الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْأَدَبِ مَعْنَاهُ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ. وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُؤْذِنَةٌ بِالِاجْتِمَاعِ. فَالْأَدَبُ: اجْتِمَاعُ خِصَالِ الْخَيْرِ فِي الْعَبْدِ، وَمِنْهُ الْمَأْدُبَةُ. وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ. وَعِلْمُ الْأَدَبِ: هُوَ عِلْمُ إِصْلَاحِ اللِّسَانِ وَالْخِطَابِ، وَإِصَابَةِ مَوَاقِعِهِ، وَتَحْسِينِ أَلْفَاظِهِ، وَصِيَانَتِهِ عَنِ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ. وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْأَدَبِ الْعَامِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَدَبُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَدَبٌ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَدَبٌ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرْعِهِ. وَأَدَبٌ مَعَ خُلُقِهِ. فَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: صِيَانَةُ مُعَامَلَتِهِ أَنْ يَشُوبَهَا بِنَقِيصَةٍ. الثَّانِي: صِيَانَةُ قَلْبِهِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: صِيَانَةُ إِرَادَتِهِ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَا يَمْقُتُكَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْعَبْدُ يَصِلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَصِلُ بِأَدَبِهِ فِي طَاعَتِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ: رَأَيْتُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْفِهِ فَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الْأَدَبُ الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: أَنْ تُعَامِلَهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَدَبِ سِرًّا وَعَلَنًا. ثُمَّ أَنْشَدَ: إِذَا نَطَقَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلَاحَةٍ *** وَإِنْ سَكَتَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِــيحٍ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ صَاحَبَ الْمُلُوكَ بِغَيْرِ أَدَبٍ أَسْلَمَهُ الْجَهْلُ إِلَى الْقَتْلِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: إِذَا تَرَكَ الْعَارِفُ أَدَبَهُ مَعَ مَعْرُوفِهِ، فَقَدْ هَلَكَ مَعَ الْهَالِكِينَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: تَرْكُ الْأَدَبِ يُوجِبُ الطَّرْدَ. فَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبِسَاطِ رُدَّ إِلَى الْبَابِ. وَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبَابِ رُدَّ إِلَى سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: مَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ صَارَ مَنْ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: نَحْنُ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ. وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنْفَعَ الْأَدَبِ؟ فَقَالَ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ. وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَا لِلَّهِ عَلَيْكَ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْقَوْمُ اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ. وَصَبَرُوا لِلَّهِ عَلَى آدَابِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْأَدَبَ حِينَ فَاتَنَا الْمُؤَدَّبُونَ. وَقَالَ: الْأَدَبُ لِلْعَارِفِ كَالتَّوْبَةِ لِلْمُسْتَأْنِفِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ- لَمَّا قَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ: لَقَدْ أَدَّبْتَ أَصْحَابَكَ أَدَبَ السَّلَاطِينِ- فَقَالَ: حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الظَّاهِرِ عُنْوَانُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْبَاطِنِ. فَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ حُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَهُ، وَبِإِيقَاعِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى مُقْتَضَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْحَيَاءِ. كَحَالِ مَجَالِسِ الْمُلُوكِ وَمُصَاحِبِهِمْ. وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ السَّرَّاجُ: النَّاسُ فِي الْأَدَبِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ. أَمَّا أَهْلُ الدُّنْيَا: فَأَكْبَرُ آدَابِهِمْ: فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ. وَحِفْظِ الْعُلُومِ، وَأَسْمَارِ الْمُلُوكِ، وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا أَهْلُ الدِّينِ: فَأَكْبَرُ آدَابِهِمْ: فِي طَهَارَةِ الْقُلُوبِ، وَمُرَاعَاةِ الْأَسْرَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَحِفْظِ الْوَقْتِ، وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْخَوَاطِرِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ، فِي مَوَاقِفِ الطَّلَبِ، وَأَوْقَاتِ الْحُضُورِ، وَمَقَامَاتِ الْقُرْبِ. وَقَالَ سَهْلٌ: مَنْ قَهَرَ نَفْسَهُ بِالْأَدَبِ فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْقَوْلَ فِي الْأَدَبِ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ وَرُعُونَاتِهَا، وَتَجَنُّبُ تِلْكَ الرُّعُونَاتِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: الِانْبِسَاطُ بِالْقَوْلِ مَعَ الْحَقِّ تَرْكُ الْأَدَبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنْ أَلْزَمْتُهُ الْقِيَامَ مَعَ أَسْمَائِي وَصِفَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْأَدَبَ وَمَنْ كَشَفْتُ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ ذَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْعَطَبَ فَاخْتَرِ الْأَدَبَ أَوِ الْعَطَبَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَشَفَ لِلْجَبَلِ عَنْ ذَاتِهِ سَاخَ الْجَبَلُ وَتَدَكْدَكَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى عَظَمَةِ الذَّاتِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِذَا صَحَّتِ الْمَحَبَّةُ تَأَكَّدَتْ عَلَى الْمُحِبِّ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ. وَقَالَ النُّورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ لِلْوَقْتِ فَوَقْتُهُ مَقْتٌ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: إِذَا خَرَجَ الْمُرِيدُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْأَدَبِ: فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعَ اللَّهِ، وَخِطَابَهُمْ وَسُؤَالَهُمْ. كَيْفَ تَجِدُهَا كُلَّهَا مَشْحُونَةً بِالْأَدَبِ قَائِمَةً بِهِ؟ قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ أَقُلْهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي حَقِيقَةِ الْأَدَبِ. ثُمَّ أَحَالَ الْأَمْرَ عَلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَالِ وَسِرِّهِ. فَقَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ثُمَّ بَرَّأَ نَفْسَهُ عَنْ عِلْمِهِ بِغَيْبِ رَبِّهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثُمَّ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ. وَوَصَفَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِعِلْمِ الْغُيُوبِ كُلِّهَا. فَقَالَ: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ثُمَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُمْ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ- وَهُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ- فَقَالَ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهِمْ. وَأَنَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}. ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ شَهَادَةٍ وَأَعَمُّ. فَقَالَ: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ثُمَّ قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ. أَيْ شَأْنُ السَّيِّدِ رَحْمَةُ عَبِيدِهِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ عَبِيدُكَ لَيْسُوا عَبِيدًا لِغَيْرِكَ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ- مَعَ كَوْنِهِمْ عَبِيدَكَ- فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَبِيدُ سُوءٍ مِنْ أَبْخَسِ الْعَبِيدِ، وَأَعْتَاهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ، وَأَعْصَاهُمْ لَهُ- لَمْ تُعَذِّبْهُمْ. لِأَنَّ قُرْبَةَ الْعُبُودِيَّةَ تَسْتَدْعِي إِحْسَانَ السَّيِّدِ إِلَى عَبْدِهِ وَرَحْمَتَهُ. فَلِمَاذَا يُعَذِّبُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَعْظَمُ الْمُحْسِنِينَ إِحْسَانًا عَبِيدَهُ؟ لَوْلَا فَرْطُ عُتُوِّهِمْ، وَإِبَاؤُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَكَمَالُ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} أَيْ هُمْ عِبَادُكَ. وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ: عَذَّبْتَهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْكَ بِمَا تُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ. فَهُمْ عِبَادُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا جَنَوْهُ وَاكْتَسَبُوهُ. فَلَيْسَ فِي هَذَا اسْتِعْطَافٌ لَهُمْ، كَمَا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ. وَلَا تَفْوِيضٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْمُلْكِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْحِكْمَةِ، كَمَا تَظُنُّهُ الْقَدَرِيَّةُ. وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَلَمْ يَقُلِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّهُ قَالَهُ فِي وَقْتِ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ، وَالْأَمْرِ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. فَلَيْسَ هُوَ مَقَامَ اسْتِعْطَافٍ وَلَا شَفَاعَةٍ. بَلْ مَقَامُ بَرَاءَةٍ مِنْهُمْ. فَلَوْ قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لَأَشْعَرَ بِاسْتِعْطَافِهِ رَبَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ الَّذِينَ قَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ. فَالْمَقَامُ مَقَامُ مُوَافَقَةٍ لِلرَّبِّ فِي غَضَبِهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ. فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُسْأَلُ بِهِمَا عَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ إِلَى ذِكْرِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، الْمُتَضَمِّنَتَيْنِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ فَمُغْفِرَتُكَ تَكُونُ عَنْ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. لَيْسَتْ عَنْ عَجْزٍ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا عَنْ خَفَاءٍ عَلَيْكَ بِمِقْدَارِ جَرَائِمِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَغْفِرُ لِغَيْرِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُ. وَلِجَهْلِهِ بِمِقْدَارِ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهِ. وَالْكَمَالُ: هُوَ مَغْفِرَةُ الْقَادِرِ الْعَالِمِ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَكَانَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَيْنَ الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ حَمَلَةُ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ: اثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ. وَاثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ. وَلِهَذَا يَقْتَرِنُ كُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالْأُخْرَى. كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}. وَكَذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي. حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّفِينَةِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}. وَلَمْ يَقُلْ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ أَعِيبَهَا. وَقَالَ فِي الْغُلَامَيْنِ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} وَلَمْ يَقُولُوا: أَرَادَهُ بِهِمْ. ثُمَّ قَالُوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}. وَأَلْطَفُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وَلَمْ يَقُلْ: أَطْعِمْنِي. وَقَوْلُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَلَمْ يَقُلْ: رَبِّ قَدَرْتَ عَلَيَّ وَقَضَيْتَ عَلَيَّ. وَقَوْلُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. وَلَمْ يَقُلْ: فَعَافِنِي وَاشْفِنِي. وَقَوْلُ يُوسُفَ لِأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} وَلَمْ يَقُلْ: أَخْرَجَنِي مِنَ الْجُبِّ، حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ إِخْوَتِهِ. وَتَفَتِّيًا عَلَيْهِمْ: أَنْ لَا يُخْجِلَهُمْ بِمَا جَرَى فِي الْجُبِّ. وَقَالَ: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} وَلَمْ يَقُلْ: رَفَعَ عَنْكُمْ جُهْدَ الْجُوعِ وَالْحَاجَةَ. أَدَبًا مَعَهُمْ. وَأَضَافَ مَا جَرَى إِلَى السَّبَبِ. وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى الْمُبَاشِرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَقَالَ: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} فَأَعْطَى الْفُتُوَّةَ وَالْكَرْمَ وَالْأَدَبَ حَقَّهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ كَمَالُ هَذَا الْخُلُقِ إِلَّا لِلرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ، عَلَى حَسَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةِ وَقَارِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْزَمِ الْأَدَبَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا عُوقِبَ ظَاهِرًا. وَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ بَاطِنًا إِلَّا عُوقِبَ بَاطِنًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ تَهَاوَنَ بِالْأَدَبِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ السُّنَنِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالسُّنَنِ. عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْفَرَائِضِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْفَرَائِضِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْمَعْرِفَةِ. وَقِيلَ: الْأَدَبُ فِي الْعَمَلِ عَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ. وَحَقِيقَةُ الْأَدَبِ اسْتِعْمَالُ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَدَبُ: اسْتِخْرَاجَ مَا فِي الطَّبِيعَةِ مِنَ الْكَمَالِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَيَّأَ الْإِنْسَانَ لِقَبُولِ الْكَمَالِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْأَهْلِيَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، الَّتِي جَعَلَهَا فِيهِ كَامِنَةً كَالنَّارِ فِي الزِّنَادِ. فَأَلْهَمَهُ وَمَكَّنَهُ، وَعَرَّفَهُ وَأَرْشَدَهُ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلَهُ. وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كَتَبَهُ لِاسْتِخْرَاجِ تِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَهَّلَهُ بِهَا لِكَمَالِهِ إِلَى الْفِعْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}. فَعَبَّرَ عَنْ خُلُقِ النَّفْسِ بِالتَّسْوِيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالتَّمَامِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قَبُولِهَا لِلْفُجُورِ وَالتَّقْوَى. وَأَنَّ ذَلِكَ نَالَهَا مِنْهُ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا. ثُمَّ خَصَّ بِالْفَلَاحِ مَنْ زَكَّاهَا فَنَمَّاهَا وَعَلَّاهَا. وَرَفَعَهَا بِآدَابِهِ الَّتِي أَدَّبَ بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ. وَهِيَ التَّقْوَى. ثُمَّ حَكَمَ بِالشَّقَاءِ عَلَى مَنْ دَسَّاهَا فَأَخْفَاهَا وَحَقَّرَهَا. وَصَغَّرَهَا وَقَمَعَهَا بِالْفُجُورِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَجَرَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ: أَنْ يَذْكُرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَرَاهُ مَا أَرَاهُ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ صَدَّرَ بَابُ الْأَدَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ هَذَا وَصْفٌ لِأَدَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ. إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ جَانِبًا. وَلَا تَجَاوَزَ مَا رَآهُ. وَهَذَا كَمَالُ الْأَدَبِ. وَالْإِخْلَالُ بِهِ: أَنْ يَلْتَفِتَ النَّاظِرُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، أَوْ يَتَطَلَّعَ أَمَامَ الْمَنْظُورِ. فَالِالْتِفَاتُ زَيْغٌ. وَالتَّطَلُّعُ إِلَى مَا أَمَامَ الْمَنْظُورِ: طُغْيَانٌ وَمُجَاوَزَةٌ. فَكَمَالُ إِقْبَالِ النَّاظِرِ عَلَى الْمَنْظُورِ: أَنْ لَا يَصْرِفَ بَصَرَهُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. وَلَا يَتَجَاوَزَهُ. هَذَا مَعْنَى مَا حَصَّلْتُهُ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ. وَهِيَ مِنْ غَوَامِضِ الْآدَابِ اللَّائِقَةِ بِأَكْمَلِ الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَاطَأَ هُنَاكَ بَصَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ. وَتَوَافَقَا وَتَصَادَقَا فِيمَا شَاهَدَهُ بَصَرُهُ. فَالْبَصِيرَةُ مُوَاطِئَةٌ لَهُ. وَمَا شَاهَدَتْهُ بَصِيرَتُهُ فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ مَشْهُودٌ بِالْبَصَرِ. فَتَوَاطَأَ فِي حَقِّهِ مَشْهَدُ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ. وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} أَيْ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ. وَلِهَذَا قَرَأَهَا أَبُو جَعْفَرٍ: مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى- بِتَشْدِيدِ الذَّالِ- أَيْ لَمْ يُكَذِّبِ الْفُؤَادُ الْبَصَرَ. بَلْ صَدَّقَهُ وَوَاطَأَهُ. لِصِحَّةِ الْفُؤَادِ وَالْبَصَرِ. أَوِ اسْتِقَامَةِ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ. وَكَوْنُ الْمَرْئِيِّ الْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ حَقًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بِالتَّخْفِيفِ. وَهُوَ مُتَعَدٍّ. وَ: مَا رَأَى مَفْعُولَهُ: أَيْ مَا كَذَبَ قَلْبُهُ مَا رَأَتْهُ عَيْنَاهُ. بَلْ وَاطَأَهُ وَوَافَقَهُ. فَلِمُوَاطَأَةِ قَلْبِهِ لِقَالَبِهِ، وَظَاهِرِهِ لِبَاطِنِهِ. وَبَصَرِهِ لِبَصِيرَتِهِ: لَمْ يَكْذِبِ الْفُؤَادُ الْبَصَرَ. وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الْبَصَرُ حَدَّهُ فَيَطْغَى. وَلَمْ يَمِلْ عَنِ الْمَرْئِيِّ فَيَزِيغَ، بَلِ اعْتَدَلَ الْبَصَرُ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ. مَا جَاوَزَهُ وَلَا مَالَ عَنْهُ، كَمَا اعْتَدَلَ الْقَلْبُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ. فَإِنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ. وَلِلْقَلْبِ زَيْغٌ وَطُغْيَانٌ. وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنْ قَلْبِهِ وَبَصَرِهِ. فَلَمْ يَزِغْ قَلْبُهُ الْتِفَاتًا عَنِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَمْ يَطْغَ بِمُجَاوَزَتِهِ مَقَامِهِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ. وَهَذَا غَايَةُ الْكَمَالِ وَالْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ سِوَاهُ. فَإِنَّ عَادَةَ النُّفُوسِ، إِذَا أُقِيمَتْ فِي مَقَامٍ عَالٍ رَفِيعٍ: أَنْ تَتَطَلَّعَ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَفَوْقَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مُوسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أُقِيمَ فِي مَقَامِ التَّكْلِيمِ وَالْمُنَاجَاةِ: طَلَبَتْ نَفْسُهُ الرُّؤْيَةَ؟ وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَفَّاهُ حَقَّهُ: فَلِمَ يَلْتَفِتْ بَصَرُهُ وَلَا قَلْبُهُ إِلَى غَيْرِ مَا أُقِيمَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ؟ وَلِأَجْلِ هَذَا مَا عَاقَهُ عَائِقٌ. وَلَا وَقْفَ بِهِ مُرَادٌ، حَتَّى جَاوَزَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ حَتَّى عَاتَبَ مُوسَى رَبَّهُ فِيهِ. وَقَالَ: يَقُولُ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنِّي كَرِيمُ الْخُلُقِ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا قَدْ جَاوَزَنِي وَخَلَّفَنِي عُلُوًّا. فَلَوْ أَنَّهُ وَحْدَهُ؟ وَلَكِنْ مَعَهُ كُلُّ أُمَّتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى. قِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي أَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. ثُمَّ جَاوَزَهُ عُلُوًّا فَلَمْ تَعُقْهُ إِرَادَةٌ. وَلَمْ تَقِفْ بِهِ دُونَ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ هِمَّةٌ. وَلِهَذَا كَانَ مَرْكُوبُهُ فِي مَسْرَاهُ يَسْبِقُ خَطْوَهُ الطَّرْفَ. فَيَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، مُشَاكِلًا لِحَالِ رَاكِبِهِ، وَبُعْدِ شَأْوِهِ، الَّذِي سَبَقَ الْعَالَمَ أَجْمَعَ فِي سَيْرِهِ، فَكَانَ قَدَمُ الْبُرَاقِ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ مَوْضِعِ نَظَرِهِ. كَمَا كَانَ قَدَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ مَحَلِّ مَعْرِفَتِهِ. فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَفَارَةِ كَمَالِ أَدَبِهِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَكْمِيلِ مَرَاتِبِ عُبُودِيَّتِهِ لَهُ، حَتَّى خَرَقَ حُجُبَ السَّمَاوَاتِ، وَجَاوَزَ السَّبْعَ الطِّبَاقَ. وَجَاوَزَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى. وَوَصَلَ إِلَى مَحَلٍّ مِنَ الْقُرْبِ سَبَقَ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. فَانْصَبَّتْ إِلَيْهِ هُنَاكَ أَقْسَامُ الْقُرْبِ انْصِبَابًا. وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْحُجُبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حِجَابًا حِجَابًا. وَأُقِيمَ مَقَامًا غَبَطَهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ. فَإِذَا كَانَ فِي الْمَعَادِ أُقِيمَ مَقَامًا مِنَ الْقُرْبِ ثَانِيًا، يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَاسْتَقَامَ هُنَاكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مِنْ كَمَالِ أَدَبِهِ مَعَ اللَّهِ، مَا زَاغَ الْبَصَرُ عَنْهُ وَمَا طَغَى. فَأَقَامَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى أَقْوَمَ صِرَاطٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى. وَأَقْسَمَ بِكَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ أَقَامَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَسْأَلُهُ السَّلَامَةَ لِأَتْبَاعِهِ وَأَهْلِ سُنَّتِهِ، حَتَّى يَجُوزُوهُ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَالْأَدَبُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ. فَإِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنَ الْأَدَبِ. وَالْوُضُوءَ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ مِنَ الْأَدَبِ. وَالتَّطَهُّرَ مِنَ الْخُبْثِ مِنَ الْأَدَبِ. حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ طَاهِرًا. وَلِهَذَا كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَجَمَّلَ الرَّجُلُ فِي صَلَاتِهِ. لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: أَمَرَ اللَّهُ بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَهُوَ أَخْذُ الزِّينَةِ. فَقَالَ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الزِّينَةِ، لَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، إِيذَانًا بِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ: أَنْ يَلْبَسَ أَزْيَنَ ثِيَابِهِ، وَأَجْمَلَهَا فِي الصَّلَاةِ. وَكَانَ لِبَعْضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بِمَبْلَغٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ. وَكَانَ يَلْبَسُهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ. وَيَقُولُ: رَبِّي أَحَقُّ مَنْ تَجَمَّلْتُ لَهُ فِي صَلَاتِي. وَمَعْلُومٌ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ. لَاسِيَّمَا إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَأَحْسَنُ مَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَلَابِسِهِ وَنِعْمَتِهِ الَّتِي أَلْبَسَهُ إِيَّاهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَمِنَ الْأَدَبِ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّيَ: أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ. فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: هَذَا مِنْ كَمَالِ أَدَبِ الصَّلَاةِ: أَنْ يَقِفَ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مُطْرِقًا، خَافِضًا طَرْفَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَلَا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى فَوْقٍ. قَالَ: وَالْجَهْمِيَّةُ- لَمَّا لَمْ يَفْقَهُوا هَذَا الْأَدَبَ، وَلَا عَرَفُوهُ- ظَنُّوا أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ. كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ رُسُلُهُ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ: وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ. بَلْ هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ عَقَلَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ; إِذْ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ الْمُلُوكِ: أَنَّ الْوَاقِفَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَطْرُقُ إِلَى الْأَرْضِ. وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَيْهِمْ. فَمَا الظَّنُّ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ سُبْحَانَهُ؟ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ- فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ- إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَشْرَفُ الْكَلَامِ. وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَحَالَتَا الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَالَتَا ذُلٍّ وَانْخِفَاضٍ مِنَ الْعَبْدِ. فَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ كَلَامِ اللَّهِ: أَنْ لَا يُقْرَأَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَيَكُونَ حَالُ الْقِيَامِ وَالِانْتِصَابِ أَوْلَى بِهِ. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ: أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ بَيْتَهُ وَلَا يَسْتَدْبِرَهُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ وَسَلْمَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ هَذَا الْأَدَبَ: يَعُمُّ الْفَضَاءَ وَالْبُنْيَانَ. كَمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ، فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ: وَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى حَالَ قِيَامِ الْقِرَاءَةِ، فَفِي الْمُوَطَّأِ لِمَالِكٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ بِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ أَدَبِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ. فَعَظِيمُ الْعُظَمَاءِ أَحَقُّ بِهِ. وَمِنْهَا: السُّكُونُ فِي الصَّلَاةِ. وَهُوَ الدَّوَامُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ أَخْبَرَهُ قَالَ: سَأَلْنَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} أَهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ دَائِمًا؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنَّهُ إِذَا صَلَّى لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا عَنْ شِمَالِهِ وَلَا خَلْفَهُ. قُلْتُ: هُمَا أَمْرَانِ. الدَّوَامُ عَلَيْهَا. وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا. فَهَذَا الدَّوَامُ. وَالْمُدَاوَمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وَفُسِّرَ الدَّوَامُ بِسُكُونِ الْأَطْرَافِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. وَأَدَبِهِ فِي اسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ: أَنْ يُلْقِيَ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. وَأَدَبُهُ فِي الرُّكُوعِ: أَنْ يَسْتَوِيَ. وَيُعَظِّمَ اللَّهَ تَعَالَى، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَيَتَضَاءَلَ وَيَتَصَاغَرَ فِي نَفْسِهِ. حَتَّى يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْهَبَاءِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هُوَ الْقِيَامُ بِدِينِهِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَحَدٍ قَطُّ الْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مَعْرِفَتُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَمَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَهُ. وَنَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قَابِلَةٌ لَيِّنَةٌ، مُتَهَيِّئَةٌ لِقَبُولِ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا