الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.العودة إلى المغرب الأقصى. ولما كنت في الاعتمال في مشايعة السلطان عبد العزيز ملك المغرب كما ذكرت تفاصيله وأنا مقيم ببسكرة في جوار صاحبها أحمد بن يوسف بن مزنى وهو صاحب زمام رياح وأكثر عطائهم من السلطان مفترض عليه في جباية الزاب وهم يرجعون إليه في الكثير من أمورهم فلم أشعر إلا وقد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب ووغر صدره وصدق في ظنونه وتوهماته وطاوع الوشاة فما يوردون على سمعه من التقول والاختلاق وجاش صدره بذلك فكتب إلى ونزمار بن عريف ولي السلطان وصاحب شواره يتنفس الصعداء من ذلك فأنهاه إلى السلطان فاستدعاني لوقته وارتحلت من بسكرة بالأهل والولد في يوم المولد الكريم سنة أربع وسبعين وسبعمائة متوجها إلى السلطان وكان قد طرقه المرض فما هو إلا أن وصلت مليانة من أعمال المغرب الأوسط لقيني هنالك خبر وفاته وأن ابنه أبا بكر السعيد نصب بعده للأمر في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي وأنه ارتحل إلى المغرب الأقصى مغذا السير إلى فاس وكان على مليانة يومئذ علي بن حسون بن أبي علي الهساطي من قواد السلطان وموالي بيته فارتحلت معه إلى أحياء العطاف ونزلنا على أولاد يعقوب بن موسى من أمرائهم وبدرني بعضهم إلى حلة أولاد عريف أمراء سويد ثم لحق بنا بعد أيام علي بن حسون في عساكره وارتحلنا جميعا إلى المغرب على طريق الصحراء وكان أبو حمو قد رجع بعد مهلك السلطان من مكان انتباذه بالقفر في تيكورارين إلى تلمسان فاستولى عليها وعلى سائر أعماله وأوعز إلى بني يغمور من شيوخ عبيد الله في المعقل أن يعترضونا بحدود بلادهم من رأس العين مخرج وادي صا فاعترضونا هنالك فنجا من نجامنا على خيولهم إلى جبل دبدو وانتهبوا جميع ما كان معنا وأرجلوا الكثير من الفرسان وكنت فيهم وبقيت يومئذ في قفره ضاحيا عاريا إلى أن حصلت إلى العمران ولحقت بأصحابي بجبل دبدو ووقع في خلال ذلك من الألطاف إلى ما لا يعبر عنه ولا يسع الوفاء بشكره ثم سرنا إلى فاس ووفدت على الوزير أبى بكر وابن عمه محمد بن عثمان بفاس في جمادي من السنة وكان لي معه قديم صحبة واختصاص منذ نزع معي إلى السلطان أبي سالم بجبل الصفيحة عند إجازته من الأندلس لطلب ملكه كما مر في غير موضع من الكتاب فلقيني من بر الوزير وكرامته وتوفير جرايته وإقطاعه فوق ما احتسب وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل ثابت الرتبة عظيم الجاه منوة المجلس عند السلطان ثم انصرم فصل الشتاء وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي وبين السلطان ابن الأحمر منافرة بسبب ابن الخطيب وما دعا إليه ابن الأحمر من إبعاده عنهم وأنف الوزير من ذلك فأظلم الجو بينهما وأخذ الوزير في تجهيز بعض القرابة من بني الأحمر ليشغله به ونزع ابن الأحمر إلى إطلاق عبد الرحمن بن أبي يفلوسن من ولد السلطان أبي علي والوزير مسعود بن رحو بن ماسي كان حبسهما أيام السلطان عبد العزيز وأشار بذلك ابن الخطيب حين كان في وزارتهما بالأندلس فأطلقهما الآن وبعثهما لطلب الملك بالمغرب وأجازهما في الأسطول إلى سواحل غساسة فنزلوا بها ولحقوا بقبائل بطوية هنالك فاشتملوا عليها وقاموا بدعوة الأمير عبد الرحمن ونهض ابن الأحمر من غرناطة في عساكر الأندلس فنزل على جبل الفتح فحاصره