الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
الجزء الأول الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل أقسام الناس في التقوى والصبر بسم الله الرحمن الرحيم ومفتي الأنام تقي الدين بن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم عن الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس فأجاب رحمه الله: الحمد لله أما بعد فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل فالهجر الجميل هجر بلا أذى والصفح الجميل صفح بلا عتاب والصبر الجميل صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاة والسلام: " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " مع قوله: " ويروى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان. ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي اللهم إلى من تكلني أإلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت الظلمات له وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك الغنى حتى ترضى ". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف. بخلاف الشكوى إلى المخلوق. قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طليوساً كره أنين المرض وقال: إنه شكوى. فما أنّ حتى مات. وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه كما قال تعالى: " وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ". ولا بد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر قال تعالى: " وقد قال يوسف: " ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشايخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين - المسارعة إلى فعل المأمور والتقاعد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة بل ومن السالكين فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن الله خالق كل شيء وربه ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يسخطه ويبغضه وإن قدره وقضاه ولا يميز بين توحيد الإلوهية وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات - سعيدها وشقيها - مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبي الكاذب وأهل الجنة وأهل النار وأولياء الله وأعداؤه والملائكة المقربون والمردة الشياطين فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية وهو إن الله ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره ولا يشهد الفرق الذي فرق الله بين أوليائه وأعدائه وبين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار وأهل الجنة والنار وهو توحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله وفعل ما يحبه ويرضاه وهو ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب وترك ما نهى الله عنه ورسوله وهذه الأصناف مذكورة في القرآن وحكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم قال الله تعالى: " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: " وذكر في السورة الأعراب المؤمنين وذكر المنافقين من أهل المدينة وممن حولها. فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله أو بغير أهله لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على من ينزل منهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه وتارة بسراياه فيسلم خلق تارة ظاهراً وباطناً وتارة ظاهراً فقط ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الأغنياء والفقراء والآهلين والعزاب. فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ويجيء ناس بعد ناس وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون فتارة يكونون عشرة أو أقل وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين. وأما جملة من آوى إلى الصفة مع تفرقهم فقد كانوا نحو أربعمائة من الصحابة وقد قيل كانوا أكثر من ذلك. جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ولم يعرف كل واحد منهم في كتاب تاريخ أهل الصفة وكان معتنياً بجمع أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم وجمع أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكم بلغوا. والصوفية المستأخرون بعد القرون الثلاثة وجمع أيضاً في الأبواب مثل حقائق التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة ومسألة السماع وغير ذلك من الأحوال وغير ذلك من الأبواب. وفيما جمعه فوائد كثيرة ومنافع جليلة وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير ويروي أحياناً آثاراً ضعيفة بل موضوعة يعلم أنها كذب. وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه وكان البيهقي إذا روي عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه وما يظن به وبأمثاله إن شاء الله تعالى تعمد الكذب لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية فإن النساك والعباد منهم من هو متقن في الحديث مثل ثابت البنان والفضيل بن عياض وأمثالهم ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف مثل مالك بن دينار وفرقد السنجي ونحوهما. وكذلك ما يؤثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأحوال فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحياناً من الخطأ أشياء وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ وبعضه باطل قطعاً مصدره مثل ما ذكر في حقائق التفسير قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة وذكر عن بعض طائفة أنواعاً من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات مناسبة وبعضها من نوع الباطل واللغو والذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن في تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يستفاد منه فوائد جليلة ويجتنب ما فيه من الروايات الباطلة ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة وهكذا كثير من أهل الروايات ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد والمتكلمة وغيرهم يؤخذ فيما يأثرونه عمن قبلهم وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله ويوجد أحياناً عندهم من جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير ومن له من الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون بها وهم الذين يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل والظلم وعن إتباع الظن وما تهوى النفس.
وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين الذين لم يكونوا في الصفة أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات فكما وصفهم الله تعالى في كتابه حيث بين مستحقي الصدقة منهم ومستحقي الفيء فقال: " وكان أهل الصفة ضيف الإسلام يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون عنده فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق. وأما المسألة فكانوا فيها كما أدبهم النبي صلى الله عليه وسلم حرمها على المستغني عنها وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال الله أو يسأل إذا كان لا بد سائلاً الصالحين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقاً حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلا يقول لأحد ناولني إياه وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل وكلام للعلماء لا يسعه هذا الكتاب مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما أتاك من ه الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته: " خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " وإذا كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق والكامل هو من كان لله أطوع وعلى ما يصيبه أصبر فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه وصبراً على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك. وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعاً في غير موضع من كتابه وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة لله تعالى: " وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسوؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط وقال أخوة يوسف له: " وقال تعالى: " وقال تعالى: " وقال تعالى: " وقال تعالى: " وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها فإن القسمة أيضاً رباعية إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كاهل القوة والقسوة ومنهم من يرحم ولا يصبر كاهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كاهل القسوة والهلع. والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في المتولي ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف ليناً من غير ضعف فبصبره يقوى وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العبد فإن النصر مع الصبر وبالرحمة يرحمه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " وقال: " من لا يَرحم لا يُرحم " وقال: " لا تنزع الرحمة إلا من شقي " " الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " والله أعلم. انتهى. الشفاعة الشرعية والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص
بسم الله الرحمن الرحيم هل يجوز للإنسان أن يتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم في طلب حاجة أم لا فأجاب: الحمد لله - أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة. ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة واستفاضت به السنن من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته ويشفع أيضاً لعموم الخلق. وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن شفاعته إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به في حياته ويتوسلون بحضرته كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا - فيسقون. وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل فالإستسقاء هو من جنس الاستشفاع به وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما أجدب الناس في الشام استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي رضي الله تعالى عنه وقال: اللهم إنا نستشفع ونتوسل إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا الناس حتى سقوا ولهذا قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح وإذا كانوا بهذه المثابة وهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن. وفي سنن أبي داود وغيره أن رجلاً قال: أنا أستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه فقال: " ويحك أتدري ما الله إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك " فأنكر عليه قوله: إنا نستشفع بالله عليك ولم ينكر عليه قوله: نستشفع بك على الله - لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب والله تعالى لا يسأل أحداً من عباده أن يقضي حوائج خلقه وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله في مثل قوله: شفيعي إليك الله لا رب غيره وليس إلى رد الشفيع سبيل فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالم وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله ورسوله وكلاهما خطأ وضلال بل هو سبحانه المسؤول المدعو الذي " ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر ولا يخلد أحد في النار من أهل الإيمان بل يخرج من النار من في قلبه حبة من إيمان أو مثقال ذرة والاستشفاع به وبغيره هو طلب الدعاء منه وليس معناه الإقسام به على الله والسؤال بذاته بحضوره فأما في مغيبه أو بعد موته فالإقسام به على الله والسؤال بذاته لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين بل عمر بن الخطاب ومعاوية ومن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمن كان حياً كالعباس وكيزيد بن الأسود رضي الله عنهما ولم ينقل عنهم أنهم في هذه الحالة استشفعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره ولا غيره فلم يقسموا بالمخلوق على الله عز وجل ولا سألوه بمخلوق نبي ولا غيره بل عدلوا إلى خيارهم كالعباس وكيزيد بن الأسود وكانوا يصلون عليه في دعائهم روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك لما تعذر عليهم أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه. وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء: نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو بنبيك أو بجاههم ونحو ذلك. ولا نقل عنهم أنهم تشفعوا عند قبره ولا في دعائهم في الصحراء وقد قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثناً واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " رواه الإمام مالك في الموطأ وغيره. وفي سنن أبي داود أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيداً " وقال: " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قال ذلك في مرض موته يحذر ما فعلوا: وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ". وقد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم رجلاً أن يدعو فيقول: " اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي اللهم فشفعه في ". روى النسائي نحو هذا الدعاء. وفي الترمذي وابن ماجة عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني فقال: " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك " قال: فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: " اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى اللهم فشفعه في ". قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله ادع الله لي أن يكشف لي عن بصري قال: " فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل اللهم إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري اللهم فشفعه في " قال: فدعا وقد كشف الله عن بصره. فهذا الحديث فيه التوسل إلى الله به في الدعاء. ومن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقاً حياً وميتاً ومنهم من يقول: هذه قضية عين وليس فيها إلا التوسل بدعائه وشفاعته لا التوسل بذاته كما ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا ثم إنهم بعد موته إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلاً عنه فلو كان التوسل به حياً وميتاً مشروعاً لم يميلوا عنه وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه إلى غيره ليس ممن مثله فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون وهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء وما ينفع وما لا يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه. وذلك أن التوسل به حياً هو الطلب لدعائه وشفاعته وهو من جنس مسألته أن يدعو فما زال المسلمون يسألونه أن يدعو لهم في حياته وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه ذلك لا عند قبره ولا عند غيره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين وإن كان قد روي في ذلك حكايات مكذوبة عن بعض المتأخرين بل طلب الدعاء مشروع لكل مؤمن من كل مؤمن فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب لما استأذنه في العمرة: " لا تنسنا يا أخي من دعائك " حتى إنه أمر عمر أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له مع أن عمر رضي الله عنه أفضل من أويس بكثير وقد أمر أمته أن يسألوا الله له الوسيلة وأن يصلوا عليه. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من رجل يدعو لأخيه في ظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة قال الموكل به: آمين ولك مثل ذلك " فالطالب للدعاء من غيره نوعان: أحدهما أن يكون سؤاله على وجه الحاجة إليه فهذا بمنزلة أن يسأل الناس قضاء حوائجه والثاني أنه يطلب منه الدعاء لينتفع الداعي بدعائه له وينتفع هو فينفع الله هذا وهذا بذلك الدعاء كمن يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته فطلب الدعاء جائز كمن يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه فإما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم لا يجوز أن يقول لغير الله: اغفر لي واسقنا الغيث ونحو ذلك. ولهذا روى الطبراني في معجمه أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فجاؤوا إليه فقال: " إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله " وهذا في الاستعانة مثل ذلك. فأما ما يقدر عليه البشر فليس من هذا الباب ولهذا قال تعالى: " وفي دعاء موسى عليه الصلاة والسلام: وبك المستغاث. وقال أبو يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وقال تعالى: " فبين أن من اتخذ النبيين أو الملائكة أو غيرهم أرباباً فهو كافر. وقال تعالى: " وقال تعالى: " وقال تعالى: " وقال تعالى: " وقال تعالى عن صاحب ياسين: " وقال تعالى: " وقال تعالى: " وقال تعالى: " فالشفاعة نوعان: أحدهما التي أثبتها المشركون ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة وضلالهم والثانية أن يشفع الشفيع بأن المشفع الله التي أثبتها الله لعباده الصالحين. ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد تحت العرش قال: " فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع ". فإذا أذن الله في الشفاعة شفع لمن أراد الله أن يشفع فيه. قال أصحاب هذا القول: فلا يجوز أن يشرع ذلك في مغيبه بعد موته وهو معنى الإقسام به على الله والسؤال بذاته فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فرقوا بين الأمرين فإن في حياته صلى الله عليه وسلم ليس في ذلك محذور ولا مفسدة فإن أحداً من الأنبياء لم يعبد في حياته بحضوره فإنه ينهى أن يشرك به ولو كان شركاً أصغر كما أن من سجد له نهاه عن السجود له وكما قال: " لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد " وأمثال ذلك. وأما بعد موته فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح والعزيز وغيرهما ولهذا كانت الصلاة في حياته مشروعة عند قبره منهياً عنها والصلاة خلفه في المسجد مشروعة إن لم يكن المصلي