الآية رقم (144 : 147)
{- يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا . إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا . إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما . ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما}
ينهى اللّه تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} ولهذا قال ههنا: {أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطاناً مبيناً}؟ أي حجة عليكم في عقوبته إياكم، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قوله: {سلطاناً مبيناً} قال: كل سلطان في القرآن حجة، وهذا إسناد صحيح، ثم أخبر تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} أي يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ، قال ابن عباس: أي في أسفل النار، وقال غيره النار دركات كما أن الجنة درجات وقال سفيان الثوري {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} قال: في توابيت تُرْتَج عليهم.
وعن أبي هريرة قال {الدرك الأسفل}: بيوت لها أبواب تطبق عليهم فتوقد عليهم من تحتهم ومن فوقهم، قال ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} قال: في توابيت من نار تطبق عليهم أي مغلقة مقفلة، {ولن تجد لهم نصيراً} أي ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب، ثم أخبر تعالى أن من تاب منهم في الدنيا تاب عليه وقبل ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره، فقال تعالى: {إلا الذين تابوا أصلحوا واعتصموا باللّه وأخلصوا دينهم للّه} أي بدلوا الرياء بالإخلاص، فينفعهم العمل الصالح وإن قل. قال ابن ابي حاتم عن معاذ بن جبل: ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال: (أخلص دينك يكفك القليل من العمل) {فأولئك مع المؤمنين} أي في زمرتهم يوم القيامة {وسوف يؤت اللّه المؤمنين أجراً عظيماً}، ثم قال تعالى مخبراً عن غناه عما سواه وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم {ما يفعل اللّه بعذابكم إن شكرتم وآمنتم}؟ أي أصلحتم العمل وآمنتم باللّه ورسوله، {وكان اللّه شاكراً عليماً} أي من شكر شكر له، ومن آمن قلبه به علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء.
الآية رقم (148 : 149)
{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما . إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا }
قال ابن عباس في الآية يقول: لا يحب اللّه أن يدعوا أحدا على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له يدعوا على من ظلمه، وذلك قوله: {إلا من ظلم}، وإن صبر فهو خير له، وقال الحسن البصري: لا يدعُ عليه، وليقل: اللهم أعني عليه واستخرج حقي منه، وفي رواية عنه قال: قد ارخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه، وقال عبد الكريم الجزري في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه لقوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}، وقال أبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (المستبان ما قالا فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم وعن مجاهد {لا يحب اللّه الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} قال، قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن. وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عن عقبة بن عامر قال، قلنا: يا رسول اللّه إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا، فما ترى في ذلك؟ فقال: إذا نزلت بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (أيما مسلم ضاف قوماً فاصبح الضيف محروماً فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله) تفرد به أحمد.
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة، أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: إن لي جاراً يؤذيني، فقال له: (أخرج متاعك فضعه على الطريق)، فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال: مالك؟ قال جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه قال، فقال الرجل ارجع إلى منزلك واللّه لا أوذيك أبداً. وقوله: {إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن اللّه كان عفواً قديراً}، أي إن أظهرتم أيها الناس خيراً أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند اللّه ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم، ولهذا قال: {فإن اللّه كان عفواً قديرا}، ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون اللّه فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك وفي الحديث الصحيح: (ما نقص مال من صدقة، ولا زاد اللّه عبداً بعفوا إلا عزاً، ومن تواضع للّه رفعه) "الحديث رواه مسلم ومالك والترمذي، وقد رواه الحافظ ابن كثير بلفظ ومن تواضع للّه رفعه ولفظه عندهم ولا تواضع عبدٌ للّه إلا رفعه الله
الآية رقم (150 : 152)
{ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا . أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما }
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى، حيث فرقوا بين اللّه ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك، بل بمجرد الهوى والعصبية، فاليهود عليهم لعائن اللّه آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم واشرفهم محمد صلى اللّه عليه وسلم، والمقصود أن من كفر بنبيّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبيب بعثه اللّه إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبيّن أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، إنما هو عن غرض وهوى وعصبيه، ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكفرون باللّه ورسله} فوسمهم بأنهم كفار باللّه ورسله {ويريدون أن يفرقوا بين اللّه ورسله} أي في الإيمان، {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} أي طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم فقال: {أولئك هم الكافرون حقاً} أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به لأنه ليس شرعياً، إذا لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول اللّه لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته.
وقوله تعالى: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} أي كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من اللّه وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة إلي، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه اللّه من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط اللّه عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي، {ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه} في الدنيا والآخرة، وقوله: {والذين آمنوا باللّه ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} يعني بذلك أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله اللّه بكل نبيّ بعثه الله، كما قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنيون كل آمن بالله} الآية، ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل، فقال: {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} على ما آمنوا باللّه ورسله، {وكان اللّه غفوراً رحيماً} أي لذنوبهم، أي إن كان لبعضهم ذنوب.
الآية رقم (153 : 154)
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا . ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا }
قال السدي وقتادة: سأل اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة وقال ابن جريج: سألوه أن ينزل عليهم صحفاً من اللّه مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به، وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك كما هو مذكور في سورة الإسراء: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} الآيات، ولهذا قال تعالى: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا: ارنا اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم}، أي بطغيانهم وبغيهم، وعتوهم وعنادهم وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون}، وقوله تعالى: {ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات} أي من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه السلام في بلاد مصر، وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليم، فما جاوزوه إلا يسيراً حتى أتوا على قوم يعكفون على اصنام لهم فقالوا لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة}.
ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة الأعراف وفي سورة طه بعد ذهاب موسى إلى مناجاة اللّه عزَّ وجلَّ، ثم لما رجع وكان ما كان، جعل اللّه توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده فجعل يقتل بعضهم بعضاً، ثم أحياهم اللّه عزَّ وجلَّ، وقال اللّه تعالى: {فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً}، ثم قال: {ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم}، وذلك حين امتنعوا من الإلتزام باحكام التوراة وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام رفع اللّه على رؤوسهم جبالً، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: {وإذن نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة} الآية، {وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً} أي فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس سجداً وهم يقولون حطة، أي (اللهم حط عنا ذنوبنا) في تركنا الجهاد ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون حنطة في شعرة {وقلنا لهم لا تعدوا في السبت} أي وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم اللّه عليهم ما دام مشروعاً لهم، {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} أي شديداً فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم اللّه عزَّ وجلَّ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: {اسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} الآيات، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله: {ولقد أتينا موسى تسع آيات بينات} وفيه(وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت)
الآية رقم (155 : 159)
{ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا . وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما . وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا . بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما . وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا }
وهذا من الذنوب التي ارتكبوها مما أوجب لعنتهم ورطدهم وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم {وكفرهم بآيات اللّه} أي حججه وبراهينه، والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام، قوله: {وقتلهم الأنبياء بغير حق} وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء اللّه، فإنهم قتلوا جماً غفيراً من الأنبياء عليهم السلام {وقولهم قلوبنا غلف} قال ابن عباس: أي في غطاء، وهذا كقول المشركين: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} الآية، وقيل: معناه أنهم ادعوا أن قلوبهم غلف للعلم أي أوعية للعلم قد حوته وحصلته، قال اللّه تعالى: {بل طبع اللّه عليها بكفرهم}، فعلى القول الاول: كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول لأنها في غلف وفي أكنة، قال اللّه بل هي مطبوع عليها بكفرهم، وعلى القول الثاني: عكس عليهم ما ادعوه من كل وجه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة. {فلا يؤمنون إلا قليلا} أي تمرنت قلوبهم على الكفر والطغيان، وقلة الإيمان {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً} قال ابن عباس: يعني أنهم رموها بالزنا. قال السدي: والظاهر من الآية أنهم رموها وابنها بالعظائم، فجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك. زاد بعضهم وهي حائض، فعليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، وقوله: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه} أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب قتلناه وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء كقول المشركين: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون}.
وكان من خبر اليهود عليهم لعائن اللّه وسخطه وغضبه وعقابه، أنه لما بعث اللّه عيسى بن مريم بالبينات والهدى، حسدوه على ما آتاه اللّه تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرىء بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصور من الطين طائراً ثم ينفخ فيه فيكون طائراً يشاهد طيرانه بإذن اللّه عزَّ وجلَّ إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه اللّه بها أجراها على يديه ومع هذا كذبوه وخالفوه، وسعوا في اذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل نبي اللّه عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلده، بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان وكان رجلاً مشركاً من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلاً يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو طائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر وقيل سبعة عشر نفراً - وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت - فحصروه هنالك، فلما أحس بهم وأنه لامحالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم - قال لأصحابه: أيكم يُلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال: أنت هو ! وألقى اللّه عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت واخذت عيسى عليه السلام سَنَةً من النوم فرفع إلى السماء وهو كذلك كما قال اللّه تعالى: {إذ قال اللّه يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} الآية، فلما رفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك، لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه، وأما الباقون فإنهم ظنوا - كما ظن اليهود - أن المصلوب هو المسيح بن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال إنه خاطبها واللّه أعلم، وهذا كله من امتحان اللّه عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح اللّه الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد المعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} أي رأوا شهبه فظنوه إياه ولهذا قال: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} يعني ذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلّمه إليهم من جهال النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال. ولهذا قال: {وما قتلوه يقيناً} أي وما قتلوه متيقنين أنه هو، بل شاكين متوهمين {بل رفعه اللّه إليه وكان اللّه عزيزاً} أي منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه، {حكيماً} أي في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة الحجة الدامغة والسلطان العظيم.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أراد اللّه أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على اصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فخرج عليهم ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثني عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال، ثم قال: أيكم يُلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثم سناً، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال: أنا، فقال: هو أنت ذاك، فأُلقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان اللّه فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية وقالت فرقة: كان فينا ابن اللّه ما شاء ثم رفعه اللّه إليه، وهؤلاء النسطورية وقالت فرقة: كان فينا عبد اللّه ورسوله ما شاء اللّه ثم رفعه اللّه إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى يبعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وسلم "قال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد صحيح إلى ابن عباس"
