الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **
وقد ورد ذم الرياء في الكتاب والسنة، من ذلك قوله تعالى: واعلم: أن الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، فالمرائي يرى الناس ما يطلب به الحظوة عندهم وذلك أقسام: وطبقة أخرى: يطلبون القبول عند أهل الصلاح، وعند أهل الدنيا من الملوك والأمراء والتجار، فلو لبسوا الثياب الفاخرة لم تقبلهم القراء أهل الصلاح، ولو لبسوا المخرقة الدنية لازدرتهم الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا، فيطلبون الأثواب الرقيقة، والأكسية الرفيعة والفوط الرفيعة فيلبسونها، وأقل قيمة ثوب أحدهم قيمة ثوب الغنى، ولونه وهيئته لون ثياب الصلحاء، فيلتمسون القبول عند الفريقين.وهؤلاء لو كلفوا لبس خشن أو وسخ، لكان عندهم كالذبح، خوفاً من السقوط في أعين الملوك والأغنياء، ولو كلفوا لبس الرقيق ورفيع الكتان الأبيض ونحو ذلك، لعظم ذلك عليهم، خوفاً من أن تنحط منزلتهم عند أهل الصلاح، وكل مراء بزي مخصوص ثقل عليه الانتقال إلى ما دونه أو فوقه خوفاً من المذمة.وأما أهل الدنيا، فمراءاتهم بالثياب النفيسة، والمراكب الحسنة، وأنواع التجميل في الملبس والمسكن وأثاث البيت، وهم في بيوتهم يلبسون الثياب الخشنة، ويشتد عليهم أن يروا بتلك المنزلة. واعلم: أن بعض أبواب الرياء أشد من بعض، لأنه درجات.أشدها وأغلظها أن لا يكون مراده بالعبادة الثواب أصلاً، كالذي يصلى بين الناس، ولو انفرد لم يصل. الدرجة الثانية: أن يقصد الثواب مع الرياء قصداً ضعيفاً بحيث لو كان خالياً لم يفعله، فهو قريب من القسم الأول في كونهما ممقوتين عند الله تعالى. الدرجة الثالثة: أن يكون قصد الرياء، وقصد الثواب متساويين، بحيث لو انفرد كل واحد منهما عن الآخر لم يبعثه على العمل، فهذا قد أفسد مثل ما اصلح، ولا يسلم من الإثم الرابعة: أن يكون إطلاع الناس عليه مقوياً لنشاطه، ولو لم يطلع عليه أحد لم يترك العبادة، فهذا يثاب على قصده الصحيح ، ويعاقب على قصده الفاسد، وقريب من ذلك الرياء بأوصاف العبادة لا بأصلها، كالذي يصلى وغرضه تخفيف الركوع والسجود ولا يطيل القراءة، فإذا رآه الناس أحسن ذلك فهذا أيضاً من الرياء المحظور، لأنه يتضمن تعظيم الخلق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات. اعلم أن الرياء جلى وخفى. فالجلى: هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه.وأخفى منه قليلاً رياء لا يبعث على العمل بمجرده، لكن يخفف العمل الذي أريد به وجه الله تعالى، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف نشط له وسهل عليه. وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا في التسهيل، لكنه مع ذلك مستبطن في القلب، ومتى لم يؤثر الدعاء في العمل لم يكن أن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أنه يسر باطلاع الناس على طاعته، فرب عبد مخلص يخلص العمل، ولا يقصد الرياء بل يكرهه، ويتم العمل على ذلك، لكن إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وارتاح له، وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، فهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ثم إذا استشعر تلك اللذة بالاطلاع لم يقابل ذلك بكراهة، بل قد يتحرك حركة خفيفة، ويتكلف أن يطلع عليه بالتعريض لا بالتصريح.وقد يخفى، فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً ولا تصريحاً، ولكن بالشمائل كإظهار النحول، والصفار، وخفض الصوت، ويبس الشفتين وآثار الدموع وغلبة النعاس الدالة على طول التهجد. وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وينشطوا في قضاء حوائجه، ويسامحوه في المعاملة، ويوسعوا له المكان، فان قصر في ذلك مقصر، ثقل ذلك على قلبه، كأن نفسه تتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها.ومتى لم يكون وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق، لم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء، وكل ذلك يوشك أن يقص الأجر، ولا يسلم منه إلا الصديقون.وقد روينا عن وهب بن منبه، أن رجلاً من العباد قال لأصحابه: إنا قد فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان ، وأنا نخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا من هذا الطغيان أكثر مما دخل على الأهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، وإن كان له حاجة أحب أن تقضى لمكان دينه: وإن اشترى شئياً أحب أن يرخص له لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم، فركب في موكبه، فإذا السهل والجبل قد امتلأ من الناس، فقال العابد: ما هذا؟ قيل: هذا الملك، فقال لصاحبه : ائتني بطعام، فأتاه ببقل وزبيب وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقيه ويأكل أكلاً عنيفاً، فقال الملك: أين صاحبكم؟ فقالوا : هذا ، كيف أنت؟ قال : كالناس، فقال الملك ما عند هذا خير، وانصرف عنه، فقال: الحمد لله الذي صرفه عنى وهو لى لائم.ولم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفى، يجتهدون في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة، ويحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم ليجازيهم الله تعالى في القيامة بإخلاصهم. وشوائب الرياء الخفى كثيرة لا تنحصر، ومتى أدرك الإنسان من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته أو لا يطلع، ففيه شعبة من الرياء، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر ومفسداً للعمل، بل فيه تفصيل. فإن قيل: فما ترى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعته، فهل جميع ذلك مذموم؟ فالجواب: أن السرور ينقسم إلى محمود ومذموم. فالمحمود: أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله تعالى أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيسر بحسن صنع الله ونظره له ولطفه به، حيث كان يستر الطاعة والمعصية، فأظهر الله سبحانه عليه الطاعة، وستر عليه المعصية، ولا لطف أعظم من ستر القبيح، وإظهار الجميل، فيكون فرحه بذلك، لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم، أو يستدل بإظهار الله الجميل، وستر القبيح عليه في الدنيا، أنه كذلك يفعل به في الآخرة، فإنه قد جاء معنى ذلك في الحديث. فأما إن كان فرحه باطلاع الناس عليه لقيام منزلته عندهم، حتى يمدحوه ويعظموه ويقضوا حوائجه، فهذا مكروه مذموم. فإن قيل: فما وجه حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه، أعجبه، فقال: إذا ورد على العبد وراد الرياء ، فلا يخلو:إما أن يكون ورد بعد فراغه من العبادة أو قبله، فان ورد عليه بعد الفراغ سرور بالظهور من غير إظهار منه ، فهذا لا يحبط العمل، لأنه قد تم على نعت الإخلاص فلا ينعطف ما طرأ عليه بعده، لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحديث به، فأما إن تحدث به بعد تمامه وأظهره، فهذا مخوف، والغالب عليه أنه كان في قلبه وقت مباشرة العمل نوع رياء، فإن سلم من الرياء نقص أجره، فإن بين عمل السر والعلانية سبعين درجة. وأما إذا ورد الرياء قبل الفراغ من العبادة، كالصلاة التي عقدها على إخلاص فإن كان مجرد سرور، لم يؤثر في العمل، وإن كان رياء باعثاً على العمل، مثل أن يطيل الصلاة ليرى مكانه، فهذا يحبط الأجر.وأما ما يقارن العبادة، مثل أن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء، فإن أتمها على ذلك لم يعتد بها، وإن ندم فيها على فعله، فالذي ينبغي له أن يبتدئها، والله أعلم.وأما ما يقارن العبادة، مثل أن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء، فإن أتمها على ذلك لم يعتد بها، وإن ندم فيها على فعله، فالذي ينبغي له أن يبتدئها، والله أعلم. قد عرفت أن الرياء محبط للأعمال، وسبب لمقت الله تعالى، وأنه من المهلكات، ومن هذا حاله، فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته. وفى معالجته مقامان: أحدهما: في قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه. والثاني: في دفع ما يخطر منه في الحال.المقام الأول: اعلم أن أصل الرياء حب الجاه والمنزلة، وإذا فصل، رجع إلى ثلاثة أصول.وهى حب لذة الحمد، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس.ويشهد لذلك ما في " الصحيحين" من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم : فقال يارسول الله، أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: إلا أن أتعاهد ذلك منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ومن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم ، وقبول الحق ، والانقياد له وقد تحصل المعرفة للمتكبر ، ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق ، كما قال تعالى : وكراهة اطلاع الناس على الذنب وذمهم له أما الأول ، فاعلم أن في إسرار الأعمال فائدة لإخلاص والنجاة من الرياء ، وفي الإظهار فائدة الاقتداء ، وترغيب الناس في الخير .ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد .والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه ، حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي ، بل ينوي الاقتداء به ، ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك ، فإن مثال الضعيف مثل الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة ، فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم ، وأقبل عليهم حتى تشبثوا به ، فهلكوا وهلك معهم .