الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجمع الأمثال **
346- أنْتَ أنْزَلْتَ القِدْرَ بأَثَافِيِّهَا. يضرب لمن يركب أمراً عظيما ويُوقِع نفسه فيه. 347- أتَتْكُمْ فَالِيَةُ الأفاعِي. الفالية، وجمعها الفوالي: هنات كالخنافس رُقْط تألف العقارب في جِحَرة الضبّ، فإذا خرجت تلك علم أن الضب خارج لا محالة، ويقال: إذا رِيئَتْ في الجحر علم أن وراءها العقارب والحيات. يضرب مثلا لأول الشر يُنْتَظَر بعده شر منه. 348- أتَى عَلَيْهِمْ ذُو أَتى. هذا مَثَل من كلام طيء، و"ذو" في لغتهم تكون بمعنى الذي، يقولون "نحن ذو فعلنا كذا" أي نحن الذين فعلنا كذا، و "هو ذو فعل كذا" و "هي ذو فعلَتْ كذا" قال شاعرهم: فإنَّ الماء ماءُ أبي وجَدِّي * وبئري ذُو حَفَرْتُ وذو طَوَيْتُ ومعنى المثل: أتى عليهم الذي أتى على الخلق، يعني حَوَادِثَ الدهر. 349- أبُو وَثِيل أبِلَتْ جِمَاُلُه. يقال: أبِلَتِ الإبلُ والوحشُ، إذا رَعَتِ الرُّطبْ (الرطب - بوزن قفل أو عنق - الأخضر من البقل) فسمنت. يضرب لمن كان ساقطا فارتفع. 350- أُمٌّ سَقَتْكَ الغَيْلَ مِنْ غَيْر حَبَلٍ. الغَيْل: اللبن يُرْضَعه الرضيع والأم حامل، وذلك مَفْسَدة للصبي. يضرب لمن يُدْنيك ثم يجفوك ويُقْصِيك من غير ذنب. 351- آثَرْتُ غيري بِغُرَاقَاتِ القِرَبِ. الغُرْقَة والغُرَاقة: القليلُ من الماء واللبن وغيرهما، يَدّخره المرءُ لنفسه ثم يُؤْثر على نفسه غيره. [ص 69] يضرب لمن تتحمل له كل مكروه ثم يستزيدك ولا يرضى عنك. 352- أوَي إلَى رُكْنٍ بِلا قَوَاعٍدَ. يضرب لمن يأوِي إلى من له بقبقة، ولا حقيقة عنده. 353- آبَ وقِدْحُ الفَوْزَةِ المَنِيحُ. المَنِيحُ من قِدَاح الميسر: ما لا نصيب له، وهو: السَّفيح، والمنيح، والوَغْد. يضرب لمن غاب ثم يجيء بعد فَرَاغ القوم مما هم فيه فهو يعود بخيبة. 354- إِنْ كَذِبٌ نَجَّى فَصِدْقٌ أخْلَقُ. تقديره: إن نجى كذب فصدق أجْدَرُ وأولى بالتنجية. 355- أَخٌ أرَادَ البِرَّ صَرْحاً فاجْتَهَدَ. أراد صَرَحاً بالتحريك فسكن، والصرح: الخالص من كل شيء، قال الشاعر: تَعْلُو السيوفُ بأيدينا جماجِمَهُمْ * كما يعلق مروَ الأمعز الصَّرَحُ أي الخالص، يقال: صَرُحَ صَرَاحة فهو صَرِيح وَصَرحَ وَصُرَاح. يضرب لمن اجتهد في برّك، وإن لم يبلغ رضاك. 356- إِنِّي مَلِيطُ الرَّفْدِ مِنْ عُوَيْمر. المليط: السِّقْطُ من أولاد الإبل قبل أن يُشْعِر، والرفد: العطاء، يريد إني ساقطُ الحظِّ من عطائه. يضرب لمن يختص بإنسان ويقل حظه من إحسانه. 357- إنْ حالَتِ القَوْسُ فَسَهْمِي صائِبٌ. يقال: حالت القوسُ تَحُول حُؤُولا إذا زالَتْ عن استقامتها، وسهم صائب: يصيب الغرض. يضرب لمن زالت نعمته ولم تزل مروءته. 358- أيَّ سَوَادٍ بِخدَامٍ تَدْرِي. السَّواد: الشخص، والخِدام: جمع خَدَمة وهي الخلخال، وادّرى وَدَرَى: إذا خَتَل. يضربه مَنْ لا يعتقد أنه يخدع ويختل. 359- إِنَّهُ لاَ يُخْنَقُ عَلَى جِرَّتِهِ. يضرب لمن لا يُمْنَع من الكلام فهو يقول ما يشاء. 360- إنَّهُ لَفي حُورٍ وفي بُورٍ. الحُور: النقصان، والبَوْرُ: الهلاك بفتح الباء، وكذلك البَوَار، والبور بالضم: الرجلُ الفاسد الهالك، ومنه قول ابن الزِّبَعْرَي [ص 70] "إذ أنا بُورٌ" يقال: رجل بُور، وامرأة بُور، وقوم بُور، وإنما ضم الباء في المثل لازدواج الحور. يضرب لمن طلب حاجة فلم يضنع فيها شيئاً. 361- إِنّ غَداً لنَاظِرِهِ قَرِيبُ. أي لمنتظره، يقال: نَظَرْتُه أي انتظرته وأول من قال ذلك قُرَاد بن أجْدَعَ، وذلك أن النعمان بن المنذر خرج يتصيد على فرسه اليَحْمُوم، فأجراه على أثَر عَيْر، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر عليه، وانفرد عن أصحابه، وأخذته السماء، فطلب مَلْجأ ياجأ إليه، فدُفِع إلى بناء فإذا فيه رجل من طيء يقال له حَنْظَلة ومعه امرأة له، فقال لهما: هل من مَأوًى، فقال حنظلة: نعم، فخرج إليه فأنزله، ولم يكن للطائي غير شاة وهو لا يعرف النعمان، فقال لامرأته: أرى رجلاً ذا هيئة وما أخْلَقَه أن يكون شريفاً خطيراً فما الحيلة؟ قالت: عندي شيء من طَحين كنت ادّخرته فاذبح الشاةَ لأتخذ من الطحين مَلَّة، قال: فأخرجت المرأة الدقيق فخبزت منه مَلَّة، وقام الطائيّ إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها فاتخذ من لحمها مَرَقة مَضِيرة، وأطعمه من لحمها، وسقاه من لبنها، واحتال له شراباً فسقاه وجعل يُحَدثه بقية ليلته، فلما أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه، ثم قال: يا أخا طيء اطلب ثَوَابك، أنا الملك النعمان، قال: أفعل إن شاء الله، ثم لحق الخيل فمضى نحو الحِيرة، ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى أصابته نَكْبة وجَهْد وساءت حاله، فقالت له امرأته: لو أتيتَ الملك لأحسن إليك، فأقبلَ حتى انتهى إلى الحِيرَة فوافق يومَ بؤس النعمان، فإذا هو واقف في خَيْله في السلاح، فلما نظر إليه النعمان عرفه، وساءه مكانه، فوقف الطائيّ المنزولُ به بين يدي النعمان، فقال له: أنت الطائيّ المنزول به؟ قال: نعم، قال: أفلا جِئْتَ في غير هذا اليوم؟ قال: أبَيْتَ اللعن! وما كان علمي بهذا اليوم؟ قال: والله لو سَنَحَ لي في هذا اليوم قابوسُ ابني لم أجد بُدّا من قتله، فاطلب حاجَتَكَ من الدنيا وسَلْ ما بدا لك فإنك مقتول، قال: أبَيْتَ اللعنَ! وما أصنع بالدنيا بعد نفسي. قال النعمان: إنه لا سبيل إليها، قال: فإن كان لا بدّ فأجِّلْني حتى أُلِمَّ بأهلي فأوصي إليهم وأهيئ حالهم ثم أنصرف إليك، قال النعمان: فأقم لي كَفيلاً بموافاتك، فالتفت الطائي إلى شريك بن عمرو بن قيس من بني شيبان، وكان يكنى أبا الحَوْفَزَان وكان صاحب الردافة، وهو واقف بجنب النعمان، فقال له: [ص 71] يا شريكا يا ابن عمرو * هل من الموت مَحَالة يا أخا كل مُضَافٍ * يا أخا مَنْ لا أخا له يا أخا النعمان فُكَّ الــــيوم ضَيْفاً قد أتى له طالما عالج كرب الـــــــموت لا ينعم باله فأبى شريك أن يتكفل به، فوثب إليه رجل من كلب يقال له قُرَاد بن أجْدَع، فقال للنعمان: أبيت اللَّعْن! هو عليّ، قال النعمان: أفعلت؟ قال: نعم، فضمّنه إياه ثم أمر للطائي بخمسمائة ناقة، فمضى الطائيّ إلى أهله، وجَعَلَ الأجَلَ حولا من يومه ذلك إلى مثل ذلك اليوم من قابل، فلما حال عليه الحولُ وبقي من الأجل يوم قال النعمان لقُرَاد: ما أراك إلا هالكاً غَداً، فقال قُرَاد: فإن يَكُ صَدْرُ هذا اليوم وَلىّ * فإنَّ غَداً لناظرهِ قَريبُ فلما أصبح النعمان ركب في خيله ورَجْله متسلحاً كما كان يفعل حتى أتى الغَرِيَّيْنِ فوقف بينهما، وأخرج معه قُرَادا، وأمر بقتله، فقال له وزراؤه: ليس لك أن تقتله حتى يستوفي يومه، فتركه، وكان النعمان يشتهي أن يقتل قُرَادا ليُفْلَتَ الطائي من القتل، فلما كادت الشمس تَجِبُ وقُرَاد قائم مُجَرَّد في إزار على النِّطَع والسيافُ إلى جنبه أقبلت امرأته وهي تقول: أيا عَيْنُ بكى لي قُرَاد بن أجْدَعَا * رَهينا لقَتْلٍ لا رهينا مُوَدّعا أتته المنايا بَغْتةً دون قومه * فأمسى أسيراً حاضر البَيْتِ أضْرَعَا فبينا هم كذلك إذ رفع لهم شخص من بعيد، وقد أمر النعمان بقتل قراد، فقيل له: ليس لك أن تقتله حتى يأتيك الشخص فتعلم من هو، فكفَّ حتى انتهى إليهم الرجلُ فإذا هو الطائي، فلما نظر إليه النعمان شَقَّ عليه مجيئه، فقال له: ما حملك على الرجوع بعدَ إفلاتك من القتل؟ قال: الوفاء، قال: وما دَعَاك إلى الوفاء؟ قال: دِينِي، قال النعمان: فاعْرِضْهَا عليّ، فعرضها عليه، فتنصر النعمان وأهلُ الحِيرة أجمعون، وكان قبل ذلك على دين العرب، فترك القتلَ منذ ذلك اليوم، وأبطل تلك السُّنَّة وأمر بهدم الغَرِيّيْن، وعفا عن قُرَاد والطائي، وقال: والله ما أدري أيها أوفى وأكرم، أهذا الذي نجا من القتل فعاد أم هذا الذي ضمنه؟ والله لا أكون ألأمَ الثلاثة، فأنشد الطائيّ يقول: ما كُنْتُ أُخْلِفُ ظنه بعد الذي * أسْدَى إلىّ من الفَعَال الخالي ولقد دَعَتْنِي للخلاف ضَلاَلتي * فأبَيْتُ غيرَ تمجُّدِي وفعالي [ص 72] إني امرؤ منِّي الوفاءُ سَجِية * وجزاء كل مكارم بَذَّالِ وقال أيضاً يمدح قُرَادا: ألا إنما يسمو إلى المجد والعُلا * مَخارِيقُ أمثال القُرَاد بْنِ أجْدَعَا مخاريقُ أمثال القراد وأهله * فإنهمُ الأخيار من رَهْطِ تبعا 362- إِنّ أَخاكَ مَنْ آسَاكَ. يقال: آسيت فلانا بمالي أو غيره، إذا جعلته أُسْوَةَ لك، ووَاسَيْتُ لغة فيه ضعيفة بَنَوْهَا على يُوَاسي، ومعنى المثل إن أخاك حقيقةً مَنْ قدمك وآثَرَك على نفسه. يضرب في الحثّ على مراعاة الإخوان وأول من قال ذلك خُزَيم بن نَوْفل الهَمْداني، وذلك أن النعمان بن ثَوَاب العبديّ ثم الشنيّ كان له بنون ثلاثة: سعد، وسعيد، وساعدة، وكان أبوهم ذا شرف وحكمة، وكان يوصي بنيه ويحملهم على أدَبِه، أما ابنه سعد فكان شجاعاً بطلاً من شياطين العرب لا يُقَام لسبيله ولم تَفُتْه طَلِبَتهُ قطّ، ولم يفرَّ عن قِرْن. وأما سعيد فكان يشبه أباه في شرفه وسؤدده. وأما ساعدة فكان صاحب شراب ونَدَامى وإخوان، فلما رأى الشيخ حالَ بنيه دعا سعدا وكان صاحب حرب فقال: يا بُنَي إن الصارم يَنْبو، والجواد يَكْبُوُ، والأثر يعفو، فإذا شهدت حرباً فرأيت نارها تستعر، وبطلها يحظر، وبحرها يزخر، وضعيفها ينصر، وجبانها يجسر، فأقْلِلِ المكث والانتظار، فإن الفرار غير عار، إذا لم تكن طالبَ ثار، فإنما ينصرون هم، وإياك أن تكون صَيْدَ رماحها، ونطيح نطاحها، وقال لابنه سعيد وكان جوادا: يا بني لا يبخل الجواد، فابذل الطارف والتِّلاد، وأقلل التَّلاح، تُذْكَرُ عند السماح، وأبْلُ إخوانك فإن وَفِيَّهم قليل، واصنع المعروف عند محتمله. وقال لابنه ساعدة وكان صاحب شراب: يا بني إن كثرة الشراب تفسد القلب، وتقلل الكسب، وتجدّ اللعب، فأبصر نَديمك، واحْمِ حريمك، وأعِنْ غريمك، واعلم أن الظمأ القامح، خير من الري الفاضح، وعليك بالقَصْد فإن فيه بلاغا. ثم إن أباهم النعمان بن ثَوَاب توفي، فقال ابنه سعيد وكان جوادا سيدا: لآخذنّ بوصية أبي ولأبلُوَنَّ إخواني وثقاتي في نفسي، فعمد إلى كبش فذبحه ثم وضعه في ناحية خِبائه، وغَشَّاه ثوباً، ثم دعا بعض ثقاته فقال: يا فلان إن أخاك مَنْ وفَى لك بعهده، وحاطك بِرِفده، ونصرك بوده، قال: [ص 73] صدقت فهل حدث أمر؟ قال: نعم، إني قتلت فلاناً، وهو الذي تراه في ناحية الخِباء، ولابد من التعاون هليه حتى يُوَارَى، فما عندك؟ قال: يالَهَا سَوْأة وقعتَ فيها، قال: فإني أريد أن تعينني عليه حتى أغيبه، قال: لستُ لك في هذا بصاحب، فتركه وخرج، فبعث إلى آخر من ثقاته فأخبره بذلك وسأله مَعُونته، فردّ عليه مثل ذلك، حتى بعث إلى عَدَد منهم، كلهم يردّ عليه مثل جواب الأول، ثم بعث إلى رجل من إخوانه يقال له خُزَيم بن نَوْفل، فلما أتاه قال له: يا خُزَيم مالي عندك؟ قال: ما يسرّك، وما ذاك؟ قال: إني قتلت فلاناً وهو الذي تراه مُسَجًّى، قال: أيْسَرُ خَطْبٍ، فتريد ماذا؟ قال: أريد أن تعينني حتى أغيبه، قال: هان ما فَزِعْتَ فيه إلى أخيك، وغلامٌ لسعيد قائم معهما، فقال له خزيم: هل اطلع على هذا الأمر أحدٌ غير غلامك هذا؟ قال: لا، قال: انظر ما تقول، قال: ما قلت إلا حقا، فأهْوَى خزيم إلى غلامه فضربه بالسيف فقتله، وقال: ليس عبدٌ بأخٍ لك، فأرسلها مثلا، وارتاع سعيد وفزع لقتل غلامه، فقال: ويحك! ما صنعت؟ وجعل يلومه، فقال خزيم: إن أخاك من آساك، فأرسلها مثلا، قال سعيد: فإني أردْتُ تجربتك، ثم كشف له عن الكَبْش، وخبره بما لقي من إخوانه وثقاته وما ردوا عليه، فقال خزيم: سَبَقَ السيفُ العَذَلَ، فذهبت مثلا. 363- ألاَ مَنْ يَشْترِي سَهَراً بِنَوْمٍ. قالوا: إن أول مَنْ قال ذلك ذو رُعَيْن الْحِمْيَري، وذلك أن حِمْيَر تفرقت على ملكها حسان، وخالفت أمره لسوء سيرته فيهم، ومالوا إلى أخيه عمرو، وحملوه على قَتْل أخيه حَسَّان وأشاروا عليه بذلك ورغبوه في المُلْك، ووَعَدوه حسن الطاعة والموازرة، فنهاه ذو رُعَيْن من بين حمير عن قتل أخيه، وعلم أنه إن قتل أخاه ندم ونَفَر عنه النوم وانتقض عليه أموره، وأنه سيعاقِبُ الذي أشار عليه بذلك، ويعرف غشهم له، فلما رأى ذو رُعَيْن أنه لا يقبل ذلك منه وخشي العواقب قال هذين البيتين وكتبهما في صحيفة وختم عليها بخاتم عمرو، وقال: هذه وديعة لي عندك إلى أن أطلبها منك، فأخذها عمرو فدَفَعها إلى خازنه وأمَرَه برفعها إلى الخزانه والاحتفاظ بها إلى أن يَسْأل عنه، فلما قَتَلَ أخاه وجلس مكانه في الملك مُنِعَ منه النومُ، وسُلِّط عليه السهر، فلما اشتد ذلك عليه لم يَدَعْ باليمن طبيبا ولا كاهنا ولا منجما ولا عرّافا ولا عائفا إلا جمعهم، ثم أخبرهم بقصته، وشكا إليهم ما به، فقالوا له: ما قَتَلَ [ص 74] رجل أخاه أو ذا رَحِم منه على نحو ما قتلت أخاك إلا أصابه السهر ومنع منه النوم، فلما قالوا له ذلك أقبل على مَنْ كان أشار عليه بقتل أخيه وساعده عليه من أقْيَال حِمْير فقتلهم حتى أفناهم، فلما وصل إلى ذي رُعَين قال له: أيها الملك إن لي عندك بَرَاءة مما تريد أن تصنع بي، قال: وما براءتك وأمانك؟ قال: مُرْ خازنك أن يخرج الصحيفة التي استودعتكها يوم كذا وكذا، فأمر خازِنه فأخرجها فنظر إلى خاتمه عليها ثم فَضَّها فإذا فيها: ألاَ مَنْ يَشْتَري سَهَراً بِنَوْمٍ * سَعِيدٌ مَنْ يبيتُ قَرِيرَ عَيْنِ فإمَّا حِمْيَر غَدَرَتْ وخانت * فَمَعْذِرَةُ الإله لِذِي رُعَيْنَ ثم قال له: أيها الملك قد نَهيتك عن قتل أخيك، وعلمتُ أنك إن فعلت ذلك أصابك الذي قد أصابك، فكتبت هذين البيتين بَرَاءة لي عندك مما علمت أنك تصنع بمن أشار عليك بقتل أخيك، فقبل ذلك منه، وعفا عنه، وأحسن جائزته. يضرب لمن غمط النعمة وكره العافية. 