وروى ابن جرير عن ابن إسحاق، قال: كان أسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلاً منهم يقال له داود ، فلما أجمعوا لذلك منه لم يفظع عبد من عباد اللّه بالموت - فيما ذكر لي - فظعه، ولم يجزع منه جزعه ولم يدع في صرفه عنه دعاءه، حتى إنه ليقول فيما يزعمون: اللهم إن كنت صارفاً هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني، وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دماً، فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه وهم ثلاثة عشر بعيسى عليه السلام، فلما ايقن أنهم داخلون عليه، قال لأصحابه من الحواريين - وكانوا اثني عشر رجلاً سوى عيسى عليه السلام جحدته النصارى، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من الخبر.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل كان نصرانياً فأسلم، أن عيسى حين جاءه من اللّه إني رافعك إليّ، قال: يا معشر الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني؟ فقال سرجس : أنا يا روح اللّه، قال: فاجلس في مجلسي فجلس فيه، ورفع عيسى عليه السلام، فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم به، وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم فأحصوا عدتهم، فلما دخلوا عليهم ليأخذوه وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون وفقدوا رجلاً من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى جعلوا ل ليودس ركريا يوطا ثلاثين درهماً على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه، فقال لهم: إذا دخلتم عليه فإني سأقبله، وهو الذي أقبِّل فخذوه، فلما دخلوا وقد رفع عيسى ورأى سرجس في صورة عيسى فلم يشك أنه هو، فأكب عليه فقبله، فأخذوه فصلبوه، ثم أن ليودس ركريا يوطا ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه وهو ملعون في النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه، وبعض النصارى يزعم أنه ليودس ركريا يوطا وهو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو يقول: إني لست بصاحبكم، أنا الذي دللتكم عليه واللّه أعلم أي ذلك كان. وقال ابن جرير عن مجاهد: صلبوا رجلاً شبه بعيسى ورفع اللّه عزَّ وجلَّ عيسى إلى السماء حياً، واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه.
وقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً} قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم معنى ذلك: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} يعني قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام. عن ابن عباس {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} قال: قبل موت عيسى بن مريم عليه السلام، وقال أبو مالك في قوله: {إلا ليؤمنن به قبل موته} قال: ذلك عند نزول عيسى وقبل موت عيسى بن مريم عليه السلام لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به وقال: الحسن: قبل موت عيسى والله إنه لحي الآن عند اللّه ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. قال ابن جرير وقال آخرون يعني بذلك {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به} بعيسى قبل موت صاحب الكتاب لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه. قال ابن عباس في الآية: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى وعن مجاهد: كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته؛ قبل موت صاحب الكتاب.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} قال: هي في قراءة أبيّ قبل موتهم ليس يهودي يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى، قيل لابن عباس: أرأيت إن خر من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهويّ قيل: أرأيت إن ضربت عنق أحدهم قال: يلجلج بها لسانه، فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس، وكذا صح عن مجاهد وعكرمة وابن سيرين وبه يقول الضحاك وقال السدي وحكاه عن ابن عباس، ونقل قراءة أبيّ بن كعب قبل موتهم. قال ابن جرير، وقال آخرون معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم قبل موت الكتاب. قال عكرمة: لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم .
ثم قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام. ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الآية في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأختبر اللّه أنه لم يكن الأمر كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنودرها إن شاء اللّه قريباً فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} أي قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب. {ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً} أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض، فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره، ينجلي له ما كان جاهلاً به فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيماناً نافعاً له إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في أول هذه السورة: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} الآية، وقال تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا باللّه وحده وكفرنا بما كنا به مشركين* فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا} الآية.
ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان
يتبع...
تابع 155 { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق ........ }
قال البخاري رحمه اللّه في كتاب ذكر الأنبياء عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة خيراً له من الدنيا وما فيها)، ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً} "أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري"وقال أحمد عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ينزل عيسى بن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما) قال وتلا أبو هريرة: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} الآية، فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى، فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة.