ملاقاته والصلاة إلى قبره منهياً عنها. فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما أنه لا يعبد إلا الله والثاني أن لا يعبد إلا بما شرع لا بعبادة مبتدعة وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " فلا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة وما علمه قال به وما لم يعلمه أمسك عنه " وقد اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير الله ولو حلف بالكعبة أو الملائكة أو بالأنبياء عليه الصلاة والسلام لم تنعقد يمينه ولا يشرع له ذلك بل ينهى عنه إما نهي تحريم وإما نهي تنزيه فإن للعلماء في ذلك قولين والصحيح أنه نهي تحريم ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ". وفي الترمذي عنه أنه قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك " ولم يقل أحد من العلماء أنه ينعقد اليمين بأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن عن أحمد في انعقاد اليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتين لكن الذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا ينعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد وهذا هو الصحيح ولا يستعاذ أيضاً بالمخلوقات بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته ولهذا احتج على أن كلام الله غير مخلوق بقوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " فقد استعاذ بها والمخلوق لا يستعاذ به. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا بأس بالرقي ما لم يكن شركاً " كالتي فيها استعانة بالجن كما قال تعالى: " فسائل الله بغير الله إما أن يكون مقسماً عليه وإما أن يكون طالباً بذلك السبب كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم وكما يتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين فإن كان إقساماً على الله بغيره فهذا لا يجوز وإن كان طالباً من الله بذلك السبب كالطلب منه بدعاء الصالحين والأعمال الصالحة فهذا يصح لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا فإذا توسلنا بذلك كنا متوسلين تبقى عنده وإما إذا لم نتوسل بدعائهم ولا بالأعمال الصالحة ولا ريب أن لهم عند الله من المنازل أمراً يعود نفعه عليهم ونحن ننتفع من ذلك بإتباعنا لهم ومحبتنا لهم وبدعائهم لنا فإذا توسلنا إلى الله بأيماننا بنبيه ومحبته وموالاته وإتباع سنته ونحو ذلك فهذا من أعظم الوسائل وأما نفس ذاته مع عدم الإيمان به وعدم طاعته وعدم دعائه لنا فلا يجوز فالمتوسل إذا لم يتوسل لا بما من المتوسل به ولا بما منه ولا بما من الله فبأي شيء يتوسل والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فأما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك الغير مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان وأما أن يسأل. كما يقال بحياة ولدك فلان وبتربة أبيك فلان وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك وقد علم أن الإقسام على الله بغير الله لا يجوز أن يقسم بمخلوق على الله أصلاً. وأما حديث الأعمى فإنه طلب من النبي أن يدعو له كما طلب الصحابة رضي الله عنهم الاستسقاء منه صلى الله عليه وسلم وقوله: " أتوجه إليك بنبيك محمد " أي بدعائه وشفاعته لي. ولهذا في تمام الحديث: فشفعه في. فالذي في الحديث متفق على جوازه وليس هو مما نحن فيه. وقد قال تعالى: " وأما على قراءة الخفض فقد قالت طائفة من السلف: هو قولك أسألك بالله وبالرحم. فمعنى قولك أسألك بالرحم ليس إقساماً بالرحم فإن القسم بها لا يشرع لكن بسبب الرحم أي إن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً كسؤال " أصحاب الغار " الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم الصالحة ومن هذا - الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءاً ولا سمعةً ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة " فهذا الحديث عن عطية العوفي وفيه ضعف فإن كان هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو من هذا الباب لوجهين أحدهما أن فيه السؤال لله بحق السائلين عليه وبحق الماشين في طاعته وحق السائلين أن يجيبهم وحق الماشين أن يثيبهم وهذا حق أحقه على نفسه سبحانه وتفضل به وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق شيئاً. ومنه قوله تعالى: " وفي الصحيح من حديث معاذ: " حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم " فحق السائلين والعابدين له هو الإثابة والإجابة فذلك سؤال له في أفعاله كالاستعاذة وقوله: " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك " فالاستعاذة بالمعافاة التي هي فعله كالسؤال بإثباته التي هي فعله. وروى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يقول يا عبدي إنما هي أربع: واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقي فالتي هي لي تعبدني ولا تشرك بي شيئاً والتي هي لك أجزيك به أحوج ما تكون إليه والتي بيني وبينك منك الدعاء وعلي الإجابة والتي بينك وبين خلقي فائت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك " وتقسيمه في الحديث إلى قوله واحدة لي وواحدة لك هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة بحيث يقول الله تعالى: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل " والعبد يعود عليه نفع النصفين والله تعالى يحب النصفين لكن هو سبحانه يحب أن يعبد وما يعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك فإنما يحبه لكونه طريقاً إلى عبادته والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولاً وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصراط المستقيم وبذلك يصل إلى العبادة إلى غير ذلك مما يطول الكلام فيما يتعلق بذلك وليس هذا موضعه وإن كنا خرجنا عن المراد.
|