الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: ابْنَ عُمَرَ: وَجَدَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ...)، الحديث. التجمل فى العيدين بحسن الثياب سنة مندوب إليها كل من يقدر عليها. قال المهلب: وكذلك التجمل فى الجماعات والوفود بحسن الثياب مما جرى به العمل، وترك عليه السلام، لباس الجبة زهدًا فى الدنيا، وأراد أن يؤخر طيبات الدنيا للآخرة التى لا انقضاء لها، ورأى أن تعجيل طيباته فى الدنيا المنقطعة وبيع الدائم بها ليس من الحزم، فزهد فى الدنيا للآخرة وأمر بذلك، ونهى عن كل سرف وحرَّمه.
- فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النبى، عليه السلام، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (دَعْهُمَا)، فَلَمَّا غَفَلَ، غَمَزْتُهُمَا، فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ رسول الله، وَإِمَّا قَالَ: (تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟)، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ) حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: (حَسْبُكِ)، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاذْهَبِي). حمل السلاح والحراب يوم العيد لا مدخل له عند العلماء فى سنة العيد، ولا فى هيئة الخروج إليه، ولا استحبه أحد من العلماء، ولا ندب إليه، ويمكن أن يكون عليه السلام محاربًا خائفًا من بعض أعدائه، فرأى الاستعداد والتأهب بالسلاح، وإذا كان كذلك فهو جائز عند العلماء، ولعب الحبشة ليس فيه أن الرسول خرج بها فى العيد، ولا أمر أصحابه بالتأهب بها، ولم تكن الحبشة للنبى، عليه السلام، حشدًا ولا أنصارًا، وإنما هم قوم يلعبون. وفائدة هذا الحديث: إباحة النظر إلى اللهو إذا كان فيه تدريب الجوارح على تقليب السلاح لتخف الأيدى بها فى الحرب. وفيه: ما كان النبى، عليه السلام، عليه من الخلق الحسن وما ينبغى للمرء أن يمتثله مع أهله من إيثاره مسارهم فيما لا حرج عليهم فيه.
- فيه: الْبَرَاءِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ عليه السلام، يَخْطُبُ، فَقَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ، فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا). - وفيه عَائِشَةَ: أن النبى، عليه السلام، دَخَلَ عليها، وَعِنْدِها جَارِيَتَأن مِنْ جَوَارِي الأنْصَارِ تُغَنِّيَانِ، مِمَا تَقَاوَلَتِ به الأنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا). سنة العيدين: الصلاة، قال مالك: وصلاة العيدين سنة لأهل الآفاق لا تترك، وروى ابن القاسم عنه فى القرية فيها عشرون رجلاً: أرى أن يصلوا العيدين، وروى عنه ابن نافع ليس ذلك إلا على من تجب عليه الجمعة، وهو قول الليث وأكثر أهل العلم، وقال ربيعة: كانوا يرون الفرسخ وهو ثلاثة أميال، وقال الأوزاعى: من آواه الليل إلى أهله فعليه الجمعة والعيد، وقال ابن القاسم، وأشهب: إن شاء من لا تجب عليهم الجمعة أن يصلوها بإمام فعلوا، ولكن لا خطبة عليهم، وإن خطب فحسن. وقوله: (أول ما نبدأ به الصلاة)، يدل أن الخطبة بعدها، وقد جاء هذا منصوصًا بعد هذا. وفيه: أن النحر لا يكون إلا بعد الصلاة. قال المهلب: وفيه دليل أن العيد موضوع للراحات وبسط النفوس إلى ما يحل من الدنيا والأخذ بطيبات الرزق وما أحل الله من اللعب والأكل والشراب والجماع؛ ألا ترى أنه أباح الغناء من أجل عذر العيد قال: (دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد)، وكان أهل المدينة على سيرة من أمر الغناء واللهو، وكان النبى، عليه السلام، وأبو بكر على خلاف ذلك؛ ولذلك أنكر أبو بكر المغنيتين فى بيت عائشة؛ لأنه لم يرهما قبل ذلك بحضرة النبى، عليه السلام، فرخص فى ذلك للعيد وفى ولائم إعلان النكاح. وقوله: (تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث)، تريد ترفعان أصواتهما بالإنشاد، وكل من رفع صوته بشىء ووالى به مرة بعد مرة، فصوته عند العرب غناء، وأكثره فيما شاق من صوت، أو شجا من نغمة ولحن، ولهذا قالوا: غنت الحمامة، ويغنى الطائر، هذا قول الخطابى. وإنما كانتا تنشدان المراثى التى تحزن وتبعث النفوس على الاتنقام من العدو، وهى مراثى من أصيب يوم بعاث، فأباح النبى صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الغناء. وقولها: (وليستا بمغنيتين)، تعنى الغناء الذى فيه ذكر الخنا والتعريض بالفواحش وما يسميه المُجان وأهل المعاصى غناء مما يكثر التنغيم فيه. قال المهلب: وهذا الذى أنكره أبو بكر كثرة التنغيم وإخراج الإنشاد عن وجهه إلى معنى التطريب بالألحان؛ ألا ترى أنه لم ينكر الإنشاد وإنما أنكر مشابهة الزمير، فما كان من الغناء الذى يجرى هذا المجرى من اختلاف النغمات وطلب الإطراب فهو الذى تخشى فتنته واستهواؤه للنفوس، وقطع الذريعة فيه أحسن، وما كان دون ذلك من الإنشاد ورفع الصوت حتى لا يخفى معنى البيت، وما أراده الشاعر بشعره فغير منهى عنه، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه رخص فى غناء الأعراب، وهو صوت كالحداء يسمى النصب إلا أنه رقيق. وروى النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: خرجنا مع عمر فى الحج حتى إذا كنا بالروحاء كلم القوم رباح بن المعترف، وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا: أسمعنا وقصر عنا المسير فقال: إنى أفرق عمر، فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر فكلموه، فقال: يا رباح، أسمعهم وقصر عنهم المسير، فإذا سحرت فارفع قال: فرفع عقيرته وتغنى). فهذا وما أشبهه مما يدعى غناء لم ير به بأس، ولم ير فيه إثم؛ لأنه حداء يحث المطى ويقصر المسير ويخفف السفر، وتأتى زيادة فى هذا الباب فى باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله فى آخر كتاب الاستئذان، ويأتى فى فضائل القرآن عند قوله: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)، من أجاز سماع القرآن بالألحان ومن كرهه.
- فيه: أَنَسِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا. الأكل عند الغدو إلى المصلى سنة مستحبة عند العلماء تأسيًا بالنبى، عليه السلام، وروى عن على، وابن عباس أنهما قالا: من السنة ألا تخرج يوم الفطر حتى تطعم، وهو قول عامة العلماء، وكأن بعض التابعين يأمرهم بالأكل فى الطريق، وروى عن ابن مسعود أنه قال: إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وعن النخعى مثله، وقد روى عن ابن عمر الرخصة فى ترك الأكل، وذكر ابن أبى شيبة عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ولا يطعم شيئًا، قال ابن المنذر: والذى عليه الأكثر استحباب الأكل. قال المهلب: إنما كان يؤكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، والله أعلم لئلا يظن ظان أن الصيام يلزم يوم الفطر إلى أن تصلى صلاة العيد، فخشى الذريعة إلى الزيادة فى حدود الله، فاستبرأ ذلك بالأكل، والدليل على ذلك أنه لم يكن يأمر بالأكل قبل الغدو إلى المصلى فى الأضحى. ويجعلن وترًا استشعارًا للوحدانية، وكذلك كان يفعل فى جميع أموره.