طريق أخرى : قال البخاري عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم وإمامكم منكم) "أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد"
طريق أخرى: قال الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن نبي بيني وبينه وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصَّران مصبوغان بالمِصْر وهو تراب أحمر كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويدعوا الناس إلى الإسلام، ويهلك اللّه في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك اللّه في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون) وقد روى البخاري عن أبي هريرة، قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (انا أولى الناس بعيسى بن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي) وفي رواية: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد)
حديث آخر : وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا واللّه لا نخلي بينكم وبين أخواننا، فيقاتلوهم فيهزم ثلث لا يتوب اللّه عليهم أبداً يقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند اللّه، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفَكم خلفكم في أهليكم: أي طرق أهلهم وهم غائبون عنهم في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف، إذا أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فيؤمهم، فإذا رآه عدو اللّه ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله اللّه بيده فيريهم دمه في حربته)
حديث آخر : روى ابن ماجة في سننه عن أبي أمامة الباهلي قال: خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه فكان من قوله أن قال: (لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ اللّه ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال وإن اللّه لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه، وإن اللّه خليفتي على كل مسلم، وإنه يخرج من خَلَّة بين الشام والعراق، فيعيث يميناً ويعيث شمالاً، ألا يا عباد اللّه: أيها الناس فاثبتوا وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي: إنه يبدأ فيقول: أنا نبي فلا نبي بعدي، ثم يثني فيقول: أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا. وإنه أعور وإن ربكم عزَّ وجل ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً فناره جنة وجنته نار فمن ابتلي بناره فليستغث باللّه، وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً كما كانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرايت إن بعثت لك أمك وأباك أتشهد أني ربك؟ فيقول نعم، فيتمثل له شيطان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بَنُيَّ اتبعه فإنه ربك، وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فينشرها بالمنشار حتى تلقى شقتين، ثم يقول انظر إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له رباً غيري، فيبعثه اللّه فيقول له الخبيث من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، وأنت عدو اللّه الدجال، واللّه ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم)
وإن من فتنته: أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك اسمن ما كانت وأعظمه، وأمده خواصر وأدره ضروعاً، وأنه لا يبقى شئ من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة و المدينة فإنه لا يأتيهم من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتةً حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فينفى الخبث منها كما ينفى الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول اللّه فأين العرب يومئذ؟ قال: (هم قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليه عيسى بن مريم عليه السلام، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول: تقدم فصل فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب فيفتح ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وتاج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً، فيقول عيسى إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها فيدركه عند باب لُدّ الشرقي فيقتله، ويهزم اللّه اليهود فلا يبقى شيء مما خلق اللّه تعالى يتوارى به يهودي إلا أنطق اللّه ذلك الشيء - لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة، إلا الفرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق - إلا قال يا عبد اللّه المسلم: هذا يهودي فتعال اقتله.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (وإن ايامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي)، فقيل له: كيف نصلي يا نبي اللّه في تلك الأيام القصار؟ قال: (تقدرون الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال ثم صلوا)، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترتفع الشحناء والتباغض، وتنزح حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتفر الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الأناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا اللّه، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض لها نور الفضة، وتنبت نباتها كعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال ويكون الفرس بالدريهمات قيل يا رسول اللّه ومايرخص الفرس؟ قال: (لا تركب لحرب أبداً)، قيل له فما يغلي الثور؟ قال: (يحرث الأرض كلها، وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد، ويأمر اللّه السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثم يأمر اللّه السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر اللّه عزَّ وجلّ السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء، فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله( قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: (التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام)
"أخرجه ابن ماجة، قال الحافظ ابن كثير: غريب جداً من هذا الوجه ولبعضه شواهد من أحاديث أُخر"
حديث آخر : وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد اللّه هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله - إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود) "رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً".
حديث آخر : وقال مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا، فقال: (ما شأنكم)؟ قلنا: يا رسول اللّه ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، قال: (غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، واللّه خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط، عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج من خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد اللّه فاثبتوا( قلنا: يا رسول اللّه فما لبثه في الأرض؟ قال: (أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم) قلنا يا رسول اللّه وذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قا: (لا، اقدروا له قدره)، قلنا يا رسول اللّه وما إسراعه في الأرض؟ قال: (كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى أسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليهم قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل يعاسيب النحل: ذكروها ، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل وتهلل وجهه ويضحك. فبينما هو كذلك إذ بعث اللّه المسيح بن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذار رفعه تحَّر منه كجمان اللؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد، فيقتله، ثم يأتي عيسى عليه السلام قوماً قد عصمهم اللّه منه فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذا أوحى اللّه عزَّ وجلَّ إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور.
ويبعث اللّه يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أولهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذا مرة ماء، ويحضر نبي اللّه عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه فيرسل اللّه عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرْسى أي: قتلى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي اللّه عيسى واصحابه إلى الارض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم رائحتهم النتنة المتغيرة ونتنهم فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل اللّه طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء اللّه، ثم يرسل اللّه مطراً لا يُكُنُّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلفة الزلفة بالتحريك: المرآة .
ثم يقال للأرض أخرجي ثمرك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك اللّه في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام الرسل بالتحريك: القطيع الجمع أرسال، واللقحة - بالكسر وبالفتح لغة - هي ذات اللبن، والفئام الجماعة من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فيقبض اللّه روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة)
"أخرجه مسلم ورواه أحمد وأهل السنن"
يتبع...
{ تابع 155 فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق .........}
حديث آخر: قال مسلم في صحيحه عن يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول، سمعت عبد اللّه ابن عمرو - وجاءه رجل - فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا، فقال: سبحان اللّه أو لا إله إلا اللّه أو كلمة نحوهما، لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً: يحرق البيت ويكون ويكون، ثم قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يخرج الدجال في أُمتي فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً، فيبعث اللّه تعالى عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل اللّه ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير - أو إيمان - إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه)
قال: سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (بيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: لا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم، حسُ عيشهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، قال: وأول من سمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناسن ثم يرسل اللّه - أو قال ينزل اللّه - مطراً كأنه الطل - أو قال الظل - نعمان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: أيها الناس هلموا إلى ربكم {وقفوهم إنهم مسؤولون}، ثم يقال: أخرجوا بعث الناس، فيقال من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال فذلك {يوماً يجعل الولدان شيبا} وذلك {يوم يكشف عن ساق}
"أخرجه مسلم والنسائي"
حديث آخر قال الإمام أحمد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن عبد اللّه بن عبيد اللّه ابن ثعلبة الأنصاري، عن عبد اللّه بن زيد الأنصاري، عن مجمع بن جارية، قال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لد - أو إلى جانب لد - ) ورواه أحمد أيضاً عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي، ثلاثتهم عن الزهري عن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن ثعلبة، عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مجمع بن جارية، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (يقتل ابن مريم الدجال بباب لد) وكذا رواه الترمذي عن قتيبة عن الليث به، وقال: هذا حديث صحيح. قال: وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عيينة وأبي برزة وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة، وكيسان، وعثمان بن أبي العاص، وجابر وأبي أمامة، وابن مسعود، وعبد اللّه بن عمرو، وسمرة بن جندب والنواس بن سمعان، وعمرو بن عوف، وحذيفة بن اليمان رضي اللّه عنهم. ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال، وقتل عيسى بن مريم عليه السلام له.