فأما من قوي وتم إخلاصه ، وصغر الناس في عينه ، واستوى عنده مدحهم وذمهم ، فلا بأس بالإظهار له ، لأن الترغيب في الخير خير .وقد روي ذلك عن جماعة من السلف أنهم كانوا يظهرون شيئاً من أحوالهم الشريفة ليقتدي بهم ، كما قال بعضهم لأهله حين احتضر : لا تبكوا علي ، فإني ما لفظت بخطيئة منذ أسلمت .وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله لابنه : إياك أن تعصي الله تعالى في هذه الغرفة ، فإني ختمت فيها اثني عشر ألف ختمة .ونحو ذلك كثير من كلامهم ، والله أعلم . وأما الرخصة في كتمان الذنوب ، فربما ظن ظان أن كتمان الخطايا رياء ، وليس كذلك فإن الصادق الذي لا يرائي إذا وقعت منه معصية ، كان له سترها ، لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها .وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : فأما ترك الطاعات خوفاً من الرياء ، فإن كان الباعث له على الطاعة غير الدين ، فهذا ينبغي أن يترك ، لأنه معصية لا طاعة فيه .وإن كان الباعث على ذلك الدين ، وكان ذلك لأجل الله تعالى خالصاً ، فلا ينبغي أن يترك العمل ، لأن الباعث الدين .وكذلك إذا ترك العمل خوفاً من أن يقال : إنه مراءٍ ، فلا ينبغي ذلك ، لأنه من مكائد الشيطان قال إبراهيم النخعي : إذا أتاك الشيطان وأنت في الصلاة فقال : إنك مراءٍ ، فزدها طولاً .وأما ما روي عن بعض السلف أنه ترك العبادة خوفاً من الرياء ، كما روي عن إبراهيم النخعي أن إنساناً دخل عليه وهو يقرأ في المصحف ، فأطبق المصحف وترك القراءة ، وقال : لا يراني هذا أني أقرأ كل ساعة ، فيحمل هذا علي أنهم أحسوا من نفوسهم بنوع تزين فقطعوا ! قد يبيت الرجل مع المتهجدين ، فيصلون أكثر الليل ، وعادته قيام ساعة ، فيوافقهم ، أو يصومون فيصوم ، ولولاهم ما انبعث هذا النشاط .فربما ظن ظان أن هذا رياء ، وليس كذلك على الإطلاق ، بل فيه تفصيل ، وهو أن كل مؤمن يرغب في عبادة الله تعالى ، ولكن تعوقه العوائق ، فإن الإنسان إذا كان في منزله تمكن من النوم على فراش وطيء وتمتع بزوجته ، فإذا بات في مكان غريب ، اندفعت هذه الشواغل ، وحصلت له أسباب تبعث على الخير ، منها مشاهدة العابدين .وقد يعسر عليه الصوم في منزله لكثرة المطاعم ، بخلاف غيره ، ففي مثل هذه الأحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة ، ويقول : إذا عملت غير عادتك كنت مرائياً فلا ينبغي أن يلتفت إليه ، وإنما ينبغي أن ينظر إلى قصده الباطن ، ولا يلتفت إلى وسواس الشيطان ويختبر أمره بأن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه ، فإن رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله ، وإن لم تسخ كان سخاؤها عندهم رياء ، وقس على هذا .فهذه جملة آفات الرياء ، فكن بحاثاً عنها ، وتفقد نيتك ، فإن الرياء أخفى من دبيب النمل .وينبغي للمريد أن يلزم قلبه القناعة بعلم الله في جميع طاعته .وإنما يقنع بذلك من خاف الله ورجاه ، ولا ينبغي أن يؤيس نفسه من الإخلاص بأن يقول : إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء ، وأنا من المخلطين ، فيترك المجاهدة في تحصيل الإخلاص ، لأن المخلط إلى ذلك أحوج .قال إبراهيم بن أدهم : تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان : دخلت على صومعته فقلت له : منذ كم أنت في صومعتك هذه ؟ قال منذ سبعين سنة ، قلت : ما طعامك ؟ قال : كل ليلة حمصة ، قلت : فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة ؟ قال : ترى ( الدير ) الذي بحذائك ؟ قلت : نعم ، قال : إنهم يأتوني في كل سنة يوماً واحداً فيزينون صومعتي ويطوفون حولها يعظموني بذلك ، فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ، ذكرتها عز تلك الساعة ، فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة ، فاحتمل ياحنيفي جهد ساعة لعز الأبد ، فوقر في قلبي المعرفة ، فقال : أزيدك ؟ قلت : نعم ، قال : أنزل عن الصومعة ، فنزلت فأدلى إلي ركوة فيها عشرين حمصة ، ثم قال لي : ادخل الدير ، فقد رأوا ما أدليت إليك ، فلما دخلت الدير ، اجتمعت النصارى فقالوا : يا حنيفي ، ما الذي أدلى إليك الشيخ ؟ قلت : شيئاً من قوته . قالوا : وما تصنع به ؟ نحن أحق به ، ساوم به ، قلت : عشرون ديناراً ، فأعطوني عشرين ديناراً ، فرجعت إلى الراهب ، فقال : أخطأت ، لو ساومتهم عشرين ألفاً لأعطوك ، هذا عز من لا يعبده ، فانظر كيف يكون عز من يعبده ، يا حنيفي أقبل على عبادة ربك .فقد بان بهذا أن استشعار النفوس عز العظمة في القلوب يكون باعثاً إلى الخلوة ، فهذه آفة عظيمة ، وعلامة سلامته منها أن يكون الخلق عنده والبهائم بمثابة واحدة ، ويكون عمله عمل من ليس على الأرض غيره ، فإذا خطرت خطرات ضعيفة ردها الله ، والله تعالى أعلم .
|