الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)} هذا المقطع من سياق السورة نزل متأخراً عن بقيتها؛ وإن كان قد جاء ترتيبه في مقدماتها. وترتيب الآيات في السورة كان يتم- كما تقدم- بأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو أمر توقيفي منه صلى الله عليه وسلم. وهو يتضمن إنهاء العهود التي كانت قائمة بين المسلمين والمشركين حتى ذلك الحين. سواء كان هذا الإنهاء بعد أربعة أشهر لمن كانت عهودهم مطلقة، أو الناكثين لعهودهم؛ أو كان بعد انتهاء الأجل لمن كانت لهم عهود مقيدة، ولم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً.. فعلى الجملة كانت النتيجة الأخيرة هي إنهاء العهود مع المشركين في الجزيرة العربية؛ وإنهاء مبدأ التعاقد أصلاً مع المشركين بعد ذلك، بالبراءة المطلقة من المشركين، وباستنكار أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله. ومن بين ما يتضمنه كذلك عدم السماح للمشركين بالطواف بالمسجد الحرام أو عمارته في صورة من الصور بعد ذلك. خلافاً لما كان عليه العهد العام المطلق بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمشركين، أن يأمن بعضهم بعضاً في البيت الحرام والأشهر الحرم مع بقائهم على شركهم. والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي؛ ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه.. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين- وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة- كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم. كان قد تبين من الواقع العملي مرحلة بعد مرحلة، وتجربة بعد تجربة، أنه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق البعيد المدى الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور، والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي- والإنساني- وهو الاختلاف الذي لا بد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور.. منهجين للحياة أحدهما يقوم على عبودية العباد لله وحده بلا شريك؛ والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر، وللآلهة المدعاة، وللأرباب المتفرقة. ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة؛ لأن كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى، ومتصادمة معها تماماً، في مثل هذين المنهجين وفي مثل هذين النظامين. إنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة «أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» في مكة. ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة. . ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة؛ وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد- وهم من أهل الكتاب!- وأن يؤلب اليهود وتؤلب قريش قبائل العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد!. وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى- وهم من أهل الكتاب كذلك!- لهذه الدعوة ولهذه الحركة سواء في اليمن أم في الشام؛ أم فيما وراء اليمن ووراء الشام إلى آخر الزمان!. إنها طبائع الأشياء.. إنها أولاً طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيداً- ويستشعرها بالفطرة- أصحاب المناهج الأخرى! طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين «الناس كافة» وبين حرية الاختيار الحقيقية.. ثم إنها ثانياً طبيعة التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة؛ وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم!.. فهي حتمية لا اختيار فيها- في الحقيقة- لهؤلاء ولا هؤلاء! وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن، وعلى مدى التجارب؛ وتتجلى في صور شتى، تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة؛ ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى.. وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف، وإلى تحركاته المستمرة، يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة. وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة، لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة. وقد ذكر الإمام البغوي في تفسيره أن المفسرين قالوا: إنه لما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك أرجف المنافقون، وأخذ المشركون ينقضون عهودهم؛ فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء، مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل، أو قصرها على أربعة أشهر إن كانت أكثر. وذكر الإمام الطبري- بعد استعراضه الأقوال في تفسير مطلع السورة-: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين}. ومما رواه الطبري كذلك- بإسناده- عن مجاهد قوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} قال: أهل العهد: مدلج والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك حين فرغ منها، وأراد الحج. ثم قال: «إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فأرسل أبا بكر وعلياً رحمة الله عليهما، فطافا بالناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر. فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر. ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حنيئذ، ولم يَسح أحد «. وهذه الأسباب القريبة المباشرة لا شك كان لها وزنها في اتخاذ الخطوة الأخيرة الحاسمة. ولكنها بدورها ليست إلا حلقات في السلسلة الطويلة؛ الناشئة ابتداء من الحتمية الجذرية الكبيرة: وهي تعارض المنهجين أصلاً، وعدم إمكان التعايش بينهما إلا فترات اضطرارية تنتهي حتماً... وقد أراد المرحوم الشيخ رشيد رضا أن يلم بحلقات السلسلة منذ بدء الدعوة- وإن يكن لم يحاول أن يلم بأصل الاختلاف الجذري الدائم الذي ينشئ هذه السلسلة بحلقاتها؛ والذي ينتهي بما انتهت إليه حتماً- فقال في تفسير المنار: » من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه، أن الله تعالى بعث محمداً رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة، ذكرنا كلياتها في تفسير: (2: 3) (ص 190- ص228 ج 1) وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة؛ ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة، كما بيناه في تفسير (2: 256 ص 26- ص 40 ج 3) فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه (ص) عن تبليغه للناس بالقوة؛ ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب، إلا بتأمين حليف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة؛ ثم اشتد إيذاؤهم للرسول (ص) حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علناً في دار الندوة؛ ورجحوا في آخر الأمر قتله؛ فأمره الله تعالى بالهجرة، كما تقدم في تفسير [8: 30] {وإذا يمكر بك الذين كفروا} (ص 650 ج 9) فهاجر (ص) وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصاراً لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم. وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع ومقتضى العرف العام في ذلك العصر. وعاهد (ص) أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون. فخانوا وغدروا، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه. كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء (ص 1547- 1556). «وقد عاهد (ص) المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل، عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة. ودخلت خزاعة في عهده (ص) كما دخلت بنو بكر في عهد قريش؛ ثم عدا هؤلاء على أولئك وأعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم، فكان ذلك سبب عودة الحرب العامة معهم، وفتحه (ص) لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله؛ ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا؛ وثبت بالتجربة لهم في حالي قوتهم وضعفهم أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم، وكما يأتي قريباً في قوله تعالى من هذه السورة 7: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله- إلى قوله في آخر أية 12- فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}. أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية، فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه، مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يدان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه. كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق، من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب؟! » هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام عليها؛ وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى: [2: 190] {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} وقوله: [8: 61] {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} بقدر الإمكان. وإن قال الجمهور بنسخ هذه الآية بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك «.. انتهى. وظاهر من هذا الاستعراض ومن التعقيب عليه- ومما جاء بعده في تفسير السورة في تفسير المنار- أنه مع لمس السبب الأصيل العميق الكامن وراء هذه السلسلة من نقض العهود، وابتداء أول فرصة لحرب الإسلام وأهله من المشركين وأهل الكتاب، فإن المؤلف لا يتابع هذا السبب إلى جذوره؛ ولا يرى امتداده وشموله؛ ولا يستشرف الحقيقة الكبيرة في طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي؛ وطبيعة الاختلاف الجذري بين منهج الله ومناهج العبيد، التي لا يمكن الالتقاء على شيء منها؛ وبالتالي لا يمكن التعايش الطويل بين المعسكرات القائمة على منهج الله وهذه المناهج أصلاً! فأما الأستاذ محمد عزة دروزة في تفسيره للسورة في كتابه:» التفسير الحديث «فيبعد جداً عن هذه الحقيقة الكبرى؛ ولا يلمس ذلك السبب الأصيل العميق أصلاً. ذلك أنه مشغول- كغيره من الكتاب المحدثين الواقعين تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين وللقوة الظاهرة لمعسكرات المشركين والملحدين وأهل الكتاب في هذا الزمان- بتلمس شهادة لهذا الدين بأنه دين السلم والسلام؛ الذي لا يعنيه إلا أن يعيش داخل حدوده في سلام! فمتى أمكنت المهادنة والمعاهدة فهو حريص عليها، لا يعدل بها هدفاً آخر! وهو من ثم لا يرى سبباً لهذه النصوص الجديدة الأخيرة في سورة التوبة إلا نقض بعض المشركين لعهودهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأن الذين لم ينقضوا عهودهم- سواء كانت مؤقتة أو مؤبدة- فقد جاءت السورة بالمحافظة عليها. وأنه حتى إذا انقضت عهودهم فإنه يجوز أن تعقد معهم معاهدات جديدة!!! وكذلك الناكثون أنفسهم! وأن الآيات المرحلية هي الأصل الذي يقيد عموم الآيات الأخيرة في هذه السورة!!! وفي ذلك يقول في شرح قوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم}. «وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني، حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله، وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم، ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر. » ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف، ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم. وتوجب قتالهم إطلاقاً. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوّز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلو ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادين وبرهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأن ينقض ما كان سمى لهم من عهد وميثاق. وقد روى المفسر نفسه قولاً عجيباً عن سليمان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآيات وآيات أخرى من هذه السورة وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر، منها هذه الآية وسماها سيفاً في المشركين من العرب، وسيفاً في قتال أهل الكتاب وهي آية التوبة هذه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [29] وسيفاً في المنافقين وهو هذه الآية من سورة التوبة أيضاً: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [73] وسيفاً في قتال الباغين وهو هذه الآية في سورة الحجرات: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [9] ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين ومن لا عهد لهم إطلاقاً دون تفريق. مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [8] أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البر والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملة كانوا. وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين! «كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب. بحيث يسوغ القول إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكل مشرك إطلاقاً تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى، وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام، مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحث على البر والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم، وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله. » وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام أولاهما: أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد، فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟ وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد. ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق. وأن الأمر يتحمل شيئاً من التوضيح: فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمينَ قبل العهد، وقد وقع حرب وقتال بينهم، ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء وقتال. وآية النساء هذه: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم. فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} [90] تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة حيث روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني صخر من كنانة ألا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدواً، وكتب بينه وبينهم كتاباً بذلك. وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة بالاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرينة على ما نقول إن شاء الله. «أما المسألة الثانية: فهي ما تفيده الفقرة الأخيرة من الآية الثانية من كون تخلية سبيل المشركين والكف عن قتالهم بسبب نقضهم منوطين بتوبتهم عن الشرك وإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة. » والذي يتبادر لنا في صدد هذه المسألة أن المشركين بعد أن نقضوا عهدهم وقاتلهم المسلمون فقدوا حق العهد ثانية. وصار من حق المسلمين أن يفرضوا الشرط الذي يضمن لهم الأمن والسلامة، وهو توبتهم عن الشرك ودخولهم في الإسلام وقيامهم بواجباته التعبدية والمالية. ولا يعد هذا من قبيل الإكراه في الدين، بقطع النظر عن أن الشرك يمثل مظاهر انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق، كما يمثل نظاماً جاهلياً فيه التقاليد الجائرة والعادات المنكرة والعصبيات الممقوتة، وأن الإسلام الذي يشترط عليهم الدخول فيه يضمن لهم الخلاص من ذلك، والارتفاع بهم إلى مستوى الكمال الإنساني عقلاً وخلقاً وعبادة وعقيدة وعملاً. على أننا لسنا نرى في الآيات مع ذلك ما يمنع المسلمين أن يجددوا العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. وقد لا يكونون قادرين على متابعة الحرب، أو على إخضاعهم بالقوة. والله تعالى أعلم «... انتهى. وواضح من هذه الفقرات التي اقتطفناها ومن أمثالها في تفسير المؤلف كله أنه ابتداء لا يلقي باله إلى حق الإسلام المطلق في أن ينطلق في الأرض لتحرير البشرية من العبودية للعباد، وردها إلى الله وحده، حيثما كان ذلك ممكناً له، بغض النظر عما إذا كان هناك اعتداء على أهله داخل حدودهم الإقليمية أم لم يكن. . فهو يستبعد هذا المبدأ ابتداء. وهو المبدأ الذي يقوم عليه الجهاد في الإسلام. وبدونه يفقد دين الله حقه في أن يزيل العقبات المادية من طريق الدعوة، ويفقد كذلك جديته وواقعيته في مواجهة الواقع البشري بوسائل مكافئة له في مراحل متعددة بوسائل متجددة، ويصبح عليه أن يواجه القوى المادية بالدعوة العقيدية! وهو هزال لا يرضاه الله لدينه في هذه الأرض! وواضح كذلك أن المؤلف لا يلقي باله إلى طبيعة المنهج الحركي في الإسلام، ومواجهته للواقع بوسائل مكافئة. فهو يحيل الأحكام النهائية الأخيرة على النصوص المرحلية قبلها. دون التفات إلى أن النصوص السابقة كانت تواجه حالات واقعة غير الحالة التي جاءت النصوص الأخيرة تواجهها.. وحقيقة إن هذه الأحكام ليست (منسوخة) بمعنى أنه لا يجوز الأخذ بها مهما تكن الأحوال- بعد نزول الأحكام الأخيرة- فهي باقية لمواجهة الحالات التي تكون من نوع الحالات التي واجهتها. ولكنها لا تقيد المسلمين إذا واجهتهم حالات كالتي واجهتها النصوص الأخيرة، وكانوا قادرين على تنفيذها.. .. إن الأمر في حاجة إلى سعة ومرونة وإدراك لطبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي كما أسلفنا.. وبعد، فإننا نعود إلى العبارة التي افتتحنا بها الفقرة السابقة: «والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي، ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه.. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين- وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة- كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم». كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يُفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع؛ والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير الله، أو تجعل فيه شركاء لله.. هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول الله سبحانه {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40] والذي يقول عنه سبحانه كذلك: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251]. وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين: إحداهما: انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة؛ لنشر منهج الله في الأرض حوله؛ وإبلاغ كلمة الله إلى أرض بعد أرض وإلى قبيلة بعد قبيلة- في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام والبلوغ إلى كل بني الإنسان- حتى فتحت مكة، وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي، واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف. وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه؛ وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة- تمهيداً لما وراءها من أرض الله حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. وثانيتهما: نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين- في ظروف مختلفة- عهداً بعد عهد؛ بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها، وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده؛ أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين- ومن أهل الكتاب من قبلهم- فما كانت هذه العهود- إلا نادراً- عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين؛ إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين! فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلاً أن ترى الإسلام ما يزال قائماً حيالها؛ مناقضاً في أصل وجوده لأصل وجودها؛ مخالفاً لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها، يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله، ورد الناس جميعاً إلى عبادة الله وحده. وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها الله سبحانه في قوله عن المشركين: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217] والتي يقول فيها عن أهل الكتاب: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109] ويقول فيها كذلك: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} [البقرة: 120] فيعلن- سبحانه- بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين؛ وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان! وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه- على مدار التاريخ- بالرجوع إليه، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام؛ ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي. ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية؛ ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرناً؛ والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين- وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام ولم يبق لهم منه إلا العنوان- في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية كلها: في روسيا والصين ويوغسلافيا وألبانيا. وفي الهند وكشمير. وفي الحبشة وزنجبار وقبرص وكينيا وجنوب افريقية والولايات المتحدة.. وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي- أو الذي كان إسلامياً بتعبير أدق- وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع، ومد يد الصداقة إليها، وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة، وإقامة ستار من الصمت حولها وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة! إن شيئاً من هذا كله لا يصبح مفهوماً بدون إدراك ذلك القانون الحتمي والظواهر التي يتجلى فيها.. وقد تجلى ذلك القانون- كما أسلفنا- قبيل نزول سورة التوبة بعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما. وظهر بوضوح أنه لا بد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة سواء تجاه المشركين- وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة- أو تجاه أهل الكتاب، وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده.. ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة- حينذاك- لم يكن معناه وضوحه- بنفس الدرجة- لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم. وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان والمؤلفة قلوبهم، فضلاً على ضعاف القلوب والمنافقين! كان في المجتمع المسلم- ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم- من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعاً- بعد أربعة أشهر للناكثين ومن لهم عهود غير موقتة ومن لم يحاربوا المسلمين ولو من غير عهد ومن لهم عهود أقل من أربعة؛ وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة ولم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً- ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين والذين تخاف منهم الخيانة، كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58] فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر أو بعد الأجل المقدر، ربما بدا لهم مخالفاً لما عهدوه وألفوه من معاهدة المعاهدين وموادعة الموادعين وترك المهادنين.. ولكن الله- سبحانه- كان يريد أمراً أكبر من المألوف؛ وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور! وكان في المجتمع المسلم كذلك- ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم كذلك- من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة، ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام؛ بعدما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب؛ ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك لا خوف منها على الإسلام اليوم. ومن المتوقع أن تفيء رويداً رويداً- في ظل السلم- إلى الإسلام.. ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة، متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف. . ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها، وأن تخلص الجزيرة للإسلام، وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له؛ وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجيء! وكان في المجتمع المسلم- ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين وخيارهم أيضاً!