الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.السعاية في المهاداة والاتحاف بين ملوك المغرب والملك الظاهر. كثيرا ما يتعاهد الملوك المتجاورون بعضهم بعضا بالاتحاف بطرف أوطانهم للمواصلة والإعانة متى دعا إليها داع وكان صلاح الدين بن أيوب هادي يعقوب المنصور ملك المغرب من بني عبد المؤمن واستجاش به بأسطوله في قطع مدد الفرنج عن سواحل الشام حين كان معنيا بإرجاعهم عنها وبعث في ذلك رسوله عبد الكريم بن منقذ من أمراء شيزر فأكرم المنصور رسوله وقعد عن إجابته في الأسطول لما كان في الكتاب إليه من العدول عن تخطيطه بأمير المؤمنين فوجدها غصة في صدره منعته من إجابته إلى سؤاله وكان المانع لصلاح الدين من ذلك كاتبه الفاضل عبد الرحيم البيساني بما كان يشاوره في أموره وكان مقيما لدعوة الخليفة العباسي بمصر فرأى الفاضل أن الخلافة لا تنعقد لاثنين في الملة كما هو المشهور وإن اعتمد أهل المغرب سوى ذلك لما يرون أن الخلافة ليست لقبا فقط وإنما هي لصاحب العصبية القائم عليها بالشدة والحماية والخلاف في ذلك معروف بين أهل الحق فلما انقرضت دولة الموحدين وجاءت دولة بني مرين من بعدهم وصار كبراؤهم ورؤساؤهم يتعاهدون قضاء فرضهم لهذه البلاد الشرقية فيتعاهدهم ملوكها بالإحسان إليهم وتسهيل طريقهم فحسن في مكارم الأخلاق انتحال البر والمواصلة بالاتحاف والاستطراف والمكافأة في ذلك بالهمم الملوكية فسنت لذلك طرائق وأخبار مشهورة من حقها أن تذكر وكان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ثالث ملوك بني مرين أهدى لصاحب مصر عام سبعمائة وهو يومئذ الناصر بن محمد بن قلاون هدية ضخمة أصحبها كريمة من كرائم داره احتفل فيها ما شاء من أنواع الطرف وأصناف الذخائر وخصوصا الخيل والبغال أخبرني الفقيه أبو إسحاق الحسناوي كاتب الموحدين بتونس أنه عاين تلك الهدية عند مرورها بتونس قال: وعددت من صنف البغال الفارهة فيها أربعمائة وسكت عما سوى ذلك وكان مع هذه الهدية من فقهاء المغرب أبو الحسن التنسي كبير أهل الفتيا بتلمسان ثم كافأ الناصر عن هذه الهدية بأعلى منها وأحفل مع أميرين من أمراء دولته أدركا يوسف بن يعقوب وهو يحاصر تلمسان فبعثهما إلى مراكش للنزاهة في محاسهنا وأدركه الموت في مغيبهما ورجعا من مراكش فجهزهما حافده أبو ثابت المالك بعده وشيعهما إلى مصر فاعترضهما قبائل حصين ونهبوهما ودخلا بجاية ثم مضيا إلى تونس ووصلا من هنالك إلى مصر ولما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان اقترحت عليه جارية أبيه أبي سعيد وكانت لها عليه تربية فأرادت الحج في أيامه وبعنايته فأذن لها في ذلك وبعث في خدمتها وليه عريف بن يحيى من أمراء سويد وجماعة من أمرائه وبطانته واستصحبوا هدية منه للملك الناصر احتفل فيها ما شاء وانتقى من الخيل العتاق والمطايا الفره وقماش الحرير والكتان والصوف ومدبوغ الجلود الناعمة والأواني المتخذة من النحاس والفخار المخصوص كل مصر من المغرب بأصناف من صنائعها متشابهة الأشكال والأنواع حتى لقد زعموا أنه كان فيها مكيلة من