حديث آخر : وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق - أو تحشر - الناس، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا) "رواه أحمد ومسلم واصحاب السنن"وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى بن مريم من تاريخه عن بعض السلف: أنه يدفن مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في حجرته، فاللّه أعلم.
وقوله تعالى: {ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً} قال قتادة: يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من اللّه، وأقر بعبودية اللّه عزَّ وجلَّ، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة: {وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس - إلى قوله - العزيز الحكيم}.
الآية رقم (160 : 162)
{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا . وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما . لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما }
يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم، كما قال ابن أبي حاتم عن عمرو، قال قرأ ابن عباس: طيبات كانت أحلت لهم وهذا التحريم قد يكون قدرياً بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالاً لهم، فحرموها على أنفسهم تشديداً منهم على أنفسهم وتضييقاً وتنطعاً، ويحتمل أن يكون شرعياً بمعنى أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالاً لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد أن الجميع من الاطعمة كانت حلالاً لهم، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها. ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} أي إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم، ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه، ولهذا قال: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل اللّه كثيرا}، أي صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقاً من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمداً صلوات اللّه وسلامه عليهما.
وقوله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه}، {أي أن اللّه قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه، وأكلوا أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً} ثم قال تعالى: {لكن الراسخون في العلم منهم} أي الثابتون في الدين، لهم قدم راسخة في العلم النافع، {والمؤمنون} عطف على الرسخين، وخبره {يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} قال ابن عباس: أنزلت في عبد اللّه بن سلام وثعلبة بن سعيه في نسخة الأميرية: تحريف في هذه الأسماء واعتمد في تصحيحها على ما في الإصابة وغيرها، وسعيه بفتح السين المهملة وسكون الياء التحتانية وأسد بن سعيه وأسد بن عبيد الذين دخلوا في الإسلام صدقوا بما أرسل اللّه به محمداً صلى اللّه عليه وسلم .
وقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} هكذا، هو في جميع مصاحف الأئمة وكذا هو في مصحف أبي بن كعب ، وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود {والمقيمون الصلاة}، قال: والصحيح قراءة الجميع، رد على من زعم أن ذلك من غلط الكتاب، ثم ذكر اختلاف الناس، فقال بعضهم: هو منصوب على المدح، كما جاء في قوله: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس}، قال وهذا سائغ في كلام العرب كما قال الشاعر:
لا يبعدن قومي الذن همو * أسد العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك * والطيبون معاقد الأزر
وقال آخرون: هو مخفوض عطفاً على قوله: {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} يعني وبالمقيمين الصلاة، وكأنه يقول: وبإقامة الصلاة التي يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم. وقوله: {والمؤتون الزكاة} يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال، ويحتمل زكاة النفوس، ويحتمل الأمرين واللّه أعلم، {والمؤمنون بالله واليوم الآخر} أي يصدقون بأنه لا إله إلا اللّه ويؤمنون بالبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها، وقوله: {أولئك} هو الخبر عما تقدم، {سنؤتيهم أجراً عظيماً} يعني الجنة.
الآية رقم (163 : 165)
{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا . ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما . رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما }
قال ابن عباس، قال سكن وعدي بن زيد: يا محمد ما نعلم أن اللّه أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل اللّه في ذلك من قولهما: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} إلى آخر الآيات. ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه وما هم عليه الآن من الكذب والإفتراء، ثم ذكر تعالى أنه أوحي إلى عبده ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم كما أوحى إلي غيره من الأنبياء المتقدمين، فقال: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده}، إلى قوله: {وآتينا داود زبوراً} والزبور اسم الكتاب الذي أوحاه اللّه إلى داود عليه السلام، وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم من اللّه أفضل الصلاة والسلام عند قصصهم من سورة الأنبياء إن شاء اللّه وبه الثقة وعليه التكلان.
