سورة السجدة
{روى البخاري عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة { ألم تنزيل } السجدة و {هل أتى على الإنسان}، وروى الإمام أحمد عن جابر قال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك.
بسم الله الرحن الرحيم
الآية رقم (1 : 3)
{ الم . تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون }
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله: {تنزيل الكتاب لا ريب فيه} أي لا شك فيه ولا مرية أنه منزل {من رب العالمين}، ثم قال تعالى مخبراً عن المشركين {أم يقولون افتراه} بل يقولون افتراه أي اختلقه من تلقاء نفسه، {بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون} أي يتبعون الحق.
الآية رقم (4 : 6)
{ الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون . يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون . ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم }
يخبر تعالى أنه خالق الأشياء، فخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وقد تقدم الكلام على ذلك، {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} أي بل هو المالك لأزمة الأمور، الخالق لكل شيء المدبر لكل شيء، القادر على كل شيء، فلا ولي لخلقه سواه، ولا شفيع إلا من بعد إذنه، {أفلا تتذكرون} يعني أيها العابدون غيره، المتوكلون على من عداه، تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وقوله تعالى: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} أي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، كما قال تعالى: {اللّه الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} الآية، وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا، ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة، وسمك السماء خمسمائة سنة، وقال مجاهد والضحاك: النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام، وصعوده في مسيرة خمسمائة عام، ولكنه يقطعها في طرفة عين، ولهذا قال تعالى: {في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة} أي المدبر لهذه الأمور الذي هو شهيد على أعمال عباده، يرفع إليه جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها، هو العزيز الذي قد عز كل شيء فقهره وغلبه، ودانت له العباد والرقاب، {الرحيم} بعباده المؤمنين.
الآية رقم (7 : 9)
{ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين . ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين . ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون }
يقول تعالى مخبراً أنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها، قال زيد بن أسلم: {الذي أحسن كل شيء خلقه} قال: أحسن خلق كل شيء، كأنه جعله من المقدم والمؤخر؛ ثم لما ذكر تعالى خلق السماوات والأرض، شرع في ذكر خلق الإنسان، فقال تعالى: {وبدأ خلق الإنسان من طين} يعني خلق أبا البشر آدم من طين، {ثم جعل نسله من سلالة من ملء مهين} أي يتناسلون كذلك من نطفة، تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، {ثم سوّاه} يعني آدم لما خلقه من تراب خلقه سوياً مستقيماً، {ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} يعني العقول، {قليلاً ما تشكرون} أي بهذه القوى التي رزقكموها اللّه عزَّ وجلَّ، فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عزَّ وجلَّ.
الآية رقم (10 : 11)
{ وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون . قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون }
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في استبعادهم المعاد حيث قالوا {أئذا ضللنا في الأرض} أي تمزقت أجسامنا، وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت، {أئنا لفي خلق جديد} أي أئنا لفي خلق جديد} أي أتنا لنعود بعد تلك الحال؟ يستبعدون ذلك، ولهذا قال تعالى: {بل هم بلقاء ربهم كافرون}، ثم قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم}، الظاهر أن ملك الموت شخص معين، وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل وهو لمشهور قاله قتادة وغير واحد من علماء السلف ، وله أعوان؛ وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد، حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت، قال مجاهد: حويت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها متى يشاء، وقال كعب الأحبار: واللّه ما من بيت فيه أحد من أهل الدنيا إلا وملك الموت يقوم على بابه كل يوم سبع مرات ينظر هل فيه أحد أمر أن يتوفاه "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقوله تعالى: {ثم إلى ربكم ترجعون} أي يوم معادكم وقيامكم من قبوركم لجزائكم.
الآية رقم (12 : 14)
{ ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون . ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين . فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون }
يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة، حين عاينوا البعث وقاموا بين يدي اللّه عزَّ وجلَّ، حقيرين ذليلين ناكسي رؤوسهم أي من الحياء والخجل، يقولون{ربنا أبصرنا وسمعنا} أي نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك كما قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار بقولهم: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}، وهكذا هؤلاء يقولون {ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا} أي إلى دار الدنيا {نعمل صالحاً إنا موقنون} أي قد أيقنا وتحققنا فيها أن وعدك حق ولقاءك حق، وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى الدنيا كفاراً يكذبون بآيات اللّه، ويخالفون رسله، كما قال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا} الآية،وقال ههنا: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}، كما قال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في ألأرض كلهم جميعاً}، {ولكن حقَّ القول مني لأملأن جنهم من الجنة والناس أجمعين} أي من الصنفين فدارهم النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها، نعوذ باللّه وكلماته التامة من ذلك {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ، ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به، واستبعادكم وقوعه، {إنا نسيناكم} أي سنعاملكم معاملة الناسي، لأنه تعالى لا ينسى شيئاً ولا يضل عنه شيء، بل من باب المقابلة، كما قال تعالى: {فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا}، وقول تعالى: {وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} أي بسبب كفرهم وتكذيبكم، كما قال تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}.