اللآلئ والفصوص وكان ذلك وقر خمس مائة بعير وكانت عتاق الخيل فيها خمس مائة فرس بالسروج الذهبية المرصعة بالجواهر واللجم المذهبة والسيوف المحلاة بالذهب واللآلئ كانت قيمة المركب الأول منها عشرة آلاف دينار وتدرجت على الولاء إلى آخر الخمس مائة فكانت قيمته مائة دينار تحدث الناس بهذه الهدية دهرا وعرضت بين يدي الملك الناصر فأشار إلى خاسكيته بانتهابها فنهبت بين يديه وبولغ في كرامة أولئك الضيوف في إنزالهم وقراهم وإزوادهم إلى الحجاز وإلى بلادهم وبقي شأن الهدية حديثا يتجاراه الناس في مجالسهم وأسمارهم وكان ذلك عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة ولما فصل أرسال ملك المغرب وقد قضوا فرضهم بعث الملك الناصر معهم هدية كفاء هديتهم وكانت أصنافها حمل القماش من ثياب الحرير والقماش المصنوعة بالإسكندرية تحمل كل عام إلى دار السلطان قيمة ذلك الحمل خمسون ألف دينار وخيمة من خيام السلطان المصنوعة بالشام على مثال القصور تشتمل على بيوت للمراقد وأواوين للجلوس والطبخ وأبراج للإشراف على الطرقات وأبراج أحدها لجلوس السلطان للعرض وفيها تمثال مسجد بمحرابه وعمده ومأذنته حوائطها كلها من خرق الكتان الموصولة بحبك الخياطة مفضلة على الأشكال التي يقترحها المتخذون لها وكان فيها خيمة أخرى مستديرة الشكل عالية السمك مخروطة الرأس رحبة الفناء تظل خمس مائة فارس أو أكثر وعشرة من عتاق الخيل بالمراكب الذهبية الصقيلة لجمها كذلك ومرت هذه الهدية بتونس ومعها الخدام القائمون بنصب الأبنية فعرضوها على السلطان بتونس وعاينت يومئذ أصناف تلك الهدية وتوجهوا بها إلى سلطانهم وبقى التعجب منها دهرا على الألسنة وكان ملوك تونس من الموحدين يتعاهدون ملوك مصر بالهدية في الأوقات.ولما وصلت إلى مصر واتصلت بالملك الظاهر وغمرني بنعمه وكرامته كاتبت السلطان بتونس يومئذ وأخبرته بما عند الملك الظاهر من التشوف إلى جياد الخيل وخصوصا من المغرب لما فيها من تحمل الشدة والصبر على المتاعب وكان يقول لي مثل ذلك وأن خيل مصر قصرت بها الراحة والتنعم عن الصبر على التعب فحضضت السلطان بتونس على إتحاف الملك الظاهر بما ينتقيه من الجياد الرائعة فبعث له خمسة انتقاها من مراكبه وحملها في البحر في السفين الواصل بأهلي وولدي فغرقت بمرسى الإسكندرية ونفقت تلك الجياد مع ما ضاع في ذلك السفين وكل شيء بقدر.ثم وصل إلينا عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة شيخ الأعراب: المعقل بالمغرب يوسف بن علي بن غانم كبير أولاد حسين ناجيا من سخط السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم من ملوك بني مرين بفاس يروم قضاء فرضه وبتوصل بذلك لرضى سلطانه فوجد السلطان غائبا بالشام في فتنة منطاش فعرضته لصاحب المحمل فلما عاد من قضاء فرضه وكان السلطان قد عاد من الشام فوصلته به وحضر بين يديه وشكا بثه فكتب الظاهر فيه شفاعة لسلطان وطنه بالمغرب وحمله مع ذلك هدية إليه من قماش وطيب وقسي وأوصاه بانتقاء الخيل له من قطر المغرب وانصرف فقبل سلطانه فيه شفاعة الظاهر وأعاده إلى منزلته وانتقى الخيول الرائعة لمهاداة الملك الظاهر وأحسن في انتقاء أصناف الهدية فعاجلته المنية دون ذلك وولي ابنه أبو فارس وبقي أياما ثم هلك وولي أخوه أبو عامر فاستكمل الهدية وبعثها صحبة يوسف بن علي الوارد الأول.