وقوله تعالى: {ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك}، أي من قبل هذه الآية، يعني في السور المكية وغيرها وهذه تسمية الأنبياء الذين نص اللّه على أسمائهم في القرآن وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهرون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل، عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلى اللّه عليه وسلم وقوله: {ورسلاً لمن نقصصهم عليك} أي خلقاً آخرين لم يذكروا في القرآن، وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث ابي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه اللّه في تفسيره عن أبي ذر قال، قلت: يا رسول اللّه كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً)، قلت: يا رسول اللّه كم الرسل منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير)، قلت: يا رسول اللّه من كان أولهم؟ قال: (آدم)، قلت: يا رسول اللّه نبي مرسل؟ قال: (نعم خلقه اللّه بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم سواه قبيلاً) وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن صحابي آخر، فقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة، قال، قلت: يا نبي اللّه كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر، جماً غفيراً)
وقوله تعالى: {وكلم اللّه موسى تكليماً}، وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة، ولهذا يقال له الكليم، وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: جاء رجل إلى ابي بكر بن عياش، فقال: سمعت رجلاً يقرأ {وكلم اللّهَ موسى قرأ هذا الرجل لفظ الجلالة بالنصب وموسى بالرفع تكليما}، فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر. قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : {وكلم اللّهُ موسى تكليماً}، وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه اللّه على من قرأ كذلك، لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون اللّه كلم موسى عليه السلام أو يكلم أحداً من خلقه كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ {وكلم اللّه موسى تكليما}، فقال له: يا ابن اللخناء! كيف تصنع بقوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه}؟ يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل. وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (كان على موسى يوم كلمه ربه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف؛ ونعلان من جلد حمار غير ذكي)
وقوله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين} أي يبشرون من أطاع اللّه، واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب، وقوله: {لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل وكان اللّه عزيزاً حكيماً}، أي أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه، لئلا يبقى لمعتذر عذر، كما قال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى}، وكذا قوله: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم} الآية، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لا أحد أغير من اللّه، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من اللّه عزَّ وجلَّ، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من اللّه، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين)، وفي لفظ آخر: (من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه)
الآية رقم (166 : 170)
{ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا . إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا . إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا . إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا . يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما }
لما تضمن قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك} إلى آخر السياق إثبات نبوته صلى اللّه عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب قال اللّه تعالى: {لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك} أي وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك، فاللّه يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم الذي: {لا يأتيه الباطل من بيه يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}، ولهذا قال: {أنزله بعلمه}، أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه اللّه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه اللّه به، كما قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} وقال: {ولا يحيطون به علماً}.
وقال ابن أبي حاتم عن عطاء بن السائب قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم اللّه، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ قوله: {أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى باللّه شهيداً} قوله: {والملائكة يشهدون} أي بصدق ما جاءك وأوحى إليك وأنزل عليك مع شهادة اللّه تعالى بذلك، {وكفى باللّه شهيداً} قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة من اليهود، فقال لهم: (إني لأعلم واللّه إنكم لتعلمون أني رسول اللّه)، فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ: {لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه} الآية.
وقوله تعالى: {إن الذين كفورا وصدوا عن سبيل اللّه قد ضلوا ضلالاً بعيداً} أي كفروا في أنفسهم فلم يتبعوا الحق، وسعوا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به، قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه وبعدوا منه بعداً عظيماً شاسعاً، ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله، وارتكاب مآثمه، وانتهاك محارمه بأنه لا يغفر لهم {ولا يهديهم طريقاً} أي سبيلاً إلى الخير {إلا طريق جهنم}، وهذا استثناء منقطع {خالدين فيها أبداً} الآية.
ثم قال تعالى {يا ايها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم}، أي قد جاءكم محمد صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من اللّه عزَّ وجلَّ، فآمنوا بما جاءكم به وابتعوه يكن خيراً لكم، ثم قال: {وإن تكفروا فإن للّه ما في السموات والأرض} أي فهو غني عنكم وعن إيمانكم، ولا يتضرر بكفرانكم كما قال تعالى: {وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد}، وقال ههنا: {وكان اللّه عليماً} أي بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبم يستحق الغواية فيغويه {حكيماً} أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
الآية رقم (171)
{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا }
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه اللّه إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون اللّه يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أبتاعه واشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوا سواء كان حقاً أو باطلاً، أو ضلالاً أو رشاداً، أو صحيحاً أو كذباً، ولهذا قال اللّه تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه} الآية، وقال الإمام أحمد عن ابن عباس عن عمر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد اللّه ورسوله) وهكذا رواه البخاري عن الزهري به ولفظه: (فإنما أنا عبد فقولوا عبد اللّه ورسوله)، وقال الإمام أحمد عن أنس بن مالك: أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يا أيها الناس عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان: أنا محمد بن عبد اللّه، عبد اللّه ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللّه عزَّ وجلَّ) تفرد به من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {ولا تقولوا على اللّه إلا الحق} أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولداً، تعالى اللّه عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كبيراً، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته، فلا إله إلا هو ولا رب سواه، ولهذا قال: {إنما المسيح ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} أي إنما هو عبد من عباد اللّه وخلق من خلقه، قال له كن فكان، ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عزَّ وجلَّ، فكان عيسى بإذنه عزَّ وجلَّ، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت - حتى ولجت فرجها - بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق للّه عزَّ وجلَّ، ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة اللّه وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له بها كن فكان، والروح التي أرسل بها جبريل.
قال اللّه تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام}، وقال تعالى: {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}، وقال تعالى: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها} إلى آخر السورة. وقال تعالى إخباراً عن المسيح: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه} الآية، وقال قتادة: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} هو كقوله:{كن فيكون}. وقال ابن ابي حاتم، حدثنا أحمد بن سنان الوسطي قال: سمعت شاذ بن يحيى يقول في قول اللّه: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} قال: ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى، وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله. {ألقاها إلى مريم} أي أعلمها بها كما زعمه في قوله: {إذا قالت الملائكة يا مريم إن اللّه يبشرك بكلمة منه} أي يعلمك بكلمة منه، ويجعل ذلك كقوله تعالى: {وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك}، بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها بإذن اللّه فكان عيسى عليه السلام، وقال البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد اللّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وإن الجنة حق والنار حق، أدخله اللّه الجنة على ما كان من العمل) وقوله في الآية والحديث: (وروح منه)، كقوله: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} أي من خلقه ومن عنده وليست من للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن اللّه المتتابعة بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى، وقد قال مجاهد في قوله: {وروح منه} أي ورسول منه، وقال غيره: ومحبة منه، والأظهر الأول، وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة، واضيفت الروح إلى اللّه على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى اللّه في قوله: {هذه ناقة اللّه}، وفي قوله: {وطهر بيتي للطائفين}، وكما روي في الحديث الصحيح: (فأدخل على ربي في داره)، أضافها إليه إضافة تشريف وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد.
وقوله تعالى: {فآمنوا باللّه ورسله} أي فصدقوا بأن اللّه واحد أحد لا ولد له ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد اللّه ورسوله، ولهذا قال تعالى: {ولا تقولوا ثلاثة} أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع اللّه شريكين، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، وهذه الآية والتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد} وكما قال في آخر السورة المذكورة: {وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني} الآية. وقال في أولها: {لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم} الآية، والنصارى عليهم لعائن اللّه من جهلهم ليس لهم ضابط، ولا لكفرهم حد، بل أقوالهم وضلالهم منتشر، فمنهم من يعتقده إلهاً، ومنهم من يعتقده شريكاً، ومنهم من يعتقده ولداً، وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة، وأقوال غير مؤتلفة، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً.
ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو بترك الإسكندرية في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم - وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة - وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة، وأنه اختلفوا عليه اختلافاً لا ينضبط ولا ينحصر، فكانوا أزيد من ألفين أسقفاً، فكانوا أحزاباً كثيرة كل خمسين منهم على مقالة، وعشرون على مقالة، ومائة على مقالة، وسبعون على مقالة وأزيد من ذلك وأنقص، فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر وقد توافقوا على مقالة، فأخذها الملك ونصرها وأيدها، وكان فيلسوفاً داهية، ومحق ما عداها من الأقوال وانتظم دست أولئك الثلثمائة والثمانية عشر وبنيت لهم الكنائس، ووضعوا لهم كتباً وقوانين وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم عليها، وأتباع هؤلاء هم الملكانية ، ثم إنهم اجتمعوا مجمعاً ثانياً فحدث فيهم اليعقوبية ، ثم مجمعاً ثالثاً فحدث فيهم النسطورية وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم، هل اتحدوا أو ما اتحدوا، أو امتزجا أو حل فيه؟ على ثلاث مقالات، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى، ونحن نكفر الثلاثة، ولهذا قال تعالى: {انتهوا خيراً لكم} أي يكن خيراً لكم، {إنما اللّه إله واحد سبحانه أن يكون له ولد} أي تعالى وتقدس عن ذلك علواً كبيراً {له ما في السموات وما في الأرض وكفى باللّه وكيلاً} أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شيء، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد كما قال في الآية الأخرى: {بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد} الآية، وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إداً} الآيات.
الآية رقم (172 : 173)
{ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا }
قال عطاء عن ابن عباس قوله: {لن يستنكف} لن يستكبر، وقال قتادة: لن يحتشم {المسيح أن يكون عبداً للّه ولا الملائكة المقربون} وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال: {ولا الملائكة المقربون} وليس له في ذلك دلالة، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح، لأن الاستنكاف هو الإمتناع، والملائكة أقدر على ذلك من المسيح، فلهذا قال: {ولا الملائكة المقربون}، ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الإمتناع أن يكونوا أفضل، وقيل: إنما ذكروا لأنهم اتخذوا آلهة مع اللّه كما اتخذ المسيح، فأخبر تعالى أنهم عبيد من عباده وخلق من خلقه، كما قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون} الآيات، ولهذا قال: {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشهرم إليه جميعاً} أي فيجمعهم إليه يوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل، الذي لا يجور فيه ولا يحيف، ولهذا قال: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله}، أي فيعطيهم من الثواب على قد أعمالهم الصالحة ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه.
وقد روى ابن مردويه عن عبد اللّه مرفوعاً قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : {فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله}، أجورهم، قال: (أدخلهم الجنة) {ويزيدهم من فضله} قال: (الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم)، وهذا إسناد لا يثبت، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً فهو جيد، {وأما الذين استنكفوا واستكبروا} أي امتنعوا عن طاعة اللّه وعبادته واستكبروا عن ذلك {فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون اللّه ولياً لا نصيراً} كقوله: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين، كما كانوا ممتنعين مستكبرين.
