الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن نكبة الأمير عبد الرحمن بمتيجة وتقبض السلطان عليه ثم مهلكه آخرا: قد قدمنا ما كان من اشتراط السلطان أبي سعيد على الموحدين منازلتهم تلمسان مع عساكره وتلوم السلطان أبي الحسن بتاسالت لانتظار مولانا السلطان أبي يحيى ولما نازل تلمسان بعساكره المرة الثانية لم يطالبهم بذلك وكان أبو محمد بن تافراكين يتردد إليه وهو بمعسكره من حصار تلمسان مؤديا حقه مستخبرا مآل عدوهم فلما تغلب على تلمسان أسر إليه سفيره أبو محمد بن تافراكين بأن سلطانه قادم عليه للقائه وتهنئته بالظفر بعدوه وتشوف السلطان أبو الحسن إليها لما كان يحب الفخر ويعنى به وارتحل من تلمسان سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وعسكر ببسيط بمتيجة منتظرا وفادة مولانا السلطان أبي يحيى عليه وتكاسل السلطان عنها لما أراه سيفه المتحكم في دولته محمد بن الحكيم من حذر مغبتها وقال له: إن لقاء سلطانين لا يتفق إلا في يوم على أحدهما فكره ذلك السلطان وتقاعد عنه: وطال مقام السلطان أبي الحسن في انتظار الموعد الذي ألقى إليه أبو محمد بن تافراكين واعتل لأشهر من مقامه ومرض بفسطاطه وتحدث أهل المعسكر بمهلكه وكان ابنا الأمير أبو عبد الرحمن وأبو مالك متناغيين في ولاية عهده منذ أيام جدهما أبي سعيد وكان السلطان قد جعل لهما من أول دولته ألقاب الإمارة وأحوالها من اتخاذ الوزراء والكتاب ووضع العلامة وتدوين الدواوين وإثبات العطاء واستلحاق الفرسان والإنفراد بالعساكر فكانا من ذلك على ثبج وجعل لهما مع ذلك الجلوس لمقعد فصله مناوبة لتنفيذ الأوامر السلطانية فكانا لذلك رديفين له في سلطانه.ولما اشتد وجع السلطان تمشت سماسرة الفتن بين هذين الأميرين وحزب أهل المعسكر لهما أحزابا وبث كل واحد منهما المال وحمل على المقربات وصارت شيعا وانقسموا فرقا وهم الأمر أبو عبد الرحمن بالتوثب على الأمر قبل أن يتبين حال السلطان بإغراء وزرائه وبطانته بذلك وتفطن خاصة السلطان لها فأخبروه الخبر وحضوه على الخروج إلى الناس قبل أن يتفاقم الأمر ويتسع الخرق فبرز إلى فسطاط جلوسه وتسامح أهل المعسكر به فازدحموا على مجلسه وتقبيل يده وتقبض على أهل الظنة من العساكر فأودعهم السجن وسخط على الأميرين ورحل الناس من معسكرهما فردهما إلى معسكره ثم رجع إلى فسطاطه فارتاب الأميران لذلك ووجما وطفئت نار فتنتهما وسكن سعي المفسدين عندما وانتبذ الناس عنهما فاشتدت روعة الأمير أبي عبد الرحمن وركب من فساطيطه وخاض الليل وأصبح بحلة أولاد علي أمراء زغبة بالموطنين بأرض حمزة فتقبض عليه أميرهم موسى بن أبي الفضل ورده إلى أبيه فاعتقله بوجدة ورتب العيون لحراسته من حشمه إلى أن قتل بعد ذلك سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وثب بالسخان فقتله وأنفذ السلطان حاجبه علان بن محمد فقضى عليه ولحق وزيره زيان بن عمر الوطاسي بالموحدين فأجاروه ورضي السلطان صبيحة نزوع أبي عبد الرحمن عن أخيه أبي مالك وعقد له على ثغور عمله بالأندلس وصرفه إليها وانكفأ إلى تلمسان والله أعلم..