الآية رقم (15 : 17)
{ إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون . تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون . فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } يقول تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا} أي إنما يصدق بها {الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً} أي استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً، {وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} أي عن اتباعها والانقياد لها، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة، قال الله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}، ثم قال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} يعني بذلك قيام الليل وترك النوم، والاضطجاع على الفرش الوطيئة، قال مجاهد والحسن: يعني بذلك قيام الليل، وعن أنس وعكرمة: هو الصلاة بين العشاءين، وعن أنس أيضاً: هو انتظار صلاة العتمة، وقال الضحاك: هو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً} أي خوفاً من وبال عقابه، وطمعاً في جزيل ثوابه {ومما رزقناهم ينفقون} فيجمعون فعل القربات اللازمة والمتعدية، عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً ونحن نسير، فقلت: يا نبي اللّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: (لقد سألت عن عظيم وغنه ليسير على من يسره اللّه عليه، تعبد اللّه ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفيء الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل - ثم قرأ - {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {جزاء بما كانوا يعملون}، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟) فقلت: بلى يا رسول اللّه، فقال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل اللّه، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله)؟ فقلت: بلى يا نبي اللّه، فأخذ بلسانه ثم قال: (كفَّ عليك هذا) فقلت: يا رسول اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم) "أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة".وروى ابن أبي حاتم، عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك فقال: (إن شئت نبأتك بأبواب الخير، الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل) ثم تلا رسول اللّه صلى الّله عليه وسلم: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الآية، وعن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذا جمع اللّه الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق (سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم( ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع - الآية - فيقومون وهم قليل)، وقال بلال: لما نزلت هذه الآية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الآية، كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت هذه الآية {تتجافى جوبهم عن المضاجع} "أخرجه البزار عن زيد بن أسلم عن أبيه"، وقوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى اللّه لهم في الجنات، من النعيم المقيم، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، لما أخفوا أعمالهم، كذلك أخفى اللّه لهم من الثواب، جزاء وفاقاً، فإن الجزاء من جنس العمل، قال الحسن البصري: اخفى قوم عملهم فأخفى اللّه لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر، قال البخاري: قوله تعالى {فلا تعلم ما أخفي من قرة أعين} الآية، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (قال اللّه تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} "رواه البخاري ومسلم والترمذي والإمام أحمد". وفي الحديث: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) "أخرجه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً"، وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى
النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: سأل موسى عليه السلام ربه عزَّ وجلَّ ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُُدخَلَ أهلُ الجنةَ الجنةَ، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد أخذ الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربي، هذا لك وعشرة أمثاله معه، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول: رضيت رب، قال رب فأعلاهم منزلة، قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر. قال: ومصداقه من كتاب اللّه عزَّ وجلَّ {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الآية
"أخرجه مسلم عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح".
الآية رقم (18 : 22)
{ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون . أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون . وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون . ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون . ومن أظلم ممن ذكر بأيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون }
يخبر تعالى عن عدله وكرمه، أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة، من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله بمن كان فاسقاً، أي خارجاً عن طاعة ربه، مكذباً رسل اللّه، كما قال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}، وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}؟ وقال تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} الآية، ولهذا قال تعالى ههنا: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} أي عند اللّه يوم القيامة، وقد ذكر عطاء والسدي أنها نزلت في علي بن أبي طالب و عقبة بن أبي معيط ولهذا فصل حكمهم فقال: {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي صدقت قلوبهم بآيات اللّه، وعملوا بمقتضاها وهي الصالحات، {فلهم جنات المأوى} أي التي فيها المساكن والدور والغرف العالية {نزلاً} أي ضيافة وكرامة، {بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا} أي خرجوا عن الطاعة، {فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها}، كقوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} الآية، قال الفضيل ابن عياض: واللّه إن الأيدي لموثقة، وإن الأرجل لمقيدة، وإن اللهب ليرفعهم، والملائكة تقمعهم، {وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً، وقوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر}، قال ابن عباس: يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها، وما يحل بأهلها مما يبتلي اللّه به عباده ليتوبوا إليه، وقال مجاهد: يعني به عذاب القبر، وقال عبد اللّه بن مسعود: العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر، قال السدي: لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير فأصيبوا أو غرموا، ومنهم من جمع له الأمران، وقوله تعالى: {ومن أظلم ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} أي لا أظلم ممن ذكره اللّه بآياته وبينها له ووضحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها، وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها، قال قتادة: إياكم والإعراض عن ذكر اللّه، فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة وأعوز أشد العوز، ولهذا قال تعالى متهدداً لمن فعل ذلك: {إنا من المجرمين منتقمون} أي سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام.