364- إِنَّكَ لاَ تُهَرِّشُ كَلْباً. يضرب لمن يحمل الحليم على التوثُّب. 365- إنَّ الذَّلِيلَ مَنْ ذَلَّ في سُلْطانِهِ. يضرب لمن ذلّ في موضع التعزز وضَعُفَ حيث تنتظر قدرته. 366- إنْ كُنْتَ كَذُوباً فَكُنْ ذَكوراً. يضرب للرجل يكذب ثم ينسى فيحدث بخلاف ذلك. 367- إذا اشْتَرَيْتَ فاذْكُرِ السُّوقَ. يعني إذا اشتريت فاذكر البيع لتجتنب العيوب. 368- إِنّهُ لَقُبَضَةٌ رُفَضَةٌ. يضرب للذي يتمسك بالشيء ثم لا يلبث أن يدعه. 369- إنْ لَمْ يكُنْ مُعْلَماً فَدَحْرِجْ. أصل هذا المثل أن بعض الْحَمْقَى كان عُرْيانا فقعد في حُبّ وكان يدحرج، فحضره أبوه بثوب يلبسه، فقال: هل هو مُعْلم؟ قال: لا، فقال: إن لم يكن معلما فَدَحرج فذهب مثلا. يضرب للمضطر يقترح فوق ما يكفيه. 370- إياكَ وَالسَّآمَةَ في طَلَبِ الأمُورِ فَتَقْذِفُكَ الرِّجالُ خَلْفَ أعْقابِهَا. قال أبو عبيد: يروى عن أبجر [ص 75] بن (في نسخة"أبجر بن عامر") جابر العجلي أنه قال فيما أوصى به ابنه حجازا: يا بني إياك والسآمة. يضرب في الحث على الجدّ في الأمور وتَرْك التفريط فيها. 371- إذَا ما القارِظُ العَنَزِيُّ آبا. قال ابن الكلبي: هما قارظان كلاهما من عَنَزة، فالأكبر منهما هو يَذْكر بن عَنَزة لصلبه، والأصغر هو رهم (في القاموس" عامر بن رهم") بن عامر ابن عَنَزة، كان من حديث الأول أن خزيمة ابن نهد - ويروى حزيمة، كذا رواه أبو الندى في أمثاله - كان عَشِقَ فاطمة ابنة يَذْكر، قال: وهو القائل فيها: إذ الْجَوْزَاء أردفَتِ الثريَّا * ظننْتُ بآل فاطمة الظنونا قال: ثم إن يَذْكرُ وخزيمة خرجا يطلبان القَرَظَ، فمرا بهُوَّة من الأرض فيها نحل، فنزل يذكر يَشْتَار عَسَلا ودَلاَّه خزيمة بحبل، فلما فرغ قال يذكر لخزيمة: امددني لأصعد، فقال خزيمة: لا واللّه حتى تزوجني ابنتك فاطمة، فقال: أعلى هذه الحال؟ لا يكون ذلك أبدا، فتركه خزيمة فيها حتى مات، قال: وفيه وقَع الشر بين قُضَاعة وربيعة. قال: وأما الأصغر منهما فإنه خرج لطلب القَرَظ أيضاً، فلم يرجع، ولا يُدْرَى ما كان من خبره، فصار مثلا في امتداد الغَيْبة، قال بشر بن أبي خازم لابنته عند موته: فَرَجِّي الخيرَ وانتظِرِي إيابي * إذا ماالْقَارِظُ العَنَزِيُّ آبا. 372- إِنّهُ لَمِشَلُّ عُونٍ. المِشَلّ: الطرد، والعُون: جمع عانة، أي إنه ليَصْلُح أن تشل عليه الحمر الوحشية. يضرب لمن يصلح أن تُنَاط به الأمور العظام. 373- إنّهُ لَمِخْلَطٌ مِزْيَلٌ. يضرب للذي يخالط الأمور ويُزَايلها ثقةً بعلمه واهتدائه فيها. 374- إنّهُ الَّليْلُ وأضْواجُ الْوادِي. الضوج بالضاد المعجمة والجيم: مُنْعَطَفُ الوادي، والصُّوحُ بالصاد المضمومة والحاء: حائط الوادي وناحيته. وهذا المثل مثل قولهم "الليل وأهضام الوادي". 375- إنَّكَ لاَ تَعْدُو بِغَيْرِ أُمكَ. يضرب لمن يُسْرِف في غير موضع السَّرَف. [ص 76] 376- إنَّكَ لَوْ ظَلَمْتَ ظُلْماً أمَماً. الأمَمُ: القرب، أي لو ظلمت ظلماً ذا قرب لعفونا عنك، ولكن بلغت الغاية في ظلمك. 377- إنْ كُنْتِ الحَالِبَةَ فاسْتَغْزِرِي. أي إن قصدتِ الحلب فاطلبي ناقة غزيرة. يضرب لمن يُدَلُّ على موضع حاجته. 378- إِنَّ أَخَا الخِلاَطِ أعْشَى بالَّليْلِ الخِلاط: أن يخلط إبله بإبل غيره ليمنع حَقَّ الله منها، وفي الحديث "لا خِلاَطَ ولا وِرَاط" أي لا يجمع بين متفرقين، والوارط: أن يجعل غنمه في وَرْطة وهي الهُوَّة من الأرض لتخفى، والذي يفعل الخلاط يتحير ويدهش. يضرب مثلا للمُرِيب الخائن. 379- إنَّ أمامِي مَالاَ أُسامِي. أي مالا أساميه ولا أقاومه. يضرب للأمر العظيم يُنْتَظَر وقوعه. 380- إنْ كُنْتِ حُبْلَى فَلِدِي غُلاَماً. يضرب للمتصلِّف يقول: هذا الأمرُ بيدي. 381- إنّما طَعَامُ فُلاَنٍ القَفْعَاءُ وَالتَّأوِيلُ. القفعاء: شجرة لها شَوْك، والتأويل: نبت يعتلفه الحمار. يضرب لمن يُسْتَبْلَدُ طبعه، أي إنه بهيمة في ضعف عقله وقلة فهمه. 382- إيَّاكَ وَصَحْرَاءَ الإِهالَةِ. أصل هذا أن كِسْرَى أغْزَى جيشاً إلى قبيلة إياد، وجعل معهم لَقِيطاً الإيادي ليَدُلَّهم، فَتَوَّه بهم لقيط في صحراء الإهالة، فهلكوا جميعاً، فقيل في التحذير "إياك وصَحْرَاء الإهالة". 