">الآية رقم (174 : 175)">
الآية رقم (
174 : 175)
{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا . فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما }
يقول تعالى مخاطباً جميع الناس ومخبراً بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم، وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبه، ولهذا قال: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} أي ضياء واضحاً على الحق، قال ابن جريج وغيره: وهو القرآن {فأما الذين آمنوا باللّه واعتصموا به} أي جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على اللّه في جميع أمورهم، وقال ابن جريج: آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} أي يرحمهم فيدخلهم الجنة، ويزيدهم ثواباً مضاعفة ورفعاً في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم، {ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} أي طريقاً واضحاً قصداً قواماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات العمليات وفي الآخرة على صراط اللّه المستقيم المفضي إلى روضات الجنات، وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (القرآن صراط اللّه المستقيم، وحبل اللّه المتين)، وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير، وللّه الحمد والمنة.
الآية رقم (176)
{ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم }
قال البخاري عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء، قال آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت يستفتونك وقال الإمام أحمد عن محمد بن المنكدر، قال سمعت جابر بن عبد اللّه قال: دخل عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، قال فتوضأ ثم صب عليّ - أو قال صبوا عليه - فعقلت فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فأنزل اللّه آية الفرائض. وفي بعض الألفاظ فنزلت آية الميراث {يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة} الآية "أخرجه الشيخان"وكأن معنى الكلام واللّه أعلم: يستفتونك عن الكلالة {قل اللّه يفتيكم} فيها، فدل المذكور على المتروك وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحدي بالرأس من جوانبه، ولهذا فسرها أكثر العلماء: بمن يموت وليس له ولد ولا والد. ومن الناس من يقول: الكلالة من لا ولد له كما دلت عليه هذه الآية: {إن امرؤ هلك ليس له ولد}، وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: ثلاث وددت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وباب من أبواب الربا يعني ما نزل آخر سورة البقرة من آيات الربا وقد نزلت بعد آية آل عمران {لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} فهل الربا فيهما واحد على القاعدة، أم هو في الأخيرة أعم؟ استشكل عمر رضي اللّه عنه والجمهور على الثاني واستشكاله في إرث الجد والكلالة أشهر وأظهر عن عمر قال سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكلالة فقال: (يكفيك آية الصيف) فقال: لأن أكون سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم "قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعاً"وكأن المراد بآية الصيف أنها نزلت في فصل الصيف والله أعلم، ولما أرشده النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى تفهمها فإن فيها كفاية، نسي أن يسال النبي صلى اللّه عليه وسلم عن معناها، ولهذا قال: فلأن أكون سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم.
وقال ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: سأل عمر بن الخطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الكلالة، فقال: (أليس قد بين اللّه ذلك) فنزلت: {يستفتونك} الآية. قال قتادة: وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته: ألا إن الآية التي نزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها اللّه في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والأخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه مما جرت الرحم من العصبة.
قوله تعالى: {إن امرؤ هلك} أي مات، قال اللّه تعالى: {كل شي هالك إلا وجهه} كل شي يفنى ولا يبقى إلا اللّه عز وجل، كما قال: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وقوله: {ليس له ولد} تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتقاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه، ولكن الذي يرجع إليه هو قول الجمهور، وقضاء الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد. ويدل على ذلك قوله: {وله أخت فلها نصف ما ترك} ولو كان معها أب لم ترث شيئاً لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص عند التأمر أيضاً، لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميراث بالكلية.
وقال الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم فأعطى الزوج النصف والأخت النصف، فكلم في ذلك، فقال: حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى بذلك. وقد روي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتاً وأختاً إنه لا شيء للأخت لقوله: {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} قال فإذا ترك بنتاً فقد ترك ولداً فلا شي للأخت، خالفهما الجمهور فقالوا في هذه المسألة للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية، وهذه الآية نصت أن يفرض لها في هذه الصورة، وأما وراثتها بالتعصيب، فلما رواه البخاري عن الأسود، قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النصف للبنت والنصف للأخت.
وفي صحيح البخاري أيضاً عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال: للإبنة النصف وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني، فسال ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى اللّه عليه وسلم النصف للبنت ولبنت الأبن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فأتيا فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
وقوله تعالى: {وهو يرثها إن لم يكن لها ولد} أي والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة وليس لها ولد أي ولا والد، لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئاً فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ لما ثت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) وقوله: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك}، أي فإن كان لمن يموت كلالة أختان فرض لهما الثلثان وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} وقوله: {وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين} هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والأخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين.
وقوله تعالى: {يبين اللّه لكم} أي يفرض لكم فرائضه، ويحد لكم حدوده، ويوضح لكم شرائعه. وقوله: {أن تضلوا} أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان، {واللّه بكل شيء عليم} أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده وما يستحقه كل واد من القرابات بحسب قربه من المتوفى. وقال ابن جرير عن سعيد ابن المسيب: أن عمر كتب في الجد والكلالة كتاباً فمكث يستخير اللّه يقول: اللهم إن علمت فيه خيراً فأمضه، حتى إذا طعن دعا بكتاب فمحى ولم يدر أحد ما كتب فيه، فقال: إني كتبت كتاباً في الجد والكلالة، وكنت أتسخير اللّه فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه. قال ابن جرير وقد روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: إني لاستحي أن أخالف فيه ابا بكر، وكان أبو بكر رضي اللّه عنه يقول: هو ما عدا الولد والوالد، وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين، وهو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدل عليه القرآن كما أرشد اللّه أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله {يبين اللّه لكم أن تضلوا واللّه بكل شيء عليم} واللّه أعلم.