- من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها؛ وتأثير ذلك في موسم الحج، وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يعمر المشركون مساجد الله. وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة؛ وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة!.. ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها- كما تقدم- وأن تكون العقيدة أرجح في ميزان القلوب المؤمنة من كل ما عداها. سواء من القرابات والصداقات؛ أم من المنافع والمصالح. كما أنه- سبحانه- كان يريد أن يعلمهم أنه هو الرزاق وحده، وأن هذه الأسباب الظاهرة للرزق ليست هي الأسباب الوحيدة التي يملك أن يسخرها لهم بقدرته. وكان في المجتمع المسلم من ضعاف القلوب والمترددين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، وغيرهم كذلك ممن دخلوا في دين الله أفواجاً ولم ينطبعوا بعد بالطابع الإسلامي من يفرق من قتال المشركين كافة؛ ومن الكساد الذي ينشأ من تعطيل المواسم، وقلة الأمن في التجارة والتنقل وانقطاع الأواصر والصلات؛ وتكاليف الجهاد العام في النفوس والأموال. ولا يجد في نفسه دافعاً لاحتمال هذا كله، وهو إنما دخل في الإسلام الغالب الظاهر المستقر؛ فهي صفقة بلا عناء كبير.. أما هذا الذي يرادون عليه فما لهم وما له وهم حديثوا عهد بالإسلام وتكاليفه؟!.. وكان الله- سبحانه- يريد أن يمحص الصفوف والقلوب، وهو يقول للمسلمين {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون}. هذه الأعراض المتشابكة في المجتمع المسلم المختلط- بعد الفتح- اقتضت ذلك البيان الطويل المفصل المتعدد الأساليب والإيحاءات في هذا المقطع، لمعالجة هذه الرواسب في النفوس، وهذه الخلخلة في الصفوف، وتلك الشبهات حتى في قلوب بعض المسلمين المخلصين.. اقتضت أن تفتتح السورة بهذا الإعلان العام ببراءة الله ورسوله من المشركين، وأن يتكرر إعلان البراءة من الله ورسوله بعد آية واحدة بنفس القوة ونفس النغمة العالية؛ حتى لا يبقى لقلب مؤمن أن يبقى على صلة مع قوم يبرأ الله منهم ويبرأ رسوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}. . [1] {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله}.. [3] واقتضت تطمين المؤمنين وتخويف المشركين بأن الله مخزي الكافرين، وأن الذين يتولون لا يعجزون الله ولا يفلتون من عذابه: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين}.. [2] {فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}.. [3] واقتضت استنكار أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله- إلا الذين عاهدوا ثم استقاموا فيستقام لهم مدة عهدهم ما استقاموا عليه- مع تذكير المؤمنين بأن المشركين لا يرقبون فيهم عهداً ولا يتذممون من فعلة لو أنهم قدروا عليهم، وتصوير كفرهم، وكذبهم فيما يظهرونه لهم أحياناً من مودة بسبب قوتهم: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله- إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين- كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاَّ ولا ذمة، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون، اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون}... [7- 10] واقتضت استثارة الذكريات المريرة في نفوس المسلمين؛ واستجاشة مشاعر الغيظ والانتقام وشفاء الصدور من أعدائهم وأعداء الله ودين الله: {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم}.. [13- 15]. واقتضت الأمر بالمفاصلة الكاملة على أساس العقيدة؛ ومقاومة مشاعر القرابة والمصلحة معاً؛ والتخيير بينها ويبن الله ورسوله والجهاد في سبيله، ووقف المسلمين على مفرق الطريق: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون. قل: إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين}.. [23- 24]. واقتضت تذكيرهم بنصر الله لهم في مواطن كثيرة، وأقربها يوم حنين الذي هزموا فيه فلم ينصرهم إلا الله بجنده وبتثبيته لرسوله: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين}.. [25- 26]. واقتضت أخيراً تطمينهم من ناحية الرزق الذي يخشون عليه من كساد الموسم وتعطل التجارة؛ وتذكيرهم أن الرزق منوط بمشيئة الله لا بهذه الأسباب الظاهرة التي يظنونها: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء، إن الله عليم حكيم}.. [28] وهذه التوكيدات والتقريرات، وهذه الإيحاءات والاستثارات، وهذه الحملة الطويلة المنوعة الأساليب.. تشي- كما أسلفنا- بحالة المجتمع المسلم بعد الفتح، ودخول العناصر الجديدة الكثيرة فيه؛ وبعد التوسع الأفقي السريع الذي جاء إلى المجتمع المسلم بهذه الأفواج التي لم تنطبع بعد بطابع الإسلام.. ولولا أن مجتمع المدينة كان قد وصل مع الزمن الطويل، والتربية الطويلة إلى درجة من الاستقرار والصلابة والخلوص والاستنارة، لكانت هذه الظواهر مثار خطر كبير على وجود الإسلام ذاته كما ذكرنا ذلك مراراً من قبل. والآن نكتفي بهذا القدر من الحديث العام عن ذلك المقطع الأول من السورة وما يشي به من حالة المجتمع في حينه؛ لنواجه نصوصه بالتفصيل: {براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر: أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً- فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم، وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}.. هذه الآيات- وما بعدها إلى الآية الثامنة والعشرين- نزلت تحدد العلاقات النهائية بين المجتمع الإسلامي الذي استقر وجوده في المدينة وفي الجزيرة العربية- بصفة عامة- وبين بقية المشركين في الجزيرة الذين لم يدخلوا في هذا الدين.. سواء منهم من كان له عهد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حينما لاح له أن مواجهة المسلمين للروم- حين توجهوا لمقابلتهم في تبوك- ستكون فيها القاضية على الإسلام وأهله، أو على الأقل ستضعف من شوكة المسلمين وتهد من قوتهم.. ومن لم يكن له عهد ولكنه لم يتعرض للمسلمين من قبل بسوء.. ومن كان له عهد- موقوت أو غير موقوت- فحافظ على عهده ولم ينقص المسلمين شيئاً ولم يظاهر عليهم أحداً.. فهؤلاء جميعاً نزلت هذه الآيات وما بعدها لتحدد العلاقات النهائية بينهم وبين المجتمع المسلم؛ في ظل الاعتبارات التي أسلفنا الحديث عنها بشيء من التوسع سواء في تقديم السورة، أو في تقديم هذا الدرس خاصة. وأسلوب هذه الآيات وإيقاع التعبير فيها، يأخذ شكل الإعلان العام، ورنينه العالي! فيتناسق أسلوب التعبير وإيقاعه مع موضوعه والجو الذي يحيط بهذا الموضوع؛ على طريقة القرآن في التعبير. وقد وردت روايات متعددة في ظروف هذا الإعلان، وطريقة التبليغ به، ومن قام بالتبليغ. أصحها وأقربها إلى طبائع الأشياء وأكثرها تناسقاً مع واقع الجماعة المسلمة يومذاك ما قرره ابن جرير وهو يستعرض هذه الروايات. ونقتطف من تعليقاته ما يمثل رؤيتنا لحقيقة الواقعة مغفلين ما لا نوافقه عليه من كلامه وما تناقض فيه بعض قوله مع بعض. إذ كنا لا نناقش الروايات المتعددة ولا نناقش تعليقات الطبري؛ ولكن نثبت ما نرجح أنه حقيقة ما حدث من مراجعة ما ورد وتحقيقه: قال في رواية له عن مجاهد: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}.. قال: أهل العهد: مدلج والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك حين فرغ منها- وأراد الحج، ثم قال: «إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فأرسل أبا بكر وعلياً رحمة الله عليهما. فطافا بالناس، بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله؛ وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر.. فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر. ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حينئذ. ولم يسح أحد «. وقال- بعد استعراض جملة الروايات في حقيقة الأجل ومبدئه ونهايته والمقصودين به: » وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين}.. [سورة التوبة: 4]. «فإن ظن ظان أن قول الله تعالى ذكره: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [سورة التوبة: 5] يدل على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما ظنه من ظن أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو لم يكن كان له منه عهد. وذلك قوله: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله- إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين} [التوبة: 7] فهؤلاء مشركون؛ وقد أمر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم. «وبعد، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أنه حين بعث علياً رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم:» ومن كان بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده إلى مدته «، أوضح الدليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض قبل التأجيل، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجله محدوداً، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلاً، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان بإتمام عهده إلى غايته مأموراً. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب». وقال في تعقيب آخر على الروايات المتعددة في شأن العهود: «فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا. فأما من كان عهده إلى مدة معلومة فلم يجعل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم سبيلاً، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد وفى له بعهده إلى مدته، عن أمر الله إياه بذلك. وعلى ذلك ظاهر التنزيل، وتظاهرت به الأخبار عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-». وإذا نحن تركنا الروايات التي بها ضعف، وما يمكن أن يكون قد تركه الخلاف السياسي- فيما بعد- بين شيعة علي- رضي الله عنه- وأنصار الأمويين، أو أهل السنة، من الأثر في بعض الروايات؛ فإننا نستيطع أن نقول: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث بأبي بكر- رضي الله عنه- أميراً للحج في هذا العام لما كرهه من الحج والمشركون يطوفون بالبيت عراة. ثم نزلت أوائل سورة التوبة هذه؛ فبعث بها علياً- رضي الله عنه- في أثر أبي بكر. فأذن بها في الناس- بكل ما تضمنته من أحكام نهائية ومنها ألا يطوف بعد العام بالبيت مشرك. وقد روى الترمذي في كتاب التفسير- بإسناده- عن علي قال: «بعثني النبي- صلى الله عليه وسلم- حين أنزلت» براءة «بأربع. أن لا يطف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عهد فهو إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة».. وهذا الخبر هو أصح ما ورد في هذا الباب. فنكتفي به. {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}.. هذا الإعلان العام، بهذا الإيقاع العالي؛ يتضمن المبدأ العام للعلاقة بين المسلمين والمشركين في ذلك الحين في جزيرة العرب قاطبة. إذ كانت العهود المشار إليها هي التي كانت بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمشركين في الجزيرة. والإعلان ببراءة الله وبراءة رسوله من المشركين، يحدد موقف كل مسلم؛ ويوقع إيقاعاً عميقاً عنيفاً على قلب كل مسلم، بحيث لا يبقى بعد ذلك مراجعة ولا تردد! ثم تأتي بعد الإعلان العام البيانات والمخصصات والشروح لهذا الإعلان: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين}.. فهذا بيان للمهلة التي أجل الله المشركين إليها: أربعة أشهر يسيرون فيها ويتنقلون ويتاجرون ويصفون حساباتهم، ويعدّلون أوضاعهم.. آمنين.. لا يؤخذون على غرة وهم آمنون إلى عهودهم. حتى أولئك الذين نقضوا عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم، وعند أول توقع بأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم من تبوك؛ وأن الروم سيأخذونهم أسرى! كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون! ومتى كان ذلك؟ كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض؛ وبعد سلسلة طويلة من التجارب التي تقطع بأن المشركين لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا.. وفي أي عصر تاريخي؟ في العصر الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانوناً إلا قانون الغابة؛ ولم يكن بين المجتمعات المختلفة إلا القدرة على الغزو أو العجز عنه! بلا إنذار ولا إخطار ولا رعاية لعهد متى سنحت الفرصة!. ولكن الإسلام هو الإسلام منذ ذلك الزمان.. ذلك أنه منهج الله الذي لا علاقة له بالزمان في أصوله ومبادئه. فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره؛ ولكنه هو الذي يرقي البشرية ويطورها حول محوره وداخل إطاره؛ بينما هو يواجه واقعها المتطور المتغير- بتأثيره- بوسائل متجددة ومكافئة لما يطرأ عليها في أثناء تحركه بها قدماً من تطور وتغير. ومع المهلة التي يعطيها للمشركين يزلزل قلوبهم بالحقيقة الواقعة؛ ويوقظهم إلى هذه الحقيقة ليفتحوا عيونهم عليها. إنهم بسياحتهم في الأرض لن يعجزوا الله في الطلب! ولن يفلتوا منه بالهرب! ولن يفلتوا من مصير محتوم قدره وقرره: أن يخزيهم ويفضحهم ويذلهم: {واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين}.. وإلى أين يفلتون ويهربون فيعجزون الله عن طلبهم والإتيان بهم؛ وهم في قبضته- سبحانه- والأرض كلها في قبضته كذلك؟! وقد قدر وقرر أن يذلهم فيخزيهم ولا راد لقضائه؟! بعد ذلك يبين الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة وتبلغ إلى المشركين لينذروا بها وبالموعد المضروب فيها: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر: أن الله بريء من المشركين ورسوله. فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}.. ويوم الحج الأكبر اختلفت الروايات في تحديده: أهو يوم عرفة أم يوم النحر. والأصح أنه يوم النحر: والأذان البلاغ؛ وقد وقع للناس في الموسم؛ وأعلنت براءة الله ورسوله من المشركين كافة- من ناحية المبدأ- وجاء الاستثناء في الإبقاء على العهد إلى مدته في الآية التالية.. والحكمة واضحة في تقرير المبدأ العام ابتداء في صورة الشمول؛ لأنه هو الذي يمثل طبيعة العلاقات النهائية. أما الاستثناء فهو خاص بحالات تنتهي بانتهاء الأجل المضروب. وهذا الفهم هو الذي توحي به النظرة الواسعة لطبيعة العلاقات الحتمية بين المعسكر الذي يجعل الناس عبيداً لله وحده، والمعسكرات التي تجعل الناس عبيداً للشركاء، كما أسلفنا في التقديم للسورة والتقديم لهذا المقطع منها كذلك. ومع إعلان البراءة المطلقة يجيء الترغيب في الهداية والترهيب من الضلالة: {فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}.. وهذا الترهيب وذلك الترغيب في آية البراءة؛ يشيران إلى طبيعة المنهج الإسلامي. إنه منهج هداية قبل كل شيء. فهو يتيح للمشركين هذه المهلة لا لمجرد أنه لا يحب أن يباغتهم ويفتك بهم متى قدر- كما كان الشأن في العلاقات الدولية ولا يزال!- ولكنه كذلك يمهلهم هذه المهلة للتروي والتدبر، واختيار الطريق الأقوم؛ ويرغبهم في التوبة عن الشرك والرجوع إلى الله، ويرهبهم من التولي، وييئسهم من جدواه، وينذرهم بالعذاب الأليم في الآخرة فوق الخزي في الدنيا. ويوقع في قلوبهم الزلزلة التي ترجها رجاً لعل الركام الذي ران على الفطرة أن ينفض عنها، فتسمع وتستجيب! ثم.. هو طمأنة للصف المسلم، ولكل ما في قلوب بعضه من مخاوف ومن تردد وتهيب؛ ومن تحرج وتوقع. فالأمر قد صار فيه من الله قضاء. والمصير قد تقرر من قبل الابتداء! وبعد تقرير المبدأ العام في العلاقات بالبراءة المطلقة من المشركين ومن عهودهم يجيء الاستثناء المخصص للحالات المؤقتة، التي يصار بعدها إلى ذلك المبدأ العام: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين}.. وأصح ما قيل عن هؤلاء الذين ورد فيهم هذا الاستثناء أنهم جماعة من بني بكر- هم بنو خزيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة- لم ينقضوا عهدهم الذي كان في الحديبية مع قريش وحلفائهم، ولم يشتركوا مع بني بكر في العدوان على خزاعة، ذلك العدوان الذي أعانتهم عليه قريش، فانتقض بذلك عهد الحديبية، وكان فتح مكة بعد سنتين اثنتين من الحديبية، وكان العهد لمدة عشر سنوات من الحديبية. وكانت هذه الجماعة من بني بكر بقيت على عهدها وبقيت على شركها. فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هنا أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم. والذي يؤيد ما ذهبنا إليه- وهو رواية محمد بن عباد بن جعفر- أن السدي يقول: «هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج حيان من بني كنانة. وأن مجاهد يقول:» كان لبني مدلج وخزاعة عهد فهو الذي قال الله {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم}.. غير أنه يلاحظ أن خزاعة كانت قد دخلت في الإسلام بعد الفتح. وهذا خاص بالمشركين الذين بقوا على شركهم.. كما يؤيده ما سيجيء في الآية السابعة من قوله تعالى: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين}.. فهذان الحيان من كنانة ممن عاهدوا عند المسجد الحرام في الحديبية، ثم لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً. فهم المعنيون في الاستثناء أولاً وأخيراً كما ذهب إلى ذلك المفسرون الأوائل، وقد أخذ بهذا القول الأستاذ الشيخ رشيد رضا. وذهب الأستاذ محمد عزة دروزة إلى أن المعنيين بالمعاهدين عند المسجد الحرام هم طائفة أخرى غير المذكورة في الاستثناء الأول. ذلك أنه كان يحب أن يذهب إلى جواز قيام معاهدات دائمة بين المسلمين والمشركين، فارتكن إلى قوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} ليستدل منه على جواز تأبيد المعاهدات! وهو قول بعيد كل البعد عن طبيعة الموقف، وعن طبيعة المنهج، وعن طبيعة هذا الدين أيضاً! كما بينا ذلك مراراً. لقد وفى الإسلام لهؤلاء الذين وفوا بعهدهم، فلم يمهلهم أربعة أشهر- كما أمهل كل من عداهم- ولكنه أمهلهم إلى مدتهم. ذلك أنهم لم ينقصوا المسلمين شيئاً مما عاهدوهم عليه، ولم يعينوا عليهم عدواً، فاقتضى هذا الوفاء لهم والإبقاء على عهدهم إلى نهايته. . ذلك مع حاجة الموقف الحركي للمجتمع المسلم في ذلك الحين إلى تخليص الجزيرة بجملتها من الشرك؛ وتحويلها إلى قاعدة أمينة للإسلام؛ لأن أعداءه على حدود الجزيرة قد تنبهوا لخطره، وأخذوا يجمعون له كما سيجيء في الحديث عن غزوة تبوك- ومن قبل كانت وقعة مؤتة إنذاراً بهذا التحفز الذي أخذ فيه الروم. فضلاً على تحالفهم مع الفرس في الجنوب في اليمن، للتألب على الدين الجديد. ولقد حدث ما ذكره ابن القيم من أن هؤلاء الذين استثناهم الله وأمر بالوفاء لهم بعهودهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدتهم. بل حدث أن الآخرين الذين كانوا ينقضون عهودهم وغيرهم ممن أمهلوا أربعة أشهر يسيحون فيها في الأرض، لم يسيحوا في الأرض وإنما اختاروا الإسلام أيضاً! لقد علم الله- سبحانه- وهو ينقل بيده خطى هذه الدعوة، أنه كان الأوان قد آن لهذه الضربة الأخيرة؛ وأن الظروف كانت قد تهيأت والأرض كانت قد مهدت؛ وأنها تجيء في أوانها المناسب؛ وفق واقع الأمر الظاهر، وفق قدر الله المضمر المغيب. فكان هذا الذي كان. ونقف أمام التعقيب الإلهي على الأمر بالوفاء بالعهد للموفين بعهدهم: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين}.. إنه يعلق الوفاء بالعهد بتقوى الله وحبه- سبحانه- للمتقين. فيجعل هذا الوفاء عبادة له؛ وتقوى يحبها من أهلها.. وهذه هي قاعدة الأخلاق في الإسلام.. إنها ليست قاعدة المنفعة والمصلحة؛ وليست قاعدة الاصطلاح والعرف المتغيرين أبداً.. إنها قاعدة العبادة لله وتقواه. فالمسلم يتخلق بما يحبه الله منه ويرضاه له؛ وهو يخشى الله في هذا ويتطلب رضاه. ومن هنا سلطان الأخلاق في الإسلام؛ كما أنه من هنا مبعثها الوجداني الأصيل.. ثم هي في الطريق تحقق منافع العباد، وتؤمن مصالحهم، وتنشئ مجتمعاً تقل فيه الاحتكاكات والتناقضات إلى أقصى حد ممكن، وترتفع بالنفس البشرية صُعداً في الطريق الصاعد إلى الله.. وبعد تقرير الحكم ببراءة الله ورسوله من المشركين.. المعاهدين وغير المعاهدين منهم سواء.. مع استثناء الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً بالوفاء لهم بعهدهم إلى مدتهم.. يجيء ذكر الإجراء الذي يتخذه المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم}.. وقد اختلفت الأقوال عن المقصود هنا بقوله تعالى: {الأشهر الحرم}.. هل هي الأشهر الحرم المصطلح عليها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب: وعلى ذلك يكون الوقت الباقي بعد الأذان في يوم الحج الأكبر بهذه البراءة هو بقية الحجة ثم المحرم.. خمسين يوماً. . أم إنها أربعة أشهر يحرم فيها القتال ابتداء من يوم النحر فتكون نهايتها في العشرين من ربيع الأخر؟.. أم إن الأجل الأول للناقضين عهودهم. وهذا الأجل الثاني لمن ليس لهم عهد أصلاً أو لمن كان له عهد غير مؤقت؟ والذي يصح عندنا أن الأربعة الأشهر المذكورة هنا غير الأشهر الحرم المصطلح عليها. وأنه أطلق عليها وصف الأشهر الحرم لتحريم القتال فيها؛ بإمهال المشركين طوالها ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وأنها عامة- إلا فيمن لهم عهد مؤقت ممن أمهلوا إلى مدتهم- فإنه ما دام أن الله قد قال لهم: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} فلا بد أن تكون هذه الأشهر الأربعة ابتداء من يوم إعلانهم بها.. وهذا هو الذي يتفق مع طبيعة الإعلان. وقد أمر الله المسلمين- إذا انقضت الأشهر الأربعة- أن يقتلوا كل مشرك أنى وجدوه أو يأسروه أو يحصروه إذا تحصن منهم أو يقعدوا له مترصدين لا يدعونه يفلت أو يذهب- باستثناء من أمروا بالوفاء لهم إلى مدتهم- بدون أي إجراء آخر معه. ذلك أن المشركين أنذروا وأمهلوا وقتاً كافياً؛ فهم إذن لا يقتلون غدراً، ولا يؤخذون بغتة، وقد نبذت لهم عهودهم، وعلموا سلفاً ما ينتظرهم. غير أنها لم تكن حملة إبادة ولا انتقام.. إنما كانت حملة إنذار ودفع إلى الإسلام: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم}.. لقد كانت هنالك وراءهم اثنتان وعشرون سنة من الدعوة والبيان؛ ومن إيذائهم للمسلمين وفتنتهم عن دينهم، ومن حرب للمسلمين وتأليب على دولتهم. ثم من سماحة لهذا الدين. ورسوله وأهله معهم.. وإنه لتاريخ طويل.. ومع هذا كله فلقد كان الإسلام يفتح لهم ذراعيه؛ فيأمر الله نبيه والمسلمين الذين أوذوا وفتنوا وحوربوا وشردوا وقتلوا.. كان يأمرهم أن يكفوا عن المشركين إن هم اختاروا التوبة إلى الله، والتزموا شعائر الإسلام التي تدل على اعتناقهم هذا الدين واستسلامهم له وقيامهم بفرائضه. وذلك أن الله لا يرد تائباً مهما تكن خطاياه.. {إن الله غفور رحيم}.. ولا نحب أن ندخل هنا في الجدل الفقهي الطويل الذي تعرضت له كتب التفسير وكتب الفقه حول هذا النص: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}.. وعما إذا كانت هذه شرائط الإسلام التي يكفر تاركها؟ ومتى يكفر؟ وعما إذا كان يكتفى بها من التائب دون بقية أركان الإسلام المعروفة؟.. الخ فما نحسب أن هذه الآية بصدد شيء من هذا كله. إنما هو نص كان يواجه واقعاً في مشركي الجزيرة يومذاك. فما كان أحدهم ليعلن توبته ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا وهو يعني الإسلام كله، ويعني استسلامه له ودخوله فيه. فنصت الآية على التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأنه ما كان ليفعل هذا منهم في ذلك الحين إلا من نوى الإسلام وارتضاه بكامل شروطه وكامل معناه. وفي أولها الدينونة لله وحده بشهادة أن لا إله إلا الله، والاعتراف برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- بشهادة أن محمداً رسول الله. فليست هذه الآية بصدد تقرير حكم فقهي، إنما هي بصدد إجراء واقعي له ملابساته. وأخيراً فإنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك. فهو لا يعلنها حرب إبادة على كل مشرك كما قلنا. إنما يعلنها حملة هداية كلما أمكن ذلك. فالمشركون الأفراد، الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى؛ يكفل لهم الإسلام- في دار الإسلام- الأمن، ويأمر الله- سبحانه- رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يجيرهم حتى يسمعوا كلام الله ويتم تبليغهم فحوى هذه الدعوة؛ ثم أن يحرسهم حتى يبلغوا مأمنهم.. هذا كله وهم مشركون. {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}.. إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري أن يهتدي وأن يثوب؛ وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان؛ ذلك أنه في هذه الحالة آمن حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه؛ فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين؛ لعل قلوبهم أن تتفتح وتتلقى وتستجيب.. وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم!!! ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان لهم في دار الإسلام.. ولكن قمم الإسلام الصاعدة ما تزال تتراءى قمة وراء قمة.. وهذه منها.. هذه الحراسة للمشرك، عدو الإسلام والمسلمين ممن آذى المسلمين وفتنهم وعاداهم هذه السنين.. هذه الحراسة له حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام! .. إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة، حتى وهو يتصدى لتأمين قاعدة الإسلام للإسلام.. والذين يتحدثون عن الجهاد في الإسلام فيصمونه بأنه كان لإكراه الأفراد على الاعتقاد! والذين يهولهم هذا الاتهام ممن يقفون بالدين موقف الدفاع؛ فيروحون يدفعون هذه التهمة بأن الإسلام لا يقاتل إلا دفاعاً عن أهله في حدوده الإقليمية! هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى أن يتطلعوا إلى تلك القمة العالية التي يمثلها هذا التوجيه الكريم: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}.. إن هذا الدين إعلام لمن لا يعلمون، وإجارة لمن يستجيرون، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه.. ولكنه إنما يجاهد بالسيف ليحطم القوى المادية التي تحول بين الأفراد وسماع كلام الله؛ وتحول بينهم وبين العلم بما أنزل الله؛ فتحول بينهم وبين الهدى، كما تحول بينهم وبين التحرر من عبادة العبيد؛ وتلجئهم إلى عبادة غير الله. . ومتى حطم هذه القوى، وأزال هذه العقبات، فالأفراد- على عقيدتهم- آمنون في كنفه؛ يعلمهم ولا يرهبهم ويجيرهم ولا يقتلهم؛ ثم يحرسهم ويكفلهم حتى يبلغوا مأمنهم.. هذا كله وهم يرفضون منهج الله! وفي الأرض اليوم أنظمة ومناهج وأوضاع من صنع العبيد؛ لا يأمن فيها من يخالفها من البشر على نفسه ولا على ماله ولا على عرضه ولا على حرمة واحدة من حرمات الإنسان! ثم يقف ناس يرون هذا في واقع البشر وهم يتمتمون ويجمجمون لدفع الاتهام الكاذب عن منهج الله بتشويه هذا المنهج وإحالته إلى محاولة هازلة قوامها الكلام في وجه السيف والمدفع في هذا الزمان وفي كل زمان! {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام؟ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين. كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة، يرضونكم فأفواههم وتأبى قلوبهم، وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إِلاَّ ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دينكم، فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}. لما انتهى في مجموعة الآيات السابقة إلى تقرير الأحكام النهائية الأخيرة بين المجتمع المسلم والباقين من المشركين في الجزيرة، وهي تعني إنهاء حالة التعاهد والمهادنة معهم جميعاً.. بعضهم بعد مهلة أربعة أشهر، وبعضهم بعد انتهاء مدتهم.. حيث يؤول الأمر بعد هذه الأحكام إلى حالتين اثنتين: توبة وإقامة للصلاة وإيتاء للزكاة- أي دخول في الإسلام وأداء لفرائضه- أو قتال وحصار وأسر وإرصاد.. لما انتهى إلى الأمر بإنهاء حالة التعاقد على ذلك الوجه أخذ في هذه المجموعة الجديدة من الآيات يقرر- عن طريق الاستفهام الاستنكاري- أنه لا ينبغي ولا يجوز وليس من المستساغ أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله. وهو استنكار للمبدأ في ذاته؛ واستبعاد له من أساسه! بقوله تعالى: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله}. ولما كان هذا الاستنكار في هذه المجموعة التالية في السياق للمجموعة الأولى، قد يفهم منه نسخ ما كان قد تقرر في المجموعة الأولى من إمهال ذوي العهود الموفين بعهودهم الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً إلى مدتهم.. فقد عاد يقرر هذا الحكم مرة أخرى بقوله: {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين}. . وجاءت في هذا التوكيد الجديد زيادة بيان.. إذ كان الأمر الأول مطلقاً بالوفاء بعهود من استقاموا على عهودهم إلى مدتهم.. فجاء هذا التوكيد يقيد هذا الإطلاق بأن هذا الوفاء مرهون باستقامتهم في المستقبل إلى نهاية المدة كذلك كما استقاموا في الماضي. وهي دقة بالغة في صياغة النصوص في هذه العلاقات والمعاملات، وعدم الاكتفاء بالمفهومات الضمنية، وإتباعها بالمنطوقات القطعية. ونظراً لما أسلفنا بيانه في مقدمات السورة ومقدمات هذا المقطع منها، من الظواهر والأعراض والاعتبارات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومئذ تجاه هذه الخطوة الحاسمة الخطيرة، فقد أخذ السياق يثير في نفوس المسلمين ما يدفع عنهم التردد والتحرج والتهيب، بإطلاعهم على حقيقة حال المشركين ومشاعرهم ونواياهم تجاه المسلمين، وأنهم لا يرعون فيهم عهداً، ولا يتحرجون فيهم من شيء ولا يتذممون، وأنهم لا يفون بعهد، ولا يرتبطون بوعد؛ وأنهم لا يكفون عن الاعتداء متى قدروا عليه. وأن لا سبيل لمهادنتهم أو ائتمانهم ما لم يدخلوا فيما دخل فيه المسلمون. {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله؟}.. إن المشركين لا يدينون لله بالعبودية خالصة، وهم كذلك لا يعترفون برسالة رسوله. فكيف يجوز أن يكون لهؤلاء عهد عند الله وعند رسوله؟ إنهم لا يواجهون بالإنكار والجحود عبداً مثلهم، ولا منهجاً من مناهج العبيد من أمثالهم. إنما هم يواجهون بالجحود خالقهم ورازقهم؛ وهم يحادون الله ورسوله بهذا الجحود ابتداء.. فكيف يجوز أن يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله؟ هذه هي القضية التي يثيرها هذا السؤال الاستنكاري.. وهي قضية تنصب على مبدأ التعاهد ذاته؛ لا على حالة معينة من حالاته.. وقد يستشكل على هذا بأنه كانت للمشركين عهود فعلاً؛ وبعض هذه العهود أمر الله بالوفاء بها. وأنه قد وقعت عهود سابقة منذ قيام الدولة المسلمة في المدينة. عهود مع اليهود وعهود مع المشركين. وأنه وقع عهد الحديبية في السنة السادسة للهجرة. وأن النصوص القرآنية في سور سابقة كانت تجيز هذه العهود، وإن كانت تجيز نبذها عند خوف الخيانة.. فإذا كان مبدأ التعاهد مع المشركين هو الذي يرد عليه الإنكار هنا، فكيف إذن أبيحت تلك العهود وقامت حتى نزل هذا الاستنكار الأخير لمبدأ التعاهد؟! وهذا الاستشكال لا معنى له في ظل الفهم الصحيح لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي الذي أسلفنا الحديث عنه في مطالع هذه السورة وفي مطالع سورة الأنفال قبلها.. لقد كانت تلك المعاهدات مواجهة للواقع في حينه بوسائل مكافئة له؛ أما الحكم النهائي فهو أنه لا ينبغي أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله.. كانت أحكاماً مرحلية في طريق الحركة الإسلامية التي تستهدف ابتداء ألا يكون في الأرض شرك بالله؛ وأن تكون الدينونة لله وحده. . ولقد أعلن الإسلام هدفه هذا منذ أول يوم ولم يخدع عنه أحداً. فإذا كانت الظروف الواقعية تقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداء من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه؛ وأن يوادع من يريدون موادعته في فترة من الفترات. وأن يعاهد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل، فإنه لا يغفل لحظة عن هدفه النهائي الأخير؛ كما أنه لا يغفل عن أن هذه الموادعات والمعاهدات من جانب بعض المشركين موقوته من جانبهم هم أنفسهم. وأنهم لا بد مهاجموه ومحاربوه ذات يوم؛ وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه؛ ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له ويستديرون لمواجهته.. ولقد قال الله للمسلمين منذ أول الأمر: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وهي قولة الأبد التي لا تتخصص بزمن ولا بيئة! وقوله الحق التي لا تتعلق بظرف ولا حالة! ومع استنكار الأصل، فقد أذن الله- سبحانه- بإتمام عهود ذوي العهود الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً إلى مدتها، مع اشتراط أن تكون الاستقامة على العهد- في هذه المدة- من المسلمين مقيدة باستقامة ذوي العهود عليها: {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين}.. وهؤلاء الذين تشير الآية إلى معاهدتهم عند المسجد الحرام ليسوا طائفة أخرى غير التي ورد ذكرها من قبل في قوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين}.. كما فهم بعض المفسرين المحدثين.. فهي طائفة واحدة ذكرت أول مرة بمناسبة عموم البراءة وإطلاقها، لاستثنائها من هذا العموم. وذكرت مرة ثانية بمناسبة استنكار مبدأ التعاهد ذاته مع المشركين مخافة أن يظن أن هذا الحكم المطلق فيه نسخ للحكم الأول.. وذكرت التقوى وحب الله للمتقين هنا وهناك بنصها للدلالة على أن الموضوع واحد. كما أن النص الثاني مكمل للشروط المذكورة في النص الأول. ففي الأول اشتراط استقامتهم في الماضي، وفي الثاني اشتراط استقامتهم في المستقبل. وهي دقة بالغة في صياغة النصوص- كما أسلفنا- لا تلحظ إلا بضم النصين الواردين في الموضوع الواحد، كما هو ظاهر ومتعين. ثم يعود لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية؛ بعد استنكاره بأسبابه العقيدية والإيمانية؛ ويجمع بين هذه وتلك في الآيات التالية: {كيف؟ وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون}.. كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله؛ وهم لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم. ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينهم وبينكم، وفي غير ذمة يرعونها لكم؛ أو في غير تحرج ولا تذمم من فعل يأتونه معكم! فهم لا يرعون عهداً، ولا يقفون كذلك عند حد في التنكيل بكم؛ ولا حتى الحدود المتعارف عليها في البيئة والتي يذمون لو تجاوزوها. فهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم، لو أنهم قدروا عليكم. مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة. فليس الذي يمنعهم من أي فعل شائن معكم أن تكون بينكم وبينهم عهود؛ إنما يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم!.. وإذا كانوا اليوم- وأنتم أقوياء- يرضونكم بأفواههم بالقول اللين والتظاهر بالوفاء بالعهد. فإن قلوبهم تنغل عليكم بالحقد؛ وتأبى أن تقيم على العهد؛ فما بهم من وفاء لكم ولا ود! {وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله. إنهم ساء ما كانوا يعملون}.. وهذا هو السبب الأصيل لهذا الحقد الدفين عليكم، وإضمار عدم الوفاء بعهودكم، والانطلاق في التنكيل بكم- لو قدروا- من كل تحرج ومن كل تذمم.. إنه الفسوق عن دين الله، والخروج عن هداه. فلقد آثروا على آيات الله التي جاءتهم ثمناً قليلاً من عرض هذه الحياة الدنيا يستمسكون به ويخافون فوته. وقد كانوا يخافون أن يضيع عليهم الإسلام شيئاً من مصالحهم؛ أو أن يكلفهم شيئاً من أموالهم؛ فصدوا عن سبيل الله بسبب شرائهم هذا الثمن القليل بآيات الله. صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم (فسيجيء أنهم أئمة الكفر).. أما فعلهم هذا فهو الفعل السيئ الذي يقرر الله سوءه الأصيل: {إنهم ساء ما كانوا يعملون!}.. ثم إنهم لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم؛ ولا يتبعون تلك الخطة المنكرة معكم بذواتكم.. إنهم يضطغنون الحقد لكل مؤمن؛ ويتبعون هذا المنكر مع كل مسلم.. إنهم يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها.. للإيمان ذاته.. كما هو المعهود في كل أعداء الصفوة الخالصة من أهل هذا الدين، على مدار التاريخ والقرون.. فكذلك قال السحرة لفرعون وهو يتوعدهم بأشد أنواع التعذيب والتنكيل والتقتيل: {وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا} وكذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأهل الكتاب بتوجيه من ربه: {قل: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله؟