وبلغت الأخبار بذلك إلى الوزير أبي بكر بن غازي القائم بدعوة بني مرين فوجه لحينه ابن عمه محمد بن عثمان بن الكاس إلى سبتة لإمداد الحامية الذين لهم بالجبل ونهض هو في العساكر إلى بطوية لقتال الأمير عبد الرحمن فوجده قد ملك ملك تازي فأقام عليها يحاصره وكان السلطان عبد العزيز قد جمع شبابا من بني أبيه المرشحين فحبسهم بطنجة صاحبه على ما كان منه واشتد عذل ابن الأحمر على إخلائهم الكرسي من كفئه ونصبهم السعيد بن عبد العزيز صبيا لم يثغر فاستعتب له محمد واستقال من ذلك فحمله ابن الأحمر على أن يبايع لأحد الأبناء المحبوسين بطنجة وقد كان الوزير أبو بكر أوصاه أيضا بأنه إن تضايق عليه الأمر من الأمير عبد الرحمن يفرج عنه بالبيعة لأحد أولئك الأبناء.وكان محمد بن الكاس قد استوزره السلطان أبو سالم لابنه أحمد أيام ملكه فبادر من وقته إلى طنجة وأخرج السلطان أحمد ابن السلطان أبي سالم من محبسه وبايع له وسار به إلى سبتة وكتب لابن الأحمر يعرفه بذلك وبطلب منه المدد على أن ينزل له عن جبل الفتح فأمده بما شاء من المال والعسكر واستولى على جبل الفتح وشحنه بحاميته وكان أحمد ابن السلطان أبي سالم قد تعاهد مع بني أبيه في محبسهم على أن من صار له الملك إليه منهم يجيز الباقين إلى الأندلس فلما بويع له ذهب إلى الوفاء لهم بعهدهم وأجازهم جميعا فنزلوا على السلطان ابن الأحمر فأكرم نزلهم ووفر جراياتهم وبلغ الخبر بذلك كله إلى الوزير أبي بكر بمكانه من حصار الأمير عبد الرحمن بتازى فأخذه المقيم المقعد من فعلة ابن عمه وكر راجعا إلى دار الملك وعسكر بكدية العرائس من فاس وتوعد ابن عمه محمد بن عثمان فاعتذر بأنه امتثل وصيته فاستشاط وتهدده واتسع الخرق بينهما وارتحل محمد بن عثمان بسلطانه ومدده من عسكر الأندلس إلى أن احتل بجبل زرهون المطل على مكناسة فعسكر به واشتملوا عليه وزحف إليهم الوزير أبو بكر وصعد الجبل فقاتلوه وهزموه ورجع إلى مكانه بظاهر دار الملك وكان السلطان ابن الأحمر قد أوصى محمد بن عثمان بالاستعانة بالأمير عبد الرحمن والاعتضاد به ومساهمته في جانب من أعمال المغرب يستبد به لنفسه فراسله محمد ابن عثمان في ذلك واستدعاه واستمده وكان ونزمار بن عريف ولي سلفهم قد أظلم الجو بينه وبين الوزير أبي بكر لأنه سأله وهو يحاصر تازى في الصلح مع الأمير عبد الرحمن فامتنع واتهمه بمداخلته والميل له فاعتزم على التقبض عليه ودس إليه بعض عيوته فركب الليل ولحق بأحياء الأحلاف من المعقل وكانوا شيعة للأمير عبد الرحمن ومعهم علي بن عمر الويغلاني كبير بني ورتاجن كان انتقض على الوزير ابن غازي ولحق بالسوس ثم خاض القفر إلى هؤلاء الأحلاف فنزل بينهم مقيما لدعوة الأمير عبد الرحمن فجاءهم ونزمار مفلتا من حبالة الوزير أبي بكر وحرضهم على ما هم فيه ثم بلغهم خبر السلطان أحمد بن أبي سالم ووزيره محمد ابن عثمان وجاءهم وافد الأمير عبد الرحمن يستدعيهم وخرج من تازي فلقيهم ونزل بين أحيائهم ورحلوا جميعا إلى إمداد السلطان أبي العباس حتى انتهوا إلى صفروي ثم اجتمعوا جميعا على وادي النجا وتعاقدوا على شأنهم وأصبحوا غدا على التعبية كل من ناحيته.