الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟)، قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟)، قَالُوا: لا، قَالَ: (فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا، فَلْيَتَّبِعْه، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلا الرُّسُلُ، وَكَلامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟)، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بقدر بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ...)، وذكر باقى الحديث. قال المؤلف: قوله عليه السلام: (وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)، يدل أن الصلاة أفضل الأعمال لما فيها من الركوع والسجود، وقد قال عليه السلام: (أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا سجد)، وقرأ: (واسجد واقترب} [العلق: 19]، ولعن الله إبليس، لإبائه عن السجود، لعنةً، أبلسهُ بها وأيأسهُ من رحمته إلى يوم القيامة. وقال ثوبان لرسول الله: دُلَّنى على عمل أكون به معك فى الجنة قال: (أكثر من السجود). وقيل فى قوله تعالى: {سيماهم فى وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29]، هو أثر السهر والصفرة، وقيل: الصلاة والخشوع والوقار، وقيل: هو ما يتعلق من التراب بموضع السجود، وقيل فيها غير هذا وسأذكر ذلك فى الباب بعد هذا، وأذكر فيه من كره آثار السجود فى الوجه ومن رخص فيها. قال المهلب: وفيه إثبات الرؤية لله، تعالى، نصًا من كلام رسول الله، وهو تفسير لقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23]، يعنى: مبصرة لله تعالى، ولو لم يكن هذا القول للنبى بالرؤيا نصًا لكان لنا فى قوله تعالى ما فيه كفاية لمن أنصف، وذلك أن النظر إذا قرن بذكر الوجه لم يكن إلا نظر البصر، وإذا قرن بذكر القلب كان بمعنى اليقين، فلا يجوز أن ينقل حكم الوجوه إلى حكم القلوب. فإن اعترض معترض علينا بقوله تعالى: {ولا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103]، وأن ذلك على العموم. قيل: يحتمل أن يكون على العموم لولا ما خصه من قوله عليه السلام: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر والشمس وليس دونهما سحاب). وقوله: (فيها منافقوها)، يدل أن المنافقين يتبعون محمدًا لما انكشف لهم من الحقيقة رجاء منهم أن ينتفعوا بذلك، ويلتزموا الرياء فى الآخرة كما التزموه فى الدنيا حتى تُبينهم الغُرَرُ والتحجيل من أثر الوضوء عند الحوض، فيتبين حينئذ المنافق؛ إذ لا غرة له ولا تحجيل، ويؤخذ بهم ذات الشمال فى جملة من ارتد بعده عليه السلام فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقًا سحقًا. وقوله: (فيأتيهم الله)، الإتيان هاهنا إنما هو كشف الحجب التى بين أبصارنا وبين رؤية الله؛ لأن الحركة والانتقال لا تجوز على الله؛ لأنها صفات الأجسام المتناهية، والله تعالى، لا يوصف بشىء من ذلك، فلم يبق من معنى الإتيان إلا ظهوره تعالى إلى أبصار لم تكن تراه ولا تدركه. والضحك: هو صفة من صفات الله، ومعناه عند العلماء: الاستبشار والرضا، لا ضحك بلهوات وتعجب كما هو منا، وسأستقصى القول فى رؤية الله تعالى، وسائر معانى هذا الحديث وتفسير اللغة والعربية فى (كتاب الاعتصام)، فى (باب قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23]، إن شاء الله. تفسير الغريب: قوله: (منهم الموبق بعمله)، قال صاحب (الأفعال): وبق الرجل: إذا هلك بذنوبه. وقوله: (ومنهم من يخردل)، قال صاحب (العين): خردلت اللحم: فصلته، وخردلت الطعام: أكلت خياره. وقال غيره: خردلته: صرعته، والجردلة بالجيم، الإشراف على السقوط والهلكة. وقوله: (قد امتحشوا)، المحش: إحراق الجلد، من كتاب (العين). وقوله: (قشبنى ريحها)، قال صاحب (الأفعال): تقول العرب: قشبت الشىء: قذرته، وقشب الشىء، بكسر الشين، قشبًا: قذر، وقال ابن قتيبة: قشبنى ريحها، هو من القشيب، والقشيب: السم، كأنه قال: سمنى ريحها، ويقال لكل مسموم: قشيب. وقال الخطابى: يقال: قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه وأخذ بكظمه وكانت ريحه طيبة، وأصل القشب خلط السم بالطعام، يقال: قشبه: إذا سمه، وقشبتنا الدنيا: أى فتنتنا، فصار حبها كالسم الضار، ثم قيل على هذا: قشبه الدخان، وقشبته الريح الزكية: إذا بلغت منه الكظم. ومنه حديث عمر أنه كان بمكة فوجد ريح طيب فقال: من قشبنا؟ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، دخلت على أم حبيبة فطيبتنى.
- فيه: ابْنِ بُحَيْنَةَ (أَنَّ رسول الله كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ). وهذه صفة مستحسنة عند العلماء، ومن تركها لم تبطل صلاته، وقد اختلف السلف فى ذلك، فممن روى عنه أنه كان يجافى فى سجوده: على بن أبى طالب، والبراء، وأبو مسعود، وأبو سعيد الخدرى، وابن عمر، ذكره الطبرى، وقال الحسن: حدثنى أحمر صاحب النبى، قال: (إن كنا لنأوى لرسول الله مما يجافى بمرفقيه عن جنبيه)، وفعله الحسن، وقال النخعى: إذا سجد فليفرج بين فخذيه. وممن رخص أن يعتمد بمرفقيه، قال ابن مسعود: هيئت عظام ابن آدم للسجود فاسجدوا حتى المرافق. وأجاز ابن سيرين أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه فى سجوده، وقال نافع: كان ابن عمر يضم يديه إلى جنبيه إذا سجد، وسأله رجل: هل يضع مرفقيه على فخذيه إذا سجد؟ قال: اسجد كيف تيسر عليك. وقال أشعث بن أبى الشعثاء، عن قيس بن سكن: كل ذلك كانوا يفعلون ينضمون ويجافون، كان بعضهم ينضم، وبعضهم يجافى. وروى ابن عيينة، عن سُمى، عن النعمان بن أبى عياش، قال: (شكى إلى رسول الله الإدغام والاعتماد فى الصلاة، فرخص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو فخذيه)، ذكر هذا كله ابن أبى شيبة فى (مصنفه). وإنما كان يجافى عليه السلام، فى سجوده ويفرج بين يديه حتى يبدى بياض إبطيه، والله أعلم، ليخف على الأرض ولا يثقل عليها، كما ذكر أبو عبيد، عن عطاء بن أبى رباح، أنه قال: خفوا على الأرض. قال أبو عبيد: وجهه أنه يريد ذلك فى السجود، يقول: لا ترسل نفسك على الأرض إرسالاً ثقيلاً، فيؤثر فى جبهتك، ويبين ذلك حديث مجاهد أن حبيب بن أبى ثابت سأله قال: إنى أخشى أن يؤثر السجود فى جبهتى؟ قال: إذا سجدت فتخاف، يعنى: خفف نفسك وجبهتك على الأرض، وبعض الناس يقولون: فتجاف، والمحفوظ عندى بالخاء. وقد ذكر ابن أبى شيبة من كره ذلك ومن رخص فيه، ذكر عن ابن عمر: أنه رأى رجلاً قد أثر السجود فى جبهته، فقال: لا يشينن أحدكم وجهه، وكرهه سعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، والشعبى، وعطاء. وممن رخص فى ذلك: قال أبو إسحاق السبيعى: ما رأيت سجدة أعظم من سجدة ابن الزبير، ورأيت أصحاب على، وأصحاب عبد الله وآثار السجود فى جباههم وأنوفهم، وقال الحسن: رأيت ما يلى الأرض من عامر بن عبد قيس مثل ثفن البعير. وقد روى عن سعيد بن جبير، وعكرمة فى تأويل قوله تعالى: {سيماهم فى وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29]، قالا: هو التراب وكذا الطهور. وروى ابن وهب، عن مطرف، عن مالك أنه ما تعلق بالجبهة من أثر الأرض وهذا يشبه الرخصة فى هذا الباب. وفى الآية أقوال أخر قيل: صلاتهم تبدو فى وجوههم يوم القيامة، عن ابن عباس. وقال عطية: مواضع السجود أشد بياضًا يوم القيامة، وهو قول الحسن ومقاتل. وعن ابن عباس: هو السمت الحسن فى الدنيا، وقال مجاهد: هو سيما الإسلام وسمته وتواضعه. وقال الحسن: هو الصفرة التى تعلو الوجه من السهر والتعب. والضبعان: العضدان، واحدهما: ضبع، ومنه الاضطباع فى اللباس، ويقال: ضبعت: إذا مددت يدى ومنه قول الشاعر: ولا صلح حتى تضبعون ونضبعا *** أى: حتى تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف ونمد أضباعنا، عن ابن قتيبة، وفى كتاب العين: المضبعة: اللحمة التى تحت الإبط. وقوله: إن كنا لنأوى لرسول الله، قال صاحب العين: أويت له: رفقت له.
قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام. لا يختلف العلماء فى استحباب هذه الصفة فى السجود، وكذلك يستحبون أن يستقبل الساجد بأنامل يديه القبلة فى سجوده، وإن فعل غير ذلك فصلاته جائزة عندهم.
قد تقدم فى الجزء الأول من الصلاة، فأغنى عن إعادته.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أُمِرَ الرسول أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلا يَكُفَّ شَعَرًا، وَلا ثَوْبًا: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ). - ورواه عبد الله بن طَاوُسٍ، عن أبيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قَالَ رسول الله: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ، عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلا يكْف الشَّعَرَ وَالثِّيَابَ). - وفيه: الْبَرَاءُ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ الرسول، فَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ جَبْهَتَهُ عَلَى الأرْضِ). اختلف العلماء فيما يجزئ السجود عليه من الآراب السبعة بعد إجماعهم أن السجود على الوجه فريضة، فقالت طائفة: إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه، روى ذلك عن ابن عمر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وابن سيرين، والقاسم، وسالم، والشعبى، والزهرى، وهو قول مالك، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى فى أحد قوليه، وأبى ثور، والمستحب عندهم أن يسجد على أنفه مع جبهته، وقالت طائفة: يجزئه أن يسجد على أنفه دون جبهته، هذا قول أبى حنيفة، وروى مثله عن طاوس، وابن سيرين، وذكر أبو الفرج، عن ابن القاسم مثله. وأوجب قوم من أهل الحديث السجود على الأنف والجبهة جميعًا، روى ذلك عن النخعى، وعكرمة، وابن أبى ليلى، وسعيد بن جبير، وهو قول أحمد، وطائفة، وهو مذهب ابن حبيب، وقال ابن عباس: من لم يضع أنفه فى الأرض لم يصل. وقالت طائفة: لا يجزئه إن ترك السجود على شىء من الأعضاء السبعة، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مذهب ابن حبيب، وأظن البخارى مال إلى هذا القول، وحجته حديث ابن عباس أن النبى، عليه السلام، أمر أن يسجد على سبعة أعضاء، فلا يجزئ السجود على بعضها إلا بدلالة. وحجة من أوجب السجود على الجبهة والأنف جميعًا أنه قد روى فى بعض طرق هذا الحديث، أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء، منها الوجه، فلا يخص بالجبهة دون الأنف. وبهذا الحديث احتج أبو حنيفة فى أنه يجزئ السجود على الأنف خاصة، وقال: ذكره للوجه يدل على أنه أى شىء وضع منه أجزأه، وإذا جاز عند من خالفنا الاقتصار على الجبهة دون الأنف جاز الاقتصار على الأنف دون الجبهة؛ لأنه إذا سجد على أنفه، قيل: قد سجد على وجهه، كما إذا اقتصر على جبهته. وحجة أهل المقالة الأولى أن الأحاديث إنما ذكر فيها الجبهة ولم يذكر الأنف، فدل على أن الجبهة تجزئ، وأن الأنف تبع. فإن قيل: فقد روى ابن طاوس، عن أبيه فى هذا الحديث أنه عليه السلام قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة، وأشار بيده على أنفه). قال المهلب: فالجواب أن الأنف غير مشترط فى ذلك؛ لأنه إنما أشار بيده على أنفه إلى جبهته، فجعل الأنف تبعًا للجبهة، ولم يقل إلى أنفه. قال ابن القصار: وإجماع الأعصار حجة، ووجدنا عصر التابعين على قولين: فمنهم من أوجب السجود على الجبهة والأنف، ومنهم من جوز الاقتصار على الجبهة، فمن جوز الاقتصار على الأنف دون الجبهة خرج عن إجماعهم، قال: ويقال لمن أوجب السجود على الآراب السبعة: إن الله ذكر السجود فى كتابه فى مواضع، فلم يذكر فيها غير الوجه، فقال: (يخرّون للأذقان يبكون} [الإسراء: 109]، وقال: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29]. وقال عليه السلام: (سجد وجهى للذى خلقه وشق سمعه وبصره)، فلم يذكر غير الوجه، وقال للأعرابى الذى علمه: (مكن جبهتك من الأرض)، ولم يذكر ركبتيه ولا رجليه، ولو كان حكم السجود متعلقًا بذلك لكان مع العجز عنه ينتقل إلى الإيماء كالرأس، فلما كان مع العجز يقع الإيماء بالرأس حسب، ولا يؤمى بالركبتين والقدمين واليدين، علمنا أن الحكم تعلق بالوجه حسب. فإن قيل: قد قال عليه السلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء). قيل: لا يمتنع أن يؤمر بفعل الشىء ويكون بعضه مفروضًا وبعضه مسنونًا، ولا يكون وجوب بعضه دليلاً على وجوب باقيه، إلا بدلالة الجمع بين ذلك، وقد خصصناه بدلالة الكتاب والسنة.
- فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: (اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ العَشْرَ الأوَلِ مِنْ رَمَضَانَ...)، وذكر الحديث إلى قوله: (وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ عليه السلام، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَرْنَبَتِهِ، تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ). قال المؤلف: فى هذا الحديث حجة لمن أوجب السجود على الأنف والجبهة، وقالوا: هذا الحديث مفسِّر لقوله: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء)، فذكر منها الوجه، وأبان فى هذا الحديث أن سجوده كان على أنفه وجبهته. واحتج من قال: يجزئه السجود على جبهته، بأن قال: إنما أمر الساجد أن يمس من وجهه الأرض ما أمكنه إمساسه محاذيًا به القبلة، ولا شىء من وجه ابن آدم يمكنه إمساسه منه غير جبهته وأنفه، فإذا سجد على جبهته وأنفه، فقد فعل أكثر ما يقدر عليه، فإن قصَّر عن ذلك وسجد على جبهته دون أنفه، فقد أدى فرضه، وهذا إجماع من جمهور الأمة. وفى الحديث: أن المصلى فى الطين يسجد عليه، وهذا عند العلماء إذا كان يسيرًا لا يمرث وجهه ولا ثيابه؛ ألا ترى أن وجهه كان سالمًا من الطين، وإنما كان منه شىء على جبهته وأرنبته، فإذا كان الطين كثيرًا، فالسنة فيه ما روى يعلى بن أمية عن الرسول أنه صلى بإيماء على راحلته فى الماء والطين، وبه قال أكثر الفقهاء. واختلف قول مالك فى ذلك، فروى أشهب عنه فى العتبية أنه لا يجزئه إلا أن ينزل بالأرض ويسجد عليها على حسب ما يمكنه؛ استدلالاً بحديث أبى سعيد، وقال ابن حبيب: مذهب مالك أنه يُؤمى، إلا عبد الله بن عبد الحكم، فإنه كان يقول: يسجد عليه ويجلس فيه إذا كان لا يعم وجهه ولا يمنعه من ذلك إلا إحراز ثيابه. قال ابن حبيب: وبالأول أقول؛ لأنه أشبه بِيُسْر الله فى الدين، وأنه لا طاعة فى تلوث الثياب فى الطين، وإنما يؤمى فى الطين إذا كان لا يجد المصلى موضعًا نقيًا من الأرض يصلى عليه، فإن طمع أن يدرك موضعًا نقيًا قبل خروج الوقت لم يجزه الإيماء فى الطين.
قد تقدم فى أول (كتاب الصلاة)، فأغنى عن الإعادة.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: أن النَّبِيِّ عليه السلام، قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، ولا نَكُفُّ شَعَرًا وَلا ثَوْبًا). قال الطبرى: فيه البيان أنه غير جائز للمرء أن يصلى عاقصًا شعره أو كافًا ثوبه، يرفع أسافله من الأرض أو يشمر أكمامه، فإن صلى وهو عاقص شعره أو كاف ثوبه، فقد أساء ولا إعادة عليه لإجماع الأمة على ذلك، ورواية عن الرسول على أنه لا إعادة عليه، وممن روى عنه ذلك من السلف: على، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عمر، وأبو هريرة، وكان ابن عباس إذا سجد يقع شعره على الأرض، وقال ابن عمر لرجل رآه يسجد معقوصًا شعره: أرسله يسجد معك. وقال ابن المنذر: على هذا قول أكثر أهل العلم غير الحسن البصرى، فإنه قال: من صلى عاقصًا شعره أو كافًا ثوبه، فعليه إعادة الصلاة. وأجمع الفقهاء أنه يجوز السجود على اليدين فى الثياب، وإنما كره ذلك ابن عمر، وسالم، وبعض التابعين، وحجة الجماعة ما رواه يحيى بن أبى كثير، عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: (أن نبى الله نهى أن يكشف الثوب عن يده إذا سجد). وقال الحسن: كان أصحاب الرسول يسجدون وأيديهم فى ثيابهم، ذكره ابن أبى شيبة، وإجماع الأمة على جواز السجود على الركبتين مستورتين. وحجة من كره ذلك أن اليدين حكمهما حكم الوجه لا حكم الركبتين، وقياسًا على أن اليدين من المرأة تبع للوجه فى كشفهما فى الإحرام، فكذلك اليدان تبع للوجه فى كشفهما فى السجود، واحتج الطحاوى بهذا الحديث فى جواز السجود على كور العمامة فقال: قال عليه السلام: (أُمرت أن أسجد على سبعة آراب)، ولو سجد على ركبتيه ويديه ورجليه وهى مستورة جاز، وكذلك السجود على الجبهة وهى مستورة، وقد تقدم اختلاف العلماء فى السجود على كور العمامة فى باب السجود على الثوب فى شدة الحر فى أبواب اللباس فى الصلاة قبل هذا. وقوله: ولا أكف شعرًا، ولا ثوبًا، يعنى: ولا أضمهما، ويروى ولا أكفت ثوبًا، والمعنى واحد، وفى الحديث: (اكفتوا صبيانكم عند فحمة العشاء، فإن للشيطان انتشارًا وخطفة بالليل)، ومنه قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتًا} [المرسلات: 25، 26].
