه سأل البشيرَ: كيف يوسف؟ فقال: هو ملِكُ مصرَ، قال: ما أصنع بالمُلك، على أي دينٍ تركتَه؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمت النِّعمة..تفسير الآيات (97- 99): {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99)}{قَالُواْ يَا أَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين} ومن حق من اعترف بذنبه أن يُصفح عنه ويُستغفرَ له فكأنهم كانوا على ثقة من عفوه عليه الصلاة السلام ولذلك اقتصروا على استدعاء الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار.{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} وهذا مُشعرٌ بعفوه، قيل: أخّر الاستغفارَ إلى وقت السحر، وقيل: إلى ليلة الجمعة ليتحرّى به وقت الإجابة، وقيل: أخّره إلى أن يستحِلَّ لهم من يوسف عليه الصلاة والسلام أو يعلم أنه قد عفا عنهم فإن عفوَ المظلوم شرطُ المغفرة، ويعضُده أنه روي عنه أنه استقبل القِبلة قائماً يدعو وقام يوسفُ خلفه يؤمّن وقاموا خلفَهما أذلةً خاشعين عشرين سنة حتى إذا بلغ جهدَهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: إن الله قد أجاب دعوتَك في ولدك وعقدوا مواثيقهم بعدك على النبوة فإن صح ثبتت نبوتُهم وإن ما صدر عنهم إنما صدر قبل الاستنباء. وقيل: المرادُ الاستمرارُ على الدعاء فقد روي أنه كان يستغفر كلَّ ليلةِ جمعةٍ في نيّف وعشرين سنة، وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرَغ رفع يديه فقال: اللهم اغفِرْ لي جزَعي على يوسف وقلةَ صبري عنه واغفِر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحى الله إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين.{فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} روي أنه وجّه يوسفُ إلى أبيه جَهازاً ومائتي راحلةٍ ليتجهز إليه بمن معه فاستقبله يوسفُ والملكُ في أربعة آلاف من الجند والعُظماء وأهلِ مصرَ بأجمعهم فتلقّوا يعقوبَ عليه الصلاة والسلام وهو يمشي متوكئاً على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا، أهذا فرعونُ مصرَ؟ قال: لا بل ولدُك، فلما لِقيه قال عليه الصلاة والسلام: السلامُ عليك يا مذهبَ الأحزان، وقيل: قال له يوسف: يا أبت بكَيتَ عليّ حتى ذهب بصرُك ألم تعلم أن القيامةَ تجمعنا؟ فقال: بلى، ولكني خشِيتُ أن يسلَبَ دينُك فيُحالَ بيني وبينك، وقيل إن يعقوبَ وولدَه دخلوا مصرَ وهم اثنان وسبعون ما بين رجلٍ وامرأةٍ وكانوا حين خرجوا مع موسى ستَّمائةِ ألفٍ وخمسَمائةٍ وبضعةً وسبعين رجلاً سوى الذرية والهرمى وكانت الذريةُ ألفَ ألفٍ ومائتي ألف.{إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} أي أباه وخالتَه وتنزيلُها منزلةَ الأمِّ كتنزيل العمِّ منزلةَ الأب في قوله عز وجل: {وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} أو لأن يعقوبَ عليه الصلاة والسلام تزوّجها بعد أمّه، وقال الحسن وابنُ إسحاق: كانت أمُّه في الحياة فلا حاجة إلى التأويل، ومعنى آوى إليه ضمّهما إليه واعتنقهما وكأنه عليه الصلاة والسلام ضَرب في الملتقى مضرباً فنزل فيه فدخلوا عليه فآواهما إليه {وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَاء الله ءامِنِينَ} من الشدائد والمكاره قاطبةً والمشيئةُ متعلقةٌ بالدخول على الأمن..