الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأما التكبير في سجود السهو، ففي الصحيحين في حديث ابن بُحَينة: فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس، هذا في السجود قبل السلام، وأما بعده، فحديث ذي اليدين الذي في الصحيحين عن أبي هريرة قال: فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر وسجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر فرفع، والتكبير قول عامة أهل العلم، ولكن تنازعوا في التشهد والتسليم على ثلاثة أقوال: فروي عن أنس والحسن وعطاء: أنه ليس فيهما تشهد ولا تسليم، ومن قال هذا قاله تشبيها بسجـود التلاوة؛ لأنه سجـود مفـرد، فلم يكن فيـه تشهـد ولا تسليم، كسجـود التلاوة، فإنه لم ينقل أحد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وكذلك قال أحمد وغيره. وقال أحمد: أما التسليم فلا أدري ما هو، وجمهور السلف على أنه لا تسليم فيه، ومن أثبت التسليم فيه أثبته قياسًا، وهو قياس ضعيف؛ لأنه / جعله صلاة، وأضعف منه من أثبت فيه التشهد قياسًا. والقول الثاني: أن فيهما تشهد يتشهد ويسلم إذا سجدهما بعد السلام، وهذا مروي عن ابن عباس والنخعي والحكم وحماد والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي. والثالث: فيهما تسليم بغير تشهد، وهو قول ابن سيرين، قال ابن المنذر: التسليم فيهما ثابت من غير وجه، وفي ثبوت التشهد نظر، وعن عطاء إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل. قال أبو محمد: ويحتمل ألا يجب التشهد؛ لأن ظاهر الحديثين الأولىن أنه سلم من غير تشهد، وهي أصح من هذه الرواية؛ ولأنه سجود مفرد فلم يجب له تشهد، كسجود التلاوة. قلت: أما التسليم فيهما، فهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، حديث ابن مسعود، وحديث عمران. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود كما تقدم: قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:قال إبراهيم: زاد أو نقص، فلما سلم قيل له: يا رسول صلى الله عليه وسلم أحدث في الصلاة شيء؟ قال: (وما ذاك؟) قالوا: صليت كذا وكذا، قال: فثني رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه...الحديث. /وفي الصحيحين ـ أيضا ـ من حديث عمران بن حصين قال: فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم. وكذلك ذكر محمد بن سيرين لما روي حديث أبي هريرة. قال: وثبت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم، وابن سيرين ما كان يروي إلا عن ثقة، والفرق بين هاتين وبين سجود التلاوة: أن هاتين صلاة، وأنهما سجدتان وقد أقيمتا مقام ركعة، وجعلتا جابرتين لنقص الصلاة، فجعل لهما تحليل كما لهما تحريم. وهذه هي الصلاة. كما قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) وأما سجود التلاوة، فهو خضوع، وكان ابن عمر وغيره يسجدون على غير وضوء، وعن عثمان بن عفان في الحائض تسمع السجدة قال: تومئ برأسها، وكذلك قال سعيد بن المسيب، قال: ويقول: اللهم لك سجدت. وقال الشعبي: من سمع السجدة وهو على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه، وقد سجد رسول صلى الله عليه وسلم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، ففعله الكافر والمسلم، وسجد سحرة فرعون. وعلى هذا، فليس بداخل في مسمى الصلاة. ولكن سجدتا السجود يشبهان صلاة الجنازة، فإنها قيام مجرد، لكن هي صلاة فيها تحريم وتحليل؛ ولهذا كان الصحابة يتطهرون لها،/ ورخص ابن عباس في التيمم لها إذا خشي الفوات، وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين، وهي كسجدتي السهو يشترط لها استقبال الكعبة والاصطفاف، كما في الصلاة، والمؤتم فيه تبع للإمام، لا يكبر قبله، ولا يسلم قبله،كما في الصلاة، بخلاف سجود التلاوة فإنه عند كثير من أهل العلم يسجد وإن لم يسجد القارئ. والحديث الذي يروى: إنك إمامنا فلو سجدت لسجدنا، من مراسيل عطاء، وهو من أضعف المراسيل، قاله أحمد وغيره. ومن قال: إنه لا يسجد إلا إذا سجد، لم يجعله مؤتمًا به من كل وجه، فلا يشترط أن يكون المستمعون يسجدون جميعًا صفًا، كما يسجدون خلف الإمام للسهو، ولا يشترط أن يكون الإمام إمامه كما في الصلاة، وللمأموم أن يرفع قبل إمامه، فعلم أنه ليس بمؤتم به في صلاة، وإن قيل: إنه مؤتم به في غير صلاة، كائتمام المؤمن على الدعاء بالداعي، وائتمام المستمع بالقارئ.