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: سَجَدَ النَّبِيُّ عليه السلام، وَوَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهِمَا. - فيه: أَنَسِ، قَالَ عَلَيهِ السَّلاَم: (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ). قال الطبرى: فيه أن الحق على المصلى أن يجافى عن جنبيه ويعلى صدره عن الأرض، ولا يفترش ذراعيه، وذلك أنه إذا افترشهما لم يبد وضح إبطيه كما كان يبدو من رسول الله على نحو ما تقدم قبل هذا. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثكم به ابن سنان، عن أبى عاصم، عن ابن جريج، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلى فيضم يديه إلى جنبيه. قيل له: جائز لم يفعل ذلك ابن عمر إلا عند ازدحام الناس وتضايق المكان حتى لا يقدر على التجافى فيه؛ لأن المعروف عنه ما حدثنا أبو كريب: حدثنا عمر بن عبيد الطنافسى، عن آدم بن على قال: صليت إلى جنب ابن عمر، فافترشت ذراعى، فقال لى: (لا تفترش افتراش السبع، وادعم على راحتيك، وأبد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك)، فإذا كان ابن عمر قد روى عنه الوجهان، فالحق أن يوجه كل واحد منهما إلى أولى الأمور بها، وأشبهها بالسنة، وقد تقدم فى (باب يبدى ضبعيه ويجافى فى السجود)، إلا أنه لا إعادة عند جميع العلماء على من ترك ذلك لاختلاف السلف فيه.
- فيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ عليه السلام، يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالسًا). ذهب جمهور العلماء إلى ترك الأخذ بهذا الحديث، وقالوا: إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة من الركعة الأولى والركعة الثالثة ينهض على صدور قدميه ولا يجلس، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وقال النعمان بن أبى عياش: أدركت غير واحد من أصحاب الرسول إذا رفع رأسه من السجدة فى الركعة الأولى والثالثة قام كما هو ولم يجلس، وكان النخعى يسرع فى القيام فى ذلك، وقال الزهرى: كان أشياخنا يقولون ذلك. وقال أبو الزناد: تلك السنة، وبه قال مالك، والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وقال ابن حنبل: أكثر الأحاديث على هذا، وذكر عن عمر، وعلى، وعبد الله. وذهب الشافعى إلى الأخذ بهذا الحديث فقال: يقعد فى وتر من صلاته ثم ينهض. قال الطحاوى: وحجة الجماعة على الشافعى ما حدثنا على بن سعيد بن بشر قال: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا حسن بن الحُرِّ، حدثنى عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس بن سهل الساعدى: كان فى مجلس فيه أبوه، وكان من أصحاب الرسول وفى المجلس أبو هريرة، وأبو أسيد، وأبو حميد الساعدى من الأنصار، وأنهم تذاكروا الصلاة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله قالوا: فأرنا، فقام يصلى، فقام فكبر ورفع يديه فى أول التكبير، ثم ذكر حديثًا طويلاً فيه أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية فى الركعة الأولى قام ولم يتورك. فلما جاء هذا الحديث كما ذكرنا وخالف حديث مالك بن الحويرث احتمل أن يكون ما فعله رسول الله فيه لعلة كانت به فقعد من أجلها، لا لأن ذلك من سنة الصلاة، كما كان ابن عمر يتربع فى الصلاة، فلما سئل عن ذلك قال: إن رجلاى لا تحملانى، فكذلك احتمل أن يكون ما فعله رسول الله من القعود كان لعلةٍ أصابته حتى لا يضاد حديث مالك ابن الحويرث، وهذا أولى بنا من حمل ما روى عنه على التنافى والتضاد. وحديث أبى حميد أيضًا حكاه بحضرة جماعة من أصحاب الرسول فلم ينكر عليه ذلك أحد منهم، فدل أن ما عندهم فى ذلك غير مخالف لما حكاه لهم فى حديث مالك ابن الحويرث من قول أيوب أن ما كان عمرو بن سلمة يفعله من ذلك لم ير الناس يفعلونه، وهو قد رأى جماعة من جلة التابعين، فذلك حجة فى دفع حديث مالك بن الحويرث أن تكون سنة. ثم النظر يوافق ما رواه أبو حميد، وذلك أنا رأينا الرجل إذا خرج فى صلاته من حال إلى حال استأنف ذكرًا، من ذلك أنا رأيناه إذا أراد الركوع كبر وخر راكعًا، وإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، وإذا خر من القيام إلى السجود قال: الله أكبر، وإذا رفع رأسه من السجود قال: الله أكبر، وإذا عاد إلى السجود فعل ذلك أيضًا، وإذا رفع رأسه لم يكبر من بعد رفعه رأسه إلى أن يستوى قائمًا غير تكبيرة واحدة، فدل ذلك أنه ليس بين سجوده وقيامه جلوس، ولو كان بينهما جلوس لاحتاج إلى أن يكون يكبر بعد رفعه رأسه من السجود للدخول فى ذلك الجلوس، ولاحتاج إلى تكبيرة أخرى إذا نهض للقيام، فلما لم يؤمر بذلك، ثبت أن لا قعود بين الرفع من السجدة الآخرة والقيام إلى الركعة التى بعدها؛ ليكون ذلك وحكم سائر الصلاة مؤتلفًا غير مختلف.
- فيه: أَبو قِلابَةَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، فَصَلَّى بِنَا، وَقَالَ: إِنِّي لأصَلِّي بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلاةَ، لَكِنى أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ رسول الله يُصَلِّي، قَالَ أَيُّوبُ: قُلْتُ لأبِي قِلابَةَ: كَيْفَ كَانَتْ صَلاتُهُ؟ قَالَ: مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنَا هَذَا عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ، فقَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ قَامَ. اختلف العلماء فى اعتماد الرجل على يديه عند القيام، فروى عن ابن عمر أنه كان يعتمد على يديه إذا أراد القيام، ويروى مثله عن مكحول، وعطاء، ومسروق، والحسن، وهو قول الشافعى، وأحمد، والحجة لهم هذا الحديث، وأجازه مالك فى العتبية، ثم كرهه. ورأت طائفة أن لا يعتمد على يديه إلا أن يكون شيخًا كبيرًا أو مريضًا، وروى ذلك عن على بن أبى طالب، وبه قال النخعى، والثورى، وكره الاعتماد ابن سيرين، وقال الشافعى: كان عمر، وعلى وأصحاب رسول الله ينهضون فى الصلاة على صدور أقدامهم، وعن ابن مسعود مثله.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَبِّرُ فِي نَهْضَتِهِ. - فيه: أَبُو سَعِيد: أَنَّهُ صَلَّى فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَحِينَ سَجَدَ، وَحِينَ رَفَعَ، وَحِينَ قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ فعل. - وفيه: مُطَرِّفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قال عِمْرَانُ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلاةَ رسول الله. وقد تقدم فى (باب إتمام التكبير فى الركوع)، أن مذهب أكثر العلماء أن التكبير فى القيام من الركعتين مع قيامه كسائر تكبير الصلاة، التكبير فى حال الخفض والرفع على ما جاء فى حديث هذا الباب. واختلف فيه قول مالك، فروى ابن وهب عنه أنه قال: إن كبر بعد استوائه فهو أحب إلىّ، وإن كبر فى نهوضه بعد ما يفارق الأرض فهو فى سعة، وذكر فى (الموطأ) عن أبى هريرة، وجابر، وابن عمر: أنهم كانوا يكبرون فى حال قيامهم. وقال فى (المدونة): لا يكبر حتى يستوى قائمًا، ويحتمل أن يكون وجه هذه الرواية إجماعهم على أن تكبير افتتاح الصلاة هو بعد القيام، فشبه القيام إلى الثنتين الباقيتين بالقيام فى أول الصلاة، والله أعلم، إذ كان فرض الصلاة ركعتين ركعتين، ثم زيد فيها ركعتان، فجعل افتتاح الركعتين المزيدتين كافتتاح المزيدة عليهما، وقوله الذى وافق فيه الجماعة أولى وهو الذى تشهد له الآثار.
وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلاتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ فَقِيهَةً. - وفيه: ابْنَ عُمَرَ: أنه تَرَبَّعُ فِي الصَّلاةِ فى جَلَوسَه، فَفَعَلْهُ ابنه عبد الله، وَهو يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، فَنَهَاه ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلاةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى وَتَثْنِيَ الْيُسْرَى، فَقُلْتُ: إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ رِجْلايَّ لا تَحْمِلانِي. - وفيه: أَبُو حُمَيْدٍ: أنه حكى صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ فى نفر من أصحابه، وقال: أَنَا أَحْفَظَكُمْ لذلك، رَأَيْتُهُ عليه السلام، إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَو مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ مَكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى، حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ إِلَى مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى أصابع رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ. اختلف العلماء فى صفة الجلوس فى الصلاة، فذهب قوم إلى حديث ابن عمر وقالوا: سنة الجلوس فى الصلاة كلها وبين السجدتين أن ينصب رجله اليمنى ويثنى اليسرى، ويقعد على وركه الأيسر حتى يستوى قاعدًا، هذا قول مالك وروى عن النخعى، وابن سيرين. وذهب آخرون إلى حديث أبى حميد وقالوا: أما القعود فى آخر الصلاة، فكما قال أهل المقالة الأولى؛ لأن الجلسة الآخرة فيه مقاربة لما قال ابن عمر، وأما القعود فى الجلسة الأولى فعلى الرجل اليسرى على ما فى حديث أبى حميد، هذا قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق. وذهب الثورى، والكوفيون فى الجلوس كله إلى الجلسة الأولى من حديث أبى حميد، وهو أن يجلس على رجله اليسرى مبسوطة تحته، وينصب قدمه اليمنى، وحجة أهل المقالة الأولى، قول ابن عمر: إن ذلك سنة الصلاة والصاحب إذا ذكر السنة، فلا تكون إلا سنة الرسول إما بقول منه أو بفعل شاهده. وحجة أهل المقالة الثانية: أن أبا حميد أراهم صلاة النبى، عليه السلام، فى نفر من الصحابة ولم ينكروا عليه، فدل أن فعله سنة. واحتج الكوفيون بحديث وائل بن حجر، أن النبى كان إذا جلس فى الصلاة فرش رجله اليسرى ثم قعد عليها، وقد قال بعض العلماء: إن هذه الصفات كلها يجوز العمل بأيها شاء المصلى؛ لأنها مروية عن النبى، عليه السلام، وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يقعدون متربعين فى الصلاة كما كان يفعل ابن عمر، منهم ابن عباس، وأنس، وفعله سالم، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد، وأجازه الحسن فى النافلة، وكرهه ابن مسعود، وقال: لأن أصلى على رضفتين أحب إلى من أن أتربع فى الصلاة، وكرهه الحسن، والحكم. واختلفوا فى جلوس المرأة فى الصلاة فرأت طائفة أن تقعد قعود الرجل كفعل أم الدرداء، وهو قول النخعى، ومالك بن أنس. ورأت طائفة أن تقعد كيف شاءت إذا اجتمعت، هذا قول عطاء والشعبى، وهو قول الكوفيين والشافعى، وكانت صفية تصلى متربعة، وكان نساء ابن عمر يفعلن ذلك، وقال بعض السلف: كن النساء يؤمرون أن يتربعن إذا جلسن فى الصلاة، ولا يجلسن جلوس الرجال على أوراكهن فيتقى أن يكون منهن الشىء.
- فيه: ابْنَ بُحَيْنَةَ: أَنَّ رسول الله صَلَّى بِهِمُ الظَّهْرَ، فَقَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ ولَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاةَ، انْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ. وترجم له: (باب التشهد فى الأولى). قال ابن القصار: أجمع فقهاء الأمصار: مالك، وأبو حنيفة، والثورى، والليث، والشافعى، وأبو ثور، وإسحاق على أن التشهد الأول ليس بواجب إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: إنه واجب وحجته أن النبى، عليه السلام، تشهد وعلمهم التشهد، وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: من لم يتشهد فلا صلاة له. والدليل على أنه غير واجب حديث ابن بحينة: (أن النبى، عليه السلام، صلى ركعتين فقام إلى الثالثة، ولم يجلس، فلما تم أربعًا سجد للسهو قبل السلام)، فلو كان التشهد واجبًا لرجع إليه حين سبح به، ولم ينب منابه سجود السهو؛ لأنه لا ينوب عن الفرض؛ ألا ترى أنه لو نسى تكبيرة الإحرام أو سجدة لم ينب عنها سجود السهو، فثبت أنه غير واجب. وفيه من الفقه: أن الجلسة الأولى سنة؛ لأن سجوده عليه السلام، للسهو ناب عن التشهد وعن الجلوس، فدل أن الجلوس فيهما كالتشهد، وسيأتى تمام القول فى هذه المسألة فى أبواب السهو فى آخر كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى.
- فيه: ابن مسعود قَالَ: كُنَّا إِذَا جَلَّسنَا خَلْفَ النَّبِيِّ عليه السلام، قُلْنَا: السَّلامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلامُ عَلَى فُلانٍ وَفُلانٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قال المؤلف: ذهب مالك، والأوزاعى، والكوفيون إلى أن التشهد الآخر ليس بفرض، وقال الشافعى، وأحمد بن حنبل: هو فرض، واحتج الشافعى بقوله عليه السلام: (فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله)، قالوا: وأمره على الوجوب، فجاوبهم أهل المقالة الأولى فقالوا: ليس كل أمره على الوجوب؛ لأن الدلالة قد قامت على أن التكبير فى غير الإحرام والتسبيح فى الركوع والسجود ليس بواجب، وقد أمر به عليه السلام وفعله، وقال حين نزلت: (فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74- 96]، (اجعلوها فى ركوعكم)، ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، قال: (اجعلوها فى سجودكم)، وتلقى العلماء والشافعى معهم هذا الأمر على الندب، ولم يقم عنده فرضه بفعله عليه السلام، وأمره به، فكذلك فعله التشهد، وأمره به ليس بفرض؛ لأن كليهما عنده ذكر ليس من عمل بدن، وقد يأمر عليه السلام، بالسنن كما يأمر بالفرائض، وأيضًا فإنه لما ناب سجود السهو عن التشهد فى الأولى وعن الجلوس فيها، فأحرى أن ينوب عن التشهد فى الآخرة إذا جلس فيها وسها عن التشهد. فإن قيل: الجلسة الآخرة فريضة، فكذلك ذكرها، كما الجلسة الأولى سنة وذكرها مثلها. قيل: لا تكون الجلسة الآخرة مقدرة بذكرها وإنما هى للسلام، وقد روى جماعة من السلف أنه من رفع رأسه من آخر سجدة، فقد تمت صلاته، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، وإبراهيم، وقال عطاء: من نسى التشهد فصلاته جائزة، وعن الحكم وحماد مثله. وقال الطبرى، والطحاوى: أجمع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبى، عليه السلام، فى التشهد غير واجبة، وشذ الشافعى فى ذلك فقال: من لم يصل على النبى فى التشهد الأخير وقبل السلام فصلاته فاسدة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه، ولا سلف له فى هذا القول ولا سنة يتبعها، وتشهد ابن مسعود الذى علمه النبى، عليه السلام، فى هذا الباب ليس فيه الصلاة على النبى، عليه السلام، وقد روى التشهد عن الرسول جماعة كرواية ابن مسعود منهم أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وقال ابن عباس، وجابر: كان النبى يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. وذكر جابر مثل حديث ابن مسعود بزيادة كلمات، وكذلك ذكر ابن عمر مثل حديث ابن مسعود، وقال أبو سعيد الخدرى: كنا نتعلم التشهد كما نتعلم السورة، وذكر مثل حديث ابن مسعود بخلاف كلمات، رواه أبو موسى الأشعرى وعبد الله بن الزبير بزيادة ألفاظ ونقصان أيضًا، وقال ابن عمر: كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان فى الكُتاب، ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود. وقد علم عمر بن الخطاب الناس على المنبر التشهد بحضرة المهاجرين والأنصار وليس فى شىء من ذلك صلاة على النبى، فلم ينكر ذلك عليه منكر، فمن أوجب ذلك فقد رد الآثار وما مضى عليه السلف، وأجمع عليه الخلف، وروته عن نبيها عليه السلام، فلا معنى لقوله. وبتشهد ابن مسعود قال الكوفيون وأكثر أهل الحديث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وذهب مالك إلى تشهد عمر بن الخطاب، وهو: (التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبى...)، إلى آخر تشهد ابن مسعود، وذهب الشافعى إلى تشهد ابن عباس، وفيه: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)، وكلها قريبة بعضها من بعض، ومعنى التحية: الملك لله، والصلوات: هى الخمس، والطيبات: الأعمال الزاكية.
- فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ نَّبِيِّ الله كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا، والْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ)، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ). - وفيه: أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
- فيه: تشهد ابن مسعود، قَالَ فى آخره: (ثُمَّ ليَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو). اختلف العلماء فى هذا الباب فقال مالك، والشافعى، وجماعة: لا بأس أن يدعو الرجل فى صلاته بما شاء من حوائج الدنيا، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يدعو فى الصلاة إلا بما يوجد فى القرآن، وهو قول النخعى، وطاوس، واحتجوا بحديث معاوية بن الحكم لما شمت الرجل فى الصلاة، فقال له الرسول: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام الآدميين إنما هى تسبيح وقراءة). قالوا: ولا يجوز أن يريد جنس الكلام؛ لأن جميع ما يوجد فى الصلاة من الأذكار من جنس الكلام، فوجب أن يكون المراد ما يتخاطبون به فى العادة، وقوله: (يرحمك الله) دعاء، وقد نهى النبى عنه، وهذا يمنع من فعل الدعاء بهذا الجنس. قال ابن القصار: فالجواب لأهل المقالة الأولى أن هذا وشبهه لا يجوز عندنا، وهو أن يوجه دعاءه إلى إنسان يخاطبه به فى الصلاة، وكأنه جواب عندنا على شىء كان منه، فأما أن يدعو لنفسه ولغيره ابتداء من غير أن يخاطب فيه إنسانًا فلا قضاء، وقوله عليه السلام: لا يصلح فيها شىء من خطاب الناس متوجه إلى هذا، أى: لا يتخاطب الناس فى الصلاة. ومن الحجة لهم قوله عليه السلام، فى حديث ابن مسعود بعد فراغه من التشهد: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه ويدعو)، ولم يخص دعاء فى القرآن من غيره ولو كان لا يجوز الدعاء إلا بما فى القرآن ما ترك عليه السلام، بيان ذلك ولقال: ثم ليدعو بما شاء مما فى القرآن، فلما عم جميع الدعاء، لم يُخصَّ بعضه إلا بدليل، واستعاذته فى حديث عائشة من عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن المأثم والمغرم ليس شىء منه فى القرآن، وقد روى عن جماعة من السلف مثل ذلك، روى عن ابن عمر أنه قال: إنى لأدعو فى صلاتى حتى لشعير حمارى وملح بيتى، وعن عروة بن الزبير مثله. وكان رسول الله يدعو فى الصلاة فيقول: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، واشدد وطأتك على مضر). فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا وقت إباحة الكلام فى الصلاة، ثم نسخ بعد ذلك. قيل: قد روى عن السلف استعمال الحديث، ولا يجوز أن يخفى عليهم نسخه لو نسخ، فكان على بن أبى طالب يقنت فى صلاة على قوم يسميهم، وكان أبو الدرداء يدعو لسبعين رجلاً فى صلاته، وعن ابن الزبير أنه كان يدعو للزبير فى صلاته، فإذا انضاف قول هؤلاء إلى قول عروة، وابن عمر جرى مجرى الإجماع؛ إذ لا مخالف لهم، وقد كان عليه السلام يدعو فى سجوده: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، وهذا مما ليس فى القرآن، فسقط قول المخالف، وروى عن ابن سيرين أنه قال: يجوز الدعاء فى المكتوبة بأمر الآخرة، فأما الدنيا فلا، فقال ابن عون: أليس فى القرآن: (واسألوا الله من فضله} [النساء: 32]؟، فسكت. وترجم فى كتاب الدعاء: (باب الدعاء فى الصلاة)، وسيأتى فيه شىء من الكلام فى حديث أبى بكر، إن شاء الله.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: رَأَيْتُ الْحُمَيْدِيَّ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَلا يَمْسَحَ الْجَبْهَةَ فِي الصَّلاةِ. - فيه: أَبَو سَعِيدٍ: (رَأَيْتُ النبى، عليه السلام، يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ). استحب العلماء ترك مسح الوجه حتى يفرغ من الصلاة؛ لأنه من التواضع لله، وخفف مالك مسحه فى الصلاة.
- فيه: أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا سَلَّمَ، قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ). قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ. اختلف العلماء فى وجوب التسليم، فذهب جماعة من العلماء إلى أن التسليم فرض لا يصح الخروج من الصلاة إلا به، وممن أوجب ذلك ابن مسعود، قال: مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، ذكره الطبرى، وبه قال عطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وغيرهم. وذهب أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، إلى أن السلام سنة، وأن الصلاة يصح الخروج منها بغير سلام، واحتجوا بأن الرسول قال لابن مسعود حين علمه التشهد: (فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك). قالوا: ولم يذكر له السلام، قالوا: وروى عن على بن أبى طالب أنه قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة، ثم أحدث فقد تمت صلاته، وعن سعيد بن المسيب، والنخعى مثله. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى بأن قوله عليه السلام، لابن مسعود: (فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك)، يحتمل أن يكون معناه: إذا سَلَّمْت، بدليل سلامه عليه السلام فى كل صلواته، وتعليمه ذلك لأمته عملاً ومعاينة. ويحتمل أن يكون معناه: قد قاربت التمام، كما قال تعالى فى المطلقات: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف} [الطلاق: 2]، وهذا معناه: قاربن بلوغ أجلهن؛ لأنهن لو بلغن الأجل بانقضاء العدة لم يكن لأزواجهن إمساكهن بالمراجعة لهن، وقد انقضت عدتهن. وقال الطبرى: السلام من الأعمال التى علم الرسول أمته العمل به كما علمهم التحريم فيها والقراءة، فمن ضيع ذلك أو تركه عامدًا فهو مفسد؛ لأنه ضيع ما قامت له الحجة بجواز الصلاة معه، وقد روى الثورى، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد ابن الحنفية، عن على، رضى الله عنه، قال: قال النبى عليه السلام: (تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم)، فكما لا يجوز الدخول فى الصلاة إلا بالإحرام، فكذلك لا يجوز الخروج منها إلا بالسلام. واختلفوا فى صفة السلام، فقالت طائفة: يسلم تسليمتين عن يمينه، وعن يساره، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر، وعلى، وابن مسعود، وعمار، وروى ذلك عن الشعبى، وعطاء، وعلقمة، والأسود، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتجوا بآثار كثيرة رويت عن النبى، عليه السلام، بذلك منها: حديث ابن مسعود، وعمار، وأبى موسى، ووائل بن حجر، وأبى حميد الساعدى، وابن عمر، وجابر ابن عبد الله، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وقبيصة بن ذؤيب، وعدى بن عميرة الحضرمى، ويعقوب بن الحصين، كلهم عن الرسول، أسندها الطبرى كلها. وقالت طائفة: يسلم تسليمة واحدة فقط، روى ذلك عن ابن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة، وسلمة بن الأكوع، ومن التابعين: سليمان بن يسار، وأبى وائل، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، والحسن، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، ودفعوا أحاديث التسليمتين. والحجة لهم ما ذكره محمد بن عبد الحكم، عن عبد الرحمن بن مهدى قال: أحاديث التسليمتين لا أصل لها. وقال الأصيلى: حديث أم سلمة المذكور فى هذا الباب يقتضى تسليمة واحدة، وكذلك حديث ابن بحينة، وحديث ذى اليدين؛ لأن قول أم سلمة: (كان الرسول إذا سلم)، يقتضى ظاهره أن كل ما وقع عليه اسم السلام يتحلل به من الصلاة. قال المهلب: لما كان السلام تحليلاً من الصلاة، وعلمًا على فراغها دلت التسليمة الواحدة على ذلك، وإن كان فى التسليمتين كمالاً، فقد مضى العمل بالمدينة فى مسجد رسول الله على تسليمة واحدة، فلا يجب مخالفة ذلك. وذكر الطبرى قال: حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا الحجاج بن نصير، أخبرنا أبو عبيدة، حدثنا الحسن ومحمد بن سيرين، قالا: حدثنا أنس ين مالك قال: (صليت خلف رسول الله، وأبى بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يسلمون تسليمة واحدة)، وحدثنا محمد بن عبد الله الحجرى، حدثنا يونس، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن أنس مثله. وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: صليت خلف على بن أبى طالب فسلم واحدة، ذكره ابن أبى شيبة. وقال الطبرى: القول فى ذلك عندنا أن يقال كلا الخبرين الواردين عن الرسول أنه كان يسلم واحدة، وأنه كان يسلم تسليمتين صحيح، وأنه من الأمر الذى كان يفعل هذا مرة وهذا مرة، مُعلم ذلك أمته أنهم مخيرون فى العمل بأى ذلك شاءوا، كرفعه عليه السلام يديه فى الركوع وإذا رفع رأسه منه، وتركه ذلك مرة أخرى، وكجلوسه فى الصلاة على قدمه اليسرى ونصبه اليمنى فيها مرة، وإفضائه بأليته إلى الأرض، وإدخاله قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى مرة فى أشباه لهذا كثيرة.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ إِذَا سَلَّمَ الإمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ مَنْ خَلْفَهُ. - فيه: عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. قال المؤلف: الكلام فى سلام الإمام والمأموم كالكلام فى إحرامهما، وقد تقدم فى باب إنما جعل الإمام ليؤتم به فى أبواب الإمامة اختلاف العلماء فى ذلك، فأغنى عن إعادته، ونذكر هاهنا منه طرفًا، وذلك أنه لا يكون المصلى داخلاً فى الصلاة محرمًا بها إلا بتمام التكبير، لا ينبغى للمأموم أن يدخل فى صلاة لم يصح فيها دخول إمامه بعد، والسلام كذلك، ولا ينبغى أن يفعله المأموم إلا بعد فعل إمامه؛ لأنه تحليل، أو بعد تقدمه ببعض لفظ السلام، هذا حق الائتمام فى اللغة أن يكون فعل المأموم تاليًا لفعل الإمام؛ ألا ترى قول عتبان: (صلينا مع الرسول فسلمنا حين سلم)، وهذا يقتضى أن سلامهم كان بعد تمام سلامه عليه السلام، وهو الذى كان يستحبه ابن عمر.
- فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ أنه قَالَ: صَلِّينا مع النَّبِيُّ عليه السلام، ثُمَّ سَلَّمَ، وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. هذا الحديث حجة لمن قال: يسلم المأموم واحدة؛ لأن قول عتبان: (وسلمنا حين سلم)، يقتضى أقل ما يقع عليه اسم سلام، وذلك تسليمة واحدة، وممن كان لا يرد على الإمام، روى جرير بن حازم، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا سلم الإمام قال: السلام عليكم، لم يزد عليها إلا أن يسلم أحد عن يمينه وشماله يرد عليه، فى مصنف حماد بن سلمة. وقال ابن المنذر: قال عمار بن أبى عمار: كان مسجد المهاجرين يسلمون تسليمة واحدة، وكان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين، فالمهاجرين لم يكونوا يردون على الإمام. وفيها قول ثانٍ روى النخعى قال: لا أعلم عليه بأسًا أن يرد وإن لم يرد، وممن كان يرى أن يرد على الإمام: ذكر ابن أبى شيبة عن ابن عمر أنه كان يرد السلام على الإمام وهو قول الشعبى، وسالم، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وقال مالك فى (المدونة): يسلم المأموم عن يمينه، ثم يرد على الإمام فإن كان عن يساره أحد ردَّ عليه، وقد كان من قول مالك فى المأموم: يسلم عن يمينه ثم عن يساره، ثم يرد على الإمام، ومن قال بالرد على الإمام تأوّل فى ذلك أن الإمام يسلم عليهم، فلزمهم الرد عليه كسائر السلام. ومن قال بالتسليمتين من أهل الكوفة يجعلون التسليمة الثانية ردًا على الإمام، وهو عندهم سنة، والأولى هى الفريضة التى بها يخرج من الصلاة. وأظن البخارى، رحمه الله، أراد بهذا الباب ردَّ قول من أوجب التسليمة الثانية، ولا أعلم قال ذلك إلا الحسن بن صالح، وحكى الأصيلى فى الدلائل أنه قول أحمد بن حنبل. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة، وقال مالك فى المجموعة: كما يدخل فى الصلاة بتكبيرة واحدة كذلك يخرج منها بتسليمة واحدة، وعلى ذلك كان الأمر فى القديم، وإنما حدث تسليمتان مذ كان بنو هاشم.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كان رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، عَلَى عَهْدِ رسول الله، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ. - وقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ مرة: كُنْتُ أَعْلم انْقِضَاءَ صَلاةِ الرسول بِالتَّكْبِيرِ. - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى رسول الله فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: (أَلا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ إلا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ). - وفيه: الْمُغِيرَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ). قال الطبرى: فى حديث ابن عباس الدلالة على صحة فعل من كان من الأمراء والولاة يكبر بعد فراغه من صلاة المكتوبة فى جماعة ويكبر من وراءه من المصلين بصلاته. قال المؤلف: ولم أجد من الفقهاء من يقول بشىء من هذا الحديث إلا ما ذكره ابن حبيب فى الواضحة قال: يستحب التكبير فى العساكر والثغور بأثر صلاة الصبح، والعشاء تكبيرًا عاليًا ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس. وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية قال: التكبير خلف الصلوات الخمس بأرض العدو محدث أحدثه المسودة، وكذلك فى دبر الصبح، والمغرب فى بعض البلدان. وقول ابن عباس: إن رفع الصوت بالذكر كان حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد الرسول، يدل أنه لم يكن يفعل ذلك الصحابة حين حدث ابن عباس بهذا الحديث؛ إذ لو كان يفعل ذلك الوقت لم يكن لقوله كان يفعل على عهد رسول الله معنى، وهذا كما كان أبو هريرة يكبر عند كل خفض ورفع يقول: أنا أشبهكم صلاة برسول الله، فكان التكبير بأثر الصلوات مثل هذا مما لم يواظب الرسول عليه طول حياته، وفهم أصحابه أن ذلك ليس بلازم فتركوه خشية أن يظن من قصر علمه أنه مما لا تتم الصلاة إلا به، فلذلك كرهه من الفقهاء من كرهه، والله أعلم، وقد روى عن عبيدة أن ذلك بدعة. وفى حديث أبى هريرة، وحديث المغيرة فضل الذكر بعد الصلاة، وأن ذلك من رغائب الخير وسبيل الصالحين، وسأزيد هذا المعنى بيانًا، وأبين اهل الذكر بعد الصلاة أفضل أم قراءة القرآن فى كتاب الدعاء فى باب الدعاء بعد الصلاة، إن شاء الله. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة فضل الغنى نصًا لا تأويلاً إذا استوت أعمالهم بما افترض الله عليهم، فللغنى حينئذ فضل أعمال البر من الصدقة وإحياء الأرماق، وإعانة ابن السبيل، وفك الأسير والجهاد وشبه ذلك، مما لا سبيل للفقراء إليها ولا قدرة لهم عليها، فبهذا يفضل الغنى الفقير، وإنما يفضل الفقير الغنى إذا فضل صاحبه بالعمل، وسيأتى تمام القول فى ذلك فى كتاب الرقائق، إن شاء الله. وفيه: أن العالم إذا سُئل عن مسألة يقع فيها الخلاف بين الأمة أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيبه بنفس التفاضل خوف وقوع الخلاف. وفى (الموطأ): عن عطاء بن يزيد، عن أبى هريرة زيادة فى حديثه المذكور فى هذا الباب وهو أنه قال: (من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وكبر ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر). وقوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، قال ابن السكيت: الجد، بفتح الجيم، الحظ والبخت، أى: من كان له جد فى الدنيا لم ينفع ذلك عند الله فى الآخرة، وكذلك فسره أبو عبيد وجميع أهل اللغة، وسأذكر قول الطبرى فى هذه الكلمة فى باب القدر فى باب لا مانع لما أعطى الله، إن شاء الله.
- فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ). - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ...، الحديث. - وفيه: أَنَسِ: (أَخَّرَ الرَسُولُ الصَّلاةَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ خَرَجَ، فصَلَّى، فأَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ...)، الحديث. قال المهلب: استقبال الرسول الناس بوجهه هو عوض من قيامه من مصلاه؛ لأن قيامه إنما هو ليعرف الناس بفراغ الصلاة، ولذلك ترجح مالك، يرحمه الله، فقال فى إمام مسجد القبائل والجماعات: لابد أن يقوم من موضعه، ولا يقوم فى داره وسفره إلا أن يشاء. وفى بقاء الإمام فى موضعه تخليط على الداخلين، وأن موضع الإمام موضع خطة وولاية، فإذا قضى صلاته زال منه، وكان على بن أبى طالب إذا صلى استقبل القوم بوجهه، وكان إبراهيم النخعى إذا سلم انحرف واستقبل القوم.
وكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي يُصَلِّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ، وَفَعَلَهُ ابن الْقَاسِمُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لا يَتَطَوَّعُ الإمَامُ فِي مَكَانِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ. - فيه: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (أَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَلَّمَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا). قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَنُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِكَيْ يَنْفُذَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنَ النِّسَاءِ. وقالت مرة: فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ، فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللَّهِ. ذهب جمهور العلماء أن الإمام لا يتطوع فى مكانه الذى صلى فيه الفريضة، وذكر ابن أبى شيبة، عن على قال: لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه أو يفصل بينهما بكلام، وكرهه ابن عمر للإمام، ولم ير به بأسًا لغيره، وعن عبد الله بن عمرو مثله، وروى موسى عن القاسم أن الإمام إذا سلم فواسع أن ينتفل فى مكانه، وهذا لم أجده لغيره من العلماء. وأما مكث الإمام فى مصلاه بعد السلام، فقد كرهه أكثر العلماء إذا كان إمامًا راتبًا إلا أن يكون مكثه لعلة، كما فعل عليه السلام من أجل انصراف النساء قبل أن يدركهن الرجال، هذا قول الشافعى، وأحمد بن حنبل، وقال مالك: يقوم ولا يقعد فى الصلاة كلها إذا كان إمام مسجد جماعة، وإن كان إمامًا فى سفر، فإن شاء قام وإن شاء قعد. وقال أبو حنيفة: كل صلاة بعدها نافلة فإنه يقوم لها، وما لا نافلة بعدها كالعصر والفجر، فإن شاء قام وإن شاء قعد، وهو قول أبى مجلز. وقال محمد: ينتقل فى الصلوات كلها؛ ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه شىء من الصلاة من سجود سهو ولا غيره. وذكر ابن أبى شيبة، عن ابن مسعود، وعائشة قالا: (كان عليه السلام إذا سلم لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام). وقال ابن مسعود أيضًا: كان الرسول إذا قضى الصلاة انفتل سريعًا، فإما أن يقوم وإما أن ينحرف. وقال ابن جبير: شرق أو غرب، ولا تستقبل القبلة. وقال قتادة: كان أبو بكر إذا سلم كأنه على الرضف حتى ينهض. وقال ابن عمر: الإمام إذا سلم قام. وقال مجاهد: قال عمر: جلوس الإمام بعد السلام بدعة، وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الإمام إذا سلم، فإن من صلى خلفه من المأمومين يجوز لهم القيام قبل قيامه إلا رواية عن الحسن، والزهرى، ذكرها عبد الرزاق قال: لا ينصرفوا حتى يقوم الإمام، قال الزهرى: إنما جعل الإمام ليؤتم به، وجماعة الناس على خلافهما. وروى معمر، عن أبى إسحاق، عن أبى الأحوص، عن ابن مسعود قال: إذا فرغ الإمام ولم يقم ولم ينحرف، وكانت لك حاجة، فاذهب ودعه فقد تمت صلاتك. وفى حديث أم سلمة من الفقه: أن خروج النساء ينبغى أن يكون قبل خروج الرجال.
- فيه: عُقْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ الرسول بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، فقَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: (ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ). قال المؤلف: مباح للإمام إذا سلم أن ينصرف إن شاء قبل انصراف الناس. وفيه: أن التخطى بما لا غنى بالإنسان عنه مباح فعله. وقال المهلب: التخطى لا يكون مكروهًا إلا فى موضع يشتغل الناس فيه عن الصلاة أو عن الخطبة فحينئذ يكره التخطى من أجل شغل الناس بمن تخطاهم عما هم فيه من الذكر والاستماع، وقد تحضر الإنسان ضرورة حقن أو ذكر حاجة يخشى فوتها، فيستجاز التخطى فى ذلك كالراعف والمحدث يخرج من بين الصفوف. وفيه: أن من حبس صدقة للمسلمين من وصية أو زكاة أو غيرها أنه يخاف عليه أن يحبس بها يوم القيامة فى الموقف، لقوله عليه السلام: (كرهت أن يحبسنى)، يعنى: فى الآخرة، والله أعلم. وفيه: أن من وجب عليه فرض، فإن الأفضل له مبادرته.
وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَنْفَتِلُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ يَتَوَخَّى أَوْ مَنْ يَتعْمِدُ الانْفِتَالَ عَنْ يَمِينِهِ. - فيه: عَبْدُاللَّهِ قَالَ: لا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلاتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لا يَنْصَرِفَ إِلا عَنْ يَمِينِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ. فالانفتال والانصراف عن اليمين والشمال جائز عند العلماء لا يكرهونه لما ثبت عن الرسول فى هذا الباب، وإن كان انصرافه عليه السلام، عن يمينه أكثر؛ لأنه كان يحب التيامن فى أمره كله، وإنما نهى ابن مسعود عن التزام الانصراف من جهة اليمين؛ خشية أن يجعل ذلك من اللازم الذى لا يجوز غيره، وقد روى قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه (أنه صلى مع الرسول فرآه ينصرف من شقيه). وقال على: إذا قضيت الصلاة وأنت تريد حاجتك، فإن كانت حاجتك عن يمينك أو عن يسارك فخذ نحو حاجتك، وكان على لا يبالى انصرف عن يمينه أو عن يساره، وعن ابن عمر مثله، وهو قول النخعى، واستحب الانصراف عن اليمين: الحسن البصرى، ورأى أبو عبيدة رجلاً انصرف عن يساره فقال: أما هذا فقد أصاب السنة.
وَقَوْلِ الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا). - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ- يَعْنِي الثُّومَ- فَلا يَغْشَانَا فِي مَسَجِدِنَا)، قُلْتُ: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ يَعْنِي إِلا نِيئَهُ. - وفيه: جَابِرَ، عن الرسول: (أَلاَّ يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا). - وفيه: جَابِرَ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا- أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا- وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ، وَأَنَّه عليه السلام، أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا، إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي). وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: عن يونس، عن الزهرى: أُتِيَ بِبَدْرٍ، يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ. - وفيه: أَنَسَ، قَالَ عليه السلام: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلا يَقْرَبْنَا، ولا يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا). فى هذا الحديث من الفقه إباحة أكل الثوم؛ لأن قوله: (من أكل) لفظ إباحة، وفى ذلك دليل على أن شهود الجماعة ليس بفريضة خلافًا لأهل الظاهر الذين يوجبونها، ويحرمون أكل الثوم من أجل شهودها، وقد أكل الثوم جماعة من السلف، واختلف العلماء فى معانٍ من هذا الحديث، فقال بعضهم: إنما خرج النهى عن مسجد الرسول خاصة من أجل ملائكة الوحى. وقال جمهور العلماء: حكم مسجد الرسول وحكم سائر المساجد سواء، وملائكة الوحى وغيرها سواء؛ لأنه قد أخبر عليه السلام أنه يتأذى منه بنو آدم، وقال: (يؤذينا بريح الثوم)، ولا يحل أذى الجليس المسلم حيث كان. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: من أكل الثوم يوم الجمعة لا أرى له أن يشهد الجمعة فى المسجد ولا رحابه، وبئس ما صنع من أكل الثوم وهو ممن تجب عليه الجمعة. وفيه: دليل أن كل ما يتأذى به كالمجذوم وشبهه يبعد عن المسجد وحلق الذكر، وقد قال سحنون: لا أرى الجمعة تجب على المجذوم، واحتج بقوله عليه السلام: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا). وأفتى أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هاشم فى رجل شكا جيرانه أنه يؤذيهم فى المسجد بلسانه، قال: يخرج عن المسجد، ويبعد عنه ونزع بهذا الحديث، وقال: أذاه أكثر من أذى الثوم، وهذا الحديث أصل فى نفى كل ما يتأذى به. وفيه: أن الخضر كانت عندهم بالمدينة، وفى إجماع أهلها على أنه لا زكاة فيها دليل على أن رسول الله لم يأخذ منها الزكاة، ولو أخذ منها لم يخف على جميعهم ولنقل ذلك، وهو قول مالك، والشافعى، وجماعة، وقال المهلب: فى قوله: (أناجى من لا تناجى)، دليل أن الملائكة أفضل من بنى آدم. وفيه: أن بنى آدم يلزم من بر بعضهم ما لا يلزم لجميعهم؛ ألا ترى أنه لم يؤمر آكل الثوم باجتناب أهل الأسواق ومهنة الناس وباعتهم. قال مالك: ما سمعت فى أكل الثوم كراهية فى دخول السوق، وإنما ذلك فى المسجد، ذكره ابن أبى زيد فى النوادر. وفيه: أنه من ترك طعامًا لا يحبه أنه لا لوم عليه كفعله عليه السلام، فى الضب. وقال الخطابى: فسر ابن وهب البدر أنه الطبق، سمى بذلك لاستدارته واتساقه، ولذلك سمى القمر عند اتساقه بدرًا، ومنه عين بدرة إذا كانت واسعة مستديرة قال امرؤ القيس: وعين لها حَدْرة بَدْرة شُقَّتْ مآقيهما مِنْ أُخُر والبدرة: مسك السخلة، وبه سميت بدرة المال.
- فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مر عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّهُمْ، وَصَفُّوا عَلَيْهِ. - وفيه: أَبو سَعِيدٍ، قَالَ عليه السلام: (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ). - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَنَامَ النَّبِيُّ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، قَامَ النبى صلى الله عليه وسلم، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا، ثُمَّ قَامَ فصَلِّي، فَقُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَحَوَّلَنِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ...)، الحديث. - وفيه: أَنَسِ: (أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، فَقَالَ: قُومُوا فَلأصَلِّيَ بِكُمْ، فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا، قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِثَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْيَتِيمُ مَعِي وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ). - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ، وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. - وفيه: عَائِشَةَ: (أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ بالْعِشَاءِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: قَدْ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلاةَ غَيْرُكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي إِلا أَهْلِ الْمَدِينَةِ). - وقَالَ رَجُل لابْنَ عَبَّاسٍ: شَهِدْتَ العيد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَم، وَلَوْلا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ. قال المهلب: فى هذا الباب وضوء الصبيان وصلاتهم، وشهودهم الجماعات فى النوافل والفرائض، وتدريبهم عليها قبل وجوبها عليهم ليبلغوا إليها وقد اعتادوها وتمرنوا فيها، وأحاديث هذا الباب بَيِّنة فى ذلك؛ لأن ابن عباس صلى مع الرسول على القبر المنبوذ، وإذ بات عند خالته ميمونة وصلى خلف النبى، وإقباله على الأتان، وحديث أنس واليتيم، كان ذلك كله فى حال الصغر، يدل على ذلك قول ابن عباس: ولولا مكانى من الصغر ما شهدته، يريد بذلك حين أتى النساء ووعظهن وابن عباس معه، وذكر البخارى فى فضائل القرآن أنه توفى الرسول وأنا ابن عشر سنين، وذكر ابن أبى شيبة عن الربيع، حدثنا ابن معبد الجهنى، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله: (إذا بلغ الغلام سبع سنين فأمروه بالصلاة، فإذا بلغ عشرًا فاضربوه عليها). ورواه ابن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبى، وقال به مكحول، ومالك، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وجماعة، وقد روى أشهب عن مالك فى العتبية أنه يضرب على الصلاة لسبع، وقال عروة: يؤمر بالصلاة إذا عقلها، وقال ابن عمر: يعلم الصبى الصلاة إذا عرف يمينه من شماله، وهو قول ابن سيرين. ولم يختلف العلماء أن الاحتلام أول وقت لزوم الفرائض والحدود والأحكام، واختلفوا إذا أتى عليه من السنين ما يحتلم فى مثلها ولم يحتلم على أقوال سيأتى ذكرها فى موضعها من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
- فيه: عَائِشَةَ: (أَعْتَمَ النبى صلى الله عليه وسلم بِالْعَتَمَةِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ...)، الحديث. - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أن نَّبِيِّ الله قَالَ: (إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ، فَأْذَنُوا لَهُنَّ). - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ: أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ قَامَ الرِّجَالُ. - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. - وفيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنِّي لأقُومُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ). - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ المساجد، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وقوله عليه السلام: (إذا استأذنكم بالليل)، فيه دليل أن النهار يخالف الليل؛ لنصه على الليل، وهذا الحديث يقضى على قوله: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله). قال مالك: إنه بلغه عن ابن عمر، عن نبى الله فكأنه قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، يعنى: فى الليل، والغلس فيه معنى الليل، ألا ترى قول عائشة ما يعرفن من الغلس. قال المهلب: أى لا يتميزن إن كن نساءً أو رجالاً، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى حديث قَيْلَةَ، قالت: (قدمت على الرسول وهو يصلى بالناس صلاة الغداة حين انشق الفجر، فصففت مع الرجال وأنا امرأة حديثة عهد بجاهلية، فقال لى الرجل الذى يلينى: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: امرأة). ففيه دليل أن المرأة لا تخرج إلى المسجد إلا بإذن زوجها أو غيره من أوليائها، وفيه دليل أنه ينبغى له أن يأذن لها ولا يمنعها مما فيه منفعتها، وذلك محمول على الأصول إذا لم يخف الفتنة عليها ولا بها؛ لأنه كان الأغلب من حال أهل ذلك الزمان، وأما حديث عائشة ففيه دليل لا ينبغى للنساء أن يخرجن إلى المساجد إذا حدث فى الناس الفساد. وهذا عند مالك محمول على العجائز، وروى عنه أشهب قال: وللمتجالة أن تخرج إلى المسجد ولا تكثر الترداد، وللشابة أن تخرج إليه المرة بعد المرة، وتخرج فى جنائز أهلها. وقال أبو حنيفة: أكره للنساء شهود الجمعة، والصلاة المكتوبة، وأرخص للعجوز أن تشهد العشاء والفجر، وأما غير ذلك فلا. وقال أبو يوسف: لا بأس أن تخرج العجوز فى الصلوات كلها وأكرهه للشابة، وقال الثورى: ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزًا، وقال ابن مسعود: المرأة عورة وأقرب ما تكون إلى الله فى قعر بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان. وكان ابن عمر يقوم بحصب النساء يوم الجمعة يخرجهن من المسجد، وقال أبو عمرو الشيبانى: سمعت ابن مسعود حلف فبالغ فى اليمين: ما صلت امرأة صلاة أحب إلى الله من صلاتها فى بيتها إلا فى حج أو عمرة إلا امرأة قد يئست من البعولة. وقال ابن مسعود لامرأة سألته عن الصلاة فى المسجد يوم الجمعة، فقال: صلاتك فى مخدعك أفضل من صلاتك فى بيتك، وصلاتك فى بيتك أفضل من صلاتك فى حجرتك، وصلاتك فى حجرتك أفضل من صلاتك فى مسجد قومك. وكان إبراهيم يمنع نساءه الجمعة والجماعة، وسئل الحسن البصرى عن امرأة حلفت إن خرج زوجها من السجن تصلى فى كل مسجد يجمع فيه الصلاة بالبصرة ركعتين، فقال الحسن: تصلى فى مسجد قومها؛ لأنها لا تطيق ذلك، لو أدركها عمر بن الخطاب لأوجع رأسها.
- فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ عليه السلام، إِذَا سَلَّمَ، قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، قَالَ: نَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ليَنْصَرِفَ النِّسَاءُ، قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالِ. - فيه: أَنَسِ: صَلَّى الرسول فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا. هكذا سنة صلاة النساء أن يقمن خلف الرجال، وذلك والله أعلم، خشية الفتنة بهن، واشتغال النفوس بما جبلت عليه من أمورهن عن الخشوع فى الصلاة والإقبال عليها وإخلاص الفكر فيها لله؛ إذ النساء مزينات فى القلوب ومقدمات على جميع الشهوات، وهذا أصل فى قطع الذرائع، وقد روى عن الرسول أنه قال: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، رواه سفيان عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبى هريرة، وروى أيضًا من حديث جابر، وروى ابن عباس أن امرأة جميلة دخلت المسجد فوقفت فى الصف الأول من صفوف النساء، فمن الناس من تقدم حتى لا يراها، ومنهم من تأخر فلاحظها، فأنزل الله تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} [الحجر: 24].
- فيه: عَائِشَةَ: كَانَ عليه السلام، يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، فَتَنْصَرِفَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، لا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ، أَوْ لا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا. هذه السنة المعمول بها أن تنصرف النساء فى الغلس قبل الرجال ليخفين أنفسهن، ولا يتبين لمن لقيهن من الرجال، فهذا يدل أنهن لا يُقمن فى المسجد بعد تمام الصلاة، وهذا كله من باب قطع الذرائع، والتحظير على حدود الله، والمباعدة بين الرجال والنساء خوف الفتنة ودخول الحرج، ومواقعة الإثم فى الاختلاط بهن.
- فيه: ابن عمر: أن الرسول قال: (إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ فَلا يَمْنَعْهَا). هذا الحديث معناه العموم، وتقييده بزيادة من زاد فيه بالليل لصلاتهن فى مساجد الجماعة، ويخرج من هذا الحديث أن الرجل إذا استأذنته امرأته إلى الحج لا يمنعها، فيكون وجه نهيه عن منعها المسجد الحرام لأداء فريضة الحج نهى إيجاب، وهو قول مالك، والشافعى أن المرأة ليس لزوجها منعها من الحج، ويكون على الوجه الأول، أعنى الصلوات الخمس فى المساجد، نهى أدب؛ لأنه واجب عليه أن لا يمنعها. وقال الطبرى: فى إطلاقه عليه السلام لهن الخروج إلى المساجد وذلك إباحة لا ندب ولا فرض، دليل أن نظير ذلك الإذن لهن فى كل ما كان مطلقًا الخروج فيه نحو عيادة إحداهن بعض أهلها، وشهودها أعياد المسلمين أو زيارة قبر ميت لها، وإذا كان حقًا عليهم أن يأذنوا لهن فيما هو مطلق لهن الخروج فيه، فالإذن لهن فيما هو فرض عليهن أو ندب الخروج إليه أولى، كخروجهن لأداء شهادة لزمتهن، أو لتعرف أسباب دينهن، ولأداء فرض الحج وشبهه من الفرائض، أو لزيارة أمهاتهن وآبائهن وذوى محارمهن.
|