تفسير الآية رقم (100): {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} عند نزولِهم بمصر {عَلَى العرش} على السرير تكرِمةً لهما فوق ما فعله لإخوته {وَخَرُّواْ لَهُ} أي أبواه وإخوتُه {سُجَّدًا} تحية له فإنه كان السجودُ عندهم جارياً مجرى التحيةِ والتكرمةِ كالقيام والمصافحةِ وتقبيلِ اليد ونحوِها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير، وقيل: ما كان ذلك إلا انحناءً دون تعفيرِ الجباه، ويأباه الخرُورُ، وقيل: خروا لأجله سجداً لله شكراً ويرده قوله تعالى: {وَقَالَ يأَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رؤياى} التي رأيتها وقصصتها عليك {مِن قَبْلُ} في زمن الصِّبا {قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا} صدقاً واقعاً بعينه، والاعتذارُ بجعل يوسفَ بمنزله القِبلة وجعلِ اللام كما في قوله:تعسفٌ لا يخفى، وتأخيرُه عن الرفع على العرش ليس بنص في ذلك لأن الترتيبَ الذكريَّ لا يجب كونُه على وفق الترتيب الوقوعيِّ فلعل تأخيرَه عنه ليصل به ذكرُ كونِه تعبيراً لرؤياه وما يتصل به من قوله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَى} المشهورُ استعمالُ الإحسان بإلى، وقد يستعمل بالباء أيضاً كما في قوله عز اسمُه: {وبالوالدين إحسانا} وقيل: هذا بتضمين لَطَف وهو الإحسانُ الخفيُّ كما يؤذن به قوله تعالى: {إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء} وفيه فائدة لا تخفى أي لطَف بي محسناً إليَّ غيرَ هذا الإحسان {إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن} بعدما ابتُليت به ولم يصرِّح بقصة الجُبّ حِذاراً من تثريب إخوتِه لأن الظاهرَ حضورُهم لوقوع الكلام عَقيب خرورهم سجّداً واكتفاءً بما يتضمنه قوله تعالى: {وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو} أي البادية {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} أي أفسد بيننا بالإغواء وأصلُه من نخْس الرائضِ الدابةَ وحملِها على الجري، يقال: نزَغه ونسَغه إذا نخسَه ولقد بالغ عليه الصلاة والسلام في الإحسان حيث أسند ذلك إلى الشيطان {إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء} أي لطيفُ التدبير لأجله رفيقٌ حتى يجيء على وجه الحِكمة والصواب، ما من صعبٍ إلا وهو بالنسبة إلى تدبيره سهلٌ {إِنَّهُ هُوَ العليم} بوجود المصالح {الحكيم} الذي يفعل كلّ شيء على قضية الحكمة. روي أن يوسف أخذ بيد يعقوبَ عليهما الصلاة والسلام فطاف به في خزائنه فأدخله في خزائن الورِقِ والذهب وخزائن الحِليّ وخزائن الثياب وخزائنِ السلاح وغيرِ ذلك، فلما أدخله خزائنَ القراطيس قال: يا بني ما أعقّك، عندك هذه القراطيسُ وما كتبت إلي على ثماني مراحلَ؟ قال: أمرني جبريلُ، قال: أو ما تسأله، قال: أنا أبسطُ إليه مني فسأله قال جبريلُ: الله تعالى أمرني بذلك لقولك: أخاف أن يأكلَه الذئب، قال: فهلا خِفْتني. ورُوي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفِنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاقَ فمضى بنفسه ودفنه ثمةَ ثم عاد إلى مصرَ وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فلما تم أمرُه وعلِم أنه لا يدوم له تاقت نفسُه إلى المُلك الدائم الخالد فتمنى الموت فقال: .تفسير الآيات (101- 102): {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}{رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك} أي بعضاً منه عظيماً وهو ملكُ مصرَ {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} أي بعضاً من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويلِ الأحاديث تفهيمُ غوامضِ أسرارِ الكتب الإلهية ودقائقِ سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالترتيبُ ظاهر، وأما إن أريد به تعليمُ تعبيرِ الرؤيا كما هو الظاهرُ فلعل تقديمَ إيتاءِ الملك عليه في الذكر لأنه بمقام تعدادِ النعم الفائضةِ عليه من الله