الخبر عن خروج ابن هيدور وتلبسيه بأبي عبد الرحمن: لما تقبض السلطان على ابنه عبد الرحمن وأودعه السجن تفرق خدمة وحشمه وانذعروا في الجهات وهمل جازر من مطبخه كان يعرف بابن هيدور كان شبيها له في الصورة فلحق ببني عامر من زغبة وكانوا لذلك العهد منحرفين عن الطاعة خوارج على الدولة لما كان السلطان وأبوه اختصا عريف بن يحيى أمير بني سويد أقتالهم منذ نزع إليهم عن أبي تاشفين فركبوا سنن الخلاف ولبسوا جلدة النفاق وانتبذوا بالقفار ورياستهم لذلك العهد لصغير بن عامر اخوته وعقد السلطان على حربهم لونزمار ابن وليه عريف وكان سيد البدو يومئذ فجمع لهم وشمر لطلبهم وأبعدوا أمامه في المذاهب وأوقع بهم مرارا ولحق بهم هذا الجازر وانتسب لهم إلى السلطان أبي الحسن وأنه أبو عبد الرحمن ابنه النازع عنه فشبه لهم وبايعوه وأجلبوا به على نواحي المرية وبرز إليهم قائدها مجاهد بن من صنائع الدولة فقضوا جمعه وانهزم أمامهم ثم جمع لهم ونزمار وفروا عن تلك النواحي وافترق جمعهم ونبذوا لذلك الجازر عهده فلحق ببني يرناتن من زواوة ونزل على سيدتهم شمسي فقامت بأمره وحمل بنوها من بني عبد الصمد قومهم على طاعته وشاع في الناس خبره فمن مصدق ومن مكذب حتى تبينت ووقفوا على كذبه في انتسابه فنبذوا عهده ولحق بالزواودة أمراء رياح ونزل على سيدهم يعقوب بن علي وانتسب له في مثل ذلك فأجاره إن صدق نسبه وأوعز السلطان إلى السلطان أبي يحيى صاحب إفريقية في شأنه فبعث إلى يعقوب وأشخصه إلى السلطان مع ذويه فلحق به بمكانه من سبتة فامتحنه السلطان وقطعه من خلاف وانحسم داؤه وبقي بالمغرب تحت جراية من الدولة إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وسبعمائه والله تعالى أعلم..الخبر عن شأن الجهاد واغزاء السلطان ابنه الأمير أبا مالك واستشهاده: لما فرغ السلطان من أمر عدوه وما تبع من ذلك من الأحوال صرف اعتزامه إلى الجهاد لما كان كلفا به وكان الطاغية منذ شغل بنى مرين عن الجهاد منذ عهد يعقوب بن عبد الحق قد اعتزوا على المسلمين بالعدوة ونازلوا معاقلهم وتغلبوا على الكثير منها وارتجعوا الجبل ونازلوا السلطان أبا الوليد في عقر داره بغرناطة ووضعوا عليه الجزية فتقبلها وأسفوا إلى لتهام المسلمين بالأندلس فما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن عدوه وعلت على الأيدي يده وانفسح نطاق ملكه دعته نفسه إلى الجهاد وأوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك أمير الثغور من عمله بالعدوة سنة أربعين وسبعمائة بالدخول إلى دار الحرب وجهز إليه العساكر من حضرته وأنفذ إليه الوزراء فشخص غازيا في الحفل وتوغل في بلاد الطاغية واكتسحها وخرج بالسبي والغنائم إلى أدنى صدره من أرضهم وأناخ بها واتصل به الخبر بأن النصارى جمعوا له وأغذوا السير في اتباعه وأشار عليه الملأ بالخروج من أرضهم وإجازة الوادي الذي كان تخما بين أرض الإسلام ودار الحرب وأن يسير إلى مدن المسلمين فيمتنع بها فلج في إبايته وصمم عل التعريس وكان قرما ثبتا إلا أنه غير بصير بالحروب لمكان سنه فصبحهم عساكر النصرانية في مضاجعهم قبل أن يركبوا وخاطبوهم في ابايتهم وأدرك الأمير أبو مالك بالأرض قبل أن يستوي على فرسه فجدلوه واستلحموا الكثير من قومه واحتووا على المعسكر بما فيه من أموال المسلمين وأموالهم ورجعوا على أعقابهم واتصل الخبر بالسلطان فتفجع لهلاك ابنه واسترحم له واحتسب عند الله أجره وفي سبيله قتله وشرع في إجازة العساكر للجهاد وتجهيز الأساطيل.
|