وأما التشهد في سجدتي السهو، فاعتمد من أثبته على ما روي من حديث عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم،/ فسهي، فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن غريب. قلت: كونه غريبًا يقتضي أنه لا متابع لمن رواه، بل قد انفرد به. وهذا يوهي هذا الحديث في مثل هذا، فإن رسول صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه سجد بعد السلام غير مرة، كما في حديث ابن مسعود لما صلى خمسًا، وفي حديث أبي هريرة، وحديث ذي اليدين، وعمران بن حصين لما سلم، سواء كانت قضيتين أو قضية واحدة، وثبت عنه أنه قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين). وقال في حديث أبي هريرة الصحيح: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين)، وليس في شيء من أقواله أمر بالتشهد بعد السجود، ولا في الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول: أنه يتشهد بعد السجود، بل هذا التشهد بعد السجدتين عمل طويل بقدر السجدتين، أو أطول. ومثل هذا مما يحفظ ويضبط، وتتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان قد تشهد لذكر ذلك من ذكر أنه سجد، وكان الداعي إلى ذكر ذلك أقوي من الداعي إلى ذكر السلام. وذكر التكبير عند الخفض والرفع. فإن هذه أقوال خفيفة والتشهد عمل طويل، فكيف ينقلون هذا ولا ينقلون هذا. وهذ التشهد عند من يقول به كالتشهد الأخير، فإنه يتعقبه السلام / فتسن معه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء، كما إذا صلى ركعتي الفجر، أو ركعة الوتر وتشهد، ثم الذي في الصحيح من حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد، فانفراد واحد بمثل هذه الزيادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها يضعف أمرها، ثم هذا المنفرد بها يجب أن ينظر لو انفرد بحديث، هل يثبت أنه شريعة للمسلمين؟ وأيضًا، فالتشهد إنما شرع في صلاة تامة ذات ركوع وسجود، لم يشرع في صلاة الجنازة، مع أنه يقرأ فيها بأم القرآن، وسجدتا السهو لا قراءة فيهما. فإذا لم يشرع في صلاة فيها قراءة، وليست بركوع وسجود، فكذلك في صلاة ليس فيها قيام ولا قراءة ولا ركوع. وقد يقال: إنه أولى أو أنفع، فليس هو مشروعًا عقب سجدتي الصُّلب، بل إنما يتشهد بعد ركعتين، لا بعد كل سجدتين، فإذا لم يتشهد عقب سجدتي الصلب، وقد حصل بهما ركعة تامة، فألا يتشهد عقب سجدتي السهو أولى. وذلك أن عامة سجدتي السهو أن يقوما مقام ركعة. كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإن كان قد صلى خمسا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى لتمام كانتا ترغيمًا للشيطان)، فجعلهما كركعة لا كركعتين. وهي ركعة متصلة بغيرها. ليست كركعة الوتر المستقلة بنفسها، ولهذا وجبت فيها الموالاة أن يسجدهما عقب السلام،/ لا يتعمد تأخيرهما، فهو كما لو سجدهما قبل السلام، وقبل السلام لا يعيد التشهد بعدها، فكذلك لا يعيد بعد السلام. ولأن المقصود أن يختم صلاته بالسجود لا بالتشهد، بدليل أن السجود قبل السلام لم يشرع قبل التشهد، بل إنما شرع بعد التشهد فعلم أنه جعل خاتمًا للصلاة، ليس بعده إلا الخروج منها. ولأن إعادة التشهد والدعاء يقتضي تكرير ذلك مع قرب الفصل بينهما، فلم يكن ذلك مشروعًا، كإعادته إذا سجد قبل السلام ولأنه لو كان بعدهما تشهد لم يكن المشروع سجدتين. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بسجدتين فقط لا بزيادة على ذلك، وسماهما المرغمتين للشيطان، فزيادة التشهد بعد السجود كزيادة القراءة قبل السجود، وزيادة تكبيرة الإحرام. ومعلوم أنه لا افتتاح لهما، بل يكبر للخفض، لا يكبر وهو قاعد، فعلم أنهما داخلتان في تحريم الصلاة، فيكونان جزءًا من الصلاة، كما لو سجدهما قبل السلام فلا يختصان بتشهد، ولكن يسلم منهما؛ لأن السلام الأول سقط، فلم يكن سلامًا منهما، فإن السلام إنما يكون عند الخروج. وقد نفي بعض الصحابة والتابعين السلام منهما، كما أنه لا تحريم لهما، لكن الصواب الفرق، كما وردت به السنة الصحيحة، والله أعلم.
/ فأجاب: أما الإمام الذي فاته التشهد الأول حتى قام، فسبح به فلم يرجع وسجد للسهو قبل السلام، فقد أحسن فيما فعل، هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال، كان ينبغي له أن يقعد أخطأ، بل الذي فعله هو الأحسن. ومن قال: لو رجع بطلت صلاته، فهذا فيه قولان للعلماء: أحدهما: لو رجع بطلت صلاته، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في رواية. والثاني: إذا رجع قبل القراءة، لم تبطل صلاته، وهي الرواية المشهورة عن أحمد، والله أعلم.