وكان السلطان الملك الظاهر لما أبطأ عليه وصول الخيل من المغرب أراد أن يبعث من أمرائه من ينتقي له ما يشاء بالشراء فعين لذلك مملوكا من مماليكه منسوبا إلى تربية الخليلي اسمه قطلوبغا وبعث عني فحضرت بين يديه وشاورني في ذلك فوافقته وسألني كيف يكون طريقه فأشرت بالكتاب في ذلك إلى سلطان تونس من الموحدين وسلطان تلمسان من بني عبد الواد وسلطان فاس والمغرب من بني مرين وحمله لكل واحد منهم هدية خفيفة من القماش والطيب والقسي وانصرف عام تسعة وتسعين وسبعمائة إلى المغرب وشيعه كل واحد من ملوكه إلى مأمنه وبالغ في إكرامه بما يتعين ووصل إلى فاس فوجد الهدية قد استكملت ويوسف ابن علي على المسير بها عن سلطانه أبي عامر من ولد السلطان أبي العباس المخاطب أولا وأظلهم عيد الأضحى بفاس وخرجوا متوجهين إلى مصر وقد أفاض السلطان من إحسانه وعطائه على الرسول قظلوبغا ومن في جملته بما أقر عيونهم وأطلق بالشكر ألسنتهم وملأ بالثناء ضمائرهم ومروا بتلمسان وبها يومئذ أبو زيان ابن السلطان أبي حمو من آل يغمراسن بن زيان فبعث معهم هدية أخرى من الجياد بمراي وكان يحوك الشعر فامتدح الملك الظاهر بقصيدة بعثها مع هديته ونصها من أولها إلى آخرها:ثم مروا بعدها بتونس فبعث سلطان تونس أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي العباس من ملوك الموحدين هدية ثالثة انتقى لها جياد الخيل وعزز بها هدية السلطانين وراءه مع رسوله من كبار الموحدين أبي عبد الله بن تافراكين ووصلت الهدايا الثلاث إلى باب الملك الظاهر في آخر السنة وعرضت بين يدي السلطان وانتهب الخاسكية ما كان فيها من الأقمشة والسيوف والبسط ومراكب الخيل وحمل كثيرا منهم على كثير من تلك الجياد وارتبط الباقيات.وكانت هدية صاحب المغرب تشتمل على خمسة وثلاثين من عتاق الخيل بالسروج واللجم الذهبية والسيوف المحلاة وخمسة وثلاثين حملا من أقمشة الحرير والكتان والصوف والجلد منتقاة من أحسن هذه الأصناف.وهدية صاحب تلمسان تشتمل على ثلاثين من الجياد بمراكبها المموهة وأحمالا من الأقمشة.وهدية صاحب تونس تشتمل على ثلاثين من الجياد مغشاة ببراقع الثياب من غير مراكب وكلها أنيق في صنعه مستطرف في نوعه وجلس السلطان يوم عرضها جلوسا فخما في إيوانه وحضر الرسل وأدوا ما يجب عن ملوكهم وعاملهم السلطان بالبر والقبول وانصرفوا إلى منازلهم للجرايات الواسعة والأحوال الضخمة ثم حضر وقت خروج الحاج فأستأذنوا في الحج مع محمل السلطان فأذن لهم وأرغد أزودتهم وقضوا حجهم ورجعوا إلى حضرة السلطان ومعهود مبرته ثم انصرفوا إلى مواطنهم وشيعهم من بر السلطان وإحسانه ما ملأ حقائبهم وأسنى ذخيرتهم وحصل لي أنا من بين ذلك في الفخر ذكر جميل بما تناولت بين هؤلاء الملوك من السعي في الوصلة الباقية على الأبد فحمدت الله على ذلك.
|