- فيه: أَنَسٍ قَالَ عليه السلام: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلْيُعِدْ)، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، وَذَكَرَ مِنْ جِيرَانِهِ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَم صَدَّقَهُ، فقَالَ: وَعِنْدِي جَذَعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ عليه السلام. - وفيه: الْبَرَاءِ: خَطَبَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَوْمَ الأضْحَى بَعْدَ الصَّلاةِ، فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلا نُسُكَ لَهُ)، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ- خَالُ الْبَرَاءِ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا تُذْبَحُ فِي بَيْتِي، وَتَغَدَّيْتُ، قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلاةَ، قَالَ: (شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ؟)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً، هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ، فَتَجْزِئ عَنِّي؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِئ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ). وأما يوم النحر فهو يوم أكل كما قال أبو بردة، إلا أنه لا يستحب فيه الأكل قبل الغدو إلى الصلاة، ولا ينهى عنه؛ ألا ترى أن النبى، عليه السلام، فى حديث البراء لم يحسن أكله ولا عنفه عليه، وإنما أجابه عما به الحاجة إليه من سنة الذبح وعذره فى الذبح لما قصده من إطعام جيرانه لحاجتهم، فلم ير عليه السلام، أن يخيب فعلته الكريمة، وأجاز له أن يضحى بالجذعة وهى لا تجزئ فى الضحايا عن أحد غيره. فبين الفطر والأضحى فى الأكل قبل الصلاة فرقان: الواحد ليفصل بين الصيام وبين الصلاة بالأكل، والثانى فى الأضحى مباح، إن فعل فحسن وإن لم يفعل فحسن؛ لأنه ليس قبله صيام يحتاج إلى فصله. والعناق: الأنثى من المعز، عن الخليل.
- فيه: أبو سَعِيدٍ قَالَ: (كَانَ النبى، عليه السلام، يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَيَعِظُهُمْ، وَيُوصِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ، بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ)، فقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ، فَجَبَذَنِي، وَارْتَفَعَ، يَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلاةِ، قُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ، قَالَ: أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ، فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لا أَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاةِ، فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلاةِ. قال المؤلف: قال أشهب فى المجموعة: خروج المنبر إلى العيدين واسع إن شاء أخرج وإن شاء ترك. وقال ابن حبيب: قال مالك: لا يخرج المنبر فى العيدين من شأنه أن يخطب إلى جانبه، فإنما يخطب عليه الخلفاء. قال المهلب: وبنيان كثير للمنبر يدل على أنه لم يكن قبل ذلك. وفيه: أن الصلاة قبل الخطبة، وأن الخلفاء الراشدين كانوا على ذلك. وفيه: مواجهة الخطيب للناس وأنهم بين يديه. وفيه: البروز إلى المصلى والخروج إليها، وأنه من سنتها وأنه لا يصلى فى المسجد إلا من ضرورة، روى ابن زياد عن مالك قال: السنة الخروج إليها إلى المصلى إلا لأهل مكة، فالسنة صلاتهم إياها فى المسجد. وقوله: (غيرتم والله)، فقد روى عن عثمان بن عفان أنه فعل ذلك فليس بتغيير. وقد اختلف الناس فى أول من قدم الخطبة فى العيدين، فروى ابن نافع عن مالك قال: أول من فعل ذلك عثمان بن عفان، وإنما صنع ذلك ليدرك الناس الصلاة، وروى ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة عثمان، وروى ابن جريج عن ابن شهاب قال: أول من قدم الخطبة قبل الصلاة معاوية، وروى سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة يوم العيدين مروان. وذكر مالك وغيره أن عثمان إنما فعل ذلك ليدرك الناس الصلاة؛ لأنهم كانوا يأتون بعد الصلاة. قال المهلب: وفى هذا من الفقه أنه يحدث للناس أمورًا بقدر الاجتهاد إذا كان صلاحًا لهم، والأصل فى ذلك أن النبى، عليه السلام، خطب قبل الجمعة، فترك عثمان وغيره الصلاة حتى خطبوا لعلَّة أوجبت ذلك من افتراق الناس؛ لِسنته عليه السلام فى تقديمه الخطبة فى الجمعة، فليس بتغيير، وإنما ترك فعل بفعل، ولم يترك لغير فعل الرسول، وإنما كانت الخطبة فى الجمعة قبل الصلاة لقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض} [الجمعة: 10]، فعلم الرسول من هذه الآية أن ليس بعد صلاة الجمعة جلوس لخطبة ولا لغيرها.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ النبى، عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي فِي الأضْحَى وَالْفِطْرِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلاةِ). - وفيه: جَابِرِ: (إِنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ). - وأرسل ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي أَوَّلِ مَا بُويِعَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ لِلصَّلاَةِ يَوْمَ الْفِطْرِ، إِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلاةِ. - وقال جَابِرِ وابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَلا يَوْمَ الأضْحَى. وسنة الخروج إلى العيدين عند العلماء المشى؛ لأنه من التواضع، والركوب مباح وليس فى أحاديث هذا الباب ما يدل على الركوب، وروى زرّ عن عمر بن الخطاب، أنه خرج يوم فطر يمشى، وعن على بن أبى طالب أنه قال: من السنة أن يأتى العيد ماشيًا، واستحب ذلك مالك، والثورى، والشافعى، وأحمد، وجماعة. وقال مالك: إنما نحن نمشى ومكاننا قريب، ومن بعد عليه فلا بأس أن يركب، وكان الحسن يأتى العيد راكبًا، وكره النخعى الركوب فى العيدين والجمعة. وأما الصلاة قبل الخطبة، فهو إجماع من العلماء قديمًا وحديثًا إلا ما كان من بنى أمية من تقديم الخطبة وقد تقدم ذلك، وروى عن ابن الزبير مثله. وفيه: أن سنة صلاة العيدين ألا يؤذن لها ولا يقام، وهو قول جماعة الفقهاء، وقال الشعبى، والحكم، وابن سيرين: الأذان يوم الأضحى ويوم الفطر بدعة. وقال سعيد بن المسيب: أول من أحدث الأذان فى العيد معاوية، وقال حصين: أول من أذن فى العيد زياد، وقال عطاء: سأل ابن الزبير ابن عباس، وكان الذى بينهما حسن، فقال: لا تؤذن ولا تقم، فلما ساء ما بينهما أذن وأقام.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النبى، عليه السلام، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ). - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ). - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، وَمَعَهُ بِلالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ، تُلْقِي الْمَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا). - وفيه: الْبَرَاءِ أن النَّبِيُّ عليه السلام، قال: (أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ به فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ونَرْجِعَ فَنَنْحَرَ...) الحديث. قد تقدم أن الصلاة قبل الخطبة هو إجماع من العلماء، وذكرنا من قدم الخطبة قبل الصلاة من السلف. وقال أشهب فى (المجموعة): من بدأ بالخطبة قبل الصلاة أعادها بعد الصلاة، فإن لم يفعل أجزأه وقد أساء، قال مالك: والسنة تقديم الصلاة قبل الخطبة، وبذلك عمل رسول الله وأبى بكر، وعمر، وعثمان صدرًا من ولايته. وقد غلط النسائى فى حديث البراء، وترجم له باب الخطبة قبل الصلاة، واستدل على ذلك من قوله عليه السلام: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى ثم ننحر)، وتأول أن قوله هذا كان قبل الصلاة؛ لأنه كيف يقول أول ما نبدأ به أن نصلى وهو قد صلى، وهذا غلط؛ لأن العرب قد تضع الفعل المستقبل مكان الماضى؛ فكأنه قال عليه السلام: أول ما يكون الابتداء به فى هذا اليوم الصلاة التى قدمنا فعلها وبدأنا بها، وهو قوله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله} [البروج: 8]، والمعنى: وما نقموا منهم إلا الإيمان المتقدم منهم، وقد بين ذلك فى باب استقبال الإمام الناس فى خطبة العيد فقال: (إن أول نسكنا فى يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة). والسخاب: قلادة من قرنفل وسُكّ ليس فيها جوهر، قال ابن دريد: والجمع سُخُب.
وَقَالَ الْحَسَنُ: نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلاحَ يَوْمَ العِيد، إِلا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا. - فيه: سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنه قَالَ: (كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ، فَنَزَلْتُ، فَنَزَعْتُهَا، وَذَلِكَ بِمِنًى، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ، فَجَاء يَعُودُهُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلاحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَ السِّلاحَ فى الْحَرَمَ، وَلَمْ يَكُنِ السِّلاحُ يُدْخَلُ الْحَرَمَ). - وقال مرة: (حَمْلِت السِّلاحِ فِي يَوْمٍ لا يَحِلُّ حَمْلُهُ فِيهِ). قول ابن عمر: (حملت السلاح فى يوم لم يكن يحمل فيه)، يدل أن حملها ليس من شأن العيد، وحملها فى المشاهد التى لا يحتاج إلى الحمل فيها مكروه؛ لما يخشى فيها من الأذى والعقر عند تزاحم الناس، وقد قال عليه السلام للذى رآه يحمل نبلاً فى المسجد: (أمسك بنصالها لا تعقرن بها مسلمًا). فإن خافوا عدوًا فمباح حملها كما قال الحسن. قال المهلب: وقد أباح الله حمل السلاح فى الصلاة عند الخوف، فقال تعالى: {خذوا حذركم وأسلحتكم} [النساء: 71]. وقوله: أمرت بحمل السلاح فى الحرم ولم يكن يُدخل فيه، إنما ذلك للأمن الذى جعله الله لجماعة المسلمين فيه لقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنًا} [آل عمران: 97]. وقول ابن عمر: (أنت أصبتنى)، دليل على قطع الذرائع؛ لأنه لامه على ما أدّاه إلى أذاه، وإن كان لم يقصد الحجاج ذلك.
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ بُسْرٍ: إِنْ كُنَّا فَرَغْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ. - فيه: الْبَرَاءِ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ عليه السلام، يَوْمَ النَّحْرِ فقَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ). أجمع الفقهاء أن العيد لا يصلى قبل طلوع الشمس، ولا عند طلوعها، فإذا ارتفعت الشمس وابيضت وجازت صلاة النافلة، فهو وقت العيد؛ ألا ترى قول عبد الله بن بسر: وذلك حين التسبيح، أى: حين الصلاة، فدل أن صلاة العيد سبحة ذلك اليوم فلا تؤخر عن وقتها لقوله عليه السلام: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا الصلاة)، ودل ذلك على التبكير بصلاة العيد كما ترجم به البخارى، إلا أن مالكًا قال: وقت صلاة العيد ممتد إلى الزوال. واختلفوا فى وقت الغُدُوِّ إلى العيد، فكان عبد الله بن عمر يصلى الصبح ثم يغدو كما هو إلى المصلى، وفعله سعيد بن المسيب، وقال إبراهيم: كانوا يصلون الفجر وعليهم ثيابهم يوم العيد، وعن أبى مجلز مثله. وفيها قول آخر روى عن رافع بن خديج أنه كان يجلس فى المسجد مع بنيه، فإذا طلعت الشمس صلى ركعتين، ثم يذهبون إلى الفطر والأضحى، وكان عروة لا يأتى العيد حتى تستقل الشمس، وهو قول عطاء والشعبى. وفى (المدونة) عن مالك: يغدو من داره أو من المسجد إذا طلعت الشمس. وقال على بن زياد عنه: ومن غدا إليها قبل طلوع الشمس، فلا بأس ولكن لا يكبر حتى تطلع الشمس ولا ينبغى للإمام أن يأتى المصلى حتى تحين الصلاة. وقال الشافعى: يرى فى المصلى حين تبرز الشمس فى الأضحى، ويؤخر الغدو فى الفطر عن ذلك قليلاً، وحديث البراء دليل للقول الأول. وقيل قوله: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى)، يدل أنه لا يجب أن يشتغل بشىء غير التأهب للعيد والخروج إليه، وأن لا يفعل قبل صلاة العيد شىء غيرها.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَيذْكُرُوا اسم اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالأيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ. - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عليه السلام: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ)، قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ فى سبيل الله؟، قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ). وقال المهلب: العمل فى أيام التشريق هو التكبير المسنون، وهو أفضل من صلاة النافلة؛ لأنه لو كان هذا الكلام حضًا على الصلاة والصيام فى هذه الأيام لعارض قوله عليه السلام: (أيام أكل وشرب)، وقد نهى عن صيام هذه الأيام، وهذا يدل على تفريغ هذه الأيام للأكل والشرب اللذة، فلم يبق تعارض إذا عنى بالعمل التكبير. وقوله: (يخاطر بنفسه)، يعنى يكافح العدو بنفسه وسلاحه وجواده، فيسلم من القتل أو لا يسلم منه، فهذه المخاطرة، وهذا العمل أفضل فى هذه الأيام وغيرها مع أن هذا العمل لا يمتنع صاحبه من إتيان التكبير والإعلان به. قوله: (فلم يرجع بشىء)، يحتمل أن لا يرجع بشىء من ماله ويرجع هو، ويحتمل أن لا يرجع هو ولا ماله فيرزقه الله الشهادة، وقد وعد الله عليها الجنة. وقد اختلف العلماء فى الأيام المعلومات فقال بقول ابن عباس: أنها أيام العشر: النخعى، وبه قال الشافعى وقال: وفيها يوم النحر، وروى عن على، وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده، وبه قال مالك، قال الطحاوى وإليه أذهب لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 28]، وهى أيام النحر. قال المهلب: إنما سميت معلومات؛ لأنها عند الناس كلهم معلومة للذبح فيتوخى المساكين القصد فيها فيُعْطون. وأما المعدودات فعامة العلماء على أنها أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر كما قال ابن عباس، وإنما سميت معدودات، والله أعلم، لقول الله تعالى: {واذكروا الله فى أيام معدودات فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه} [البقرة: 203]، يعنى فمن تعجل فى النفر من منى، فنفر فى يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فنفر فى اليوم الثالث فلا إثم عليه. وقيل: إنما سميت أيام التشريق معدودات؛ لأنه إذا زيد عليها فى البقاء كان حصرًا لقوله عليه السلام: (لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث). وأما خروج ابن عمر، وأبى هريرة إلى السوق وتكبير الناس بتكبيرهما، فقالت طائفة به، والفقهاء لا يرون ذلك، وإنما التكبير عندهم من وقف رمى الجمار؛ لأن الناس فيه تبع لأهل منى كما قال مالك. وأما تكبير محمد بن على خلف النافلة، فهو قول الشافعى، وسائر الفقهاء لا يرون التكبير إلا خلف الفريضة.
وَكَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلاة وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ وتِلْكَ الأيَّامَ جَمِيعًا، وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكانَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ. - فيه: ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ عَنِ التَّلْبِيَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي، لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. - وفيه: أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ. وترجم لحديث أم عطية: (باب خروج الحيض إلى المصلى)، وباب (اعتزال الحيض المصلى). وقال المهلب: أيام منى هى أيام التشريق، وتأول العلماء فيها قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]، ومعنى التكبير فى هذا الفصل، والله أعلم، لأنه تصل الذبائح لله تعالى. وكانت الجاهلية تذبح لطواغيتها ونُصُبِهَا، فجعل التكبير استشعارًا للذبح لله تعالى، حتى لا يذكر فى أيام الذبح غيره، ومعنى اشتراط التسمية على الذبح لئلا يذكر غيره، ويعلن بذكره حتى تنسى عبادة الجاهلية، استحب العلماء التكبير يوم العيد فى طريق المصلى، وروى عن على ابن أبى طالب أنه كبر يوم الأضحى حتى أتى الجبانة، وعن أبى قتادة أنه كان يكبر يوم العيد حتى يبلغ المصلى. وعن ابن عمر أنه كان يكبر فى العيد حتى يبلغ المصلى، ويرفع صوته بالتكبير، وهو قول مالك والأوزاعى، قال مالك: ويكبر فى المصلى إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطعه ولا يكبر إذا رجع. وقال الشافعى: أحب إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلى حتى يخرج الإمام، وقال أبو حنيفة: يكبر يوم الأضحى يجهر فى ذهابه ولا يكبر يوم الفطر. وفيها قول آخر، ذكر الطحاوى عن سفينة مولى ابن عباس قال: كنت أقود ابن عباس إلى المصلى، فيسمع الناس يكبرون، فيقول: ما شأن الناس أكبر الإمام؟ فأقول: لا، فيقول: مجانين الناس، فأنكر التكبير فى طريق المصلى، وهذا يدل أن التكبير عنده الذى يكبر الإمام مما يصلح أن يكبر الناس معه. قال المؤلف: ولم أجد أحدًا من الفقهاء يقول بقول ابن عباس. قال الطحاوى: ومن كبر يوم الفطر تأول قول الله، تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]، وتأول ذلك زيد بن أسلم، قال الطحاوى: ويحتمل قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]، تعظيم الله بالأفعال والأقوال كقوله تعالى: {وكبره تكبيرًا} [الإسراء: 111]، قال: والقياس أن يكبر فى العيدين جميعًا؛ لأن صلاة العيدين لا يختلفان فى التكبير فيهما والخطبة بعدهما وسائر سننهما، كذلك التكبير فى الخروج إليهما. وقال ابن أبى عمران: إن السنة عند أصحاب أبى حنيفة جميعًا فى الفطر أن يكبر فى الطريق إلى المصلى، ولم يعرفوا قول أبى حنيفة. وفى حديث أم عطية: خروج النساء إلى المصلى كما ترجم، وقد فسرت أم عطية إخراج الحُيض فقالت: ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، رجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، ورغبة فى دعاء المسلمين فى الجماعات؛ لأن البروز إلى الله لا يكون إلا عن نية وقصد، فرجاء بركة القصد إلى الله والبروز إليه والجماعة لا تخلو من فاضل من الناس ودعاؤهم مشترك. وقد اختلف الناس فى خروج النساء إلى العيدين، فروى عن أبى بكر وعلى أنهما قالا: على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين، وكان ابن عمر يُخرج من استطاع من أهله فى العيد، وقال أبو قلابة: قالت عائشة: كانت الكواعب تخرج لرسول الله فى الفطر والأضحى، وكان علقمة والأسود يُخرجان نساءهم فى العيد ويمنعانهن الجمعة، وروى ابن نافع عن مالك أنه لا بأس أن تخرج المتجالة إلى العيدين والجمعة وليس بواجب، وهو قول أبى يوسف. وكرهت ذلك طائفة، روى عن عروة أنه كان لا يدع امرأة من أهله تخرج إلى فطر أو أضحى، وكان القاسم أشد شىء على العواتق، وقال النخعى، ويحيى الأنصارى: لا يُعرف خروج المرأة الشابة فى العيد عندنا. واختلف قول أبى حنيفة فى ذلك، فروى عنه أنه لم ير خروج النساء فى شىء من الصلوات غير العيدين، وقال مرةً أخرى: كان يرخص للنساء فى الخروج إلى العيدين، فأما اليوم فأنا أكرهه، وقول من رأى خروجهن أصح لشهادة السنة الثابتة له. وفى حديث أم عطية حجة لمالك والشافعى فى قولهما: إن النساء يلزمهن التكبير فى عقيب الصلوات فى أيام التشريق، وأبو حنيفة لا يرى عليهن تكبيرًا، وخالفه أبو يوسف ومحمد قالا بقول مالك: إن التكبير على النساء كما هو على الرجال. وقد ذكر البخارى عن ميمونة زوج النبى، عليه السلام، أنها كانت تكبر يوم النحر، وأن النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز، وهذا أمر مستفيض. قال المهلب: وإنما أمر الحُيَّض باعتزال المصلى خشية الاختلاف؛ أن يكون طائفة تصلى وطائفة بينهم لا تصلى، وخشية ما يحدث للحائض من خروج الدم الذى لا يؤمن ذلك منها، فتؤذى من جاورها وتنجس موضع الصلاة.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ تُرْكَزُ الْحَرْبَةُ قُدَّامَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، ثُمَّ يُصَلِّي). وترجم له: باب حمل العنزة والحربة بين يدى الإمام يوم العيد وقال فيه. - ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (أن نَّبِيُّ اللَّه كان يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى، وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ). حمل العنزة والحربة بين يديه لتكون له سترة فى صلاته إذا كانت المصلى فى الصحراء، ولم يكن فيها من البنيان ما يستتر به، ومن سنته عليه السلام، أن لا يصلى المصلى إلا إلى سترة إمامًا كان أو منفردًا. فإن قيل: فقد صلى عليه السلام، بمنى إلى غير جدار فى حديث ابن عباس نزل من الأتان ومرّ بين يدى بعض الصف. قيل له: هذا يدل من فعله عليه السلام، أن السترة للمصلى ليست بفريضة وأنها سنة مستحبة؛ لأن صلاته بمنى إلى غير السترة كأن نادرًا من فعله عليه السلام، والذى واظب عليه طول دهره الصلاة إلى سترة، وقد تقدم ما للعلماء فى هذه المسألة فى باب: سترة الإمام سترة لمن خلفه.
- فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قيل له: (شهدت العيد مع النبى، عليه السلام؟ قال: نعم، لولا مكانى من الصغر ما شهدته، ثم أتى النساء فوعظهن...)، الحديث. خروج الصبيان إلى المصلى إنما هو إذا كان الصبى ممن يضبط نفسه عن اللعب، ويعقل الصلاة، ويتحفظ مما يفسدها، ألا ترى ضبط ابن عباس للقصة، ولإتيانه عليه السلام، النساء ووعظهن وأمرهن بالصدقة، وأخذ بلال ذلك فى ثوبه، فدل ذلك على أنه كان ممن يعقل الصلاة وغيرها. وقال المهلب: وقوله: (ولولا مكانى من الصغر ما شهدته)، يريد حين أتى النساء فوعظن، فذكر أنه شهد بذلك معه، وقد تقدم هذا المعنى قبل هذا وترجم له: باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، وزاد فيه: عن ابن جريج قلت لعطاء: أترى حقًا على الإمام أن يأتيهن ويذكرهن؟ قال: إنه لحق عليهم ومالهم لا يفعلونه. قال المؤلف: أما إتيانه عليه السلام، إلى النساء ووعظهن فهو خاص له عند العلماء؛ لأنه أب لهن، وهم مجمعون أن الخطيب لا تلزمه خطبة أخرى للنساء ولا يقطع خطبته ليتمها عند النساء، وفائدة هذا الحديث الرخصة فى شهود النساء والصبيان العيد. والفتخ: خواتم بلا فصوص كأنها حلق، الواحدة: فتخة.
وقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَامَ النَّبِيُّ عليه السلام، مُقَابِلَ النَّاسِ. - فيه: الْبَرَاءِ: (خَرَجَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَوْمَ الأَضْحًى إِلَى الْبَقِيعِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلاةِ...)، الحديث. السنة استقبال الإمام الناس فى خطبة العيد والجمعة وغيرها؛ لأن كل من حضر الخطبة مأمور باستماعها، ولا يكون المستمع إلا مقبلاً بوجهه على المسموع منه ليكون أوعى لموعظته.
- فيه: حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عن امرأة غزت مع رسول الله فقَالَتْ: كُنَّا نَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى وَنُدَاوِي الْكَلْمَى، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَلا تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: (لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ المسلمين....)، الحديث. هذا يدل على تأكيد خروج النساء إلى العيدين؛ لأنه إذا أمرت المرأة أن تلبس من لا جلباب لها، فمن لها جلباب أولى أن تخرج وتشهد دعوة المؤمنين رجاء بركة ذلك اليوم. وقال الطحاوى: وأمره عليه السلام، أن تخرج الحيض وذوات الخدور فى العيد يحتمل أن يكون ذلك فى أول الإسلام والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهابًا للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك. قال المؤلف: وهذا التأويل يحتاج إلى معرفة تاريخ الوقت الذى أمر فيه النبى، عليه السلام، النساء بذلك، ونسخ أمره لهن بالخروج إلى العيدين، وهذا لا سبيل إليه، والحديث باق على عمومه لم ينسخه شىء ولا أحاله، والنسخ لا يثبت إلا بيقين، وأيضًا فإن النساء ليس ممن يرهب بهن على العدو، ولذلك لم يلزمهن فرض الجهاد. والعواتق: جمع عاتق، وقال ابن دريد: عتقت الجارية: صارت عاتقًا إذا أوشكت البلوغ، وقال ابن السكيت: العاتق فيما بين أن تدرك إلى أن تعنس ما لم تزوج، والخدور: البيوت. فأمر الملازمات للبيوت المحتجبات بالبروز إلى العيدين بخلاف قول أبى حنيفة.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يَنْحَرُ أَوْ يَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى). السنة، والله أعلم، بالذبح فى المصلى لئلا يُتقدم الإمام بالذبح، ولما كانت أفعال العيدين والجماعات إلى الإمام وجب أن يكون متقدمًا فى ذلك والناس له تبع، ولهذا قال مالك: لا يذبح أحد حتى يذبح الإمام، وروى مثل قول مالك أثر انفرد به ابن جريج، وأكثر الآثار على مراعاة الصلاة فقط، ولم يختلفوا أن من رمى الجمرة، فقد حل له الذبح والحلق، وإن لم يذبح الإمام إلا بعد ذلك، فكذلك من صلى عندهم يوم النحر أن المعنى المتعبد به: الوقت لا الفعل، وقد أجمعوا أن الإمام لو لم يذبح يوم النحر أصلاً، ودخل وقت الذبح أن الذبح حلال. قال المهلب: وإنما قال مالك إنه من ذبح قبل الإمام أعاد ليكون للضعفاء وقت يقصدونه للصدقة ولا يجيئون حتى يعم الناس الإفضال، وتستوى بهم الحال، ويكتفى الضعفاء بقية يومهم.
- فيه: الْبَرَاءِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَنَسَكَ نُسْكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ...)، الحديث، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، فَقَالَ: والله يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ نَسَكْتُ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ)، قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي عَنَاقًا فَهَلْ تَجْزِئ عَنِّي؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِئ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ). والكلام فى الخطبة بما كان من أمر الدين للسائل والمسئول جائز، وقد قال عليه السلام، للذين قتلوا ابن أبى الحقيق حين دخلوا عليه يوم الجمعة، وهو يخطب: (أفلحت الوجوه)، وقال عمر وهو على المنبر: املكوا العجين، فإنه أحد الرَّيْعَيْن، رواه هشام بن عروة، عن أبيه، وقال هشام: أمرهم رحمه الله بما كان يأمر أهله، ورأى أن ذلك حق. وكره العلماء كلام الناس والإمام يخطب، روى ذلك عن عطاء، والحسن، والنخعى، وقال مالك: لينصت للخطبة ويستقبل، وليس من تكلم فى ذلك كمن تكلم فى خطبة الجمعة، وقال شعبة: كلمنى الحكم بن عُتيبة يوم عيد والإمام يخطب.
- فيه: جَابِرِ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ). وجمهور العلماء يستحبون الرجوع يوم العيد من طريق أخرى، وقال أبو حنيفة: يستحب له ذلك، فإن لم يفعل فلا حرج عليه. ورأيت للعلماء فى معنى رجوعه عليه السلام، من طريق أخرى تأويلات كثيرة، وأَولاها عندى، والله أعلم، أن ذلك ليرى المشركين كثرة عدد المسلمين، ويرهب بذلك عليهم.
وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ وَمَنْ كَانَ فِي الْبُيُوتِ وَالْقُرَى، لِقَوْلِه عليه السلام: هَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الإسْلامِ، وَأَمَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَوْلاهُمُ ابْنَ أَبِي عُتْبَةَ بِالزَّاوِيَةِ، فَجَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ، فَصَلَّى كَصَلاةِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَتَكْبِيرِهِمْ. وقال عِكْرِمَةُ: أَهْلُ السَّوَادِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْعِيدِ، يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يَصْنَعُ الإمَامُ. وقال عَطَاءٌ: إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. - فيه: عَائِشَةَ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنَى، تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِيُّ عليه السلام، مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ). اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة العيد مع الإمام، فقالت طائفة: يصلى ركعتين مثل صلاة الإمام، روى ذلك عن عطاء، والنخعى، والحسن، وابن سيرين، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى ثور، إلا أن مالكًا قال: يستحب له ذلك من غير إيجاب، وقال الأوزاعى: يصلى ركعتين ولا يجهر بالقراءة ولا يكبر تكبير الإمام وليس بلازم. وقالت طائفة: يصليها إن شاء؛ لأنها إنما تصلى ركعتين إذا صليت مع الإمام بالبروز لها كما على من لم يحضر الجمعة مع الإمام أن يصلى أربعًا، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وبه قال الثورى وأحمد. وقال أبو حنيفة: إن شاء صلى وإن شاء لم يصل، فإن صلى صلى أربعًا وإن شاء ركعتين، وقال إسحاق: إن صلى فى الجَبَّان صلى كصلاة الإمام، وإن لم يصل فى الجَبَّان صلى أربعًا، وأولى الأقوال بالصواب أن يصليها كما سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذى أشار إليه البخارى، واستدل على ذلك بقوله عليه السلام: (هذا عيدنا أهل الإسلام)، و (إنها أيام عيد)، وذلك إشارة إلى الصلاة، وقد أبان ذلك بقوله: (أول نسكنا فى يومنا هذا أن نصلى، ثم ننحر فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا)، فمن صلى كصلاة الإمام فقد أصاب السنة. واتفق مالك، والكوفيون، والمزنى على أنه لا تصلى صلاة العيد فى غير يوم العيد، وقال الشافعى فى أحد قوليه: أنها تقضى من الغد، واحتج عليه المزنى، فقال: لما كان ما بعد الزوال أقرب منها من اليوم الثانى، وأجمعوا أنها لا تصلى إلا قبل الزوال، فأحرى ألا تصلى من الغد وأبعد.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا). اختلف أهل العلم فى هذه المسألة على ثلاثة أقوال، فقالت طائفة بحديث ابن عباس هذا: لا يصلى قبل العيد ولا بعدها فى المصلى، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وحذيفة، وجابر، وابن عمر، والشعبى، ومسروق، والقاسم، وسالم، وهو قول مالك، وأحمد بن حنبل إلا أن مالكًا قال: إذا صليت فى المسجد جاز التنفل قبلها وبعدها، وقالت طائفة: يصلى بعدها ولا يصلى قبلها، روى ذلك عن أبى مسعود البدرى، وبه قال علقمة، والأسود، وابن أبى ليلى، والنخعى، والثورى، والكوفيون، والأوزاعى. وقالت طائفة: يصلى قبلها وبعدها كما يصلى قبل الجمعة وبعدها، روى ذلك عن بريدة الأسلمى، وأنس بن مالك، والحسن، وعروة، وبه قال الشافعى. إلا أن السنة الثابتة فى ذلك ما رواه ابن عباس فى هذا الباب أن النبى، عليه السلام، صلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها، فثبت أنها ليست كالجمعة، واستخلف على أبا مسعود، فخطب الناس وقال: لا صلاة قبل الإمام يوم العيد، ولم يرو عن غيره خلافه، ومثل هذا لا يقال بالرأى إنما طريقه التوقيف، قاله الطحاوى. أَبْوَاب الْوِتْرِ
- فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبىِّ عَلَيْهِ السَّلام قال: (صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى). وكان ابن عمر يسلم بين الركعة والركعتين فى الوتر حتى يأمر ببعض حاجته. - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خالته مَيْمُونَةَ، فقام النبى عليه السلام فصلى نصف الليل اثنى عشرة ركعة ثم أوتر ثم اضطجع. قال القاسم: ورأينا أناسًا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلا لواسع أرجو ألا يكون بشىء منه بأس. - وفيه: عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ (أَنَّ النبى عَلَيْهِ السَّلاَم كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صلاة الليل. اختلف العلماء فى صلاة الوتر، فقالت طائفة: الوتر ركعة، روى ذلك عن ابن عمر، وقال: كذلك أوتر النبى، عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، وروى عن عثمان أنه كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن يوتر بها، وعن سعد بن أبى وقاص، وابن عباس، ومعاوية، وأبى موسى، وابن الزبير، وعائشة: الوتر ركعة، وبه قال عطاء، ومالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، إلا أن مالكًا قال: الوتر واحدة، ولا بد أن يكون قبلها شفع ليسلم بينهن فى الحضر والسفر، وروى على عن مالك: لا بأس أن يوتر المسافر بواحدة، وأوتر سحنون فى مرضه بواحدة، وقال الأوزاعى: إن شاء فصل بينهما، وإن شاء لم يفصل. وقالت طائفة: يوتر بثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وحذيفة، وأبى بن كعب، وابن عباس، وأنس، وأبى أمامة، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والفقهاء السبعة بالمدينة، وقال سعيد بن المسيب: لا يسلم فى الركعتين من الوتر، وإليه ذهب الكوفيون، والثورى، وقال الأوزاعى: إن شاء فصل بينهن بسلام، وإن شاء لم يفصل. وتأول الكوفيون حديث ابن عباس حين بات عند خالته ميمونة، ورمق صلاته بالليل، فذكر أنه عليه السلام صلى ركعتين ثم ركعتين حتى عَدَّ ثنتى عشرة ركعة قال: ثم أوتر، فيحتمل أن يكون أوتر بواحدة مع اثنتين قد تقدمتاها، فتكون مع الواحدة ثلاثًا، وكذلك تأولوا فى حديث عائشة، أن النبى، عليه السلام، كان يصلى بالليل إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته بالليل، أن الوتر منها الركعة الأخيرة مع ركعتين تقدمتها، قالوا: ويدل على صحة حديث عائشة أن الرسول كان لا يزيد فى رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى أربعًا كذلك، ثم يصلى ثلاثًا فدل أن الوتر ثلاث. وقال أهل المقاللة الأولى: قوله عليه السلام: (صلاة الليل مثنى مثنى)، يُفسر حديث عائشة أنه كان يصلى أربعًا ثم ثلاثًا، وهى زيادة يجب قبولها، وقوله: (فإذا خشيت الصبح، فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت)، دليل أن الوتر واحدة؛ لأنه عليه السلام، قال فى الركعة: إنما هى التى توتر ما قبلها، والوتر فى لسان العرب هو الواحد، فلذلك قال عليه السلام: (إن الله وتر)، أى واحد لا شريك له، والحكم يتعلق بأول الاسم كما أن الظاهر من قوله: (مثنى مثنى)، أى ثنتين مفردتين، فدل ذلك أن الواحد هى الوتر دون غيرها، وإذا جازت الركعة بعد صلاة ركعتين أو أكثر جازت دونها؛ لأنها منفصلة بالسلام منها. وكان مالك يكره الوتر بواحدة ليس قبلها نافلة، ويقول: أى شىء توتر له الركعة؟ وقد قال عليه السلام: (توتر له ما قد صلى)، ألا ترى أنه لم يوتر قط، عليه السلام، إلا بعد عشر ركعات أو اثنتى عشرة ركعة على اختلاف الأحاديث فى ذلك، فلذلك استحب أن تكون للركعة الوتر نافلة توترها، وأقل ذلك ركعتان. وإنما ذكر البخارى عن ابن عمر أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين فى الوتر خلافًا لأبى حنيفة، وكل من روى عنه الفصل بين الشفع، وركعة الوتر بسلام، يجيز الوتر بركعة واحدة ليس قبلها شىء، وقال الشعبى: كان آل سعد، وآل عبد الله بن عمر يسلمون فى ركعتى الوتر، ويوترون بركعة. وقوله: (فإذا خشى أحدكم الصبح صلى ركعة)، يدل أن آخر وقت الوتر انفجار الصبح، فإذا انفجر الصبح، فقد خرج وقت الوتر ولا يعيدها من فاتته حينئذ، روى هذا عن ابن عمر، وعطاء، والنخعى، وسعيد بن جبير. وقالت طائفة أخرى: وقت الوتر ما لم يُصل الصبح، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس وجماعة، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وقال أبو حنيفة: عليه قضاء الوتر وإن صلى الصبح، وعن الشعبى، والحسن، وطاوس: يصلى الوتر، وإن طلعت الشمس، وبه قال الأوزاعى، وأبو ثور، وعن سعيد بن جبير: يوتر من الليلة القابلة.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ. - فيه: أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ: قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ، أُطِيلُ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ؟ فَقَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ، وَكَأَنَّ الأذَانَ بِأُذُنَيْهِ). قَالَ حَمَّادٌ: أَيْ سُرْعَةً. - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ). قال المهلب: ليس للوتر وقت مؤقت لا يجوز غيره؛ لأنه عليه السلام، قد أوتر كُلَّ الليل، كما قالت عائشة، وقد اختلف السلف فى ذلك: عن أبى بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبى هريرة، ورافع بن خديج، أنهم كانوا يوترون أول الليل، وكان يوتر آخر الليل: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وجماعة من التابعين، واستحبه مالك، والثورى، والكوفيون، وجمهور العلماء. وقال الطبرى: فإن قال قائل: فإن كان جمهور العلماء على هذا فما وجه أمره عليه السلام، لأبى هريرة بالوتر قبل النوم وأمره واجب، وقول عائشة: كل الليل أوتر رسول الله، خبر عن فعله، وما لم يكن من فعله بيانًا لمجمل القرآن قلنا: الأخذ به وتركه، والأمر ليس كذلك حتى يُبَيِّنَه أمر آخر أنه على غير الوجوب. قيل: كلا الخبرين صحيح وأمره لأبى هريرة اختيار منه له حين خشى أن يستولى عليه النوم فيقع وتره فى غير الليل، فأمره بالأخذ بالثقة، وأن يوتر قبل نومه، وبهذا وردت الأخبار عنه عليه السلام، روى سفيان عن الأعمش، عن جابر، عن عائشة، أن النبى، عليه السلام، قال: (من خاف منكم ألا يستيقظ آخر الليل فليوتر أول الليل)، ومن علم أنه يستيقظ آخر الليل، فإن صلاته آخر الليل محضورة وذلك أفضل، وروى حماد بن سلمة، عن ثابت البنانى، عن عبد الله بن رباح، عن أبى قتادة، قال: قال رسول الله: (يا أبا بكر، متى توتر؟ قال: أول الليل، وقال لعمر: متى توتر؟ قال: آخر الليل، فقال عليه السلام لأبى بكر: أخذت بالحزم، وقال لعمر: أخذت بالقوة). قال المهلب: وقوله: (كأن الأذان بأذنيه)، يعنى الإقامة يريد أنه كان يسرع ركعتى الفجر قبل الإقامة من أجل تغليسه بالصبح.
- فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ- مُعْتَرِضَةً- عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ، أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ). هذا امتثال لقول الله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132]. وفيه: تأكيد الوتر والأمر به والمواظبة عليه.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ أن النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ: (اجْعَلُوا آخِرَ صَلاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا). اختلف السلف فى وجوب الوتر، فروى عن على بن أبى طالب، وعبادة بن الصامت أنه سنة، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، والشعبى، وابن شهاب مثله، هو قول مالك، والثورى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وعامة الفقهاء. وقالت طائفة: الوتر واجب على أهل القرآن دون غيرهم، لقوله عليه السلام: (أوتروا يا أهل القرآن)، روى ذلك عن ابن مسعود، وحذيفة وهو قول النخعى، وقالت طائفة: هو واجب لا يسوغ تركه، روى ذلك عن أبى يوسف الأنصارى، وهو قول أبى حنيفة، وهو أنه عليه السلام، أمر بالوتر وأمره على الوجوب، وبقوله: (الوتر حق)، و (من لم يوتر فليس منا). وقال الطبرى: الصواب قول من جعله سنة لإجماع الجميع أن عدة الصلوات المفروضات خمس، لو كان الوتر فرضًا لكانت ستًا، ولكان وتر صلاة الليل إحدى الست كما وتر صلاة النهار (المغرب)، إحدى الخمس، فدل على اختلاف حكم وتر صلاة الليل، وحكم وتر صلاة النهار فى أن أحدهما فرض والثانى نافلة. وقوله: (الوتر حق)، معناه: حق فى السنة. وقوله: (من لم يوتر فليس منا)، يقتضى الترغيب فيه، ومعناه: ليس بآخذ سُنتنا ولا مُقْتَدٍ بنا، كما قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)، ولم يرد إخراجه من الإسلام. واختلف العلماء فيمن أوتر ثم نام ثم قام فصلى، هل يجعل آخر صلاته وترًا أم لا؟ فكان ابن عمر إذا عرض له ذلك صلى ركعة واحدة فى ابتداء قيامه أضافها إلى تره ينقضه بها، ثم يصلى مثنى مثنى ثم يوتر بواحدة، روى ذلك عن سعد وابن عباس، وابن مسعود، وبه قال إسحاق، وممن روى عنه أنه يشفع وتره: عثمان، وعلى بن أبى طالب، وعن عمرو بن ميمون، وابن سيرين مثله. وكانت طائفة لا ترى نقض الوتر، روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: أما أنا، فإنى أنام على وتر، فإن استيقظت صليت شفعًا حتى الصباح، وروى مثله عن عمار، وسعد، وابن عباس، وقالت عائشة فى الذى ينقض وتره: هذا يلعب بوتره، وقال الشعبى: أمرنا بالإبرام ولم نؤمر بالنقض، وكان لا يرى نقض الوتر: علقمةُ، ومكحول، والنخعى، والحسن، وهو قول مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور.
- فيه: سَعِيدِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ، نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، ثُمَّ لَحِقْتُ ابنْ عُمَر، فَقَالَ لى: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: خَشِيتُ الصُّبْحَ، فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، فَقَالَ لِى ابْن عُمَر: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، وَاللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ. قال الطبرى: هذا الحديث حجة على أبى حنيفة فى إيجابه الوتر؛ لأنه لا خلاف بين الجميع أنه غير جائز لأحد أن يصلى مكتوبة راكبًا فى غير حال العذر، ولو كان الوتر فرضًا ما صلاهُ الرسول راكبًا بغير عذر. فإن قال قائل: فقد روى مجاهد أنه قال: صحبت ابن عمر، فكان لا يزيد فى السفر على ركعتى المكتوبة، ويحيى الليل صلاة على ظهر الدابة، وينزل قبل الفجر فيوتر بالأرض، وقال إبراهيم: كانوا يصلون على إبلهم حيث كانت وجوههم إلا المكتوبة والوتر. قيل: لا حجة فى فعل ابن عمر لأبى حنيفة؛ لأنه يجوز أن ينزل للوتر طلبًا للفضل لا أن ذلك كان عنده الواجب؛ لأنه قد صح عن ابن عمر أنه كان يوتر على بعيره، ذكره ابن المنذر عنه، وهو معنى ما ذكره البخارى عنه، وكان يفعل ذلك على، وابن عباس أيضًا، وعن عطاء مثله. فإن قيل: فما وجه نزول ابن عمر فى ذلك؟. قيل: لما كان عند ابن عمر من صلاة التطوع، وكان المتطوع بها مخيرًا فى عملها إن شاء راكبًا، وإن شاء نازلاً كان يوتر أحيانًا بالأرض، وهذا وجه فعل ما ذكره النخعى عنه، وهذا كله حجة على الكوفيين. قال الطحاوى: ذكر عنهم أن الوتر لا يصلى على الراحلة، وهو خلاف للسنة الثابت، وقال مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور: يصلى الوتر على الراحلة اتباعًا لهذا الحديث.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً صَلاةَ اللَّيْلِ، إِلا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ). الوتر سنة مؤكدة فى الحضر والسفر، والسنة لا يسقطها السفر إذا كانت مؤكدة، وقد روى عن ابن عباس، وابن عمر أنهما قالا: الوتر فى السفر سنة، وهذا رد على الضحاك فى قوله: إن المسافر لا وتر عليه، وأيضًا فإن ابن عمر ذكر أن النبى، عليه السلام، كان يتنفل فى السفر على راحلته حيث توجهت به، فالوتر أولى بذلك لأنه أوكد من النافلة. قال المهلب: وهذا الحديث تفسير لقوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144]، أن المراد به الصلوات المفروضات، وأن القبلة فرض فيها، وبين أن القبلة فى النوافل سنة لصلاته، عليه السلام، لها فى السفر على راحلته حيث ما توجهت به.