سبحانه والمُلك أعرقُ في كونه نعمةً من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضاً نعمةً جليلةً في نفسه، ولا يمكن تمشيةُ هذا الاعتذارِ فيما سبق لأن التعليمَ هناك واردٌ على نهج العلة الغائيةِ للتمكين فإن حُمل على معنى التمليك لزم تأخرُه عنه، وأما الواقعُ هاهنا فمجردُ التأخيرِ في الذكر والعطفُ بحرف الواو، ولا يستدعي ذلك الترتيبَ في الوجود {فَاطِرَ السموات وَالأَرْضِ} مُبدعَهما وخالقَهما، نُصب على أنه صفةٌ للمنادى، أو منادى آخرُ وصفه تعالى به بعد وصفِه بالربوبية مبالغةً في ترتيب مبادئ ما يعقُبه من قوله: {أَنْتَ وَلِيِّي} مالكُ أموري {فِى الدنيا والاخرة} أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما وإذ قد أتممتَ عليّ نعمة الدنيا {تَوَفَّنِى} اقبِضْني {مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامةِ فإنما تتم النعمةُ بذلك، قيل: لما دعا توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً فتخاصم أهلُ مصرَ في دفنه وتشاحّوا في ذلك حتى همّوا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتاً من مَرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل ليمُرَّ عليه ثم يصلَ إلى مصر ليكونوا شرعاً واحداً في التبرك به، ووُلد له أفراييم وميشا، ولأفراييم نونٌ، ولنونٍ يوشعُ فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيلَ تحت أيديهم على بقايا دين يوسفَ وآبائِه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام.{ذلك} إشارةٌ إلى ما سبق من نبأ يوسفَ، وما فيه من معنى البُعد لما مر مراراً من الدِلالة على بُعد منزلتِه أو كونه بالانقضاء في حكم البعيدِ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبرُه {مِنْ أَنبَاء الغيب} الذي لا يحوم حوله أحدٌ وقوله: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} خبرٌ بعد خبر أو حال من الضمير في الخبر ويجوز أن يكون ذلك اسماً موصولاً و{من أبناء الغيب} صلتَه ويكون الخبرُ نوحيه إليك {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} يريد إخوةَ يوسف عليه الصلاة والسلام {إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} وهو جعلهم إياه في غيابة الجب {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} به ويبغون له الغوائلَ حتى تقف على ظواهر أسرارِهم وبواطنها وتطّلع على سرائرهم طُراً وتحيط بما لديهم خُبراً، وليس المرادُ مجردَ نفي حضورِه عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعِهم ومكرِهم فقط، بل في سائر المشاهدِ أيضاً، وإنما تخصيصُه بالذكر لكونه مطْلعَ القصة وأخفى أحوالِها كما ينبىء عنه قوله: وهم يمكرون، والخطابُ وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكنِ المرادُ إلزامُ المكذبين والمعنى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك إذ عدمُ سماعِك ذلك من الغير وعدمُ مطالعتِك للكتب أمرٌ لا يشك فيه المكذِّبون أيضاً ولم تكن بين ظَهرانِيهم عند وقوعِ الأمر حتى تعرِفه كما هو فتبلّغَه إليهم، وفيه تهكم بالكفار فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم، وفيه أيضاً إيذانٌ بأن ما ذكر من النبأ هو الحقُّ المطابق للواقع، وما ينقُله أهلُ الكتاب ليس على ما هو عليه يعني أن مثلَ هذا التحقيقِ بلا وحي لا يُتصوّر إلا بالحضور والمشاهدة وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي، ومثلُه قوله تعالى: {وَمَا لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وقولُه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر}
|