383- إنَّهُ لَيَنتْجِبُ عِضاهَ فُلاَنٍ. الانتجاب أخذ النَّجَبَة، وهي قشر الشجر. يضرب لمن ينتحل شعر غيره. 384- آخِ الأْكْفَاءَ وداهِن الأعْدَاءَ. هذا قريب من قولهم "خالِصِ المؤمنَ وخالِقِ الفاجِر" 385- إذَا قَرِحَ الجَنَانُ بَكَتِ العَيْنَانِ. هذا كقولهم "البغض تُبْديِه لك العَيْنَانِ" 386- إنَّمَا يُحْمَلُ الْكَلُّ عَلَى أَهْلِ الْفَضْلِ. الكَلُّ: الثقل. أي تُحَملُ الأعباء على أهل القدرة. [ص 77] 387- إذَا تَلاَحَتِ الْخُصُومُ تَسَافَهَتِ الحُلُوُم. التَّلاَحِي: التشاتُم، أي عنده يصير الحليم سفيها. 388- إنَّهُ يَنْبَحُ النَّاسَ قَبَلاً. يضرب لمن يشتم الناس من غير جُرْم، ونصب "قبلا" على الحال: أي مقابلا. 389- إِنَّ السِّلاَءَ لِمَنْ أَقَامَ وَوَلَّدَ. يقال: سَلأْتُ السمن سلأ إذا أذَبْته، والسِّلاء بالمد: المسلوء، يعني أن النتاج ومنافِعَه لمن أقام وأعان على الولادة، لا لمن غَفَل وأهمل. يضرب في ذم الكسل. 390- أَنْتَ بَيْنَ كَبِدِي وَخِلْبِي. يضرب للعزيز الذي يشفق عليه، والخِلْبُ: الحِجَابُ الذي بين القلب وسواد البطن. 391- آخِرُ سَفَرْكَ أَمْلَكُ. يضرب لمن يَنْشَط في السفر أولا، أي ننظر كيف يكون نشاطك آخرا، وقوله "أمْلَكُ" أي أحق بأن يملك فيه النشاط. 392- إنَّكَ رَيَّانُ فَلاَ تَعْجَلْ بِشُرْبِكَ. يضرب لمن أشرف على إدراك بِغْيَته فيؤمر بالرفق. 393- إنْ كنْتَ ناصِرِي فَغَيِّبْ شَخْصَكَ عَنِّي. يضرب لمن أراد أن ينصرك فيأتي بما هو عليك لا لك. 394- أَخَذَهُ عَلَى قِلِّ غَيْظِهِ. أي على أثَرِ غَيْظٍ منه في قلبه. 395- إذَا لَمْ تُسْمِعْ فَألْمِعْ. أي إن عَجَزْتَ عن الإسماع لم تعجز عن الإشارة. 396- إِنَّ مِنَ ابْتِغَاءِ الخَيْرِ اتِّقاءَ الشَّرِّ. يروى هذا عن ابن شِهاب الزُّهري حين مدَحه شاعر فأعطاه مالا وقال هذا القول. 397- إنَّما الشَّيْءُ كَشَكْلِهِ. قاله أكْثَمُ بن صَيْفي. يضرب للأمرين أو الرجلين يتفقان في أمرٍ فيأتلفان. 398- أَتَتْ عَلَيْهِ أُمُّ اللُّهَيْمِ. أي أهلكته الداهية، ويقال المنِيَّةُ. 399- أَكَلْتُمْ تَمْرِي وَعَصَيْتُمْ أَمْرِي. قاله عبدُ الله بن الزُّبَير. 400- أَيْنَ بَيْتُكِ فَتُزَارِي. يضرب لمن يبطئ في زيارتك. [ص 78] 401- إِنَّ الهَوَى شَرِيكُ العَمَي. هذا مثل قولهم "حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ". 402- إِذَا أَعْيَاكِ جاراتُكِ فَعُوكِي عَلَى ذِي بَيْتِكِ. قال رجل لامرأته: أي إذا أعياك الشيءُ من قبل غيركِ فاعتمدي على ما في ملكك، وعُوكِي: معناه أقبلي. 403- أَخَذَنِي بِأطِيرِ غَيْرِي. الأَطِيرُ: الذنْبُ، قال مسكين الدَّارِمِيُّ: أتَضْرِبُني بأطِيرِ الرَجالِ * وَكَلَّفْتَنِي مَا يَقُولُ الْبَشَرْ 404- إنَّ دُونَ الطُّلْمَةِ خَرْطَ قَتَادِ هَوْبَرٍ. الطُّلْمة: الخبزة تُجْعَل في المَلَّة، وهي الرماد الحار، وهَوْبَر: مكان كثير القَتَاد. يضرب للشيء الممتنع. 405- إَّنُه دِيْسٌ مِنَ الدِّيَسَةِ. أصل دِيس دوس من الدَّوْسِ والدِّيَاسة أي أنه يَدُوس من يُنَازله. يضرب للرجل الشجاع. وبَنَى قوله من الدِّيَسَة على قوله دِيس وإلاّ فحَقُّه الواو. 406- إنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ بالتَّظَنِّي. يضرب في الحث على التَّرْوِية في الأمر. 407- أَنا ابْنُ كُدَيِّهَا وكَدَائِهَا. وكُدَى وكَدَاء: جبلان بمكة، والهاء راجعة إلى مكة أو إلى الأرض. وهذا مثل يضربه مَنْ أراد الافتخار على غيره. 408- آخِرُ البَزِّ عَلَى القَلُوصِ. البَزُّ: الثيابُ. والقَلُوص: الأنثى من الإبل الشابة. وهذا المثل مذكور في قصة الزَّبَّاء في حرف الخاء. *3* اعلم أن لأفْعَلَ إذا كان للتفضيل ثلاثة أحوال: الأول: أن يكون معه "مِنْ" نحو: زيد أفْضَلُ من عمرو، والثاني: أن تدخل عليه الألف وللام، نحو: زيد الأفْضَلُ، والثالث: أن يكون مضافا، نحو: زيدٌ أفضلُ القَوْمِ، وعمرو أفْضَلُكم. فإذا كان مع "مِنْ" استوى فيه الواحد والتثنية والجمع والمذكر والمؤنث، تقول: زيد أفضل منك، والزيدان أفضلُ منك، والزيدون أفضل منك، وكذلك [ص 79] هند أفضل من دعد، والهندانِ أفضلُ، والهندات أفضل، قال الله تعالى: وإذا كان مع الألف واللام ثُنِّي وَجُمِع وأنِّثَ، تقول: زيد الأفْضَل، والزيدان الأفضلان، والزيدون الأفضلون، وإن شئت: الأفاضِلُ، وهند الفُضْلَى، وهندان الفُضْلَيَانِ، وهندات الفُضْلَيَاتُ، وإن شئت: الفُضَّلُ، قال تعالى: كأن صُغْرَى وكُبرَى من فَوَاقعها * حَصْباء درٍّ على أرضٍ من الذهب وإنما استُعْمِلَ من هذا القبيل أخرى قال اللّه تعالى: وإذا كان أفعل مضافا ففيه وجهان: أحدهما أن يجري مَجْرَاه إذا كان معه مِن فيستوي فيه التثنية والجمع والتذكير والتأنيث، تقول: زيد أفضلُ قومِك، والزيدان أفضلُ قومِك، والزيدون أفضلُ قومِك، وهندُ أفضل بناتِك، والهندانِ أفضلُ بناتك، والهنداتُ أفضلُ بناتِك، وهذا الوجه شائع في النثر والشعر، قال اللّه تعالى: وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً * وَسَاِلَفَةً وَأَحْسَنُهُ قَذَالا ولم يقل: حُسْنى الثقلين، ولا حُسْنَاه، وقال جرير: [ص 80] يَصْرَعْنَ ذَا اللبِّ حَتَّى لاَ حَراكَ بِهِ * وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللّهِ إِنْسَانَا وعلى هذا قولُ الناسِ: أوْلى النِّعم بالشكر وأَجَلُّ النعم عندي كذا وكذا، والوجه الثاني في إضافته: أن يعتبر فيه حال دخول الألف واللام فيثنى ويجمع ويؤنث، فيقال: زيد أفضلُ قومِك، والزيدان أَفْضَلا قومِك، والزيدون أَفْضَلُو قومِك، وهند فُضْلى بَنَاتِك، والهندان فُضْلَيَا بناتك، والهندات فُضْلَيَات بناتِك. فهذه الأحوال الثلاثة أثبتها مُسْتَقْصَاة. ومن شرط أَفْعَلَ هذا أن لا يضاف إلا إلى ما هو بعضٌ منه، كقولك: زيد أفضلُ الرجالِ، وهند أفضل النساء، ولا يجوز على الضد، ولهذا لا يجوز "زيد أفضل إخوته" لأن الإضافة تخرجُه من جملتهم، ويجوز: زيد أفضل الإخوة، والإضافة في جميع هذا ليست بمعنى اللام، ولا بمعنى من، ولكن معناها أن فَضْلَ المذكور يزيد على فضل غيره، فإن أدخلت مِنْ جاز أن تقول: الرجال أفضل من النساء، والنساء أضعف من الرجال فإذا قلت "زيد أفضل القوم" كان زيد واحداً منهم، وإذا قلت "زيد أفضل من القوم" كان خارجاً من جملتهم، فهذا هو الفرق بين اللفظين. ومن شرط أفْعَلَ هذا أيضاً أن يكون مَصُوغا من فعل ثلاثي نحو: زيد أفضل وأكرم وأعلم من عمرو، وذلك أن بعض ما زاد على ثلاثة أحرف يمتنع أن يُبْنَى منه أفعل، نحو دَحْرَج واستخرج وتَدَحْرَج وتَخَرَّجَ وأشباهها، وبعضه يؤدِّي إلى اللبس، كقولك: زيد أكرم وأفضل وأحسن من غيره، وأنت تريد بها الزيادة في الإفضال والإكرام والإحسان، فأتوا بما يزيل اللَّبْسَ والامتناع، وهو أنهم بَنَوْا من الثلاثي لفظاً يُنْبيء عن الزيادة وأوقعوه على مصدر ما أرادوا تفضيلَه فيه، فقالوا: زيد أكثر إفضالاً وإكراماً، وأَعَمُّ إحساناً، وأشد استخراجاً، وأسرع انطلاقا، وما أشبه ذلك. ولا يبنى أفعل من المفعول إلا في النُّدْرَةِ، نحو قولهم: أَشْغَلُ من ذات النِّحْيَين، وأَشْهَرُ من الأبلق، والعَوْدُ أحمد، وما أشبهها، وذلك أن المفعول لا تأثير له في الفعل الذي يحلّ به حتى يتصور فيه الزيادة والنقصان، وكذلك حكم ما كان خِلَقَةً كالألوان والعُيُوب، لا تقول زيد أَبْيَضُ من عمرو، ولا أَعْوَرُ منه، بل تقول: أشد بياضاً، وأقبح عَوَراً، لأن هذه الأشياء مستقرة في الشخص ولا تكاد تتغير، فجَرَتْ مَجْرَى الأعضاء الثابتة التي لا معنى للفعل فيها، نحو اليد [ص 81] والرِّجْل، لا تقول: زيد أَيْدَى من عمرو، ولا فلان أَرْجَلُ من فلان، قال الفراء: إنما ينظر في هذا إلى ما يجوز أن يكون أقل أو أكثر، فيكون أَفْعَلُ دليلاً على الكثرة والزيادة، ألا ترى أنك تقول: زيد أَجْمَلُ من فلان، إذا كان جمالُه يزيد على جماله، ولا تقول للأعميين: هذا أَعْمَى من ذاك، فأما قوله تعالى قد يقتر الحول التقيّ * ويكثر الحمق الأثيم وكذلك قولُه تعالى وحكم ما أَفْعَلَهُ وأفْعِلْ به في التعجب حكم أَفْعَلَ في التفضيل في أنه أيضاً لا يبنى إلا من الثلاثي، ولا يتعجب من الألوان والعيوب إلا بلفظ مَصُوغ من الفعل الثلاثي كما تقدم، فلا يقال: ما أَعْوَرَهُ ولا ما أَعْرَجَه، بل يقال: ما أشدَّ عوَره، وَأَسْوَأَ عَرَجَه، وما أشد بَيَاضَه وَسَوَاده، وقول من قال: أَبْيَضُ مِنْ أُخْتِ بَنِي أَبَاضِ* وقول الآخر: أَمَّا المُلُوكُ فأَنْتَ الْيَوْمَ أَلأَمُهُمْ * لُؤْمًا وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَباخِ محمولان على الشذوذ، وكذلك قولهم: ما أعطاه، وما أَوْلاَه للمعروف، وما أَحْوَجَه، يريدون ما أشد احتياجَه، على أن بعضهم قال: ما أَحْوَجَه من حَاجَ يَحُوجُ حَوْجاً، أي احتاج، وقال بعضهم: إنما فعلوا هذا [ص 82] بعد حذف الزيادة وردِّ الفعِل إلى الثلاثي، وهذا وَجْه حَسَن. وحكم أَفْعِلْ به في التعجب حكم ما أفعله لا يقال: أَعْوِرْ به، كما لا يقال: ما أَعْوَرَه، بل يقال: أشْدِدْ بعَوَرِهِ، ويستوي في لفظ أَفْعِلْ به المذكرُ والمؤنث والتثنية والجمع، تقول: يا زيد أكْرِمْ بعمرو، ويا هند أكرم بزيد، ويا رجلان أكرم، ويا رجال أكرم، كما كان في مَا أَحْسَنَ زيداً، وما أَحْسَنَ هنداً، وما