/ فأجاب: إن قاموا معه جاهلين، لم تبطل صلاتهم، لكن مع العلم لا ينبغي لهم أن يتابعوه، بل ينتظرونه حتى يسلم بهم، أو يسلموا قبله، والانتظار أحسن. والله أعلم.
فأجاب: أما العلم الذي يجب على الإنسان عينا كعلم ما أمر الله به، وما نهى الله عنه، فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن، فإن طلب العلم الأول واجب، وطلب الثاني مستحب، والواجب مقدم على المستحب. وأما طلب حفظ القرآن، فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علمًا: وهو إما باطل، أو قليل النفع. وهو ـ أيضًا ـ مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم، من الكلام، أو الجدال، / والخلاف، أو الفروع النادرة، أو التقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت، ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله، فلابد في مثل هذه المسألة من التفصيل. والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه، لم يكن من أهل العلم، والدين، والله ـ سبحانه ـ أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. وكلام الله لا يقاس به كلام الخلق، فإن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. وأما الأفضل في حق الشخص، فهو بحسب حاجته، ومنفعته، فإن كان يحفظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره، فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها، وكذلك إن كان حفظ من القرآن ما يكفيه، وهو محتاج إلى علم آخر. /وكذلك إن كان قد حفظ القرآن، أو بعضه، وهو لا يفهم معانيه، فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه. وأما من تعبد بتلاوة الفقه، فتعبده بتلاوة القرآن أفضل، وتدبره لمعاني القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج لتدبره، والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله، جواب هذه المسألة ونحوها مبني على أصلين: فالأصل الأول أن جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الأذكار، كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر). /وفي الترمذي عن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، وكما في الحديث الذي في السنن في الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في صلاتي. قال: (قل: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)؛ ولهذا كانت القراءة في الصلاة واجبة، فإن الأئمة لا تعدل عنها إلى الذكر إلا عند العجز. والبدل دون المبدل منه. وأيضًا، فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى، دون الذكر والدعاء، وما لم يشرع إلا على الحال الأكمل فهو أفضل، كما أن الصلاة لما اشترط لها الطهارتان، كانت أفضل من مجرد القراءة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة). ولهذا نص العلماء على أن أفضل تطوع البدن الصلاة. وأيضًا، فما يكتب فيه القرآن لا يمسه إلا طاهر. وقد حكي إجماع العلماء على أن القراءة أفضل، لكن طائفة من الشيوخ رجحوا الذكر. ومنهم من زعم أنه أرجح في حق المنتهي المجتهد، كما ذكر ذلك أبو حامد في كتبه. ومنهم من قال: هو أرجح في حق المبتدئ السالك، وهذا أقرب إلى الصواب. /وتحقيق ذلك يذكر في الأصل الثاني، وهو: أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك وهو نوعان: أحدهما: ما هو مشروع لجميع الناس. والثاني: ما يختلف باختلاف أحوال الناس. أما الأول فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان، أو عمل يكون أفضل: مثل ما بعد الفجر والعصر، ونحوهما من أوقات النهى عن الصلاة؛ فإن القراءة والذكر والدعاء أفضل في هذا الزمان، وكذلك الأمكنة التي نهى عن الصلاة فيها: كالحمام وأعطان الإبل والمقبرة فالذكر والدعاء فيها أفضل، وكذلك الجنب: الذكر في حقه أفضل، والمحدث: القراءة والذكر في حقه أفضل، فإذا كره الأفضل في حال حصول مفسدة، كان المفضول هناك أفضل، بل هو المشروع. وكذلك حال الركوع والسجود، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم). وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك، على قولين، هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، وذلك تشريفا للقرآن وتعظيمًا له ألا يقرأ في / حال الخضوع والذل، كما كره أن يقرأ مع الجنازة، وكما كره أكثر العلماء قراءته في الحمام. وما بعد التشهد هو حال الدعاء المشروع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره. والدعاء فيه أفضل، بل هو المشروع، دون القراءة والذكر، وكذلك الطواف وبعرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار: المشروع هناك هو الذكر والدعاء. وقد تنازع العلماء في القراءة في الطواف هل تكره أم لا تكره؟ على قولين مشهورين. والنوع الثاني: أن يكون العبد عاجزًا عن العمل الأفضل، إما عاجزًا عن أصله، كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه كالأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أو عاجزًا عن فعله على وجه الكمال مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال. ومن هنا قال من قال: إن الذكر أفضل من القرآن، فإن الواحد من هؤلاء قد يخبر عن حاله. وأكثر السالكين بل العارفين منهم إنما يخبر أحدهم عما ذاقه ووجده، لا يذكر أمرًا عامًا للخلق؛ إذ المعرفة تقتضي أمورًا معينة جزئية، والعلم يتناول أمرًا عامًا كليا. فالواحد من هؤلاء يجد في الذكر من اجتماع قلبه، وقوة إيمانه، واندفاع الوسواس عنه، ومزيد السكينة، والنور، والهدي: ما لا يجده في قراءة القرآن، بل إذا قرأ القرآن لا يفهمه أو لا يحضر قلبه وفهمه، ويلعب عليه الوسواس / والفكر، كما أن من الناس من يجتمع قلبه في قراءة القرآن وفهمه وتدبره ما لا يجتمع في الصلاة، بل يكون في الصلاة بخلاف ذلك، وليس كل من كان أفضل يشرع لكل أحد بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له. فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام وبالعكس، وإن كان جنس الصدقة أفضل. ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء، وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد كل ضعيف) ونظائر هذا متعددة. إذا عرف هذان الأصلان، عرف بهما جواب هذه المسائل. إذا عرف هذا فيقال: الأذكار المشروعة في أوقات معينة ـ مثل ما يقال عند جواب المؤذن هو أفضل من القراءة في تلك الحال، وكذلك ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقال عند الصباح والمساء، وإتيان المضجع هو مقدم على غيره.وأما إذا قام من الليل فالقراءة له أفضل إن أطاقها وإلا فليعمل ما يطيق، والصلاة أفضل منهما؛ ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة فقال:
/ فأجاب: إن كان العابد يعبد بغير علم، فقد يكون شرًا من العالم الفاسق، وقد يكون العالم الفاسق شرًا من. وإن كان يعبد الله بعلم فيؤدي الواجبات، ويترك المحرمات، فهو خير من الفاسق، إلا أن يكون للعالم الفاسق حسنات تفضل على سيئاته، بحيث يفضل له منها أكثر من حسنات العابد. والله أعلم.
/ فأجاب: من كان يقرأ القرآن والناس يصلـون تطوعًا فليس له أن يجهر جهرًا يشغلهم به؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه / وهم يصلون من السحر فقال: (يا أيها الناس، كلكم يناجي ربه. فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة). والقراءة في الصلاة النافلة أفضل في الجملة، لكن قد تكون القراءة وسماعها أفضل لبعض الناس، والله أعلم.
فأجاب: بل الصلاة أفضل من القراءة في غير الصلاة، نص على ذلك أئمة العلماء. وقد قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). لكن من حصل له نشاط وتدبر، وفهم للقراءة دون الصلاة، فالأفضل في حقه ما كان أنفع له.
/فأجاب: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء من حيث الجملة، لكن قد يكون المفضول أفضل من الفاضل في بعض الأحوال، كما أن الصلاة أفضل من ذلك كله. ومع هذا، فالقراءة والذكر والدعاء ـ في أوقات النهي عن الصلاة كالأوقات الخمسة، ووقت الخطبة ـ هي أفضل من الصلاة، والتسبيح في الركوع والسجود أفضل من القراءة، والتشهد الأخير أفضل من الذكر. وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالمفضول أكثر بحسب حاله، إما لاجتماع قلبه عليه، وانشراح صدره له، ووجود قوته له، مثل من يجد ذلك في الذكر أحيانًا دون القراءة، فيكون العمل الذي أتي به على الوجه الكامل أفضل في حقه من العمل الذي يأتي به على الوجه الناقص، وإن كان جنس هذا. وقد يكون الرجل عاجزًا عن الأفضل فيكون ما يقدر عليه في حقه أفضل له. والله أعلم.
/ فأجاب: ليس لأحد أن يجهر بالقراءة لا في الصلاة، ولا في غير الصلاة، إذا كان غيره يصلي في المسجد، وهو يؤذيهم بجهره، بل قد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وهم يصلون في رمضان، ويجهرون بالقراءة. فقال: (يا أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة) وأجاب ـ أيضًا ـ رحمه الله تعالى ـ: ليس لأحد أن يجهر بالقراءة، بحيث يؤذي غيره كالمصلين.