- فيه: ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ: أَقَنَتَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم فِي الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: أَوَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا. - وقال عاصم: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ، قُلْتُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ، قَالَ: فَإِنَّ فُلانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا، يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ، زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ، فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا، يَدْعُو عَلَيْهِمْ. - وقال أبو مجلز، عن أنس: (قَنَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ). - وقال أبو قلابة، عن أنس: (كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ). وقال ابن المنذر: اختلف العلماء فى القنوت، فقالت طائفة بالقنوت قبل الركوع، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وأبى موسى، والبراء، وأنس، وابن عباس، وابن أبى ليلى، وبه قال إسحاق. وقالت طائفة: القنوت بعد الركوع روى ذلك عن أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وقال أنس: كل ذلك كان يفعله قَبْلُ وبَعْدُ، وبه قال أحمد، وفى (المدونة): القنوت فى الصبح قبل الركوع وبعده واسع، والذى يستحب مالك فى خاصة نفسه قبل الركوع، وهو حسن عند مالك، وعند الشافعى سنة فى الصبح، وقال: يقنت فى الصلوات كلها عند حاجة المسلمين إلى الدعاء. قال الطحاوى: لم يقل هذا أحد قبله؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يزل محاربًا للمشركين إلى أن توفاه الله، ولم يقنت فى الصلوات. وقالت طائفة: لا قنوت فى شىء من الصلوات المكتوبة، روى ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وقال ابن عمر: هى بدعة، وقال قتادة، وإبراهيم: لم يقنت أبو بكر ولا عمر حتى مضيا. وقال علقمة، عن أبى الدرداء: لا قنوت فى الفجر، وعن طاوس مثله، وهو قول الكوفيين والليث، وقال الكوفيون: إنما القنوت فى الوتر، واحتج هؤلاء بما روى الطبرى، عن أبى كريب، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت سعد بن طارق أبا مالك الأشجعى قال: قلت لأبى: صليت خلف رسول الله، وأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى أكانوا يقنتون؟ قال: لا يا بنى، محدثة. وقال الطبرى: والصواب فى ذلك أن يقال إن الخبر قد صح عن الرسول أنه قنت على القراء إما شهرًا أو أكثر فى كل صلاة مكتوبة، ثم ترك ذلك، وثبت قنوته فى الصبح، وصح الخبر عنه أنه لم يزل يقنت فى صلاة الصبح حتى فارق الدنيا، حدثناه عمرو بن على قال: أخبرنا خالد بن زيد، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازى عن الربيع قال: (سئل أنس عن قنوت النبى، عليه السلام، أنه قنت شهرًا قال: لم يزل يقنت عليه السلام، حتى مات)، حديث أبى مالك صحيح عندنا أيضًا ولا تعارض بينهما بحمد الله، فنقول: إذا نابت المسلمين نائبة نظيرة التى نزلت بالمسلمين بمصابهم بمن قتل ببئر معونة، فنرى القنوت فى ذلك حسنًا على ما فعله النبى، عليه السلام، حتى يكشف عنهم، وذلك أن أبا هريرة روى أن النبى، عليه السلام، ترك الدعاء عليهم إذ جاءوا تائبين، وروى أنس أنه قنت شهرًا. وذكر الطحاوى بإسناده عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبى سلمة، عن أبى هريرة: (أن النبى، عليه السلام، كان إذا أراد أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد قنت...)، وذكر الحديث، قال: روى حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: كان عمر إذا حارب قنت وإذا لم يحارب لم يقنت. قال الطبرى: ولسنا وإن كنا نرى ذلك حسنًا إذا نابت المسلمين نائبة بموجبين على من تركه إعادة لا سجود سهو، وإن تركه عامدًا، وذلك أن المسلمين مجمعون أن من ترك القنوت غير مفسد لصلاته، فإن قنت قانت فبفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل، وإن ترك تارك فبرخصة رسول الله أخذ، وذلك أنه كان يقنت أحيانًا، ويترك القنوت أحيانًا، فأخبر أنس عنه أنه لم يزل يقنت على ما عهده من فعله ذلك بالقنوت فيها مرةً وترك القنوت أخرى معلمًا بذلك أمته أنهم مخيرون فى العمل بأى ذلك شاءوا من فعله. وأخبر طارق أنه صلى معه، فلم يره قنت، وغير منكر أن يكون صلى معه فى الأوقات التى لم يقنت فيها، فأخبر عنه بما رأى وشاهد، وليس قول: لم أر النبى صلى الله عليه وسلم قنت حجة يدفع بها قول من قال: رأيته يقنت، ولا سيما والقنوت أمرٌ المصلى مخير فيه وفى تركه، ولو كان قول من قال: لم أره يقنت دافعًا لقول من قال: رأيته قنت وجب قولُ من قال: رأيته لا يرفع يديه عند الركوع، وعند رفعه منه دافعًا لقول من قال: رأيته يرفع يديه عندهما. وكذلك كان يجب أن يكون كل ما حكى عنه من اختلاف كان منه فى صلاته مما فعله تعليمًا لأمته فى أنهم مخيرون بين العمل له وتركه غير جائز العمل بأحدهما، وفى إجماع الأمة أن ذلك ليس كذلك، وأن رفع اليدين فى حال الركوع والرفع منه غير مفسد لصلاة المصلى، ولا تركه بموجب عليه قضاء إذْ كان من العمل الذى عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا وتركه أحيانًا، فكذلك القنوت مثله سواء، وكذلك القول عندنا فيما روى عن أصحابه عليه السلام، من الاختلاف فى ذلك؛ لأن كُلا شهد بما رأى منه عليه السلام، فى ذلك وكل محق صادق. قال المهلب: ووجه اختيار مالك القنوت قبل الركوع، والله أعلم ليدرك المستيقظون من النوم الركعة التى بها تدرك الصلاة، ولذلك كان الوقوف فى الصبح أطول من غيرها. قال غيره: ووجه قول أنس للسائل: كذب، يريد أنه كذب أن كان قال عنه: أن القنوت أبدًا بعد الركوع، وقد بين الثورى هذا المعنى فى سياقه لهذا الحديث فروى الثورى، عن عاصم، عن أنس قال: (إنما قنت رسول الله بعد الركعة شهرًا، قلت: فكيف القنوت؟ قال: قبل الركوع)، فبان بذلك أن الذى دام عليه النبى صلى الله عليه وسلم من القنوت كان قبل الركوع كما استحسنه مالك. قال المهلب: ولم يحفظ عن النبى، عليه السلام، أنه تمادى على القنوت فى المغرب بل تركه تركًا لا يكاد يثبت معه أنه لو قنت فيها لترك الناس نقله، إلا أنه روى عن أبى بكر الصديق أنه كان يدعو فى الثالثة من المغرب بعد قراءته أم القرآن: (ربنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [آل عمران: 8]، واستحبه الشافعى، وقال مالك: ليس العمل عندنا على هذا، وإنما جاء أن الناس كانوا يلعنون الكفرة فى رمضان فى الوتر. وقال مالك فى (المدونة): ليس العمل على القنوت بلعن الكفرة فى رمضان، وقال ابن نافع عنه: كانوا يلعنون الكفرة فى النصف من رمضان حتى ينسلخ، وأرى ذلك واسعًا إن شاء فعل وإن شاء ترك. وقوله: زهاء سبعين: قال صاحب (العين): الزهاء: القدر فى العدد.
|