} وقال سبحانه عن أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} فالإيمان هو سبب النقمة. ومن ثم هم يضطغنون الحقد لكل مؤمن، ولا يراعون فيه عهداً ولا يتذممون من منكر: {لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون}.. فصفة الاعتداء أصيلة فيهم.. تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه؛ وتنتهي بالوقوف في وجهه؛ وتربصهم بالمؤمنين؛ وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة، إذا هم ظهروا عليهم؛ وأمنوا بأسهم وقوتهم. وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم، ولا متحرجين ولا متذممين من منكر يأتونه معهم.. وهم آمنون! ثم يبين الله كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون}. {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}.. إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم؛ ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك. لا يقعدهم عهد معقود، ولا ذمة مرعية، ولا تحرج من مذمة، ولا إبقاء على صلة.. ووراء هذا التقرير تاريخ طويل، يشهد كله بأن هذا هو الخط الأصيل الذي لا ينحرف إلا لطارئ زائل، ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم! هذا التاريخ الطويل مع الواقع العملي؛ بالإضافة إلى طبيعة المعركة المحتومة بين منهج الله الذي يخرج الناس من العبودية للعباد ويردهم إلى عبادة الله وحده، وبين مناهج الجاهلية التي تعبد الناس للعبيد.. يواجهه المنهج الحركي الإسلامي بتوجيه من الله سبحانه، بهذا الحسم الصريح: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون}.. {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}.. فإما دخول فيما دخل فيه المسلمون، وتوبة عما مضى من الشرك والاعتداء. وعندئذ يصفح الإسلام والمسلمون عن كل ما لقوا من هؤلاء المشركين المعتدين؛ وتقوم الوشيجة على أساس العقيدة؛ ويصبح المسلمون الجدد إخواناً للمسلمين القدامى؛ ويسقط ذلك الماضي كله بمساءاته من الواقع ومن القلوب! {ونفصل الآيات لقوم يعلمون}.. فهذه الأحكام إنما يدركها ويدرك حكمتها الذين يعلمون وهم المؤمنون. وإما نكث لما يبايعون عليهم من الإيمان بعد الدخول فيه، وطعن في دين المسلمين. فهم إذن أئمة في الكفر، لا أيمان لهم ولا عهود. وعندئذ يكون القتال لهم؛ لعلهم حينئذ أن يثوبوا إلى الهدى.. كما سبق أن قلنا: إن قوة المعسكر المسلم وغلبته في الجهاد قد ترد قلوباً كثيرة إلى الصواب؛ وتريهم الحق الغالب فيعرفونه؛ ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق؛ ولأن وراءه قوة الله؛ وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صادق فيما أبلغهم من أن الله غالب هو ورسله. فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى. لا كرهاً وقهراً، ولكن اقتناعاً بالقلب بعد رؤية واضحة للحق الغالب. كما وقع وكما يقع في كثير من الأحايين. وبعد.. فما المدى الذي تعمل فيه هذه النصوص؟ ما المدى التاريخي والبيئي؟ أهي خاصة بأهل الجزيرة العربية في ذلك الزمان المحدد؟ أم إن لها أبعاداً أخرى في الزمان والمكان؟ إن هذه النصوص كانت تواجه الواقع في الجزيرة العربية بين المعسكر الإسلامي ومعسكرات المشركين. وما من شك أن الأحكام الواردة بها مقصود بها هذا الواقع. وأن المشركين المعنيين فيها هم مشركو الجزيرة.. هذا حق في ذاته.. ولكن ترى هذا هو المدى النهائي لهذه النصوص؟ إن علينا أن نتتبع موقف المشركين- على مدى التاريخ- من المؤمنين. ليتكشف لنا المدى الحقيقي لهذه النصوص القرآنية؛ ولنرى الموقف بكامله على مدار التاريخ. فأما في الجزيرة العربية فلعل ذلك معلوم من أحداث السيرة المشهورة. ولعل في هذا الجزء من الظلال وحده ما يكفي لتصوير مواقف المشركين من هذا الدين وأهله منذ الأيام الأولى للدعوة في مكة حتى هذه الفترة التي تواجهها نصوص هذه السورة. وحقيقة إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائماً هو الذي تصوره آيات هذا المقطع من السورة: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة! يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم، وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون}. لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين. فأما أهل الكتاب فندع الحديث عنهم إلى موعده في المقطع الثاني من السورة؛ وأما المشركون فقد كان هذا دأبهم من المسلمين على مدار التاريخ. وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- إنما ختم بهذه الرسالة. وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق؛ فإن أبعاد المعركة تترامى؛ ويتجلى الموقف على حقيقته؛ كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء! ماذا صنع المشركون مع نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وشعيب، وموسى، وعيسى، عليهم صلوات الله وسلامه والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به كذلك؟.. إنهم لم يرقبوا فيهم إِلاًّ ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم.. وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟ ثم ما يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرناً بالمسلمين في كل مكان؟.. إنهم لا يرقبون فيهم إِلاًّ ولا ذمة، كما يقرر النص القرآني الصادق الخالد.. عندما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ «البداية والنهاية» لابن كثير فيما رواه من أحداث عام 656 ه: «ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان. ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون. وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار. إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم. فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة- فإنا لله وإنا إليه راجعون- كذلك في المساجد والجوامع والربط. ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا أمانا بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.. «وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة. فقيل ثمانمائة ألف. وقيل: ألف ألف. وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس- فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم. وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً.. وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر، وعفى قبره، وكان عمره يومئذ ستاً وأربعين سنة وأربعة أشهر. ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام. وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة. ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم.. » وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحداً بعد واحد. منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.. وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس، فيخرج بأولاده ونسائه، فيذهب إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة، فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي ابن النيار. وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن. وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات عدة؟ شهور ببغداد.. «ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوماً، بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. «ولما نودي ببغداد بالأمان، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم؛ وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد. فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى..» الخ الخ. هذه صورة من الواقع التاريخي، حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يرقبوا فيهم إِلاًّ ولا ذمة. فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات، اختص بها التتار في ذلك الزمان؟ كلا! إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صوره عن هذه الصورة!.. إن ما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد.. إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند- ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فآثروا الهجرة على البقاء- قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط! أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا بالطريق.. طلعت عليهم العصابات الهندية الوثنية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيداً والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق، وتركت جثثهم نهباً للطير والوحش، بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة، لا تقل- إن لم تزد- على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد!.. أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان، حيث تم الاتفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف.. ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية يسمى (ممر خيبر).. وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار!.. لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة، القطار في النفق. ولم تسمح له بالمضي في طريقه إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء!.. وصدق قول الله سبحانه: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة} وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى. ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك.. لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليوناً.. بمعدل مليون في السنة.. وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق.. ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان. وفي هذا العام وقع في القطاع الصيني من التركستان المسلمة ما يغطي على بشاعات التتار.. لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين، فحفرت له حفرة في الطريق العام. وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية (التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعاً لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام!!!) فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته.. وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات! كذلك فعلت يوغسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها. حتى أبادت منهم مليوناً منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم. وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي- التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين رجالاً ونساء في «مفارم» اللحوم التي تصنع لحوم (البولوبيف) ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء- ماضية إلى الآن!!! وما يجري في يوغسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية... الآن.. في هذا الزمان.. ويصدق قول الله سبحانه: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة؟}. {لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون}.. إنها لم تكن حالة طارئة ولا وقتية في الجزيرة العربية. ولم تكن حالة طارئة ولا وقتية في بغداد.. إنها الحالة الدائمة الطبيعية الحتمية؛ حيثما وجد مؤمنون يدينون بالعبودية لله وحده؛ ومشركون أو ملحدون يدينون بالعبودية لغير الله. في كل زمان وفي كل مكان. ومن ثم فإن تلك النصوص- وإن كانت قد نزلت لمواجهة حالة واقعة في الجزيرة، وعنت بالفعل تقرير أحكام التعامل مع مشركي الجزيرة- إلا أنها أبعد مدى في الزمان والمكان. لأنها تواجه مثل هذه الحالة دائماً في كل زمان وفي كل مكان. والأمر في تنفيذها إنما يتعلق بالمقدرة على التنفيذ في مثل الحالة التي نفذت فيها في الجزيرة العربية، ولا يتعلق بأصل الحكم ولا بأصل الموقف الذي لا يتبدل على الزمان.. {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم، وهموا بإخراج الرسول، وهم بدأوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم. أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة؟ والله خبير بما تعملون}.. تجيء هذه الفقرة بعد الفقرة السابقة التي تقرر فيها الاستنكار من ناحية المبدأ لأن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله؛ والأمر بتخيير المشركين في الجزيرة بين الدخول فيما دخل فيه المسلمون أو قتالهم- إلا من استجار فيجار حتى يسمع كلام الله ثم يبلغ مأمنه خارج دار الإسلام- وبيان علة هذا الاستنكار؛ وهي أنهم لا يرعون إِلاًّ ولا ذمة في مؤمن متى ظهروا على المؤمنين. تجيء هذه الفقرة لمواجهة ما حاك في نفوس الجماعة المسلمة- بمستوياتها المختلفة التي سبق الحديث عنها- من تردد وتهيب للإقدام على هذه الخطوة الحاسمة! ومن رغبة وتعلل في أن يفيء المشركون الباقون إلى الإسلام دون اللجوء إلى القتال الشامل! ومن خوف على النفوس والمصالح وركون إلى أيسر الوسائل!. .. والنصوص القرآنية تواجه هذه المشاعر والمخاوف والتعلات باستجاشة قلوب المسلمين بالذكريات والأحداث القريبة والبعيدة. تذكرهم بنقض المشركين لما أبرموه معهم من عقود وما عقدوه معهم من أيمان. وتذكرهم بما همَّ به المشركون من إخراج الرسول- صلى الله عليه وسلم- من مكة قبل الهجرة. وتذكرهم بأن المشركين هم الذين بدأوهم بالاعتداء في المدينة.. ثم تثير فيهم الحياء والنخوة أن يكونوا إنما يخشون لقاء المشركين. والله أولى أن يخشوه إن كانوا مؤمنين.. ثم تشجعهم على قتال المشركين لعل الله أن يعذبهم بأيديهم، فيكونوا هم ستاراً لقدرة الله في تعذيب أعدائه وأعدائهم، وخزيانهم وقهرهم. وشفاء صدور المؤمنين الذين أوذوا في الله منهم.. ثم تواجه التعلات التي تحيك في صدور البعض من الأمل في دخول المشركين الباقين في الإسلام دون حرب ولا قتال. تواجه هذه التعلات بأن الرجاء الحقيقي في أن يفيء هؤلاء إلى الإسلام أولى أن يتعلق بانتصار المسلمين، وهزيمة المشركين، فيومئذ قد يفيء بعضهم- ممن يقسم الله له التوبة- إلى الإسلام المنتصر الظاهر الظافر!.. وفي النهاية تلفتهم الآيات إلى أن سنة الله هي ابتلاء الجماعات بمثل هذه التكاليف ليظهر حقيقة ما هم عليه. وأن السنة لا تتبدل ولا تحيد.. {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم، وهموا بإخراج الرسول، وهم بدأوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه، إن كنتم مؤمنين}.. إن تاريخ المشركين مع المسلمين كله نكث للأيمان، ونقض للعهود. وأقرب ما كان من هذا نقضهم لعهدهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحديبية. ولقد قبل- صلى الله عليه وسلم- من شروطهم- بإلهام من ربه وهداية- ما حسبه بعض أفاضل أصحابه قبولاً للدنية! ووفى لهم بعهده أدق ما يكون الوفاء وأسماه، ولكنهم هم لم يفوا، وخاسوا بالعهد عامين اثنين، عند أول فرصة سنحت.. كما أن المشركين هم الذين هموا بإخراج الرسول- صلى الله عليه وسلم- من قبل في مكة؛ وبيتوا أمرهم في النهاية على قتله قبل الهجرة. وكان هذا في بيت الله الحرام الذي يأمن فيه القاتل منهم على دمه وماله؛ حتى لكان الواحد يلقى قاتل أخيه أو أبيه في الحرم فلا يمسه بسوء. أما محمد رسول الله، الداعي إلى الهدى والإيمان وعبادة الله وحده، فلم يرعوا معه هذه الخصلة؛ وهموا بإخراجه؛ ثم تآمروا على حياته؛ وبيتوا قتله في بيت الله الحرام، بلا تحرج ولا تذمم مما يتحرجون منه ويتذممون مع أصحاب الثارات!. . كذلك كانوا هم الذين هموا بقتال المسلمين وحربهم في المدينة. فهم الذين أصروا- بقيادة أبي جهل- على ملاقاة المسلمين بعد أن نجت القافلة التي خرجوا لها؛ ثم قاتلوهم بادئين في أحد وفي الخندق. ثم جمعوا لهم في حنين كذلك.. وكلها وقائع حاضرة أو ذكريات قريبة؛ وكلها تنم عن الإصرار الذي يصفه قول الله تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} كما تنم عن طبيعة العلاقة بين المعسكر الذي يعبد آلهة من دون الله تجاه المعسكر الذي لا يعبد إلا الله.. وحين يستعرض السياق هذا الشريط الطويل من الذكريات والمواقف والأحداث، في هذه اللمسات السريعة العميقة الإيقاع في قلوب المسلمين، يخاطبهم: {أتخشونهم؟}.. فإنهم لا يقعدون عن قتال المشركين هؤلاء إلا أن تكون هي الخشية والخوف والتهيب! ويعقب على السؤال بما هو أشد استجاشة للقلوب من السؤال: {فالله أحق أن تخشوه، إن كنتم مؤمنين}.. إن المؤمن لا يخشى أحداً من العبيد. فالمؤمن لا يخشى إلا الله، فإذا كانوا يخشون المشركين فالله أحق بالخشية، وأولى بالمخافة؛ وما يجوز أن يكون لغيره في قلوب المؤمنين مكان! وإن مشاعر المؤمنين لتثور؛ وهي تستجاش بتلك الذكريات والوقائع والأحداث.. وهم يذكرون بتآمر المشركين على نبيهم صلى الله عليه وسلم.. وهم يستعرضون نكث المشركين لعهودهم معهم وتبييتهم لهم الغدر كلما التمسوا منهم غرة، أو وجدوا في موقفهم ثغرة. وهم يتذكرون مبادأة المشركين لهم بالعداء والقتال بطراً وطغياناً.. وفي غمرة هذه الثورة يحرض المؤمنين على القتال: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم، وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم}.. قاتلوهم يجعلكم الله ستار قدرته، وأداة مشيئته، فيعذبهم بأيديكم ويخزهم بالهزيمة وهم يتخايلون بالقوة، وينصركم عليهم ويشف صدور جماعة من المؤمنين ممن آذاهم وشردهم المشركون. يشفها من غيظها المكظوم، بانتصار الحق كاملاً، وهزيمة الباطل، وتشريد المبطلين.. وليس هذا وحده ولكن خيراً آخر يُنتظر وثواباً آخر يُنال: {ويتوب الله على من يشاء}.. فانتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان، ويفتح بصيرتهم على الهدى حين يرون المسلمين يُنصرون، ويحسون أن قوة غير قوة البشر تؤيدهم، ويرون آثار الإيمان في مواقفهم- وهذا ما كان فعلاً- وعندئذٍ ينال المسلمون المجاهدون أجر جهادهم، وأجر هداية الضالين بأيديهم؛ وينال الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته بهؤلاء المهتدين التائبين: {والله عليم حكيم}. عليم بالعواقب المخبوءة وراء المقدمات. حكيم يقدر نتائج الأعمال والحركات. إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوباً كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ. وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة، مرهوبة الجانب، عزيزة الجناب. على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة، إلا وعداً واحداً: هو الجنة. ولم يكن يأمرها إلا أمراً واحداً: هو الصبر.. فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب، آتاها الله النصر؛ وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به. ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته. وإن هي إلا ستار لقدرته.. ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة، وأن تنبذ عهود المشركين كافة؛ وأن يقف المسلمون إزاءهم صفاً.. لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا والخبايا، ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة، والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب، ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة.. لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير، وإعلان المفاصلة للجميع، لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة، ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة، يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين، في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة، والله خبير بما تعملون}.. لقد كان في المجتمع المسلم- كما هو الحال عادة- فئة تجيد المداورة، وتنفذ من الأسوار. وتتقن استخدام الأعذار. وتدور من خلف الجماعة، وتتصل بخصومها استجلاباً للمصلحة ولو على حساب الجماعة، مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات. فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة، وكشفت المداخل والمسارب للأنظار. وإنه لمن مصلحة الجماعة، ومن مصلحة العقيدة، أن تهتك الأستار وتكشف الولائج، وتعرف المداخل، فيمتاز المكافحون المخلصون، ويكشف المداورون الملتوون، ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته، وإن كان الله يعلمهم من قبل: {والله خبير بما تعملون}.. ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم. وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف، وتتمحص القلوب. ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات. {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر؛ أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين. أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله؟ لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين. الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون. يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم}. وبعد البراءة والإعلان لم يبق عذر ولا حجة لمن لا يقاتل المشركين؛ ولم يعد هنالك تردد في حرمانهم زيارة البيت أو عمارته، وقد كانوا يقومون بهما في الجاهلية، وهنا ينكر السياق على المشركين أن يكون لهم الحق في أن يعمروا بيوت الله، فهو حق خالص للمؤمنين بالله، القائمين بفرائضه؛ وما كانت عمارة البيت في الجاهلية وسقاية الحاج لتغير من هذه القاعدة.. وهذه الآيات كانت تواجه ما يحيك في نفوس بعض المسلمين الذين لم تتضح لهم قاعدة هذا الدين. {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر}.. فهو أمر مستنكر منذ الابتداء، ليس له مبرر لأنه مخالف لطبائع الأشياء. إن بيوت الله خالصة لله، لا يذكر فيها إلا اسمه، ولا يدعى معه فيها أحد غيره، فكيف يعمرها من لا يعمر التوحيد قلوبهم، ومن يدعون مع الله شركاء، ومن يشهدون على أنفسهم بالكفر شهادة الواقع الذي لا يملكون إنكاره، ولا يسعهم إلا إقراره؟ إقراره؟ {أولئك حبطت أعمالهم}.. فهي باطلة أصلاً، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله. {وفي النار هم خالدون}.. بما قدموا من الكفر الواضح الصريح. إن العبادة تعبير عن العقيدة؛ فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة؛ وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح، وبالعمل الواقع الصريح، وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}.. والنص على خشية الله وحده دون سواه بعد شرطي الإيمان الباطن والعمل الظاهر، لا يجيء نافلة. فلا بد من التجرد لله؛ ولا بد من التخلص من كل ظل للشرك في الشعور أو السلوك؛ وخشية أحد غير الله لون من الشرك الخفي ينبه إليه النص قصداً في هذا الموضع ليتمحض الاعتقاد والعمل كله لله. وعندئذ يستحق المؤمنون أن يعمروا مساجد الله، ويستحقون أن يرجوا الهداية من الله: {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}.. فإنما يتوجه القلب وتعمل الجوارح، ثم يكافئ الله على التوجه والعمل بالهداية والوصول والنجاح. هذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت الله؛ وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبينها الله للمسلمين والمشركين، فما يجوز أن يسوى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية، وعقيدتهم ليست خالصة لله، ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد، لا يجوز أن يسوى هؤلاء- لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج- بالذين آمنوا إيماناً صحيحاً وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن أمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟}.. {لا يستوون عند الله}.. وميزان الله هو الميزان وتقديره هو التقدير: {والله لا يهدي القوم الظالمين}. المشركين الذين لا يدينون دين الحق، ولا يخلصون عقيدتهم من الشرك، ولو كانوا يعمرون البيت ويسقون الحجيج. وينتهي هذا المعنى بتقرير فضل المؤمنين المهاجرين المجاهدين، وما ينتظرهم من حرمة ورضوان، ومن نعيم مقيم وأجر عظيم: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون. يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم}.. وأفعل التفضيل هنا في قوله: {أعظم درجة عند الله} ليس على وجه، فهو لا يعني أن للآخرين درجة أقل، إنما هو التفضيل المطلق. فالآخرون {حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون} فلا مفاضلة بينهم وبين المؤمنين المهاجرين المجاهدين في درجة ولا في نعيم. ثم يمضي السياق في تجريد المشاعر والصلات في قلوب الجماعة المؤمنة. وتمحيصها لله ولدين الله؛ فيدعو إلى تخليصها من وشائج القربى والمصلحة واللذة، ويجمع كل لذائذ البشر، وكل وشائج الحياة، فيضمها في كفة، ويضع حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله في الكفة الأخرى، ويدع للمسلمين الخيار. {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء- إن استحبوا الكفر على الإيمان- ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون. قل: إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها.. أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره. والله لا يهدي القوم الفاسقين}.. إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً؛ فإما تجرد لها، وإما انسلاخ منها، وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة.. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحركة والدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة؛ على أن يكون مستعداً لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة. ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع؛ وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض. فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة؛ ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن؛ ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق- في غير سرف ولا مخيلة- بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب، باعتباره لوناً من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب. {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء- إن استحبوا الكفر على الإيمان-}. وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة. وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله. فلله الولاية الأولى، وفيها ترتبط البشرية جميعاً، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك، والحبل مقطوع والعروة منقوضة. {ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون}.. و {الظالمون} هنا تعني المشركين. فولاية الأهل والقوم- إن استحبوا الكفر على الإيمان- شرك لا يتفق مع الإيمان. ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ؛ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة (وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج) والأموال والتجارة (مطمع الفطرة ورغبتها) والمساكن المريحة (متاع الحياة ولذتها).. وفي الكفة الأخرى: حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله. الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته. الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب، وما يتبعه من تضييق وحرمان، وما يتبعه من ألم وتضحية، وما يتبعه من جراح واستشهاد.. وهو- بعد هذا كله- «الجهاد في سبيل الله» مجرداً من الصيت والذكر والظهور. مجرداً من المباهاة، والفخر والخيلاء. مجرداً من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه. وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب.. {قل: إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله.. فتربصوا حتى يأتي الله بأمره..} ألا إنها لشاقة. ألا وإنها لكبيرة، ولكنها هي ذاك.. وإلا: {فتربصوا حتى يأتي الله بأمره}.. وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين: {والله لا يهدي القوم الفاسقين}.. وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده، إنما تطالب به الجماعة المسلمة، والدولة المسلمة. فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله. وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه- فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها- وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال؛ وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها.. لذة الشعور بالاتصال بالله، ولذة الرجاء في رضوان الله، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط، والخلاص من ثقلة اللحم والدم، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء. فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك. ثم لمسة للمشاعر بالذكرى، وباستعراض صفحة من الواقع الذي عاشه المسلمون إذ ذاك منذ قريب.. المواطن التي نصرهم الله فيها، ولم تكن لهم قوة ولا عدة. ويوم حنين الذي هزموا فيه بكثرتهم ثم نصرهم الله بقوته. يوم أن انضم إلى جيش الفتح ألفان فقط من الطلقاء! يوم أن غفلت قلوب المسلمين لحظات عن الله مأخوذة بالكثرة في العدد والعتاد. ليعلم المؤمنون أن التجرد لله، وتوثيق الصلة به هي عدة النصر التي لا تخذلهم حين تخذلهم الكثرة في العدد والعتاد؛ وحين يخذلهم المال والإخوان والأولاد: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين. ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء، والله غفور رحيم}. ولقد كان نصر الله لهم في المواطن الكثيرة قريباً من ذاكرتهم لا يحتاج إلى أكثر من الإشارة. فأما وقعة حنين فكانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة. وذلك لما فرغ- صلى الله عليه وسلم- من فتح مكة، وتمهدت أمورها، وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري، ومعه ثقيف بكمالها، وبنو جشم، وبنو سعد ابن بكر، وأوزاع من بني هلال- وهم قليل- وناس من بني عمرو بن عامر وعوف ابن عامر؛ وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم؛ وجاءوا بقضهم وقضيضهم. فخرج إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة، وهم الطلقاء، في ألفين؛ فسار بهم إلى العدو؛ فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له «حنين» فكانت فيه الواقعة في أول النهار في غلس الصبح. انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم، ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم. فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين- كما قال الله عز وجل- وثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ وهو راكب بغلته الشهباء، يسوقها إلى نحر العدو، والعباس آخذ بركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر، يثقلانها لئلا تسرع السير، «وهو ينوه باسمه- عليه الصلاة والسلام- ويدعو المسلمين إلى الرجعة، ويقول:» إلي يا عباد الله. إلي أنا رسول الله «ويقول في تلك الحال: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب» وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، ومنهم من قال ثمانون؛ فمنهم أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- والعباس وعلي والفضل بن عباس، وأبو سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد، وغيرهم- رضي الله عنهم- ثم أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته: يا أصحاب الشجرة- يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على ألا يفروا عنه- فجعل ينادي بهم: يا أصحاب السمرة، ويقول تارة: يا أصحاب سورة البقرة. فجعلوا يقولون: يا لبيك، يا لبيك. وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصدقوا الحملة... وانهزم المشركون فأتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين- للمرة الأولى- جيش عدته اثنا عشر ألفاً فأعجبتهم كثرتهم، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول، فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه؛ ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتصقت به. والنص يعيد عرض المعركة بمشاهدها المادية، وبانفعالاتها الشعورية: {إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}.. فمن انفعال الإعجاب بالكثرة، إلى زلزلة الهزيمة الروحية، إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض كلها تضيق بهم وتشد عليهم. إلى حركة الهزيمة الحسية، وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب.. {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين}.. وكأنما السكينة رداء ينزل فيثبت القلوب الطائرة ويهدئ الانفعالات الثائرة. {وأنزل جنوداً لم تروها}.. فلا نعلم ماهيتها وطبيعتها.. وما يعلم جنود ربك إلا هو.. {وعذب الذين كفروا}. بالقتل والأسر والسلب والهزيمة: {وذلك جزاء الكافرين}.. {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء، والله غفور رحيم}.. فباب المغفرة دائماً مفتوح لمن يخطئ ثم يتوب. إن معركة حنين التي يذكرها السياق هنا ليعرض نتائج الانشغال عن الله، والاعتماد على قوة غير قوته، لتكشف لنا عن حقيقة أخرى ضمنية. حقيقة القوى التي تعتمد عليها كل عقيدة. إن الكثرة العددية ليست بشيء، إنما هي القلة العارفة المتصلة الثابتة المتجردة للعقيدة. وإن الكثرة لتكون أحياناً سبباً في الهزيمة، لأن بعض الداخلين فيها، التائهين في غمارها، ممن لم يدركوا حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها، تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة؛ فيشيعون الاضطراب والهزيمة في الصفوف، فوق ما تخدع الكثرة أصحابها فتجعلهم يتهاونون في توثيق صلتهم بالله، انشغالاً بهذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة. لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة، لا بالزبد الذي يذهب جفاء، ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح! وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع، ويلمس وجدان المسلمين بالذكرى القريبة من التاريخ، ينهي القول في شأن المشركين. ويلقي الكلمة الباقية فيهم إلى يوم الدين: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا؛ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء. إن الله عليم حكيم}.. إنما المشركون نجس. يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم. فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس، يستقذره الحس، ويتطهر منه المتطهرون! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها. إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم. {نجس. فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}.. وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام، حتى لينصبّ النهي على مجرد القرب منه، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور! ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة؛ والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة؛ ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة... إنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج؛ وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة.. نعم! ولكنها العقيدة. والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة! وبعد ذلك، فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء}.. وحين يشاء الله يستبدل أسباباً بأسباب؛ وحين يشاء يغلق باباً ويفتح الأبواب.. {إن الله عليم حكيم}.. يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة، وعن تقدير وحساب.. لقد كان المنهج القرآني يعمل، في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح؛ والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد.. وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات. فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات. ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد. إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها، هي قمة التجرد لله، والخلوص لدينه وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة، وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيداً لله وحده، ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أرباباً بعضهم لبعض.. وهما منهجان لا يلتقيان.. ولا يتعايشان.. وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته، وطبيعة الجاهلية وحقيقتها؛ لا يملك إنسان أن يقوّم الأحكام الإسلامية، التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات.
|