/ فأجاب: الحمد لله، القيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئًا مأثورًا عن السلف، وقد سئل الإمام أحمد عن تقبيل المصحف. فقال: ما سمعت فيه شيئًا، ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهل: أنه كان يفتح المصحف، ويضع وجهه عليه، ويقول: كلام ربي. كلام ربي.. ولكن السلف ـ وإن لم يكن من عادتهم القيام له ـ فلم يكن من عادتهم قيام بعضهم لبعض، اللهم إلا لمثل القادم من مغيبه ونحو ذلك. ولهذا قال أنس: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهته لذلك. والأفضل للناس أن يتبعوا طريق السلف في كل شيء فلا / يقومون إلا حيث كانوا يقومون. فأما إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض. فقد يقال: لو تركوا القيام للمصحف ـ مع هذه العادة ـ لم يكونوا محسنين في ذلك، ولا محمودين، بل هم إلى الذم أقرب، حيث يقوم بعضهم لبعض، ولا يقومون للمصحف الذي هو أحق بالقيام، حيث يجب من احترامه وتعظيمه ما لا يجب لغيره. حتى ينهى أن يمس القرآن إلا طاهر، والناس يمس بعضهم بعضاً مع الحدث، لا سيما وفي ذلك من تعظيم حرمات اللّه وشعائره ما ليس في غير ذلك، وقد ذكر من ذكر من الفقهاء الكبار قيام الناس للمصحف ذكر مقرر له غير منكر له. وأما استفتاح الفأل في المصحف، فلم ينقل عن السلف فيه شيء، وقد تنازع فيه المتأخرون. وذكر القاضي أبو يعلى فيه نزاعا: ذكر عن ابن بطة أنه فعله، وذكر عن غيره أنه كرهه، فإن هذا ليس الفأل الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة. والفأل الذي يحبه هو أن يفعل أمراً أو يعزم عليه متوكلا على اللّه، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره: مثل أن يسمع يا نجيح، يا مفلح، يا سعيد، يا منصور، ونحو ذلك. كما لقي في سفر الهجرة / رجلا فقال: (ما اسمك؟) قال: بريدة. قال:(يا أبا بكر، برد أمرنا) وأما الطيرة بأن يكون قد فعل أمرًا متوكلاً على الله، أو يعزم عليه، فيسمع كلمة مكروهة: مثل ما يتم، أو ما يفلح، ونحو ذلك. فيتطير ويترك الأمر، فهذا منهي عنه. كما في الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله، منا قوم يتطيرون، قال: (ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم). فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصد الطيرة العبد عما أراد، فهو في كل واحد من محبته للفأل وكراهته للطيرة، إنما يسلك مسلك الاستخارة لله، والتوكل عليه، والعمل بما شرع له من الأس باب، لم يجعل الفأل آمرًا له، وباعثًا له على الفعل، ولا الطيرة ناهية له عن الفعل، وإنما يأتمر وينتهي عن مثل ذلك أهل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام، وقد حرم الله الاستقسام بالأزلام في آيتين من كتابه، وكانوا إذا أرادوا أمرًا من الأمور أحالوا به قداحًا مثل السهام أو الحصي، أو غير ذلك، وقد عَلَّمُوا على هذا علامة الخير، وعلى هذا علامة الشر، وآخر غفل. فإذا خرج هذا فعلوا، وإذا خرج هذا تركوا، وإذا خرج الغفل أعادوا الاستقسام. فهذه الأنواع التي تدخل في ذلك ـ مثل الضرب بالحصي والشعير واللوح والخشب، والورق المكتوب عليه حروف أبجد، أو أبيات من / الشعر، أو نحو ذلك مما يطلب به الخيرة فيما يفعله الرجل ويتركه ـ ينهى عنها؛ لأنها من باب الاستقسام بالأزلام، وإنما يسن له استخارة الخالق، واستشارة المخلوق، والاستدلال بالأدلة الشرعية التي تبين ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه وينهى عنه. وهذه الأمور تارة يقصد بها الاستدلال على ما يفعله العبد: هل هو خير أم شر، وتارة الاستدلال على ما يكون فيه نفع في الماضي والمستقبل. وكلاً غير مشروع، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
/وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رحمه الله: تنازع الناس، أيما أفضل: كثرة الركوع والسجود أو طول القيام. وقد ذكر عن أحمد في ذلك ثلاث روايات: إحداهن: أن كثرة الركوع والسجود أفضل، وهي التي اختارها طائفة من أصحابه. والثانية: أنهما سواء. والثالثة: أن طول القيام أفضل، وهذا يحكي عن الشافعي. فنقول: هذه المسألة لها صورتان: إحداهما: أن يطيل القيام، مع تخفيف الركوع والسجود، فيقال:/ أيما أفضل، هذا أم تكثير الركوع والسجود مع تخفيف القيام؟ ويكون هذا قد عدل بين القيام، وبين الركوع والسجود، فخفف الجميع. والصورة الثانية: أن يطيل القيام،فيطيل معه الركوع والسجود فيقال: أيما أفضل، هذا أم أن يكثر من الركوع والسجود والقيام. وهذا قد عدل بين القيام والركوع والسجود في النوعين، لكن أيما أفضل، تطويل الصلاة قيامًا وركوعًا وسجودًا، أم تكثير ذلك مع تخفيفها، فهذه الصورة ذكر أبو محمد وغيره فيها ثلاث روايات، وكلام غيره يقتضي أن النزاع في الصورة الأولى أيضًا. والصواب في ذلك: أن الصورة الأولى ـ تقليل الصلاة مع كثرة الركوع والسجود، وتخفيف القيام ـ أفضل من تطويل القيام وحده مع تخفيف الركوع والسجود. ومن فضل تطويل القيام احتجوا بالحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصلاة أفضل؟ فقال: (طول القنوت). وظنوا أن المراد بطول القنوت طول القيام، وإن كان مع تخفيف الركوع والسجود، وليس كذلك. فإن القنوت هو دوام العبادة والطاعة، ويقال لمن أطال السجود: إنه قانت. قال تعالى: /وفي الآية الأخري قال: أحدها: أن السجود بنفسه عبادة، لا يصلح أن يفعل إلا على وجه العبادة لله وحده، والقيام لا يكون عبادة إلا بالنية، فإن الإنسان يقوم في أمور دنياه، ولا ينهى عن ذلك. الثاني:أن الصلاة المفروضة لابد فيها من السجود، وكذلك كل صلاة فيها ركوع لابد فيها من سجود،لا يسقط السجود فيها بحال من الأحوال،فهو عماد الصلاة،وأما القيام فيسقط في التطوع دائمًا،وفي الصلاة على الراحلة في السفر،وكذلك يسقط القيام في الفرض عن المريض،وكذلك عن المأموم إذا صلى إمامه جالسًا،كما / جاءت به الأحاديث الصحيحة. وسواء قيل: إنه عام للأمة، أو مخصوص بالرسول، فقد سقط القيام عن المأموم في بعض الأحوال، والسجود لا يسقط لا عن قائم ولا قاعد، والمريض إذا عجز من إيمائه أتي منه بقدر الممكن، وهو الإيماء برأسه، وهو سجود مثله، ولو عجز عن الإيماء برأسه، ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه يومئ بطرفه، فجعلوا إيماءه بطرفه هو ركوعه وسجوده، فلم يسقطوه. والثاني: أنه تسقط الصلاة في هذه الحال، ولا تصح على هذا الوجه، وهو قول أبي حنيفة، وهذا القول أصح في الدليل؛ لأن الإيماء بالعين ليس من أعمال الصلاة، ولا يتميز فيه الركوع عن السجود، ولا القيام عن القعود، بل هو من نوع العبث الذي لم يشرعه الله تعالى. وأما الإيماء بالرأس، فهو خفضه، وهذا بعض ما أمر به المصلي. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وهو لا يستطيع من السجود إلا / هذا الإيماء، وأما تحريك العين فليس من السجود في شيء. وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه لابد في الصلاة من السجود، وهذا يقول: الإيماء بطرفه هو سجود، وهذا يقول: ليس بسجود فلا يصلي. فلو كانت الصلاة تصح مع القدرة بلا سجود لأمكن أن يكبر ويقرأ ويتشهد ويسلم، فيأتي بالأقوال دون الأفعال، وما علمت أحدًا قال: إن الصلاة تصح بمجرد الأقوال، بل لابد من السجود. وأما القيام والقراءة، فيسقطان بالعجز باتفاق الأئمة، فَعُلِم أن السجود هو أعظم أركان الصلاة القولية والفعلية. الوجه الثالث: أن القيام إنما صار عبادة بالقراءة، أو بما فيه من ذكر ودعاء، كالقيام في الجنازة. فأما القيام المجرد، فلم يشرع قط عبادة ـ مع إمكان الذكر فيه ـ بخلاف السجود فإنه مشروع بنفسه عبادة، حتى خارج الصلاة، شرع سجود التلاوة، والشكر، وغير ذلك. وأما المأموم إذا لم يقرأ، فإنه يستمع قراءة إمامه، واستماعه عبادة، وإن لم يسمع فقد اختلف في وجوب القراءة عليه، والأفضل له أن يقرأ. والذين قالوا: لا قراءة عليه، أو لا تستحب له القراءة، قالوا: قراءة الإمام له قراءة، فإنه تابع للإمام. /فإن قيل: إذا عجز الأمي عن القراءة والذكر، قيل: هذه الصورة نادرة، أو ممتنعة، فإن أحدًا لا يعجز عن ذكر الله، وعليه أن يأتي بالتكبير، وما يقدر عليه من تحميد وتهليل، وعلى القول بتكرار ذلك: هل يكون بقدر الفاتحة؟ فيه وجهان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله، ثم اركع) رواه أبو داود، والترمذي. قال أحمد: إنه إذا قام إلى الثانية وقد نسي بعض أركان الأولى، إن ذكر قبل الشروع في القراءة مضي،وصارت هذه بدل تلك. فإن المقصود بالقيام هو القراءة؛ ولهذا قالوا: ما كان عبادة بنفسه لم يحتج إلى ركن قولي كالركوع والسجود، وما لم يكن عبادة بنفسه احتاج إلى ركن قولي كالقيام والقعود. وإذا كان السجود عبادة بنفسه علم أنه أفضل من القيام. الوجه الرابع: أن يقال: القيام يمتاز بقراءة القرآن، فإنه قد نهى عن القراءة في الركوع والسجود، وقراءة القرآن أفضل من التسبيح، فمن هذا الوجه تميز القيام، وهو حجة من سوي بينهما، فقال: السجود بنفسه أفضل، وذكر القيام أفضل، فصار كل منهما أفضل من وجه، أو تعادلا. لكن يقال قراءة القرآن تسقط في مواضع. وتسقط عن المسبوق القراءة والقيام ـ أيضًا ـ كما في حديث أبي بكرة. وفي السنن:/ (من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة). وهذا قول جماهير العلماء، والنزاع فيه شاذ. أيضًا، فالأمي تصح صلاته بلا قراءة باتفاق العلماء، كما في السنن أن رجلاً قال: يا? رسول الله، إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزيني منه. فقال: (قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله). فقال: هذا لله، فما لي؟ قال: (تقول: اللهم اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واهدني). وأيضًا، فلو نسي القراءة في الصلاة، قد قيل: تجزيه الصلاة، وروي ذلك عن الشافعي. وقيل: إذا نسيها في الأولى، قرأ في الثانية قراءة الركعتين، وروي هذا عن أحمد. وأما السجود فلا يسقط بحال، فعلم أن السجود أفضل من القراءة، كما أنه أفضل من القيام، والمسبوق في الصلاة يبني على قراءة الإمام الذي استخلفه، كما قد بني النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة أبي بكر. الوجه الخامس: أنه قد ثبت في الصحيح: (إن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود). فتأكل القدم، وإن كان موضع القيام. /الوجه السادس: أن الله تعالى قال: فقد أمروا بالسجود في عرصات القيامة، دون غيره من أجزاء الصلاة، فعلم أنه أفضل من غيره. الوجه السابع: أنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن الرسول إذا طلب منه الناس الشفاعة يوم القيامة قال: (فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن)، فهو إذا رآه سجد وحمد، وحينئذ يقال له: (أي محمد، ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع). فعلم أنه أفضل من غيره. الوجه الثامن: أن الله تعالى قال: الوجه التاسع: ما رواه مسلم في صحيحه عن مَعْدان بن أبي طلحة قال: لقيت ثوبان ـ مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: أخبرني بعمل يدخلني الله به الجنة، أو قال: بأحب الأعمال إلى الله، فسكت.ثم سألته الثانية، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)، قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء، فسألته. فقال لي مثلما قال لي ثوبان. فإن كان سأله عن أحب الأعمال فهو صريح في أن السجود أحب إلى الله من غيره، وإن كان سأله عما يدخله الله به الجنة، فقد دله على السجود دون القيام، فدل على أنه أقرب إلى حصول المقصود. وهذا الحديث يحتج به من يري أن كثرة السجود أفضل من تطويله، لقوله: (فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)، ولا حجة فيه؛ لأن كل سجدة يستحق بها ذلك، لكن السجدة أنواع. فإذا كانت إحدي السجدتين أفضل من الأخري، كان ما يرفع به من الدرجة أعظم، وما يحط به عنه من الخطايا أعظم. كما أن السجدة التي يكون فيها أعظم خشوعًا وحضورًا، هي أفضل / من غيرها، فكذلك السجدة الطويلة التي قنت فيها لربه هي أفضل من القصيرة. الوجه العاشر: ما روي مسلم ـ أيضًا ـ عن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: (سل)، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: (أو غير ذلك؟) فقلت: هو ذاك، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود). فهذا قد سأل عن مرتبة علية، وإنما طلب منه كثرة السجود. وهذا أدل على أن كثرة السجود أفضل. لكن يقال: المكثر من السجود قد يكثر من سجود طويل، وقد يكثر من سجود قصير، وذاك أفضل. وأيضًا، فالإكثار من السجود لابد منه، فإذا صلى إحدي عشرة ركعة طويلة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا صلى المصلي في مثل زمانهن عشرين ركعة، فقد أكثر السجود، لكن سجود ذاك أفضل وأتم، وهذا أكثر من ذاك، وليس لأحد أن يقول: إنما كان أكثر من قصرها فهو أفضل مما هو كثير ـ أيضًا ـ وهو أتم وأطول كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم. /الوجه الحادي عشر: أن مواضع الساجد تسمي مساجد، كم قال تعالى: الوجه الثاني عشر: أنه تعالى قال: والدعاء في السجود أفضل من غيره، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل قوله في حديث أبي هريرة: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)، ومثل ما روي مسلم في صحيحه عن / ابن عباس قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة، والناس صفوف خلف أبي بكر. فقال: (أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تري له. ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم). وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء في السجود في عدة أحاديث. وفي غير حديث، تبين أن ذلك في صلاته بالليل، فعلم أن قوله: فهذه الوجوه وغيرها، مما يبين أن جنس السجود أفضل من جنس القيام والقراءة، ولو أمكن أن يكون أطول من القيام، لكان ذلك أفضل، لكن هذا يشق مشقة عظيمة، فلهذا خفف السجود عن القيام مع أن السنة تطويله إذا طول القيام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فروي: أنه كان يخفف القيام والقعود، ويطيل الركوع والسجود.ولما أطال القيام في صلاة الكسوف، أطال الركوع والسجود. وكذلك في حديث حذيفة الصحيح: أنه لما قرأ بالبقرة والنساء / وآل عمران، قال: ركع نحوا من قيامه، وسجد نحوًا من ركوعه. وفي حديث البراء الصحيح أنه قال: كان قيامه فركعته فاعتداله فسجدته فجلوسه بين السجدتين فجلسته ما بين السلام والانصراف قريبًا من السواء. وفي رواية: ما خلا القيام والقعود. وثبت في الصحيح عن عائشة: أنه كان يسجد السجدة بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية. فهذه الأحاديث تدل على أن تطويل الصلاة قيامها وركوعها وسجودها، أفضل من تكثير ذلك مع تخفيفه، وهو القول الثالث في الصورة الثانية، ومن سوي بينهما قال: إن الأحاديث تعارضت في ذلك، وليس كذلك. فإن قوله: (أفضل الصلاة طول القنوت)، يتناول التطويل في القيام والسجود، وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه، عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة)، وقال: (من أمَّ الناس فليخفف، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء). وأحاديث تفضيل السجود قد بينا أنها لا تنافي ذلك. ومعلوم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. وأيضًا، فإنه لما صلى الكسوف كان يمكنه أن يصلي عشر ركعات، أو عشرين ركعة يكثر فيها قيامها وسجودها، فلم يفعل، بل صلى / ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، وجعل في كل ركعة قيامين وركوعين. وعلى هذا، فكثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام الذي ليس فيه تطويل الركوع والسجود. وأما إذا أطال القيام والركوع والسجود، فهذا أفضل من إطالة القيام فقط، وأفضل من تكثير الركوع والسجود والقيام بقدر ذلك. والكلام إنما هو في الوقت الواحد: كثلث الليل، أو نصفه، أو سدسه أو الساعة. هل هذا أفضل من هذا، أو هذا أفضل من هذا. وفي الصحيحين عن أم هانئ، لما صلى الثماني ركعات يوم الفتح قالت: ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها، غير أنه كان يتم الركوع والسجود. وفي رواية لمسلم: ثم قام فركع ثماني ركعات، لا أدري أقيامه فيها أطول، أم ركوعه، أم سجوده، كل ذلك متقارب، فهذا يبين أنه طول الركوع، والسجود قريبًا من القيام، وأن قولها:لم أره صلى صلاة أخف منها، إخبار منها عما رأته، وأم هانئ لم تكن مباشرة له في جميع الأحوال، ولعلها أرادت منع كثرة الركعات، فإنه لم يصل ثمانيا جميعًا أخف منها، فإن صلاته بالليل كانت أطول من ذلك، وهو بالنهار لم يصل ثمانيا متصلة قط، بل إنما كان يصلي المكتوبة، والظهر كان يصلي بعدها ركعتين،وقبلها أربعًا، أو ركعتين.أو لعله خففها لضيق الوقت،فإنه صلاها بالنهار وهو مشتغل بأمور فتح مكة / كما كان يخفف المكتوبة في السفر حتى يقرأ في الفجر بالمعوذتين.وروي أنه قرأ في الفجر بالزلزلة في الركعتين،فهذا التخفيف لعارض. وقد احتج من فضل التكثير على التطويل بحديث ابن مسعود قال: إني لأعرف السور التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن من المفصل، كل سورتين في ركعة، يدل على أنه لم يكن يطيل القيام، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه أولاً جمع بين سورتين من المفصل. وأيضًا، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها. وأيضًا، فإن حذيفة روي عنه: أنه قام بالبقرة، والنساء، وآل عمران في ركعة. وابن مسعود ذكر أنه طول حتى هممت بأمر سوء: أن أجلس وأدعه. ومعلوم أن هذا لا يكون بسورتين، فعلم أنه كان يفعله أحيانًا، ولا ريب أنه كان يطيل بعض الركعات أطول من بعض، كما روت عائشة وغيرها. والله أعلم.
|