أَحْسَنَ الزيدين، وما أحسن الهندات. كذلك قال أبو عبد الله حمزة بن الحسن في كتابه المُعَنْون بأفعل حاكياً عن المازني أنه قال: قد جاءت أَحْرُف كثيرة مما زاد فعله على ثلاثة أحرف فأدخلت العربُ عليه التعجب، قالوا: ما أَتْقَاه الله، وما أَنْتَنه، وما أَظْلَمَها، وما أَضْوَأَها، وللفقير: ما أفقْرَه، وللغني: ما أَغْنَاه، وإنما يقال في فعلهما: افتقر واستغنى، وقالوا للمستقيم: ما أَقْوَمَه، وللمتمكن عند الأمير: ما أَمْكَنه، وقالوا: ما أَصْوَبه، وهذا على لغة من يقول: صَابَ بمعنى أصاب، وقالوا "ماأَخْطَأه" لأن بعض العرب يقولون خَطِئْتُ في معنى أخطأت وقال: يَا لَهْفَ هِنْدٍ إذ خَطِئْنَ كَاهِلاَ* (هو من كلام امرئ القيس بن حجر الكندي) وقالوا: ما أَشْغَلَه، وإنما يقولون في فعله شُغِلَ، وما أزهاه وفعله زُهِيَ. وقالوا: ماآبَلَه يريدون ما أكثر إبِلَه، وإنما يقولون: تأبَّلَ إبلا إذا اتخذها، وقالوا: ما أبْغَضَه لي، وما أَحَبَّه إلي، وما أَعْجَبَه برأيه، وقال بعض العرب: ما أملأ القِرْبة، هذا ما حكاه عن المازني، ثم قال: وقال أبو الحسن الأخفش: لا يكادون يقولون في الأرْسَح ما أَرْسَحَه، ولا في الأسْتَه ما أَسْتَهَه، قال: وسمعت منهم من يقول: رَسِحَ وَسَتِه، فهؤلاء يقولون: ما أرْسَحَه وما أسْتَهَه. قلت: في بعض هذا الكلام نظر، وذلك أن الحكم بأن هذه الكلمات كلها من المَزِيد فيه غيرُ مسلم، لأن قولهم "ما أتقاه لله" يمكن أن يحمل على لغة من يقول: تَقَاه يَتْقِيه، بفتح التاء من المستقبل وسكونها، حتى قد قالوا: أتقى الأتقياء، وبنوا منه تَقِي يَتْقِي مثل سَقَى يَسْقِي إلا أن المستعمل تحريك التاء من يتقي، وعليه ورد الشعر، كما قال: زِيَادَتَنَا نَعْمَانُ لاَ تَنْسَيَنَّهَا * تَقِ اللّه فِينَا والكتابَ الذي تَتْلُو وقال آخر: جَلاَهَا الصّيْقَلُونَ فأَخْلَصُوهَا * خفَافاً كُلُّهَا يَتْقِي بأثْرِ [ص 83] وقال آخر: وَلاَ أَتَقِي الغَيُورَ إذا رَآنِي * وَمثْلِي لزَّ بالحمس الرَّبِيسِ فلما وجدوا الثلاثي منه مستعملا بنوا عليه فعل التعجب، وبنوا منه فَعِيلا كالتقيّ وقالوا منه على هذه القضية: ما أتقاه لله. وقولهم "ما أَنْتَنَه" لإنما حملوه على أنه من باب نَتَنَ يَنْتنُ نَتناً، وهي لغة في أَنْتَن يُنْتِنُ فمن قال: نتن قال في الفاعل مُنْتن، ومن قال منتن بناه على أنْتَنَ. هذا قول أبي عبيد عن أبي عمرو، وقال غيره: مُنْتِن في الأصل مُنْتِين فحذفوا المدة فقالوا: مُنْتِن، والقياس أن يقولوا: نَتَن فهو نَاتِن أو نَتِين، ولو قالوا نَتُنَ فهو نَتْنٌ على قياس صَعُبَ فهو صَعْب كان جائزاً. وقولهم "ما أظلهما وأضوأها" من هذا القبيل أيضاً، لأن ظَلِمَ يَظْلَم ظلمة لغة في أظلم، وكذلك "ما أضوأها" يعنون الليلة إنما هو من ضَاء يَضُوء ضَوْءاً وضُوَاء، وهي لغة في أضاء يُضِيء إضاءة، وإذا كان الأمر على ما ذكرت كان التعجب على قانونه. وأما قوله: قالوا للفقير "ما أفْقَرَهُ" فيجوز أن يقال: إنهم لما وجدوه على فَعِيل توهموه من باب فَعُلَ بضم العين مثل صَغُر فهو صَغير وكبر فهو كبير، أو حملوه على ضده فقدَّروه من باب فَعِل بكسر العين كغَنِى فهو غَنِيّ، كما حملوا عَدُوَّة الله على صَدِيقة، وذلك من عادتهم: أن يحملوا الشيء على نقيضه، كقوله: إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ * لَعَمْرُ اللّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا فوصَلَ رضيَتْ بعلي لأنهم قالوا في ضده: سَخِط عَلَيَّ، ومثل هذا موجود في كلامهم، أو حملوه على فَعيل بمعنى مفعول، فقد قالوا: إنه المكسورُ الفَقَار، وإذا حُمل على هذا الوجه كان في الشذوذ مثله إذا حمل على افتقر. وأما قولهم "ما أغناه" فهو على النَّهْج الواضح، لأنه من قولهم غَنِيَ يَغْنَي غِنًى فهو غَنِيّ، فلا حاجة بنا إلى حَمْله على الشذوذ. وأما قولهم للمستقيم "ما أَقْوَمَه" فقد حملوه على قولهم: شيء قَوِيم، أي مستقيم، وقام بمعنى استقام صحيحٌ، قال الراجز: وقَامَ مِيزَانُ النَّهَارِ فَاعْتَدَلْ* ويقولون: دينار قائم، إذا لم يزد على مثقال ولم ينقص، وذلك لاستقامة فيه، فعلى هذا الوجه ما أَقْوَمَه غيرُ شاذ. وقولهم للمتمكن عند الأمير "ما أمْكَنَه" إنما هو من قولهم "فلان مَكِين عند فلان" و "له مكانة عنده" أي منزلة، فلما رأوا [ص 84] المكانة وهي من مَصَادر فَعَل بضم العين، وسمعوا المكِيَن وهو من نعوت هذا الباب نحو كَرُم فهو كريم وشَرُف فهو شريف، توهموا أنه من مَكُنَ مَكَانة