وركب الوزير أبو بكر لقتالهم فلم يطق وولى منهزما فانحجر بالبلد الجديد وخيم القوم بكدية العرائس محاصرين له وذلك أيام عيد الفطر من سنة خمس وسبعين وسبعمائة فحاصروها ثلاثة أشهر وأخذوا بمخنقها إلى أن جهد الحصار الوزير ومن معه فأذعن للصلح على خلع الصبي المنصوب السعيد ابن السلطان عبد العزيز وخروجه إلى السلطان أبي العباس ابن عمه والبيعة له وكان السلطان أبو العباس والأمير عبد الرحمن قد تعاهدوا عند الاجتماع بوادي النجا على التعاون والتناصر على أن الملك للسلطان أبي العباس بسائر أعمال المغرب وأن للأمير عبد الرحمن بلد سجلماسة ودرعة والأعمال التي كانت لجده السلطان أبي علي أخي السلطان أبي الحسن ثم بدا للأمير عبد الرحمن في ذلك أيام الحصار واشتط بطلب مراكش وأعمالها فأغضوا له في ذلك وشارطوه على ذلك حتى يتم لهم الفتح فلما انعقد ما بين السلطان أبي العباس والوزير أبي بكر وخرج إليه من البلد الجديد وخلع سلطانه الصبي المنصوب ودخل السلطان أبو العباس إلى دار الملك فاتح ست وسبعين وسبعمائة وارتحل الأمير عبد الرحمن يغذ السير إلى مراكش وبدا للسلطان أبي العباس ووزيره محمد بن عثمان في شأنه فسرحوا العساكر في اتباعه وانتهوا خلفه إلى وادي بهت فواقفوه ساعة من نهار ثم أحجموا عنه وولوا على راياتهم وسار هو إلى مراكش ورجع عنه وزيره مسعود بن ماسي بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودع بها فسرحه لذلك وسار إلى مراكش فملكها.وأما أنا فكنت مقيما بفاس في ظل الدولة وعنايتها منذ قدمت على الوزير سنة أربع وسبعين وسبعمائة كما مر عاكفا على قراءة العلم وتدريسه فلما جاء السلطان أبو العباس والأمير عبد الرحمن وعسكروا بكدية العرائس وخرج أهل الدولة إليهم من الفقهاء والكتاب والجند وأذن للناس جميعا في مباكرة أبواب السلطانين من غير نكير في ذلك فكنت أباكرهما معا وكان بيني وبين الوزير محمد بن عثمان ما مر ذكره قبل هذا فكان يظهر لي رعاية ذلك ويكثر من المواعيد وكان الأمير عبد الرحمن يميل إلي ويستدعيني أكثر أوقاته ويشاورني في أحواله فغص بذلك الوزير محمد بن عثمان وأغرى سلطانه فتقبض علي وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك وعلم آني إنما أتيت من جراه فحلف ليقوضن خيامه وبعث وزيره مسعود بن ماسي لذلك فأطلقني من الغد ثم كان افتراقها لثالثة ودخل الأمير أبو العباس دار الملك وسار الأمير عبد الرحمن إلى مراكش وكنت أنا يومئذ مستوحشا فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزما على الإجازة إلى الأندلس من ساحل آسفي معولا في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماسي لهواي فيه فلما رجع مسعود ثني عزمي في ذلك ولحقنا بو نزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف لتقدمه وسيلة إلى السلطان أبي العباس صاحب فاس في الجواز إلى الأندلس ووافينا عنده داعي السلطان فصحبناه إلى فاس واستأذنه في شأني فأذن لي بعد مطاولة وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان بن داود بن أعراب ورجال الدولة.وكان الأخ يحيى لما رحل السلطان أبو حمو من تلمسان رجع عنه من بلاد زغبة إلى السلطان عبد العزيز فاستقر في خدمته وبعده في خدمة ابنه السعيد المنصوب مكانه ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان فأذن له وقدم على السلطان أبي حمو فأعاده لكتابة سره كما كان أول أمره وأذن لي أنا بعده فانطلقت إلى الأندلس بقصد القرار والدعة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
|