وَحَالًا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَأَمَّا الْأَدَبُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِهِ. فَرَأَسُ الْأَدَبِ مَعَهُ: كَمَالُ التَّسْلِيمِ لَهُ، وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ. وَتَلَقِّي خَبَرِهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، دُونَ أَنْ يُحَمِّلَهُ مُعَارَضَةَ خَيَالٍ بَاطِلٍ، يُسَمِّيهِ مَعْقُولًا. أَوْ يُحَمِّلَهُ شُبْهَةً أَوْ شَكًّا، أَوْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ آرَاءَ الرِّجَالِ، وَزُبَالَاتِ أَذْهَانِهِمْ، فَيُوَحِّدُهُ بِالتَّحْكِيمِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ. كَمَا وَحَّدَ الْمُرْسِلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ. فَهُمَا تَوْحِيدَانِ. لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا بِهِمَا: تَوْحِيدُ الْمُرْسِلِ. وَتَوْحِيدُ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ. فَلَا يُحَاكِمُ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ. وَلَا يَقِفُ تَنْفِيذُ أَمْرِهِ. وَتَصْدِيقُ خَبَرِهِ. عَلَى عَرْضِهِ عَلَى قَوْلِ شَيْخِهِ وَإِمَامِهِ، وَذَوِي مَذْهَبِهِ وَطَائِفَتِهِ، وَمَنْ يُعَظِّمُهُ. فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ نَفَّذَهُ وَقَبِلَ خَبَرَهُ، وَإِلَّا فَإِنْ طَلَبَ السَّلَامَةَ: أَعْرَضَ عَنْ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ وَفَوَّضَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلَّا حَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَسَمَّى تَحْرِيفَهُ: تَأْوِيلًا، وَحَمْلًا. فَقَالَ: نُؤَوِّلُهُ وَنَحْمِلُهُ. فَلَأَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ بِكُلِّ ذَنْبٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ- مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ- خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَذِهِ الْحَالِ. وَلَقَدْ خَاطَبْتُ يَوْمًا بَعْضَ أَكَابِرِ هَؤُلَاءِ. فَقُلْتُ لَهُ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ. لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا. وَقَدْ وَاجَهَنَا بِكَلَامِهِ وَبِخِطَابِهِ. أَكَانَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نَتْبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ وَكَلَامِهِ وَمَذْهَبِهِ، أَمْ لَا نَتْبَعَهُ حَتَّى نَعْرِضَ مَا سَمِعْنَاهُ مِنْهُ عَلَى آرَاءِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ؟ فَقَالَ: بَلْ كَانَ الْفَرْضُ الْمُبَادَرَةَ إِلَى الِامْتِثَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى سِوَاهُ. فَقُلْتُ: فَمَا الَّذِي نَسَخَ هَذَا الْفَرْضَ عَنَّا؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ نُسِخَ؟ فَوَضَعَ إِصْبَعَهُ عَلَى فِيهِ. وَبَقِيَ بَاهِتًا مُتَحَيِّرًا. وَمَا نَطَقَ بِكَلِمَةٍ. هَذَا أَدَبُ الْخَوَاصِّ مَعَهُ. لَا مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَالشِّرْكِ بِهِ. وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ، وَإِزْعَاجِ الْأَعْضَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ. وَعَزْلِ كَلَامِهِ عَنِ الْيَقِينِ. وَأَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، أَوْ يُتَلَقَّى مِنْهُ أَحْكَامُهُ. بَلِ الْمُعَوَّلُ فِي بَابِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَلَى الْعُقُولِ الْمُتَهَوِّكَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ الْمُتَنَاقِضَةِ. وَفِي الْأَحْكَامِ: عَلَى تَقْلِيدِ الرِّجَالِ وَآرَائِهَا. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ إِنَّمَا نَقْرَؤُهُمَا تَبَرُّكًا، لَا أَنَّا نَتَلَقَّى مِنْهُمَا أُصُولَ الدِّينِ وَلَا فُرُوعَهُ. وَمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ وَرَامَهُ عَادَيْنَاهُ وَسَعَيْنَا فِي قَطْعِ دَابِرِهِ. وَاسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِ {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}. وَالنَّاصِحُ لِنَفْسِهِ. الْعَامِلُ عَلَى نَجَاتِهَا: يَتَدَبَّرُ هَذِهِ الْآيَاتَ حَقَّ تَدَبُّرِهَا. وَيَتَأَمَّلُهَا حَقَّ تَأَمُّلِهَا. وَيُنْزِلُهَا عَلَى الْوَاقِعِ: فَيَرَى الْعَجَبَ. وَلَا يَظُنُّهَا اخْتَصَّتْ بِقَوْمٍ كَانُوا فَبَانُوا. فَالْحَدِيثُ لَكِ. وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا إِذَنٍ وَلَا تَصَرُّفٍ. حَتَّى يَأْمُرَ هُوَ، وَيَنْهَى وَيَأْذَنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَهَذَا بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُنْسَخْ. فَالتَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْ سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَالتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَيَّاتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا تُقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ يَدَيِ الْأَبِ. أَيْ لَا تُعَجِّلُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تَأْمُرُوا حَتَّى يَأْمُرَ. وَلَا تَنْهُوا حَتَّى يَنْهَى. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنْ لَا تُرْفَعَ الْأَصْوَاتُ فَوْقَ صَوْتِهِ. فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحُبُوطِ الْأَعْمَالِ فَمَا الظَّنُّ بِرَفْعِ الْآرَاءِ، وَنَتَائِجِ الْأَفْكَارِ عَلَى سُنَّتِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ؟ أَتُرَى ذَلِكَ مُوجِبًا لِقَبُولِ الْأَعْمَالِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ مُوجِبٌ لِحُبُوطِهَا؟ وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنْ لَا يَجْعَلَ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}. وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ، كَمَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بَلْ قُولُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ دُعَاءَكُمُ الرَّسُولَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَهُ لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ دُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. إِنْ شَاءَ أَجَابَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، بَلْ إِذَا دَعَاكُمْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ بُدٌّ مِنْ إِجَابَتِهِ، وَلَمْ يَسَعْكُمُ التَّخَلُّفُ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ. فَعَلَى هَذَا: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ. أَيْ دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ- مِنْ خُطْبَةٍ، أَوْ جِهَادٍ، أَوْ رِبَاطٍ- لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَذْهَبًا فِي حَاجَتِهِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}. فَإِذَا كَانَ هَذَا مَذْهَبًا مُقَيَّدًا بِحَاجَةٍ عَارِضَةٍ، وَلَمْ يُوَسِّعْ لَهُمْ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَكَيْفَ بِمَذْهَبٍ مُطْلَقٍ فِي تَفَاصِيلِ الدِّينِ: أُصُولِهِ، وَفُرُوعِهِ، دَقِيقِهِ، وَجَلِيلِهِ؟ هَلْ يُشْرَعُ الذَّهَابُ إِلَيْهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنْ لَا يُسْتَشْكَلَ قَوْلُهُ:. بَلْ تُسْتَشْكَلُ الْآرَاءُ لِقَوْلِهِ: وَلَا يُعَارَضُ نَصُّهُ بِقِيَاسٍ بَلْ تُهْدَرُ الْأَقْيِسَةُ وَتُلْقَى لِنُصُوصِهِ. وَلَا يُحَرَّفُ كَلَامُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِخَيَالٍ يُسَمِّيهِ أَصْحَابُهُ مَعْقُولًا، نَعَمْ هُوَ مَجْهُولٌ، وَعَنِ الصَّوَابِ مَعْزُولٌ، وَلَا يُوقَفُ قَبُولُ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُوَافَقَةِ أَحَدٍ، فَكُلُّ هَذَا مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ عَيْنُ الْجُرْأَةِ.
وَأَمَّا الْأَدَبُ مَعَ الْخَلْقِ: فَهُوَ مُعَامَلَتُهُمْ- عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ- بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ. فَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ أَدَبٌ. وَالْمَرَاتِبُ فِيهَا أَدَبٌ خَاصٌّ. فَمَعَ الْوَالِدَيْنِ: أَدَبٌ خَاصٌّ وَلِلْأَبِ مِنْهُمَا: أَدَّبٌ هُوَ أَخُصُّ بِهِ، وَمَعَ الْعَالِمِ: أَدَبٌ آخَرُ، وَمَعَ السُّلْطَانِ: أَدَبٌ يَلِيقُ بِهِ، وَلَهُ مَعَ الْأَقْرَانِ أَدَبٌ يَلِيقُ بِهِمْ. وَمَعَ الْأَجَانِبِ: أَدَبٌ غَيْرُ أَدَبِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَذَوِي أُنْسِهِ. وَمَعَ الضَّيْفِ: أَدَبٌ غَيْرُ أَدَبِهِ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَلِكُلِّ حَالٍ أَدَبٌ: فَلِلْأَكْلِ آدَابٌ. وَلِلشُّرْبِ آدَابٌ. وَلِلرُّكُوبِ وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَالنَّوْمِ آدَابٌ. وَلِلْبَوْلِ آدَابٌ. وَلِلْكَلَامِ آدَابٌ. وَلِلسُّكُوتِ وَالِاسْتِمَاعِ آدَابٌ. وَأَدَبُ الْمَرْءِ: عُنْوَانُ سَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ. وَقِلَّةُ أَدَبِهِ: عُنْوَانُ شَقَاوَتِهِ وَبَوَارِهِ. فَمَا اسْتُجْلِبَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمِثْلِ الْأَدَبِ، وَلَا اسْتُجْلِبَ حِرْمَانُهُمَا بِمِثْلِ قِلَّةِ الْأَدَبِ. فَانْظُرْ إِلَى الْأَدَبِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: كَيْفَ نَجَّى صَاحِبَهُ مِنْ حَبْسِ الْغَارِ حِينَ أَطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ؟ وَالْإِخْلَالُ بِهِ مَعَ الْأُمِّ- تَأْوِيلًا وَإِقْبَالًا عَلَى الصَّلَاةِ- كَيْفَ امْتُحِنَ صَاحِبُهُ بِهَدْمِ صَوْمَعَتِهِ وَضَرْبِ النَّاسِ لَهُ، وَرَمْيِهِ بِالْفَاحِشَةِ؟ وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ كُلِّ شَقِيٍّ وَمُغْتَرٍّ وَمُدْبِرٍ: كَيْفَ تَجِدُ قِلَّةَ الْأَدَبِ هِيَ الَّتِي سَاقَتْهُ إِلَى الْحِرْمَانِ؟ وَانْظُرْ قِلَّةَ أَدَبِ عَوْفٍ مَعَ خَالِدٍ: كَيْفَ حَرَمَهُ السَّلْبَ بَعْدَ أَنْ بَرَدَ بِيَدَيْهِ؟ وَانْظُرْ أَدَبَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ: أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَيْفَ أَوْرَثَهُ مَقَامَهُ وَالْإِمَامَةَ بِالْأُمَّةِ بَعْدَهُ؟ فَكَانَ ذَلِكَ التَّأَخُّرُ إِلَى خَلْفِهِ- وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنِ اثْبُتْ مَكَانَكَ- جَمْزًا، وَسَعْيًا إِلَى قُدَّامَ؟ بِكُلِّ خُطْوَةٍ إِلَى وَرَاءَ مَرَاحِلُ إِلَى قُدَّامَ. تَنْقَطِعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْأَدَبُ حَقِيقَتُهُ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ: حِفْظُ الْحَدِّ، بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ، بِمَعْرِفَةِ ضَرَرِ الْعُدْوَانِ. هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْحُدُودِ. فَإِنَّ الِانْحِرَافَ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيِ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ: هُوَ قِلَّةُ الْأَدَبِ. وَالْأَدَبُ: الْوُقُوفُ فِي الْوَسَطِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلَا يُقَصِّرُ بِحُدُودِ الشَّرْعِ عَنْ تَمَامِهَا. وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهَا مَا جُعِلَتْ حُدُودًا لَهُ. فَكِلَاهُمَا عُدْوَانٌ. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَالْعُدْوَانُ: هُوَ سُوءُ الْأَدَبِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: دِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ. فَإِضَاعَةُ الْأَدَبِ بِالْجَفَاءِ: كَمَنْ لَمْ يُكْمِلْ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ. وَلَمْ يُوفِّ الصَّلَاةَ آدَابَهَا الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَهَا. وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ أَدَبٍ: مَا بَيْنَ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ. وَإِضَاعَتُهُ بِالْغُلُوِّ: كَالْوَسْوَسَةِ فِي عَقْدِ النِّيَّةِ. وَرَفَعِ الصَّوْتِ بِهَا. وَالْجَهْرِ بِالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ الَّتِي شُرِعَتْ سِرًّا. وَتَطْوِيلِ مَا السُّنَّةُ تَخْفِيفُهُ وَحَذْفُهُ. كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالسَّلَامِ الَّذِي حَذْفُهُ سُنَّةٌ. وَزِيَادَةِ التَّطْوِيلِ عَلَى مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَلَى مَا يَظُنُّهُ سُرَّاقُ الصَّلَاةِ وَالنَّقَّارُونَ لَهَا وَيَشْتَهُونَهُ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَ بِأَمْرٍ وَيُخَالِفَهُ. وَقَدْ صَانَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ وَيَؤُمُّهُمْ بِالصَّافَّاتِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ وَتُقَامُ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ. وَيَأْتِي أَهْلَهُ وَيَتَوَضَّأُ. وَيُدْرِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى. فَهَذَا هُوَ التَّخْفِيفُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ. لَا نَقْرَ الصَّلَاةِ وَسَرْقَهَا. فَإِنَّ ذَلِكَ اخْتِصَارٌ، بَلِ اقْتِصَارٌ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَيُسَمَّى بِهِ مُصَلِّيًا، وَهُوَ كَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ فِي الْمَخْمَصَةِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ: فَلَيْتَهُ شِبَعَ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ كَجَائِعٍ قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ لَذِيذٌ جِدًّا. فَأَكَلَ مِنْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ. فَمَاذَا يُغْنِيَانِ عَنْهُ؟ وَلَكِنْ لَوْ أَحَسَّ بِجُوعِهِ لَمَا قَامَ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَشْبَعَ مِنْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. لَكِنَّ الْقَلْبَ شَبْعَانُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ. وَمِثَالُ هَذَا التَّوَسُّطُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: أَنْ لَا يَغْلُوَ فِيهِمْ، كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَلَا يَجْفُوَ عَنْهُمْ، كَمَا جَفَتِ الْيَهُودُ. فَالنَّصَارَى عَبَدُوهُمْ. وَالْيَهُودُ قَتَلُوهُمْ وَكَذَّبُوهُمْ. وَالْأُمَّةُ الْوَسَطُ: آمَنُوا بِهِمْ، وَعَزَّرُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ، وَاتَّبَعُوا مَا جَاءُوا بِهِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْخَلْقِ: أَنْ لَا يُفَرِّطَ فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ، وَلَا يَسْتَغْرِقَ فِيهَا، بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ بِهَا عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ تَكْمِيلِهَا، أَوْ عَنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِ وَقَلْبِهِ، وَأَنْ لَا يَجْفُوَ عَنْهَا حَتَّى يُعَطِّلَهَا بِالْكُلِّيَّةِ. فَإِنَّ الطَّرَفَيْنِ مِنَ الْعُدْوَانِ الضَّارِّ. وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَحَقِيقَةُ الْأَدَبِ: هِيَ الْعَدْلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مَنْعُ الْخَوْفِ مِنْ دَرَجَاتِ الْأَدَبِ: أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْيَأْسِ، وَحَبْسُ الرَّجَاءِ: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَمْنِ، وَضَبْطُ السُّرُورِ: أَنْ يُضَاهِئَ الْجُرْأَةَ. يُرِيدُ: أَنَّهُ لَا يَدْعُ الْخَوْفَ يُفْضِي بِهِ إِلَى حَدٍّ يُوقِعُهُ فِي الْقُنُوطِ، وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. فَإِنَّ هَذَا الْخَوْفَ مَذْمُومٌ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: حَدُّ الْخَوْفِ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ: فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ. وَهَذَا الْخَوْفُ الْمُوقِعُ فِي الْإِيَاسِ: إِسَاءَةُ أَدَبٍ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَجَهْلٌ بِهَا. وَأَمَّا حَبْسُ الرَّجَاءِ: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَمْنِ فَهُوَ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ الرَّجَاءُ إِلَى حَدٍّ يَأْمَنُ مَعَهُ الْعُقُوبَةَ. فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ. وَهَذَا إِغْرَاقٌ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ. بَلْ حَدُّ الرَّجَاءِ: مَا طَيَّبَ لَكَ الْعِبَادَةَ، وَحَمَلَكَ عَلَى السَّيْرِ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيَاحِ الَّتِي تُسَيِّرُ السَّفِينَةَ. فَإِذَا انْقَطَعَتْ وَقَفَتِ السَّفِينَةُ. وَإِذَا زَادَتْ أَلْقَتْهَا إِلَى الْمَهَالِكِ. وَإِذَا كَانَتْ بِقَدْرٍ: أَوْصَلَتْهَا إِلَى الْبُغْيَةِ. وَأَمَّا ضَبْطُ السُّرُورِ: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مُشَابَهَةِ الْجُرْأَةِ. فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَقْوِيَاءُ أَرْبَابُ الْعَزَائِمِ. الَّذِينَ لَا تَسْتَفِزُّهُمُ السَّرَّاءُ، فَتَغْلِبَ شُكْرَهُمْ. وَلَا تُضْعِفُهُمُ الضَّرَّاءُ. فَتَغْلِبَ صَبْرَهُمْ، كَمَا قِيلَ: لَا تَغَلِبُ السَّرَّاءُ مِنْهُمْ شُكْرَهُمْ *** كَلَّا وَلَا الضَّـرَاءُ صَبْرَ الصَّابِـرِ وَالنَّفْسُ قَرِينَةُ الشَّيْطَانِ وَمُصَاحِبَتُهُ، وَتُشْبِهُهُ فِي صِفَاتِهِ. وَمَوَاهِبُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَنْزِلُ عَلَى الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. فَالنَّفْسُ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ. فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَى الْقَلْبِ تِلْكَ الْمَوَاهِبُ: وَثَبَتْ لِتَأْخُذَ قِسْطَهَا مِنْهَا، وَتُصَيِّرَهُ مِنْ عِدَّتِهَا وَحَوَاصِلِهَا. فَالْمُسْتَرْسِلُ مَعَهَا، الْجَاهِلُ بِهَا فَيَدَعُهَا تَسْتَوْفِي ذَلِكَ. فَبَيْنَا هُوَ فِي مَوْهِبَةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَعِدَّةٍ وَقُوَّةٍ لَهُ، إِذْ صَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ حَاصِلِ النَّفْسِ وَآلَتِهَا، وَعُدَدِهَا. فَصَالَتْ بِهِ وَطَغَتْ. لِأَنَّهَا رَأَتْ غِنَاهَا بِهِ. وَالْإِنْسَانُ يَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى بِالْمَالِ. فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا، وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ، بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا: مَنْ عِلْمٍ، أَوْ حَالٍ، أَوْ مَعْرِفَةٍ، أَوْ كَشْفٍ؟ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ مِنْ حَاصِلِهَا: انْحَرَفَ الْعَبْدُ بِهِ وَلَا بُدَّ إِلَى طَرَفٍ مَذْمُومٍ مِنْ جُرْأَةٍ، أَوْ شَطْحٍ، أَوْ إِدْلَالٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَوَاللَّهِ كَمْ هَاهُنَا مِنْ قَتِيلٍ، وَسَلِيبٍ، وَجَرِيحٍ يَقُولُ: مِنْ أَيْنَ أُتِيتُ؟ وَمِنْ أَيْنَ دُهِيتُ؟ وَمِنْ أَيْنَ أُصِبْتُ؟ وَأَقَلُّ مَا يُعَاقَبُ بِهِ مِنَ الْحِرْمَانِ بِذَلِكَ: أَنْ يُغْلَقَ عَنْهُ بَابُ الْمَزِيدِ. وَلِهَذَا كَانَ الْعَارِفُونَ وَأَرْبَابُ الْبَصَائِرِ: إِذَا نَالُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ انْحَرَفُوا إِلَى طَرَفِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، وَمُطَالَعَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ. وَاسْتَدْعَوْا حَارِسَ الْخَوْفِ، وَحَافَظُوا عَلَى الرِّبَاطِ بِمُلَازَمَةِ الثَّغْرِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ النَّفْسِ، وَنَظَرُوا إِلَى أَقْرَبِ الْخَلْقِ مِنَ اللَّهِ، وَأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ وَسِيلَةً، وَأَعْظَمِهِمْ عِنْدَهُ جَاهًا، وَقَدْ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَذَقْنَهُ تَمَسُّ قُرْبُوسَ سَرْجِهِ: انْخِفَاضًا وَانْكِسَارًا، وَتَوَاضُعًا لِرَبِّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، الَّتِي عَادَةُ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ فِيهَا: أَنْ يَمْلِكَهَا سُرُورُهَا، وَفَرَحُهَا بِالنَّصْرِ، وَالظَّفَرِ، وَالتَّأْيِيدِ، وَيَرْفَعُهَا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ. فَالرَّجُلُ: مَنْ صَانَ فَتْحَهُ وَنَصِيبَهُ مِنَ اللَّهِ. وَوَارَاهُ عَنِ اسْتِرَاقِ نَفْسِهِ. وَبَخِلَ عَلَيْهَا بِهِ، وَالْعَاجِزُ: مَنْ جَادَ لَهَا بِهِ. فَيَا لَهُ مِنْ جُودٍ مَا أَقْبَحَهُ. وَسَمَاحَةٍ مَا أَسْفَهَ صَاحِبَهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْخُرُوجُ عَنِ الْخَوْفِ إِلَى مَيْدَانِ الْقَبْضِ، وَالصُّعُودُ مِنَ الرَّجَاءِ إِلَى مَيْدَانِ الْبَسْطِ، ثُمَّ التَّرَقِّي مِنَ السُّرُورِ إِلَى مَيْدَانِ الْمُشَاهَدَةِ. ذَكَرَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى: كَيْفَ يُحْفَظُ الْحَدُّ بَيْنَ الْمَقَامَاتِ، حَتَّى لَا يَتَعَدَّى إِلَى غُلُوٍّ أَوْ جَفَاءٍ. وَذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ. فَذَكَرَ مَعَ الْخَوْفِ: أَنْ يُخْرِجَهُ إِلَى الْيَأْسِ، وَمَعَ الرَّجَاءِ: أَنْ يُخْرِجَهُ إِلَى الْأَمْنِ، وَمَعَ السُّرُورِ: أَنْ يُخْرِجَهُ إِلَى الْجُرْأَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: أَدَبَ التَّرَقِّي مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَى مَا يَحْفَظُهُ عَلَيْهَا. وَلَا يُضَيِّعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ. كَمَا أَنَّ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى: لَا يُبَالِغُ بِهِ. بَلْ يَكُونُ خُرُوجُهُ مِنَ الْخَوْفِ إِلَى الْقَبْضِ، يَعْنِي لَا يُزَايِلُ الْخَوْفَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ قَبْضَهُ لَا يُؤَيِّسُهُ وَلَا يُقَنِّطُهُ. وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى مُخَالَفَةٍ وَلَا بَطَالَةٍ. وَكَذَلِكَ رَجَاؤُهُ لَا يَقْعُدُ بِهِ عَنْ مَيْدَانِ الْبَسْطِ. بَلْ يَكُونُ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ. وَهَذِهِ حَالُ الْكَمَالِ. وَهِيَ السَّيْرُ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ. وَسُرُورُهُ: لَا يَقْعُدُ بِهِ عَنْ تَرَقِّيهِ إِلَى مَيْدَانِ مُشَاهَدَتِهِ، بَلْ يَرْقَى بِسُرُورِهِ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ. وَيَرْجِعُ مِنْ رَجَائِهِ إِلَى الْبَسْطِ. وَمِنْ خَوْفِهِ إِلَى الْقَبْضِ. وَمَقْصُودُهُ: أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ أَشْبَاحِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ إِلَى أَرْوَاحِهَا. فَإِنَّ الْخَوْفَ شَبَحٌ. وَالْقَبْضَ رُوحُهُ. وَالرَّجَاءَ شَبَحٌ، وَالْبَسْطَ رُوحُهُ. وَالسُّرُورَ شَبَحٌ، وَالْمُشَاهَدَةَ رُوحُهُ. فَيَكُونُ حَظَّهُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ: أَرْوَاحُهَا وَحَقَائِقُهَا، لَا صُوَرُهَا وَرُسُومُهَا.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَةُ الْأَدَبِ. ثُمَّ الْفَنَاءُ عَنِ التَّأَدُّبِ بِتَأْدِيبِ الْحَقِّ ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ شُهُودِ أَعْبَاءِ الْأَدَبِ. قَوْلُهُ: مَعْرِفَةُ الْأَدَبِ. يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي كُلِّ دَرَجَةٍ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. فَإِنَّهُ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى الْأَدَبِ فِي الدَّرَجَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. فَإِذَا عَرَفَهُ وَصَارَ لَهُ حَالًا. فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْنَى عَنْهُ، بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ شُهُودُ مَنْ أَقَامَهُ فِيهِ. فَيَنْسِبَهُ إِلَيْهِ تَعَالَى دُونَ نَفْسِهِ. وَيَفْنَى عَنْ رُؤْيَةِ نَفْسِهِ، وَقِيَامِهَا بِالْأَدَبِ بِشُهُودِ الْفَضْلِ لِمَنْ أَقَامَهَا فِيهِ وَمِنَّتِهِ. فَهَذَا هُوَ الْفَنَاءُ عَنِ التَّأَدُّبِ بِتَأْدِيبِ الْحَقِّ. قَوْلُهُ: ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ شُهُودِ أَعْبَاءِ الْأَدَبِ يَعْنِي: أَنَّهُ يَفْنَى عَنْ مُشَاهَدَةِ الْأَدَبِ بِالْكُلِّيَّةِ، لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ الَّتِي غَيَّبَتْهُ عَنِ الْأَدَبِ. فَفَنَاؤُهُ عَنِ الْأَدَبِ فِيهَا: هُوَ الْأَدَبُ حَقِيقَةً. فَيَسْتَرِيحُ حِينَئِذٍ مِنْ كُلْفَةِ حَمْلِ أَعْبَاءِ الْأَدَبِ وَأَثْقَالِهِ. لِأَنَّ اسْتِغْرَاقَهُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَعْبَاءِ الْأَدَبِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ. وَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ. وَبِهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ. وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ. وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ. وَعَمَلُ الْقَوْمِ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ. وَإِشَارَاتُهُمْ كُلُّهَا إِلَيْهِ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّبْرُ بِالْيَقِينِ: وُلِدَ بَيْنَهُمَا حُصُولُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِقَوْلِهِ: يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ {وَجَعَلَنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا، وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}. وَخَصَّ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ. فَقَالَ، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}. وَخَصَّ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}. فَـالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ أَرْوَاحُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ. وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وَهُوَ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ. وَرَوَى خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ السُّفْيَانَيْنِ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُرْضِيَنَّ أَحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ. وَلَا تَحْمَدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَلَا تَذُمَّنَّ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ. فَإِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لَا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ. وَلَا يَرُدُّهُ عَنْكَ كَرَاهِيَةَ كَارِهٍ. وَإِنَّ اللَّهَ بِعَـدْلِهِ وَقِسْـطِهِ جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ. وَالْيَقِينُ قَرِينُ التَّوَكُّلِ. وَلِهَذَا فُسِّرَ التَّوَكُّلُ بِقُوَّةِ الْيَقِينِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ التَّوَكُّلَ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ. وَلِهَذَا حَسُنَ اقْتِرَانُ الْهُدَى بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} فَالْحَقُّ: هُوَ الْيَقِينُ. وَقَالَتْ رُسُلُ اللَّهِ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}. وَمَتَّى وَصَلَ الْيَقِينُ إِلَى الْقَلْبِ امْتَلَأَ نُورًا وَإِشْرَاقًا. وَانْتَفَى عَنْهُ كُلُّ رَيْبٍ وَشَكٍّ وَسَخَطٍ، وَهَمٍّ وَغَمٍّ. فَامْتَلَأَ مَحَبَّةً لِلَّهِ. وَخَوْفًا مِنْهُ وَرِضًا بِهِ، وَشْكْرًا لَهُ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ. فَهُوَ مَادَّةُ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْحَامِلُ لَهَا. وَاخْتُلِفَ فِيهِ: هَلْ هُوَ كَسْبِيٌّ، أَوْ مَوْهِبِيٌّ؟ فَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَوْدَعُ فِي الْقُلُوبِ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ كَسْبِيٍّ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْيَقِينُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِيمَانَ كَسْبِيٌّ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهِ، مَوْهِبِيٌّ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ. قَالَ سَهْلٌ: ابْتِدَاؤُهُ الْمُكَاشَفَةُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا. ثُمَّ الْمُعَايَنَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ. وَقَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: هُوَ تَحَقُّقُ الْأَسْرَارِ بِأَحْكَامِ الْمَغِيبَاتِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ ظَاهِرٍ: الْعِلْمُ تُعَارِضُهُ الشُّكُوكُ، وَالْيَقِينُ لَا شَكَّ فِيهِ. وَعِنْدَ الْقَوْمِ: الْيَقِينُ لَا يُسَاكِنُ قَلْبًا فِيهِ سُكُونٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: الْيَقِينُ يَدْعُو إِلَى قَصْرِ الْأَمَلِ، وَقَصْرُ الْأَمَلِ يَدْعُو إِلَى الزُّهْدِ. وَالزُّهْدُ يُورِثُ الْحِكْمَةَ، وَهِيَ تُورِثُ النَّظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ. قَالَ: وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْيَقِينِ: قِلَّةُ مُخَالَطَةِ النَّاسِ فِي الْعَشْرَةِ. وَتَرْكُ الْمَدْحِ لَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ. وَالتَّنَزُّهُ عَنْ ذَمِّهِمْ عِنْدَ الْمَنْعِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِهِ أَيْضًا: النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ. وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْيَقِينُ هُوَ اسْتِقْرَارُ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْقَلِبُ وَلَا يُحَوَّلُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِمْ مِنَ التَّقْوَى أَدْرَكُوا مِنَ الْيَقِينِ. وَأَصْلُ التَّقْوَى مُبَايَنَةُ النَّهْيِ. وَهُوَ مُبَايَنَةُ النَّفْسِ. فَعَلَى قَدْرِ مُفَارَقَتِهِمُ النَّفْسَ: وَصَلُوا إِلَى الْيَقِينِ. وَقِيلَ: الْيَقِينُ هُوَ الْمُكَاشَفَةُ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مُكَاشَفَةٌ فِي الْأَخْبَارِ. وَمُكَاشَفَةٌ بِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ. وَمُكَاشَفَةُ الْقُلُوبِ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالْمُكَاشَفَةِ: ظُهُورُ الشَّيْءِ لِلْقَلْبِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ. فَلَا يَبْقَى مَعَكَ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ أَصْلًا. وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِيمَانِ. وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ. وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهَا أَمْرًا آخَرَ. وَهُوَ مَا يَرَاهُ أَحَدُهُمْ فِي بَرْزَخٍ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ عِنْدَ أَوَائِلِ تَجَرُّدِ الرُّوحِ عَنِ الْبَدَنِ. وَمَنْ أَشَارَ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِ هَذَيْنِ: فَقَدْ غَلِطَ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ. وَقَالَ السَّرِيُّ: الْيَقِينُ سُكُونُكَ عِنْدَ جَوَلَانِ الْمَوَارِدِ فِي صَدْرِكَ، لِتَيَقُّنِكَ أَنَّ حَرَكَتَكَ فِيهَا لَا تَنْفَعُكَ. وَلَا تَرُدَّ عَنْكَ مَقْضِيًّا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْيَقِينُ مَلَاكُ الْقَلْبِ. وَبِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ. وَبِالْيَقِينِ عُرِفَ اللَّهُ. بِالْعَقْلِ عُقِلَ عَنِ اللَّهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ. وَمَاتَ بِالْعَطَشِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْضِيلِ الْيَقِينِ عَلَى الْحُضُورِ وَالْحُضُورِ عَلَى الْيَقِينِ. فَقِيلَ: الْحُضُورُ أَفْضَلُ. لِأَنَّهُ وَطَنَاتٌ، وَالْيَقِينُ خَطِرَاتٌ. وَبَعْضُهُمْ رَجَّحَ الْيَقِينَ. وَقَالَ: هُوَ غَايَةُ الْإِيمَانِ. وَالْأَوَّلُ: رَأَى أَنَّ الْيَقِينَ ابْتِدَاءُ الْحُضُورِ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْيَقِينَ ابْتِدَاءً. وَالْحُضُورَ دَوَامًا. وَهَذَا الْخِلَافُ لَا يَتَبَيَّنُ. فَإِنَّ الْيَقِينَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحُضُورِ. وَلَا الْحُضُورُ عَنِ الْيَقِينِ. بَلْ فِي الْيَقِينِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ وَشُعَبِهِ، وَتَنْزِيلِهَا مَنَازِلَهَا- مَا لَيْسَ فِي الْحُضُورِ. فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي الْحُضُورِ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ، وَالدُّخُولِ فِي الْفِنَاءِ: مَا قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْيَقِينُ. فَالْيَقِينُ أَخَصُّ بِالْمَعْرِفَةِ. وَالْحُضُورُ أَخَصُّ بِالْإِرَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّهْرَجُورِيُّ: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ حَقَائِقَ الْيَقِينِ صَارَ الْبَلَاءُ عِنْدَهُ نِعْمَةً وَالرَّخَاءُ عِنْدَهُ مُصِيبَةً. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْيَقِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: يَقِينُ خَبَرٍ. وَيَقِينُ دَلَالَةٍ. وَيَقِينُ مُشَاهَدَةٍ. يُرِيدُ بِيَقِينِ الْخَبَرِ: سُكُونَ الْقَلْبِ إِلَى خَبَرِ الْمُخْبِرِ وَتَوَثُّقَهُ بِهِ. وَبِيَقِينِ الدَّلَالَةِ: مَا هُوَ فَوْقَهُ. وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ لَهُ- مَعَ وُثُوقِهِ بِصِدْقِهِ- الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَهَذَا كَعَامَّةِ أَخْبَارِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ- مَعَ كَوْنِهِ أَصْدَقَ الصَّادِقِينَ- يُقِيمُ لِعِبَادِهِ الْأَدِلَّةَ وَالْأَمْثَالَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ أَخْبَارِهِ. فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْيَقِينُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَمِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ. فَيَرْتَفِعُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: وَهِيَ يَقِينُ الْمُكَاشَفَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمُخْبَرُ بِهِ لِقُلُوبِهِمْ كَالْمَرْئِيِّ لِعُيُونِهِمْ. فَنِسْبَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ حِينَئِذٍ إِلَى الْقَلْبِ: كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ. وَهَذَا أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَةِ. وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عَامِرُ بْنُ عَبَدِ قَيْسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِنْ قَوْلِ عَلَيٍّ- كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْمَنْقُولَاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقِيقَةً. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمَا بِعَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنَيْهِ: آثَرُ عِنْدِي مِنْ رُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنِي. فَإِنَّ بَصَرِي قَدْ يَطْغَى وَيَزِيغُ، بِخِلَافِ بَصَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْيَقِينُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَهْوَالِ، وَرُكُوبِ الْأَخْطَارِ. وَهُوَ يَأْمُرُ بِالتَّقَدُّمِ دَائِمًا. فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ الْعِلْمُ: حُمِلَ عَلَى الْمَعَاطِبِ. وَالْعِلْمُ يَأْمُرُ بِالتَّأَخُّرِ وَالْإِحْجَامِ. فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْيَقِينُ قَعَدَ بِصَاحِبِهِ عَنِ الْمَكَاسِبِ وَالْغَنَائِمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: الْيَقِينُ تَعْرِيفُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِلْيَقِينِ: مَرْكِبُ الْآخِذِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ. وَهُوَ غَايَةُ دَرَجَاتِ الْعَامَّةِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ خُطْوَةٍ لِلْخَاصَّةِ. لَمَّا كَانَ الْيَقِينُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ- كَمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: الْعِلْمُ مَا اسْتَعْمَلَكَ. وَالْيَقِينُ مَا حَمَلَكَ- سَمَّاهُ مَرْكِبًا يَرْكَبُهُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَوْلَا الْيَقِينُ مَا سَارَ رَكْبٌ إِلَى اللَّهِ، وَلَا ثَبَتَ لِأَحَدٍ قَدَمٌ فِي السُّلُوكِ إِلَّا بِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ آخِرَ دَرَجَاتِ الْعَامَّةِ: لِأَنَّهُمْ إِلَيْهِ يَنْتَهُونَ. ثُمَّ حَكَى قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَوَّلُ خُطْوَةٍ لِلْخَاصَّةِ. يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَقَامٍ لَهُمْ. وَإِنَّمَا هُوَ مَبْدَأٌ لِسُلُوكِهِمْ. فَمِنْهُ يَبْتَدِئُونَ سُلُوكَهُمْ وَسَيْرَهُمْ. وَهَذَا لِأَنَّ الْخَاصَّةَ عِنْدَهُ سَائِرُونَ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ. لَا تَقِفُ بِهِمْ دُونَهَا هِمَّةٌ. وَلَا يَعْرُجُونَ دُونَهَا عَلَى رَسْمٍ. فَكُلُّ مَا دُونَهَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ الْعَامَّةِ، وَمَنَازِلِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ. حَتَّى الْمَحَبَّةُ. وَحَسْبُكَ بِجَعْلِ الْيَقِينِ نِهَايَةً لِلْعَامَّةِ. وَبِدَايَةً لَهُمْ. قَالَ:
وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: عِلْمُ الْيَقِينِ. وَهُوَ قَبُولُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْحَقِّ. وَقَبُولُ مَا غَابَ لِلْحَقِّ. وَالْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ. ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، هِيَ مُتَعَلِّقُ الْيَقِينِ وَأَرْكَانُهُ. الْأُولَى: قَبُولُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْحَقِّ تَعَالَى. وَالَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ: أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَشَرْعُهُ، وَدِينُهُ الَّذِي ظَهَرَ لَنَا مِنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. فَنَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ، وَالْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وَالدُّخُولِ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ. الثَّانِي: قَبُولُ مَا غَابَ لِلْحَقِّ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ مِنْ أُمُورِ الْمَعَادِ وَتَفْصِيلِهِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ: مِنَ الصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحِسَابِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ: مِنْ تَشَقُّقِ السَّمَاءِ وَانْفِطَارِهَا، وَانْتِثَارِ الْكَوَاكِبِ، وَنَسْفِ الْجِبَالِ، وَطَيِّ الْعَالِمِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ: مِنْ أُمُورِ الْبَرْزَخِ، وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ. فَقَبُولُ هَذَا كُلِّهِ- إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَإِيقَانًا- هُوَ الْيَقِينُ. بِحَيْثُ لَا يُخَالِجُ الْقَلْبَ فِيهِ شُبْهَةٌ. وَلَا شَكٌّ وَلَا تَنَاسٍ، وَلَا غَفْلَةٌ عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَهْلِكْ يَقِينُهُ أَفْسَدَهُ وَأَضْعَفَهُ. الثَّالِثُ: الْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ، الَّذِي أَسَاسُهُ: إِثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَضِدُّهُ: التَّعْطِيلُ وَالنَّفْيُ، وَالتَّهَجُّمُ. فَهَذَا التَّوْحِيدُ يُقَابِلُهُ التَّعْطِيلُ. وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْقَصْدِيُّ الْإِرَادِيُّ، الَّذِي هُوَ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ: فَيُقَابِلُهُ الشِّرْكُ، وَالتَّعْطِيلُ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ، فَإِنَّ الْمُعَطِّلَ جَاحِدٌ لِلذَّاتِ أَوْ لِكَمَالِهَا. وَهُوَ جَحْدٌ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ. فَإِنَّ ذَاتًا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَرْضَى، وَلَا تَغْضَبُ، وَلَا تَفْعَلُ شَيْئًا. وَلَيْسَتْ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا مُتَّصِلَةً بِالْعَالَمِ وَلَا مُنْفَصِلَةً، وَلَا مُجَانِبَةً لَهُ، وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ، وَلَا مُجَاوِرَةً وَلَا مُجَاوِزَةً، وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا تَحْتَ الْعَرْشِ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ: سَوَاءٌ هِيَ وَالْعَدَمِ. وَالْمُشْرِكُ مُقِرٌّ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ. لَكِنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ. فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَطِّلِ لِلذَّاتِ وَالصِّفَاتِ. فَالْيَقِينُ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنُعُوتِ كَمَالِهِ، وَتَوْحِيدِهِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْرَفُ عُلُومِ الْخَلَائِقِ: عِلْمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعِلْمُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ، وَعِلْمُ الْمَعَادِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: عَيْنُ الْيَقِينِ. وَهُوَ الْمُغْنِي بِالِاسْتِدْلَالِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ. وَعَنِ الْخَبَرِ بِالْعِيَانِ. وَخَرْقُ الشُّهُودِ حِجَابَ الْعِلْمِ. الْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ: كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ وَالْعَيَانِ. وَحَقُّ الْيَقِينِ: فَوْقَ هَذَا. وَقَدْ مَثَّلْتُ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةِ بِمَنْ أَخْبَرَكَ: أَنَّ عِنْدَهُ عَسَلًا، وَأَنْتَ لَا تَشُكُّ فِي صِدْقِهِ. ثُمَّ أَرَاكَ إِيَّاهُ. فَازْدَدْتَ يَقِينًا. ثُمَّ ذُقْتَ مِنْهُ. فَالْأَوَّلُ: عِلْمُ الْيَقِينِ. وَالثَّانِي: عَيْنُ الْيَقِينِ. وَالثَّالِثُ: حَقُّ الْيَقِينِ. فَعِلْمُنَا الْآنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ: عِلْمُ يَقِينٍ. فَإِذَا أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ فِي الْمَوْقِفِ لِلْمُتَّقِينَ وَشَاهَدَهَا الْخَلَائِقُ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ. وَعَايَنَهَا الْخَلَائِقُ. فَذَلِكَ: عَيْنُ الْيَقِينِ. فَإِذَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ: فَذَلِكَ حِينَئِذٍ حَقُّ الْيَقِينِ. قَوْلُهُ: هُوَ الْمُغْنِي بِالِاسْتِدْلَالِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ. يُرِيدُ بِالِاسْتِدْلَالِ: الْإِدْرَاكَ وَالشُّهُودَ. يَعْنِي صَاحِبُهُ قَدِ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ الدَّلِيلَ لِيَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ. فَإِذَا كَانَ الْمَدْلُولُ مُشَاهَدًا لَهُ- وَقَدْ أَدْرَكَهُ بِكَشْفِهِ- فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ؟ وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْخَبَرِ بِالْعِيَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَخَرْقُ الشُّهُودِ حِجَابَ الْعِلْمِ. فَيُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الْمَعَارِفَ الَّتِي تَحْصُلُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: هِيَ مِنَ الشُّهُودِ الْخَارِقِ لِحِجَابِ الْعِلْمِ. فَإِنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ عَنِ الشُّهُودِ. فَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَرْتَفِعُ الْحِجَابُ. وَيُفْضِي إِلَى الْمَعْلُومِ، بِحَيْثُ يُكَافِحُ بَصِيرَتَهُ وَقَلْبَهُ مُكَافَحَةً.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ حَقُّ الْيَقِينِ. وَهُوَ إِسْفَارُ صُبْحِ الْكَشْفِ. ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ كُلْفَةِ الْيَقِينِ. ثُمَّ الْفَنَاءُ فِي حَقِّ الْيَقِينِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ لَا تُنَالُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا لِلرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بِعَيْنِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا. وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ وَمُوسَى يَنْظُرُ، فَجَعَلَهُ دَكًّا هَشِيمًا. نَعَمْ يَحْصُلُ لَنَا حَقُّ الْيَقِينِ مِنْ مَرْتَبَةٍ، وَهِيَ ذَوْقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا بَاشَرَهَا وَذَاقَهَا صَارَتْ فِي حَقِّهِ حَقَّ يَقِينٍ. وَأَمَّا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَادِ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ جَهْرَةً عَيَانًا، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ حَقِيقَةً بِلَا وَاسِطَةٍ- فَحَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ: الْإِيمَانُ. وَعِلْمُ الْيَقِينِ. وَحَقُّ الْيَقِينِ: يَتَأَخَّرُ إِلَى وَقْتِ اللِّقَاءِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السَّالِكُ عِنْدَهُ يَنْتَهِي إِلَى الْفَنَاءِ. وَيَتَحَقَّقُ شُهُودَ الْحَقِيقَةِ. وَيَصِلُ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ، قَالَ: حَقُّ الْيَقِينِ: هُوَ إِسْفَارُ صُبْحِ الْكَشْفِ. يَعْنِي: تَحَقُّقَهُ وَثُبُوتَهُ، وَغَلَبَةَ نُورِهِ عَلَى ظُلْمَةِ لَيْلِ الْحِجَابِ. فَيَنْتَقِلُ مِنْ طَوْرِ الْعِلْمِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي الشُّهُودِ بِالْفَنَاءِ عَنِ الرَّسْمِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ كُلْفَةِ الْيَقِينِ. يَعْنِي: أَنَّ الْيَقِينَ لَهُ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا. وَيَقُومُ بِهَا، وَيَتَحَمَّلُ كُلَفَهَا وَمَشَاقَّهَا. فَإِذَا فَنِيَ فِي التَّوْحِيدِ حَصَلَ لَهُ أُمُورٌ أُخْرَى رَفِيعَةٌ عَالِيَةٌ جِدًا. يَصِيرُ فِيهَا مَحْمُولًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ حَامِلًا، وَطَائِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ سَائِرًا، فَتَزُولُ عَنْهُ كُلْفَةُ حَمْلِ تِلْكَ الْحُقُوقِ. بَلْ يَبْقَى لَهُ كَالنَّفَسِ، وَكَالْمَاءِ لِلسَّمَكِ. وَهَذَا أَمْرٌ التَّحَاكُمُ فِيهِ إِلَى الذَّوْقِ وَالْإِحْسَاسِ. فَلَا تُسْرِعْ إِلَى إِنْكَارِهِ. وَتَأَمَّلْ حَالَ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَخَذَ تَمْرَاتِهِ. وَقَعَدَ يَأْكُلُهَا عَلَى حَاجَةٍ وَجُوعٍ وَفَاقَةٍ إِلَيْهَا. فَلَمَّا عَايَنَ سُوقَ الشَّهَادَةِ قَامَتْ. أَلْقَى قُوتَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، إِنْ بَقِيتُ حَتَّى آكُلَ هَذِهِ التَّمْرَاتِ. وَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. كَانَتْ مُطَابِقَةً لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ. لَكِنْ بَقِيَتْ نُكْتَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ مَوْضِعُ السَّجْدَةِ، وَهِيَ أَنَّ فَنَاءَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَشُهُودِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا أَرْبَابُ الْفَنَاءِ بَلْ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. فَفَنُوا بِحُبِّهِ تَعَالَى عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ. وَبِمُرَادِهِ مِنْهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ وَحُظُوظِهِمْ. فَلَمْ يَكُونُوا عَامِلِينَ عَلَى فَنَاءٍ. وَلَا الِاسْتِغْرَاقِ فِي الشُّهُودِ. بِحَيْثُ يَفْنَوْنَ بِهِ عَنْ مُرَادِ مَحْبُوبِهِمْ مِنْهُمْ، بَلْ قَدْ فَنُوا بِمُرَادِهِ عَنْ مُرَادِهِمْ. فَهُمْ أَهْلُ بَقَاءٍ فِي فَنَاءٍ، وَفَرْقٍ فِي جَمْعٍ. وَكَثْرَةٍ فِي وَحْدَةٍ. وَحَقِيقَةٍ كَوْنِيَّةٍ فِي حَقِيقَةٍ دِينِيَّةٍ. هُمُ الْقَوْمُ. لَا قَوْمَ إِلَّا هُـمُ وَلَوْلَاهُمُ مَا اهْتَدَيْـنَا السَّبِــيلَا فَنِسْبَةُ أَحْوَالِ مَنْ بَعْدَهُمُ الصَّحِيحَةُ الْكَامِلَةُ إِلَى أَحْوَالِهِمْ: كَنِسْبَةِ مَا يَرْشَحُ مِنَ الظَّرْفِ وَالْقِرْبَةِ إِلَى مَا فِي دَاخِلِهَا. وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْمُنْحَرِفَةُ الْفَاسِدَةُ: فَسَبِيلٌ غَيْرُ سَبِيلِهِمْ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْأُنْسِ بِاللَّهِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ رُوحُ الْقُرْبِ وَلِهَذَا صَدَّرَ مَنْزِلَتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. فَاسْتِحْضَارُ الْقَلْبِ هَذَا الْبِرَّ وَالْإِحْسَانَ وَاللُّطْفَ: يُوجِبُ قُرْبَهُ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَرْبُهُ مِنْهُ يُوجِبُ لَهُ الْأُنْسَ وَالْأُنْسُ ثَمَرَةُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَكُلُّ مُطِيعٍ مُسْتَأْنِسٌ، وَكُلُّ عَاصٍ مُسْتَوْحِشٌ، كَمَا قِيلَ: فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ *** فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ وَالْقُرْبُ يُوجِبُ الْأُنْسَ وَالْهَيْبَةَ وَالْمَحَبَّةَ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ.
|