فهو مَكِين مثل مَتُن مَتَانة فهو مَتِين، فقالوا: ما أَمْكَنه، وفلان أَمْكَنُ من فلان، وليس توهمهم هذا بأغْرَبَ من توهمهم الميم في التمكن والإمكان والمكانة والمكان وما اشتقَّ منها أصلية، وجميعُ هذا من الكون، وهذا كما أنهم توهموا الميم في المِسْكِين أصلية فقالوا: تَمَسْكَنَ، ولهذا نظائر . وأما قولهم "ما أصْوَبَه" على لغة من يقول صَاب يعني أصاب ولم يزيدوا على هذا فإني أقول: هذا اللفظ أعني لفظ صاب مبُهْم لا يُنْبئ عن معنى واضح، وذلك أن صاب يكون من صَابَ المطرُ يَصُوب صَوْباً، إذا نزل، وصَابَ السهمُ يَصُوب صَيْبُوبة، إذا قصد ولم يَجْرُ، وصاب السهمُ القرطاسَ يَصِيبه صَيْباً لغة في أصاب، ومنه المثل " مَعَ الخواطئ سهم صَائِب" فإن أرادوا بفولهم صاب هذا الأخيَر كان من حقهم أن يقولوا: ما أصْيَبَه، لأنه يائي، وإن أرادوا بقولهم: أصاب أي أتى بالصواب من القول فلا يقال فيه صَاب يَصِيب. وأما قوله "قالوا ما أَخْطَأه" لأن بعض العرب يقول: خَطِئت في معنى "أخطأت" فهو على ما قال. وأما " ما أشْغَلَه" فلا رَيْبَ في شذوذه، لأنه إن حُمل على الاشتغال كان شاذا، وإن حمل على أنه من المفعول فكذلك. وأما "ما أزْهَاهُ" وحمله على الشذوذ من قولهم زُهِيَ فهو مَزْهُوٌّ فإن ابن دُرَيد قال: يقال زَهَا الرجلُ يَزْهُو زَهْواً أي تكبر ومنه قولهم: ما أزْهَاه، وليس هذا من زُهِىَ لأن ما لم يسم فاعله لا يتعجب منه، هذا كلامه، وأمر آخر، وهو أن بين قولهم "ما أشغله" و "ما أزهاه" إذا حمل على زُهى فرقاً ظاهراً، وذلك أن المزهُوَّ وإن كان مفعولا في اللفظ فهو في المعنى فاعل، لأنه لم يقع عليه فعل من غيره كالمشغول الذي شَغَله غيره، فلو حمل "ما أزْهَاه" على أنه تعجب من الفاعل المعنوي لم يكن بأس. وأما قولهم "ما آبَلَه" أي ما أكثر إبلَه، ثم قوله "وإنما يقولون تأبَّلَ إبلا إذا اتخذها" ففي كل واحد منهما خلل، وذلك أن قولهم "ما آبله" ليس من الكثرة في شيء، إنما هو تعجب من قولهم أبِلَ الرجلُ يأبل إباله مثل شكس شكاسة فهو أَبِل وآبِل أي حاذق بمصلحة الإبل، وفلان من آبَل الناس، أي من أشدهم تأنقا في رعْيَةِ الإبل وأعلمهم بها، فقولهم "ما آبَلَهُ" معناه ما أحْذَقَه وأعْلَمَه بها، وإذا صح هذا فحملُه [ص 85] ما آبله على الشذوذ سهو، ثم حمله على معنى كثر عنده الإبل سهوٌ ثانٍ، وقوله "تأبَّلَ أي اتخذ إبلا" سهو ثالث، وذلك أن التأبل إنما هو امتناع الرجل من غِشْيان المرأة ومنه الحديث "لقد تأبَّلَ آدمُ على ابنه المقتول كذا عاما" وتأبلت الإبل: اجتزأت بالرطب عن الماء، والصحيح في اتخاذ الإبل واقتنائها قولُ طُفَيل الْغَنَوي. فأبَّل واسترخى به الْخَطْبُ بعدما * أسَافَ ولولا سَعْيُنا لم يُؤَبِل أي لم يكن صاحب لإبل ولا اتخذها قِنْوَة. وقولهم "ما أبغضه لي" ويروى "ما أبغضه إلي" وبين الروايتين فرق بين، وذلك أن "ما أبغضه لي" يكون من المبغِض أي ما أشَدَّ إبْغَاضَه لي، وما" أبْغَضَه إلي" يكون من البغيض بمعنى المُبْغَضِ: أي ما أشد إبغاضي له، وكلا الوجهين شاذ، وكذلك "ما أحبه إلي" إن جعلته من حَبَبْتُه أحِبُّه فهو حَبيب ومَحْبُوب كان شاذا، وإن جعلته من أحْبَبْتُه فهو مُحِب فكذلك. وقولهم "ما أعْجَبَهُ برأيه" هو من الإعجاب لاغير، يقال: أُعْجِبَ فلان برأيه، على ما لم يسم فاعله، فهو مُعْجَب. وأما قول بعض العرب "ما أملأ القِرْبَة" فهو إن حملته على الامتلاء أو على المملوء كان شاذا. وأما قول الأخفش "لا يكادون يقولون في الأرْسَح ما أرْسَحَه، ولا في الأسْتَهَ ما أَسْتَهَه" فكلام مستقيم، لأنه من العيوب والخِلَق، وقد تقدم هذا الحكم. قال: "وسمعت منهم من يقول رَسِحَ وسَتِه فهؤلاء يقولون ما أرسحه وما أستهه" قلت: إنهم إذا بَنَوْا من فَعِلَ يَفْعَلُ صفةً على فَعِلٍ قالوا في مؤنثه فَعِلَة نحو أسِفَ فهو أسِف، والمرأة أسِفَة، وسحاب نَمِر (قالوا "ماء نمر" أي زاك كثير) وللمؤنث نمِرة، ولم يسمع امرأة رَسِحة ولا سَتِهة، بل قالوا: رَسْحَاء وسَتْهاء، فهذا يدل على أن المذكر أرْسَح وأسْتَه. هذا، وقد شذ أحرف يسيرة في كتابي هذا عن باب أفعل من كذا كان من حقها أن تكون فيه، نحو قولهم: أقبح هزيلين المرأة والفرس، وأسوأ القول الإفراط، وأشباههما، لكنها لما زالت عن أماكنها تجوزت فيها إذ لم تكن مقرونة بمن كما تجوز حمزة في إيراد قولهم: أكْذَبُ مَنْ دَبَّ ودَرَج، وأعلم بمَنْبَتِ القَصيص، وأسَدُّ قويس سهما في أفعل من كذا، ولا شك أن الجميع في حكم أفعل التفضيل. [ص 86]
|