الآية رقم (23 : 25)
{ ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل . وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون . إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون }
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله موسى عليه السلام، أنه آتاه الكتاب وهو التوراة، وقوله تعالى: {فلا تكن في مرية من لقائه} قال قتادة: يعني به ليلة الإسراء، وفي الحديث: (رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلاً آدم جعداً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن النار، والدجال) في آيات أراهن اللّه إياها {فلا تكن في مرية من لقائه} أنه قد رأى موسى ولقي موسى ليلة أسري به. وروى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: {فلا تكن في مرية من لقائه} قال من لقاء موسى ربه عزَّ وجلَّ "أخرجه الطبراني"، وقوله تعالى: {وجعلناه} أي الكتاب الذي آتيناه {هدى لنبي إسرائيل}، كما قال تعالى في الإسراء: {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلا}. وقوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} أي لما كانوا صابرين على أوامر اللّه، وترك زواجره، وتصديق رسله، واتباعهم فيما جاؤوهم به، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر اللّه، ويدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ثم لما بدّلوا وحرّفوا سلبوا ذلك المقام، وصارت قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه، فلا عمل صالحاً ولا اعتقاداً صحيحاً، ولهذا قال تعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب} قال قتادة: لما صبروا عن الدنيا، وقال سفيان: هكذا كان هؤلاء، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا، وسئل سفيان عن قول علي رضي اللّه عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ألم تسمع قوله: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا}؟ قال: لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤساء، قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ولهذا قال تعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم عن العالمين}، كما قال ههنا: {إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} أي من الاعتقادات والأعمال.
الآية رقم (26 : 27)
{ أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون . أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون }
يقول تعالى أولم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل، ما أهلك اللّه قبلهم من الأمم الماضية، بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به، فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر {هل تحسن منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً}، ولهذا قال: {يمشون في مساكنهم} أي وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين، فلا يرون فيها أحداً ممن كان يسكنها ويعمرها ذهبوا منها كأن لم يغنوا فيها، كما قال: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا}، وقال: {وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد}، ولهذا قال ههنا: {إن في ذلك لآيات} أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم، وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم، لآيات
وعبراً ومواعظ ودلائل {أفلا يسمعون} أي أخبار من تقدم كيف كان من أمرهم. وقوله تعالى:
{أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجزر} يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم، في إرساله الماء من السماء أو من السيح، وهو ما تحمله الأنهار ويتحدر من الجبال، إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته، ولهذا قال تعالى: {إلى الأرض الجرز} وهي التي لا نبات فيها، كما قال تعالى: {وأنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً}، وأرض مصر رخوة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطراً لتهدمت أبنيتها فيسوق اللّه تعالى إليها النيل، بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم، وطين جديد من غير أرضهم فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبداً. روى قيس بن حجاج قال: لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص وكان أميراً بها، فقالوا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، قال وما ذاك؟ قالوا ذا كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي فعلت، قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا فألقها في النيل، فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد اللّه عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد: فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان اللّه الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل اللّه أن يجزيك، قال فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى اللّه النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقد قطع اللّه تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم "رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنّة". ولهذا قال تعالى: {أولم يروا أنا نسوق الماء إلى ألأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون}، كما قال تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً} الآية، ولهذا قال ههنا: {أفلا يبصرون}؟ وقال ابن عباس في قوله {إلى الأرض الجرز} قال: هي التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً إلا ما يأتيها من السيول، وقال عكرمة والضحاك: الأرض الجرز التي لا نبات فيها وهي مغبرة، قلت وهذا كقوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} الآيتين.
الآية رقم (28 : 30)
{ ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين . قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون . فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون }
يقول تعالى مخبراً عن استعجال الكفار وقوع بأس اللّه بهم، وحلول غضبه عليهم، استبعاداً وتكذيباً وعناداً {ويقولون متى هذا الفتح} أي متى تنصر علينا يا محمد؟ كما تزعم أن لك وقتاً تدال علينا وينتقم لك منا، فمتى يكون هذا؟ ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين، قال اللّه تعالى: {قل يوم الفتح} أي إذا حل بكم بأس اللّه وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الأخرى {لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون}، كما قال تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} الآيتين. والمراد بالفتح القضاء والفصل، كقوله: {فافتح بيني وبينهم فتحاً} الآية، وكقوله: {قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق} الآية، ثم قال تعالى: {فأعرض
عنهم وانتظر إنهم منتظرون} أي أعرض عن هؤلاء المشركين، وبلّغ ما أنزل إليك من ربك، كقوله تعالى: {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو} الآية، وانتظر فإن اللّه سينجز لك ما وعدك، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد، وقوله: {إنهم منتظرون} أي أنت منتظر وهم منتظرون، ويتربصون بكم الدوائر {أم يقولون شاعر تتربص به ريب المنون} وسترى عاقبة صبرك عليهم، وعلى أداء رسالة اللّه في نصرتك وتأييدك، وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك، من وبيل عقاب اللّه لهم، وحلول عذابه بهم وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.