الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***
وَأَمَّا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَالْكَلَامُ فيه في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِهِ وفي بَيَانِ الْأَلْفَاظِ التي يَقَعُ بها طَلَاقُ الْبِدْعَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ في حَالَةِ الْحَيْضِ إذَا كانت مَدْخُولًا بها سَوَاءٌ كانت حُرَّةً أو أَمَةً لِمَا رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ حين طَلَّقَ امْرَأَتَهُ في حَالَةِ الْحَيْضِ أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ وَلِأَنَّ فيه تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عليها لِأَنَّ الْحَيْضَةَ التي صَادَفَهَا الطَّلَاقُ فيه غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ من الْعِدَّةِ فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عليها وَذَلِكَ اضرار بها وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لِلْحَاجَةِ هو الطَّلَاقُ في زَمَانِ كَمَالِ الرَّغْبَةِ وَزَمَانُ الْحَيْضِ زَمَانُ النُّفْرَةِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْدَامُ عليه فيه دَلِيلَ الْحَاجَةِ إلَى الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فيه سُنَّةً بَلْ يَكُونُ سَفَهًا إلَّا أَنَّ هذا الْمَعْنَى يُشْكِلُ بِمَا قبل الدُّخُولِ فَالصَّحِيحُ هو الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وإذا طَلَّقَهَا في حَالَةِ الْحَيْضِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ في حَالَةِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا وَلِأَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ فَتَبِينُ منه بِطَلَاقٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَكَانَتْ الرَّجْعَةُ أَوْلَى وَلَوْ امْتَنَعَ عن الرَّجْعَةِ لَا يُجْبَرُ عليها. وَذُكِرَ في الْعُيُونِ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا اعتقت فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ إذَا أَدْرَكَتْ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ إمرأة الْعِنِّينِ وَهِيَ حَائِضٌ وَالثَّانِي الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ في ذَوَاتِ الاقراء في طُهْرٍ جَامَعَهَا فيه حُرَّةً كانت أو أَمَةً لِاحْتِمَالِ أنها حَمَلَتْ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْحَمْلِ يَنْدَمُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا لَا لِحَاجَةٍ وَفَائِدَةٍ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَكُونُ سُنَّةً وَلِأَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا فَقَدْ قَلَّتْ رَغْبَتُهُ إلَيْهَا فَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ في ذلك الطُّهْرِ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ على الْإِطْلَاقِ فلم يَكُنْ سُنَّةً وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ فَهُوَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ أو الثِّنْتَيْنِ في طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا جِمَاعَ فيه سَوَاءٌ كان على الْجَمْعِ بِأَنْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَاحِدَةً أو على التَّفَارِيقِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كان الْكُلُّ في طُهْرٍ وَاحِدٍ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا أَعْرِفُ في عَدَدِ الطَّلَاقِ سُنَّةً وَلَا بِدْعَةً بَلْ هو مُبَاحٌ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ في الْوَقْتِ فَقَطْ احْتَجَّ بِعُمُومَاتِ الطَّلَاقِ من الْكتاب وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكتاب فَقَوْلُهُ عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}وَقَوْلُهُ عز وجل: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}وَقَوْلُهُ عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ}شَرَعَ الطَّلَاقَ من غَيْرِ فصل بين الْفَرْدِ وَالْعَدَدِ وَالْمُفْتَرِقِ وَالْمُجْتَمِعِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ في طُهْرٍ وَاحِدٍ مَشْرُوعٌ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ في حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بين الْفُقَهَاءِ وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا في حَقِّ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْخَلِّ وَالصُّفْرِ وَنِكَاحَ الْأَجَانِبِ لَمَّا كان مَشْرُوعًا كان مُعْتَبَرًا في حَقِّ الْحُكْمِ وَبَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ لَمَّا لم يَكُنْ مَشْرُوعًا لم يَكُنْ مُعْتَبَرًا في حَقِّ الْحُكْمِ وَهَهُنَا لَمَّا اُعْتُبِرَ في حَقِّ الْحُكْمِ دَلَّ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَبِهَذَا عُرِفَتْ شَرْعِيَّةُ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ في طُهْرٍ وَاحِدٍ وَالثَّلَاثِ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا الْمُجْتَمِعُ. وَلَنَا الْكتاب وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكتاب فَقَوْلُهُ عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}أَيْ في أَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ وهو الثَّلَاثُ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا فَسَّرَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَمَرَ بِالتَّفْرِيقِ وَالْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ يَكُونُ نَهْيًا عن الْجَمْعِ ثُمَّ إنْ كان الْأَمْرُ أَمْرَ إيجَابٍ كان نَهْيًا عن ضِدِّهِ وهو الْجَمْعُ نهى تَحْرِيمٍ وَإِنْ كان أَمْرَ نَدْبٍ كان نَهْيًا عن ضِدِّهِ وهو الْجَمْعُ نهى نَدْبٍ وَكُلُّ ذلك حُجَّةٌ على الْمُخَالِفِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ على التَّحْرِيمِ وَالْآخَرَ يَدُلُّ على الْكَرَاهَةِ وهو لَا يقول بِشَيْءٍ من ذلك وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}أَيْ دَفْعَتَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ من أَعْطَى آخَرَ دِرْهَمَيْنِ لم يَجُزْ أَنْ يُقَالَ أَعْطَاهُ مَرَّتَيْنِ حتى يُعْطِيَهُ دَفْعَتَيْنِ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هذا وَإِنْ كان ظَاهِرُهُ الْخَبَرَ فإن مَعْنَاهُ الْأَمْرُ لِأَنَّ الْحَمْلَ على ظَاهِرِهِ يُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ في خَبَرِ من لَا يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْخُلْفَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ على سَبِيلِ الْجَمْعِ قد يُوجَدُ وقد يَخْرُجُ اللَّفْظُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ على إرَادَةِ الْجَمْعِ قال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ وقال تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ}أَيْ لَيُرْضِعْنَ وَنَحْوُ ذلك كَذَا هذا فَصَارَ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال طَلِّقُوهُنَّ مَرَّتَيْنِ إذَا أَرَدْتُمْ الطَّلَاقَ وَالْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ نهى عن الْجَمْعِ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ فَيَدُلُّ على كَوْنِ الْجَمْعِ حَرَامًا أو مَكْرُوهًا على ما بَيَّنَّا. فَإِنْ قِيلَ هذه الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جِنْسَ الطَّلَاقِ وَجِنْسُ الطَّلَاقِ ثَلَاثٌ وَالثَّلَاثُ إذَا وَقَعَ دَفْعَتَيْنِ كان الْوَاقِعُ في دَفْعَةٍ طلقتان [طلقتين] فَيَدُلُّ على كَوْنِ الطَّلْقَتَيْنِ في دَفْعَةٍ مَسْنُونَتَيْنِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا أَمْرٌ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقَيْنِ من الثَّلَاثِ لَا بِتَفْرِيقِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالرَّجْعَةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ أَيْ دَفْعَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}أَيْ وهو الرَّجْعَةُ وَتَفْرِيقُ الطَّلَاقِ وهو إيقَاعُهُ دَفْعَتَيْنِ لَا يَتَعَقَّبُ الرَّجْعَةَ فَكَانَ هذا أَمْرًا بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقَيْنِ من الثَّلَاثِ لَا بِتَفْرِيقِ كل جِنْسِ الطَّلَاقِ وهو الثَّلَاثُ وَالْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ طَلَاقَيْنِ من الثَّلَاثِ يَكُونُ نَهْيًا عن الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَوَضَحَ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فإن الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ له عَرْشُ الرحمن نهى صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عن الطَّلَاقِ لِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ قد بَقِيَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا في حَقِّ الْحُكْمِ بَعْدَ النَّهْيِ فَعُلِمَ أَنَّ هَهُنَا غَيْرًا حَقِيقِيًّا مُلَازِمًا لِلطَّلَاقِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عنه فَكَانَ النَّهْيُ عنه لَا عن الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ من الْمُشَرَّعِ لِمَكَانِ الْحَرَامِ الْمُلَازِمِ له كما في الطَّلَاقِ في حَالَةِ الْحَيْضِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ في الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَغَيْرِ ذلك وقد ذُكِرَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان لَا يُؤْتَى بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا إلَّا أَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَأَجَازَ ذلك عليه وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالطَّلَاقُ إبْطَالٌ له وَإِبْطَالُ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ وقد قال اللَّهُ عز وجل وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَهَذَا مَعْنَى الْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلَّا أَنَّهُ قد يَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لِعَدَمِ تَوَافُقِ الْأَخْلَاقِ وَتَبَايُنِ الطَّبَائِعِ أو لِفَسَادٍ يَرْجِعُ إلَى نِكَاحِهَا بِأَنْ عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَفُوتُهُ بِنِكَاحِ هذه الْمَرْأَةِ أو أَنَّ الْمُقَامَ مَعَهَا سَبَبُ فَسَادِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَتَنْقَلِبُ الْمَصْلَحَةُ في الطَّلَاقِ لِيَسْتَوْفِيَ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ من امْرَأَةٍ أُخْرَى إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ أَنَّهُ لم يَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ ولم يَنْظُرْ حَقَّ النَّظَرِ في الْعَاقِبَةِ قائمة [قائم] فَالشَّرْعُ وَالْعَقْلُ يَدْعُوَانِهِ إلَى النَّظَرِ وَذَلِكَ في أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً حتى أَنَّ التَّبَايُنَ أو الْفَسَادَ إذَا كان من جِهَةِ الْمَرْأَةِ تَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الصَّلَاحِ إذَا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ. وَإِنْ كانت لَا تَتُوبُ نَظَرَ في حَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ هل يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها يُرَاجِعْهَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها يُطَلِّقْهَا في الطُّهْرِ الثَّانِي ثَانِيًا وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَيَخْرُجُ نِكَاحُهَا من أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ غَالِبًا فَأُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ أو الثَّلَاثُ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ على تَقْدِيرِ خُرُوجِ نِكَاحِهَا من أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَصَيْرُورَةِ الْمَصْلَحَةِ في الطَّلَاقِ فإذا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً وَاحِدَةً في حَالَةِ الْغَضَبِ وَلَيْسَتْ حَالَةُ الْغَضَبِ حَالَةَ التَّأَمُّلِ لم يَعْرِفْ خُرُوجَ النِّكَاحِ من أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فَكَانَ الطَّلَاقُ إبْطَالًا لِلْمَصْلَحَةِ من حَيْثُ الظَّاهِرِ فَكَانَ مَفْسَدَةً. وَالثَّانِي أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مَسْنُونٌ بَلْ هو وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا في كتاب النِّكَاحِ فَكَانَ الطَّلَاقُ قَطْعًا لِلسُّنَّةِ وَتَفْوِيتًا لِلْوَاجِبِ فَكَانَ الْأَصْلُ هو الْحَظْرُ وَالْكَرَاهَةُ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لِلتَّأْدِيبِ أو لِلتَّخْلِيصِ وَالتَّأْدِيبُ يَحْصُلُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ الرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّ التَّبَايُنَ أو الْفَسَادَ إذَا كان من قِبَلِهَا فإذا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ فَالظَّاهِرُ أنها تَتَأَدَّبُ وَتَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَالصَّلَاحِ وَالتَّخْلِيصُ يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَالثَّابِتُ بِالرُّخْصَةِ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَحَقُّ الضَّرُورَةِ صَارَ مَقْضِيًّا بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْجَمْعِ بين الثَّلَاثِ في طُهْرٍ وَاحِدٍ فَبَقِيَ ذلك على أَصْلِ الْحَظْرِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا في طُهْرٍ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ وقال اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلك أَمْرًا}قِيلَ في التَّفْسِيرِ أَيْ نَدَامَةً على ما سَبَقَ من فِعْلِهِ أو رَغْبَةً فيها وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِالنِّكَاحِ فَيَقَعُ في السِّفَاحِ فَكَانَ في الْجَمْعِ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ في الْحَرَامِ وَلَيْسَ في الِامْتِنَاعِ ذلك وَالتَّحَرُّزُ عن مِثْلِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا بِخِلَافِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ من التَّدَارُكِ بِالرَّجْعَةِ وَبِخِلَافِ الثَّلَاثِ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لِأَنَّ ذلك لَا يُعَقِّبُ النَّدَمَ ظاهرا لأنه يُجَرِّبُ نَفْسَهُ في الْأَطْهَارِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ. وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَنَا تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ في نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عنه لِغَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَيَسْتَوِي في كَرَاهَةِ الْجَمْعِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أو أَمَةً مُسْلِمَةً أو كتابيَّةً لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ لَا يُوجِبُ الْفصل وهو ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَيَسْتَوِي في كَرَاهَةِ الْجَمْعِ وَالْخُلْعِ في الطُّهْرِ الذي لَا جِمَاعَ فيه غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِالْإِجْمَاعِ وفي الطَّلَاقِ الْوَاحِدِ الْبَائِنِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ في كتاب الطَّلَاقِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَذَكَرَ في زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ لَا يُفَارِقُ الرَّجْعِيَّ إلَّا في صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ وَصِفَةُ الْبَيْنُونَةِ لَا تُنَافِي صِفَةَ السُّنَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ قبل الدُّخُولِ بَائِنَةً وَأَنَّهَا سُنَّةٌ وَكَذَا الْخُلْعُ في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه بَائِنٌ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ وَجْهُ رِوَايَةِ كتاب الطَّلَاقِ إن الطَّلَاقَ شُرِعَ في الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِلْحَاجَةِ على ما بَيَّنَّا وَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَائِنِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بالرجعى فَكَانَ الْبَائِنُ طَلَاقًا من غَيْرِ حَاجَةٍ فلم يَكُنْ سُنَّةً وَلِأَنَّ فيه احْتِمَالَ الْوُقُوعِ في الْحَرَامِ لِاحْتِمَالِ النَّدَمِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُرَاجَعَةُ وَرُبَّمَا لَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ في النِّكَاحِ فَيَتْبَعَهَا بِطَرِيقٍ حَرَامٍ وَلَيْسَ في الِامْتِنَاعِ عنه احْتِمَالُ الْوُقُوعِ في الْحَرَامِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عنه بِخِلَافِ الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لِحَاجَةٍ لِأَنَّهُ قد يَحْتَاجُ إلَى الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالطَّلَاقِ الرجعى وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ قبل الدُّخُولِ لَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ إلَّا بَائِنًا فَكَانَ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ فَكَانَ مَسْنُونًا وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ لِأَنَّهُ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْخُلْعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ إلَّا بِصِفَةِ الْإِبَانَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ الْجُنَاحَ في الْخُلْعِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ عز وجل: {فلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}فَدَلَّ على كَوْنِهِ مُبَاحًا مُطْلَقًا ثُمَّ الْبِدْعَةُ في الْوَقْتِ يَخْتَلِفُ فيها الْمَدْخُولُ بها وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بها فَيُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بها في حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ غير الْمَدْخُولِ بها في حَالَةِ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في حَالَةِ الْحَيْضِ لِمَكَانِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك في غَيْرِ الْمَدْخُولِ بها. وَأَمَّا كَوْنُهَا طَاهِرًا من غَيْرِ جِمَاعٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ في غَيْرِ الْمَدْخُولِ بها وَأَمَّا الْبِدْعَةُ في الْعَدَدِ فَيَسْتَوِي فيها الْمَدْخُولُ بها وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بها لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفصل بَيْنَهُمَا وَكَذَا يَسْتَوِي في السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكتابيَّةُ وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَا تُوجِبُ الْفصل بين الْكُلِّ. وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ التي يَقَعُ بها طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ أو أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ أو طَلَاقَ الْجَوْرِ أو طَلَاقَ الْمَعْصِيَةِ أو طَلَاقَ الشَّيْطَانِ فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ في طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا جِمَاعَ فيه وَالْوَاحِدَةِ في طُهْرٍ جَامَعَهَا فيه بِدْعَةٌ وَالطَّلَاقُ في حَالَةِ الْحَيْضِ بِدْعَةٌ فإذا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أنها وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ بها الرَّجْعَةَ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لم يُجْعَلْ لها وَقْتٌ في الشُّرُوعِ لِتَنْصَرِفَ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فَيَلْغُو قَوْلُهُ لِلْبِدْعَةِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ بِهِ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَكَذَلِكَ إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْجَوْرِ أو طَلَاقَ الْمَعْصِيَةِ أو طَلَاقَ الشَّيْطَانِ وَنَوَى الثَّلَاثَ وَإِنْ لم تَكُنْ له نِيَّةٌ فَإِنْ كان في طُهْرٍ جَامَعَهَا فيه أو في حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ من سَاعَتِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ لَا يَقَعْ لِلْحَالِ ما لم تَحِضْ أو يُجَامِعْهَا في ذلك الطُّهْرِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حُكْمُ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ فَهُوَ أَنَّهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُ الناس أنه لَا يَقَعُ وهو مَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَيْضًا وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هذا الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عنه لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا في حَقِّ الْحُكْمِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لنا وِلَايَةَ الْإِيقَاعِ على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَمَنْ جُعِلَ له وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ على وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ على غَيْرِ ذلك الْوَجْهِ كَالْوَكِيلِ بِالطَّلَاقِ على وَجْهِ السُّنَّةِ إذَا طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ بَعْضَ آبَائِهِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا فَذُكِرَ ذلك لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم: «بَانَتْ بِالثَّلَاثِ» في مَعْصِيَةٍ وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إنَّ أَحَدَكُمْ يَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ فَيُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ أَلْفَا ثُمَّ يَأْتِي فيقول يا ابْنَ عَبَّاسٍ يا ابْنَ عَبَّاسٍ وأن اللَّهَ تَعَالَى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجًا}وَإِنَّك لم تَتَّقِ اللَّهَ فَلَا أَجِدُ لَك مَخْرَجًا بَانَتْ امْرَأَتُك وَعَصَيْتَ رَبَّك وَرَوَيْنَا عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان لَا يُؤْتَى بِرَجُلٍ قد طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا إلَّا أَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَأَجَازَ ذلك عليه وَكَانَتْ قَضَايَاهُ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم على ذلك. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أن غير الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا في حَقِّ الْحُكْمِ فَنَعَمْ لَكِنَّ الطَّلَاقَ نَفْسَهُ مَشْرُوعٌ عِنْدَنَا ما فيه حَظْرٌ وَإِنَّمَا الْحَظْرُ وَالْحُرْمَةُ في غَيْرِهِ وهو ما ذَكَرْنَا من الْفَسَادِ وَالْوُقُوعِ في الزِّنَا وَالسَّفَهِ وَتَطْوِيلِ المدة [العدة] وإذا كان مَشْرُوعًا في نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا في حَقِّ الْحُكْمِ وَإِنْ مُنِعَ عنه لِغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ وَالصَّلَاةِ في الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِ ذلك وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن الْوَجْهِ الثَّانِي وهو أَنَّ من وَلِيَ تَصَرُّفًا مَشْرُوعًا لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ إلَّا على الْوَجْهِ الذي ولى لِأَنَّهُ ما أَوْقَعَ الطَّلَاقَ إلَّا على الْوَجْهِ الذي وَلِيَ إيقَاعَهُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ في نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ غير مَشْرُوعٍ إلَّا أَنَّهُ بهذا الطَّلَاقِ بَاشَرَ تَصَرُّفًا مَشْرُوعًا وَارْتَكَبَ مَحْظُورًا فَيَأْثَمُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْمَشْرُوعِ كما في الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَظَائِرِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالطَّلَاقِ على وَجْهِ السُّنَّةِ تَوْكِيلٌ بِطَلَاقٍ مَشْرُوعٍ لَا يتضمه [يتضمنه] ارْتِكَابُ حَرَامٍ بِوَجْهٍ فإذا طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ فَقَدْ أتى بِطَلَاقٍ مَشْرُوعٍ يُلَازِمُهُ حَرَامٌ فلم يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَقَعُ فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الزَّوْجَانِ أما إنْ كَانَا حُرَّيْنِ وأما إنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ وأما إنْ كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَالْحُرُّ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ فَالْعَبْدُ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْأَمَةَ إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّجُلِ في الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ أَمْ بِحَالِ الْمَرْأَةِ قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَبَرُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ وقال الشَّافِعِيُّ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّجُلِ حتى أن الْعَبْدَ إذَا كانت تَحْتَهُ حُرَّةٌ يَمْلِكُ عليها ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ عليها إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ وَالْحُرُّ إذَا كانت تَحْتَهُ أَمَةٌ لَا يَمْلِكُ عليها إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَمْلِكُ عليها ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِنَا وَعَنْ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ مِثْلُ قَوْلِهِ وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِ أَيِّهِمَا كان رَقِيقًا وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ وَالْمُرَادُ منه اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ في الْقَدْرِ وَالْعَدَدِ لَا الْإِيقَاعُ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا يُشْكِلُ. وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال يُطَلِّقُ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ بِحَيْضَتَيْنِ من غَيْرِ فصل بين ما إذَا كانت تَحْتَهُ أَمَةٌ أو حُرَّةٌ وَلِأَنَّ الرِّقَّ إنَّمَا يُؤَثِّرُ في نُقْصَانِ الْحِلِّ لِكَوْنِ الْحِلِّ نِعْمَةً وَأَنَّهُ نِعْمَةٌ في جَانِبِ الرَّجُلِ لَا في جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مَرْقُوقَةٌ فَلَا يُؤَثِّرُ رِقُّهَا في نُقْصَانِ الْحِلِّ وَلَنَا الْكتاب وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكتاب فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}إلَى قَوْلِهِ عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}وَالنَّصُّ وَرَدَ في الْحُرَّةِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حِلَّ الْحُرَّةِ يَزُولُ بِالثَّلَاثِ من غَيْرِ فصل بين ما إذَا كانت تَحْتَ حُرٍّ أو تَحْتَ عَبْدٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ في الْحُرَّةِ قَرَائِنُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَحَدُهَا أَنَّهُ قال تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ الِافْتِدَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَالثَّانِي قَوْلُهُ عز وجل: {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ إنْكَاحَ نَفْسِهَا من غَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَالثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}أَيْ يَتَنَاكَحَا بَعْدَ طَلَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَذَا في الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَاقَ جِنْسِ الْإِمَاءِ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ لَامَ الْجِنْسِ على الْإِمَاءِ كَأَنَّهُ قال طَلَاقُ كل أَمَةٍ ثِنْتَانِ من غَيْرِ فصل بين ما إذَا كان زَوْجُهَا حُرًّا أو عَبْدًا وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ في الطَّلَاقِ هو الْحَظْرُ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّ عِنْدَ ذلك تَصِيرُ الْمَصْلَحَةُ في الطَّلَاقِ لِيَزْدَوِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ممن [بمن] يُوَافِقُهُ فَتَحْصُلُ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّ احْتِمَال النَّدَمِ من الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ كما أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلك أَمْرًا}فَلَوْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ ولم يُشَرَّعْ طَلَاقٌ آخَرُ حتى يَتَأَمَّلَ الزَّوْجُ فيه رُبَّمَا يَنْدَمُ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِالرَّجْعَةِ وَلَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ في النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها فَيَقَعُ في الزِّنَا فَأُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بها في الْحُرَّةِ إذَا كانت تَحْتَ حُرٍّ أو [وعبد] عبد إظْهَارًا لِخَطَرِ النِّكَاحِ وَإِبَانَةً لِشَرَفِهِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ في الْأَمَةِ في الشَّرَفِ وَالْخَطَرِ دُونَ مِلْكِ النِّكَاحِ في الْحُرَّةِ لِأَنَّ شَرَفَ النِّكَاحِ وَخَطَرَهُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ منها الْوَلَدُ وَالسَّكَنُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ في نِكَاحِ الْأَمَةِ دُونَهُمَا في نِكَاحِ الْحُرَّةِ لِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ حُرٌّ وَوَلَدَ الرَّقِيقَةِ رَقِيقٌ وَالْمَقْصُودُ من الْوَلَدِ الِاسْتِئْنَاسُ وَالِاسْتِنْصَارُ بِهِ في الدُّنْيَا وَالدَّعْوَةُ الصَّالِحَةُ في الْعُقْبَى وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ من الْوَلَدِ الرَّقِيقِ مِثْلُ ما يَحْصُلُ من الْحُرِّ لِكَوْنِ الْمَرْقُوقِ مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى وَكَذَا سُكُونُ نَفْسِ الزَّوْجِ إلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ مِثْلَ سُكُونِهِ إلَى امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ فلم يَكُنْ هذا في مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَبَقِيَتْ الطَّلْقَةُ فيه على أَصْلِ الْحَظْرِ وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ زَوَالُ الْحِلِّ وهو حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحِلِّ وَحِلُّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ من حِلِّ الْحُرَّةِ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنْقِصُ الْحِلَّ لِأَنَّ الْحِلَّ نِعْمَةٌ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى النَّعْمَةِ وَهِيَ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى النَّعْمَةِ نِعْمَةٌ وَلِلرِّقِّ أَثَرٌ في نُقْصَانِ النِّعْمَةِ وَلِهَذَا أَثَرٌ في نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ حتى يَمْلِكَ الْحُرُّ التَّزَوُّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ إلَّا بِامْرَأَتَيْنِ وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَقَدْ قِيلَ أنهما غَرِيبَانِ ثُمَّ أنهما من الْآحَادِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكتاب الْعَزِيزِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِهِ ثُمَّ نَقُولُ لَا حُجَّةَ فِيهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ الصاق الِاسْمِ بِالِاسْمِ فَيَقْتَضِي مُلْصَقًا مَحْذُوفًا وَالْمُلْصَقُ الْمَحْذُوفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هو الْإِيقَاعُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هو الِاعْتِبَارُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ وَقَوْلُهُ الْإِيقَاعُ لَا يُشْكِلُ مَمْنُوعٌ بَلْ قد يُشْكِلُ وَبَيَانُ الْإِشْكَالِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَرَكٌ بين الزَّوْجَيْنِ في الِانْعِقَادِ وَالْأَصْلُ في كل عَقْدٍ كان انْعِقَادُهُ بِعَاقِدَيْنِ أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُهُ بِهِمَا أَيْضًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا وَالثَّانِي أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا في الْأَحْكَامِ وَالْمَقَاصِدِ فَيُشْكِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِيقَاعُ بِهِمَا على الشَّرِكَةِ فَحَلَّ الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ يُطَلِّقُ ثِنْتَيْنِ وَهَذَا لَا يَنْفِي الثَّالِثَةَ كما يُقَالُ فُلَانٌ يَمْلِكُ دِرْهَمَيْنِ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْأَمَةِ وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ الْمُخْتَصُّ بِالْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَلَوْ مَلَكَ الثَّالِثَةَ عليها لَبَطَلَ الِاخْتِصَاصُ وَمِثَالُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ مَالُ فُلَانٍ دِرْهَمَانِ أَنَّهُ يَنْفِي الزِّيَادَةَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنَّ الْحِلَّ في جَانِبِهَا ليس بِنِعْمَةٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ نِعْمَةٌ في حَقِّهَا أَيْضًا لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى النَّعْمَةِ وَالْمِلْكُ في باب النِّكَاحِ ليس بِمَقْصُودٍ بَلْ هو وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقَاصِدِ التي هِيَ نِعَمٌ وَالْوَسِيلَةُ إلَى النَّعْمَةِ نِعْمَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ الطَّلَاقِ فَرُكْنُ الطَّلَاقِ هو اللَّفْظُ الذي جُعِلَ دَلَالَةً على مَعْنَى الطَّلَاقِ لُغَةً وهو التَّخْلِيَةُ وَالْإِرْسَالُ وَرَفْعُ الْقَيْدِ في الصَّرِيحِ وَقَطْعُ الْوَصْلَةِ وَنَحْوُهُ في الْكِنَايَةِ أو شَرْعًا وهو إزَالَةُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ في النَّوْعَيْنِ أو ما يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ أَمَّا اللَّفْظُ فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ في الْكِنَايَةِ أَنْتِ بَائِنٌ أو ابنتك أو يَقُولَ في الصَّرِيحِ أَنْتِ طَالِقٌ أو طَلَّقْتُكِ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى إلَّا أَنَّ التَّطْلِيقَ وَالطَّلَاقَ في الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلَانِ في الْمَرْأَةِ خَاصَّةً وَالْإِطْلَاقُ يُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهَا يُقَالُ في الْمَرْأَةِ طَلَّقَ يُطَلِّقُ تَطْلِيقًا وَطَلَاقًا وفي الْبَعِيرِ وَالْأَسِيرِ وَنَحْوِهِمَا يُقَالُ أَطْلَقَ يُطْلِقُ إطْلَاقًا وَإِنْ كان الْمَعْنَى في اللَّفْظَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ في اللُّغَةِ وَمِثْلُ هذا جَائِزٌ كما يُقَالُ حَصَانٌ وَحِصَانٌ وَعَدِيلٌ وَعَدْلٌ فَالْحَصَانُ بِفَتْحِ الْحَاءِ يُسْتَعْمَلُ في الْمَرْأَةِ وَبِالْخَفْضِ يُسْتَعْمَلُ في الْفَرَسِ وَإِنْ كَانَا يَدُلَّانِ على مَعْنَى وَاحِدٍ لُغَةً وهو الْمَنْعُ وَالْعَدِيلُ يُسْتَعْمَلُ في الْآدَمِيِّ وَالْعَدْلُ فِيمَا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ في الْمُعَادَلَةِ في اللُّغَةِ كَذَا هذا وَلِهَذَا قالوا إنَّ من قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ مُطْلَقَةٌ مُخَفِّفًا يَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ في الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ في إثْبَاتِ الِانْطِلَاقِ عن الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ الْحَقِيقِيِّ فَلَا يُحْمَلُ على الْقَيْدِ الْحُكْمِيِّ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيَسْتَوِي في الرُّكْنِ ذِكْرُ التَّطْلِيقَةِ وَبَعْضِهَا حتى لو قال لها أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ أو رُبْعَ تَطْلِيقَةٍ أو ثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ أو نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أو جزأ من أَلْفِ جُزْءٍ من تَطْلِيقَةٍ يَقَعُ تَطْلِيقَةً كَامِلَةً وَهَذَا على قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وقال رَبِيعَةُ الرَّأْيُ لَا يَقَعُ عليها شَيْءٌ لِأَنَّ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ لَا يَكُونُ تَطْلِيقَةً حَقِيقَةً بَلْ هو بَعْضُ تَطْلِيقَةٍ وَبَعْضُ الشَّيْءِ ليس عَيْنَ ذلك الشَّيْءِ إنْ لم يَكُنْ له غَيْرُهُ وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرٌ لِكُلِّهِ كَالْعَفْوِ عن بَعْضِ الْقِصَاصِ أَنَّهُ يَكُونُ عَفْوًا عن الْكُلِّ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَنِصْفَ أو وَاحِدَةً وَثُلُثَ طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ لِأَنَّ الْبَعْضَ من تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ بِخِلَافِ ما إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفَهَا أو ثُلُثَهَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ هُنَاكَ أَضَافَ النِّصْفَ إلَى الْوَاحِدَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْوَاقِعُ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ ثَانِيًا وَهُنَا ذَكَرَ نصفا [نصا] مُنَكَّرًا غير مُضَافٍ إلَى وَاقِعٍ فَيَكُونُ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ سُدُسَ تَطْلِيقَةٍ أو ثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ أو نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أو ثُلُثَيْ تَطْلِيقَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من التَّطْلِيقَةِ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ هذا إذَا كانت مَدْخُولًا بها فَإِنْ كانت غير مَدْخُولٍ بها فَلَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى كما إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ سُدُسَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَنِصْفَهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ الْعَدَدُ عن وَاحِدَةٍ لو جُمِعَ ذلك فَهُوَ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ تَجَاوَزَ بِأَنْ قال أَنْتِ طَالِقٌ سُدُسَ تَطْلِيقَةٍ وَرُبْعَهَا وَثُلُثَهَا وَنِصْفَهَا لم يُذْكَرْ هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ وقال بَعْضُهُمْ يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ فَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِ تَطْلِيقَةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَلَوْ كان أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فقال بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةٌ طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ إذَا قُسِّمَتْ على أَرْبَعٍ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ رُبْعُهَا وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ وَكَذَلِكَ إذَا قال بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَتَانِ أو ثَلَاثٌ أو أَرْبَعٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَتَيْنِ إذَا انْقَسَمَتَا بين الْأَرْبَعِ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَنِصْفُ التَّطْلِيقَةِ تَطْلِيقَةٌ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُقَسِّمُ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بِحِيَالِهَا على الْأَرْبَعِ فَيَلْزَمُ تَطْلِيقَتَانِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ما فَعَلَ هَكَذَا بَلْ جَعَلَ التَّطْلِيقَتَيْنِ جميعا بين الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ لَا يَتَفَاوَتُ وَالْقِسْمَةُ في الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الذي لَا يَتَفَاوَتُ يَقَعُ على جُمْلَتِهِ وَإِنَّمَا يُقْسَمُ الْآحَادُ إذَا كان الشَّيْءُ مُتَفَاوِتًا فَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ تَطْلِيقَةٍ على حِيَالِهَا بَيْنَهُنَّ يَكُونُ على ما نَوَى وَيَقَعُ على كل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وهو غَيْرُ مُتَّهَمٍ فيه لِأَنَّهُ شَدَّدَ على نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ. وَلَوْ قال بَيْنَكُنَّ خَمْسُ تَطْلِيقَاتٍ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ لِأَنَّ الْخَمْسَ إذَا قُسِّمَتْ على الْأَرْبَعِ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَطْلِيقَةٌ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَيَكُونُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَعَلَى هذا ما زَادَ على خَمْسَةٍ إلَى ثَمَانِيَةٍ فَإِنْ قال بَيْنَكُنَّ تِسْعُ تَطْلِيقَاتٍ وَقَعَتْ على كل وَاحِدَةٍ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّ التِّسْعَ إذَا قُسِّمَتْ على أَرْبَعٍ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَانِ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَيَقَعُ على كل وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةٌ وَعَلَى هذا قالوا لو قال أَشْرَكْتُ بَيْنَكُنَّ في تَطْلِيقَتَيْنِ أو في ثَلَاثٍ أو أَرْبَعٍ أو خَمْسٍ أو سِتٍّ أو سَبْعٍ أو ثَمَانٍ أو تِسْعٍ أن هذا وَقَوْلُهُ بَيْنَكُنَّ سَوَاءٌ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْبَيْنِ تنبىء [تنبي] عن الشَّرِكَةِ فَقَوْلُهُ بَيْنَكُنَّ كَذَا مَعْنَاهُ أَشْرَكْتُ بَيْنَكُنَّ كَذَا بِخِلَافِ ما إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً له تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ قال لِأُخْرَى قد أَشْرَكْتُكِ في طَلَاقِهَا أَنَّهُ يَقَعُ عليها تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْرَكْتُك في طَلَاقِهَا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ في الْوَاقِعِ وَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ في الْوَاقِعِ إلَّا بِثُبُوتِ الشَّرِكَةِ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُ التَّطْلِيقَةِ الْوَاقِعَةِ عنها وَإِيقَاعُهَا على الْأُخْرَى فَلَزِمَتْ الشَّرِكَةُ في كل وَاحِدَةٍ من التَّطْلِيقَتَيْنِ على الِانْفِرَادِ وَهَذَا يُوجِبُ وُقُوعَ تَطْلِيقَتَيْنِ على الْأُخْرَى وَسَوَاءٌ كان مُبَاشَرَةُ الرُّكْنِ من الزَّوْجِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ أو من غَيْرِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عنه بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا تَجْرِي فيه النِّيَابَةُ فَكَانَ فِعْلُ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عنه وَأَمَّا الذي يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَالْكتابةُ وَالْإِشَارَةُ على ما نُذْكَرُ إن شاء الله تعالى.
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الزَّوْجِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الزَّوْجِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا حَقِيقَةً أو تَقْدِيرًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ بِهِ يَعْرِفُ كَوْنَ التَّصَرُّفِ مَصْلَحَةً وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ ما شُرِعَتْ إلَّا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَمَّا السَّكْرَانُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ كان سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أو النبي صلى الله عليه وسلمذَ طَوْعًا حتى سَكِرَ وَزَالَ عَقْلُهُ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنْ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَجْهُ قَوْلِهِمْ أن عَقْلَهُ زَائِلٌ وَالْعَقْلُ من شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ وَاَلَّذِي زَالَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ كَذَا هذا وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ طَلَاقُهُ أَوْلَى وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عز وجل: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}من غَيْرِ فصل بين السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إلَّا من خُصَّ بِدَلِيلٍ. وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَلِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ بِسَبَبٍ هو مَعْصِيَةٌ فَيُنَزَّلُ قَائِمًا عُقُوبَةً عليه وَزَجْرًا له عن ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ وَلِهَذَا لو قَذَفَ إنْسَانَا أو قَتَلَ يَجِبُ عليه الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ وَأَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ على غَيْرِ الْعَاقِلِ دَلَّ أَنَّ عَقْلَهُ جُعِلَ قَائِمًا وقد يعطي لِلزَّائِلِ حَقِيقَةَ حُكْمِ الْقَائِمِ تَقْدِيرًا إذَا زَالَ بِسَبَبٍ هو مَعْصِيَةٌ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ كَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ أَنَّهُ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَيُجْعَلُ الْمُوَرِّثُ حَيًّا زَجْرًا لِلْقَاتِلِ وَعُقُوبَةً عليه بِخِلَافِ ما إذَا زَالَ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ لِأَنَّهُ ما زَالَ بِسَبَبٍ هو مَعْصِيَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ رِدَّةُ السَّكْرَانِ اسْتِحْسَانًا نَظَرًا له لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَقْلِ تَقْدِيرًا بَعْدَ زَوَالِهِ حَقِيقَةٌ لِلزَّجْرِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الزَّاجِرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَيْهِ طَبْعًا وَالرِّدَّةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي إلَيْهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبْقَاءِ عَقْلِهِ فيها لِلزَّجْرِ وَلِأَنَّ جِهَةَ زَوَالِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً يقتضي [تقتضي] بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَجِهَةَ بَقَائِهِ تَقْدِيرًا يقتضي [تقتضي] زَوَالَ الْإِسْلَامِ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْبَقَاءِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عليه وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إذَا أُكْرِهَ على الْإِسْلَامِ وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ على إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كان مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ كَذَا هذا وَإِنْ كان سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَكِنْ حَصَلَ له بِهِ لَذَّةٌ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا حتى سَكِرَ أو شَرِبَهَا عِنْدَ ضَرُورَةِ الْعَطَشِ فَسَكِرَ قالوا إنْ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ فَإِنَّمَا حَصَلَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِلَذَّةٍ فَيُجْعَلُ قَائِمًا وَيُلْحَقُ الْإِكْرَاهُ وَالِاضْطِرَارُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ شَرِبَ طَائِعًا حتى سَكِرَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ شَرِبَ النبي صلى الله عليه وسلمذَ ولم يَزُلْ عَقْلُهُ وَلَكِنْ صُدِّعَ فَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ ما زَالَ عَقْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا بِلَذَّةٍ فَكَانَ زَائِلًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا وَكَذَلِكَ إذَا شَرِبَ الْبَنْجَ أو الدَّوَاءَ الذي يُسْكِرُ وَزَالَ عَقْلُهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِمَا قُلْنَا وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَعْتُوهًا وَلَا مَدْهُوشًا وَلَا مُبَرْسَمًا وَلَا مغمى [مغميا] عليه وَلَا نَائِمًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ هَؤُلَاءِ لِمَا قُلْنَا في الْمَجْنُونِ وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كان عَاقِلًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لم يُشْرَعْ إلَّا عِنْدَ خُرُوجِ النِّكَاحِ من أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذلك بِالتَّأَمُّلِ وَالصَّبِيُّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَتَأَمَّلُ فَلَا يَعْرِفُ وَأَمَّا كَوْنُ الزَّوْجِ طَائِعًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ حتى يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في كتاب الْإِكْرَاهِ إن شاء الله تعالى. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ امْرَأَةً اعْتَقَلَتْ زَوْجَهَا وَجَلَسَتْ على صَدْرِهِ وَمَعَهَا شَفْرَةٌ فَوَضَعَتْهَا على حَلْقِهِ وَقَالَتْ لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا أو لَأُنْفِذَنَّهَا فَنَاشَدَهَا اللَّهَ أَنْ لَا تَفْعَلَ فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال لَا قَيْلُولَةَ في الطَّلَاقِ وَكَذَا كَوْنُهُ جَادًّا ليس بِشَرْطٍ فَيَقَعُ طَلَاقُ الْهَازِلِ بِالطَّلَاقِ وَاللَّاعِبِ لِمَا روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وروى النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ. وَعَنْ أبي الدَّرْدَاءِ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من لَعِبَ بِطَلَاقٍ أو عَتَاقٍ لَزِمَهُ وَقِيلَ فيه نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}وكان الرَّجُلُ في الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُ فيقول كُنْت لَاعِبًا وَيُعْتِقُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ فيقول كُنْت لَاعِبًا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم: «من طَلَّقَ أو حَرَّرَ أو نَكَحَ فقال إنِّي كُنْت لَاعِبًا فَهُوَ جَائِزٌ منه» وَكَذَا التَّكَلُّمُ بِالطَّلَاقِ ليس بِشَرْطٍ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكتابةِ الْمُسْتَبِينَةِ وَبِالْإِشَارَةِ الْمَفْهُومَةِ من الْأَخْرَسِ لِأَنَّ الْكتابةَ الْمُسْتَبِينَةَ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةَ الْمَفْهُومَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ وَكَذَا الْخُلُوُّ عن شَرْطِ الْخِيَارِ ليس بِشَرْطٍ فَيَقَعُ طَلَاقُ شَارِطِ الْخِيَارِ في باب الطَّلَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلتَّمَكُّنِ من الْفَسْخِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَاَلَّذِي من جَانِبِ الزَّوْجِ وهو الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم: «لَا قَيْلُولَةَ في الطَّلَاقِ». وَأَمَّا الْخُلُوُّ عن شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمَرْأَةِ في الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ فَشَرْطٌ لِأَنَّ الذي من جَانِبِهَا الْمَالُ فَكَانَ من جَانِبِهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ وَأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَسْخِ فَصَحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فيها فَيُمْنَعُ انْعِقَادُ السَّبَبِ كَالْبَيْعِ حتى أنها لو رُدَّتْ بِحُكْمِ الْخِيَارِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَكَذَا صِحَّةُ الزَّوْجِ ليس بِشَرْطٍ وَكَذَا إسْلَامُهُ فَيَقَعُ طَلَاقُ الْمَرِيضِ وَالْكَافِرِ لِأَنَّ الْمَرَضَ وَالْكُفْرَ لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الطَّلَاقِ وَكَذَا كَوْنُهُ عَامِدًا ليس بِشَرْطٍ حتى يَقَعَ طَلَاقُ الخاطىء وهو الذي يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْخَطَأِ ليس إلَّا الْقَصْدُ وَأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ كَالْهَازِلِ وَاللَّاعِبِ بِالطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ لِمَا قُلْنَا في الطَّلَاقِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ في الْعَتَاقِ رِوَايَتَيْنِ فإن هِشَامًا رَوَى عن مُحَمَّدٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ من أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ اسْقِينِي مَاءً فقال لها أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ وَلَوْ أَرَادَ ذلك في الْعَبْدِ فقال أنت حُرٌّ لم يَقَعْ وَرَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ الْكَنَدِيُّ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وهو الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ أَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ ثَبَتَ بِسَبَبٍ يَتَسَاوَى فيه الْقَصْدُ وَعَدَمُ الْقَصْدِ وهو النِّكَاحُ فَعَلَى ذلك زَوَالُهُ بِخِلَافِ مِلْكِ الْعَبْدِ فإنه يَثْبُتُ بِسَبَبٍ مُخْتَلِفٌ فيه الْقَصْدُ وَعَدَمُ الْقَصْدِ وهو الْبَيْعُ وَنَحْوُ ذلك فَكَذَلِكَ زَوَالُهُ وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ قد يُشْرَطُ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ من الشَّرَائِطِ ما لَا يُشْرَطُ لِزَوَالِهِ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِالثُّبُوتِ على الزَّوَالِ اسْتِدْلَالًا فَاسِدًا.
وَمِنْهَا النِّيَّةُ في أَحَدِ نَوْعَيْ الطَّلَاقِ وهو الْكِنَايَةُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا الشَّرْطِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ الْأَلْفَاظِ التي يَقَعُ بها الطَّلَاقُ في الشَّرْعِ وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَةِ الْوَاقِعِ بها أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَلْفَاظُ التي يَقَعُ بها الطَّلَاقُ في الشَّرْعِ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ اللَّفْظُ الذي لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في حَلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ وهو لَفْظُ الطَّلَاقِ أو التَّطْلِيقِ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أو أَنْتِ الطَّلَاقُ أو طَلَّقْتُكِ أو أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ مُشَدَّدًا سُمِّيَ هذا النَّوْعُ صَرِيحًا لِأَنَّ الصَّرِيحَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هو ظَاهِرُ الْمُرَادِ مَكْشُوفُ الْمَعْنَى عِنْدَ السَّامِعِ من قَوْلِهِمْ صَرَّحَ فُلَانٌ بِالْأَمْرِ أَيْ كَشَفَهُ وَأَوْضَحَهُ. وَسُمِّيَ الْبِنَاءُ الْمُشْرِفُ صَرْحًا لِظُهُورِهِ على سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ ظَاهِرَةُ الْمُرَادِ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا في الطَّلَاقِ عن قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُحْتَاجُ فيها إلَى النِّيَّةِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إذْ النِّيَّةُ عَمَلُهَا في تَعْيِينِ الْمُبْهَمِ وَلَا إبْهَامَ فيها وقال اللَّهُ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}شَرَعَ الطَّلَاقَ من غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}مُطْلَقًا وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}حَكَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِزَوَالِ الْحِلِّ مُطْلَقًا عن شَرْطِ النِّيَّةِ. وَرَوَيْنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ في حَالِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ رسول اللَّهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا ولم يَسْأَلْهُ هل نَوَى الطَّلَاقَ أو لم يَنْوِ وَلَوْ كانت النِّيَّةُ شَرْطًا لَسَأَلَهُ ولامراجعة إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَدَلَّ على وُقُوعِ الطَّلَاقِ من غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَوْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قال أَرَدْتُ أنها طَالِقٌ من وَثَاقٍ لم يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هذا الْكَلَامِ الطَّلَاقُ عن قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي في صَرْفِ الْكَلَامِ عن ظَاهِرِهِ وَكَذَا لَا يَسَعُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُصَدِّقَهُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ في الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ على قَلْبِهِ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ وقال أَرَدْتُ أنها طَالِقٌ من الْعَمَلِ لم يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ هذا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ في الطَّلَاقِ عن الْعَمَلِ فَقَدْ نَوَى ما لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ أَصْلًا فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قال أَنْتِ طَالِقٌ وقال نَوَيْتُ الطَّلَاقَ من عَمَلٍ أو قَيْدٍ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ من هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَقِيقَةً فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ فَجَازَ أَنْ يُصَدَّقَ فيه وَلَوْ صَرَّحَ فقال أَنْتِ طَالِقٌ من وَثَاقٍ لم يَقَعْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قد تُوصَفُ بِأَنَّهَا طَالِقٌ من وَثَاقٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فإذا صَرَّحَ بِهِ يُحْمَلُ عليه وَإِنْ صَرَّحَ فقال أَنْتِ طَالِقٌ من هذا الْعَمَلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ هذا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ في الطَّلَاقِ عن الْعَمَلِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ في الْجُمْلَةِ وَإِنْ كان خِلَافَ الظَّاهِرِ وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ أَيْضًا في الْقَضَاءِ وَلَوْ قال أَنْتِ أَطْلَقُ من امْرَأَةِ فُلَانٍ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ فَذَلِكَ على نِيَّتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ لفظه أَفْعَلَ لَيْسَتْ صريحا [صريحة] في الْكَلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ من قال لِآخَرَ أنت أَزْنَى من فُلَانٍ لم يَكُنْ قَذْفًا صَرِيحًا حتى لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَرِيحَ الْقَذْفِ يُوجِبُ الْحَدَّ وإذا لم يَكُنْ صَرِيحًا وُقِفَ على النِّيَّةِ إلَّا إذَا خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ السُّؤَالِ وَكَذَا إذَا قال لها أَنْتِ مُطْلَقَةٌ وَخَفَّفَ فَهُوَ على نِيَّتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِانْطِلَاقَ لَا يُسْتَعْمَلُ في قَيْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ في الْقَيْدِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحَبْسِ فلم يَكُنْ صَرِيحًا فَوَقَفَ على النِّيَّةِ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ كُونِي طَالِقًا أو اطلقي قال أَرَاهُ وَاقِعًا لِأَنَّ قَوْلَهُ كُونِي ليس أَمْرًا حَقِيقَةً وَإِنْ كانت صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ بَلْ هو عِبَارَةٌ عن إثْبَاتِ كَوْنِهَا طَالِقًا كما في قَوْله تَعَالَى: {كُنْ فَيَكُونُ}أن قَوْلَهُ كُنْ ليس بِأَمْرٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كانت صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ بَلْ هو كِنَايَةٌ عن التَّكْوِينِ وَلَا تَكُونُ طَالِقًا إلَّا بِالطَّلَاقِ وَكَذَا قَوْلُهُ اُطْلُقِي وَكَذَلِكَ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ كُونِي حُرَّةً أو اعتقي [عتقى] وَلَوْ قال يا مُطَلَّقَةُ وَقَعَ عليها الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً وَلَا تَكُونُ مُطَلَّقَةً إلَّا بِالتَّطْلِيقِ فَإِنْ قال أَرَدْتُ بِهِ الشَّتْمَ لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ نَوَى فِيمَا هو وَصْفٌ أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفًا فَكَانَ عُدُولًا عن الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ قد يُرَادُ بمثله الشَّتْمُ وَلَوْ كان لها زَوْجٌ قَبْلَهُ فقال عَنَيْتُ ذلك الطَّلَاقَ دِينَ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً في نَفْسِهَا من غَيْرِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ وقد تَكُونُ مُطَلَّقَتَهُ وقد تَكُونُ مُطْلَقَةَ. زَوْجِهَا الْأَوَّلِ فَالنِّيَّةُ صَادَفَتْ مَحَلَّهَا فَصُدِّقَ في الْقَضَاءِ وإذا لم يَكُنْ لها زَوْجٌ قَبْلَهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةَ غَيْرِهِ فَانْصَرَفَ الْوَصْفُ إلَى كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً له وَلَوْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ أو قال أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أو قال قد طَلَّقْتُكِ قد طَلَّقْتُكِ أو قال أَنْتِ طَالِقٌ قد طَلَّقْتُكِ يَقَعُ ثِنْتَانِ إذَا كانت الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بها لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إيقَاعٌ تَامٌّ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْوُقُوعِ وَلَوْ قال عَنَيْتُ بِالثَّانِي الْإِخْبَارَ عن الْأَوَّلِ لم يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ في عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ في إنْشَاءِ الطَّلَاقِ فَصَرْفُهَا إلَى الْإِخْبَارِ يَكُونُ عُدُولًا عن الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْحُكْمِ المدعو وَيُصَدَّقُ فيمابينه وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ صِيغَتَهَا صِيغَةُ الْإِخْبَارِ. وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فقال له رَجُلٌ ما قُلْتَ فقال طَلَّقْتُهَا أو قال قلت هِيَ طَالِقٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ كَلَامَهُ انْصَرَفَ إلَى الْإِخْبَارِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِخْبَارِ وَأَمَّا الطَّلَاقُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه أَنَّهُ قال في فَارِسِيٍّ قال لِامْرَأَتِهِ بهشتم إنْ زن أو قال إنْ زن بهشتم أو قال بهشتم لَا يَكُونُ ذلك طَلَاقًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ لِأَنَّ مَعْنَى هذا اللَّفْظِ بِالْعَرَبِيَّةِ خَلَّيْتُ وَقَوْلُهُ خَلَّيْتُ من كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَكَذَا هذا اللَّفْظُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فَرَّقَ بين اللَّفْظَيْنِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قال إذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ خَلَّيْتُ يَقَعُ بَائِنًا وإذا نَوَى الطَّلَاقَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ يَقَعُ رَجْعِيًّا لِأَنَّ هذا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا في لُغَتِهِمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي قال إنَّ قَوْلَهُ خَلَّيْتُ في حَالِ الْغَضَبِ وفي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يَكُونُ طَلَاقًا حتى لَا يُدَيَّنَ في قَوْلِهِ إنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ وَهَذَا اللَّفْظُ في هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا حتى لو قال ما أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُدَيَّنُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ هذا اللَّفْظَ أُقِيمَ مَقَامَ التَّخْلِيَةِ فَكَانَ أَضْعَفَ من التَّخْلِيَةِ فَلَا تَعْمَلُ فيه دَلَالَةُ الْحَالِ ولم يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِيمَا سِوَى ذلك حتى قال إنْ نَوَى بَائِنًا يَكُونُ بَائِنًا وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا كما لو قال خَلَّيْتُ وَنَوَى الْبَائِنَ أو الثَّلَاثَ وَلَوْ نَوَى اثنتين يَكُونُ وَاحِدَةً كما في قَوْلِهِ خَلَّيْتُ إلَّا أَنَّ هَهُنَا يَكُونُ وَاحِدَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بِخِلَافِ لَفْظَةِ التَّخْلِيَةِ لِمَا بَيَّنَّا. وقال أبو يُوسُفَ إذَا قال بهشتم إنْ زن أو قال إنْ زن بهشتم فهي [هي] طَالِقٌ نَوَى الطَّلَاقَ أو لو يَنْوِ وتكون [ويكون] تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَالَطَ الْعَجَمَ وَدَخَلَ جُرْجَانَ فَعَرَفَ أَنَّ هذا اللَّفْظَ في لُغَتِهِمْ صَرِيحٌ قال وَإِنْ قال بهشتم ولم يَقُلْ إنْ زن فَإِنْ قال ذلك في حَالِ سُؤَالِ الطَّلَاقِ أو في حَالِ الْغَضَبِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يُدَيَّنُ أنه ما أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ في الْقَضَاءِ وَإِنْ قال في غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ وَمُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يُدَيَّنُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ بهشتم خَلَّيْتُ وَلَيْسَ في قَوْلِهِ خَلَّيْتُ إضَافَةٌ إلَى النِّكَاحِ وَلَا إلَى الزَّوْجَةِ فَلَا يُحْمَلُ على الطَّلَاقِ إلَّا بِقَرِينَةِ نِيَّةٍ أو بِدَلَالَةِ حَالٍ وَحَالُ الْغَضَبِ وَمُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ دَلِيلُ إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ في الصَّرْفِ عن الظَّاهِرِ قال وَإِنْ نَوَى بَائِنًا فَبَائِنٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ لِأَنَّ هذا اللَّفْظَ وَإِنْ كان صَرِيحًا في الْفَارِسِيَّةِ فَمَعْنَاهُ التَّخْلِيَةُ في الْعَرَبِيَّةِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبَيْنُونَةِ وَالثَّلَاثِ كَلَفْظَةِ التَّخْلِيَةِ فَجَازَ أَنْ يُحْمَلَ عليه بِالنِّيَّةِ. وقال مُحَمَّدٌ في قَوْلِهِ بهشتم إنْ زن أو إنْ زن بهشتم أن هذا صَرِيحُ الطَّلَاقِ كما قال أبو يُوسُفَ وقال في قَوْلِهِ بهشتم أنه إنْ كان في حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ وَلَا يُدَيَّنُ أنه ما أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ وَإِنْ لم يَكُنْ في حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يُدَيَّنُ سَوَاءٌ كان في حَالِ الْغَضَبِ أو الرِّضَا لِأَنَّ مَعْنَى هذا اللَّفْظِ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنْتِ مُخَلَّاةٌ أو قد خَلَّيْتُكِ وقال زُفَرُ إذَا قال بهشتم وَنَوَى الطَّلَاقَ بَائِنًا أو غير بَائِنٍ فَهُوَ بَائِنٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَاثْنَتَانِ وأجرى هذه اللَّفْظَةُ مَجْرَى قَوْلِهِ خَلَّيْتُ وَلَوْ قال خَلَّيْتُكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ نَوَى الْبَيْنُونَةَ أو لم يَنْوِ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ يَكُونُ اثْنَتَيْنِ على أَصْلِهِ فَكَذَا هذا هذا ما نُقِلَ عن أَصْحَابِنَا في الطَّلَاقِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالْأَصْلُ الذي عليه الْفَتْوَى في زَمَانِنَا هذا في الطَّلَاقِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَنَّهُ إنْ كان فيها لَفْظٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الطَّلَاقِ فَذَلِكَ اللَّفْظُ صَرِيحٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ من غَيْرِ نِيَّةٍ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ في عُرْفِ دِيَارِنَا دها كنم أو في عُرْفِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ بهشتم لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وما كان في الْفَارِسِيَّةِ من الْأَلْفَاظِ ما يُسْتَعْمَلُ في الطَّلَاقِ وفي غَيْرِهِ فَهُوَ من كِنَايَاتِ الْفَارِسِيَّةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ كِنَايَاتِ الْعَرَبِيَّةِ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَالله أعلم. وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الْإِبَانَةَ فَقَدْ لَغَتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الْبَيْنُونَةَ بهذا اللَّفْظِ مُؤَجَّلًا إلَى ما بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فإذا نَوَى إبَانَتَهَا لِلْحَالِ مُعَجَّلًا فَقَدْ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَلَيْسَ له هذه الْوِلَايَةُ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا لَغَتْ نِيَّتُهُ أَيْضًا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ طَالِقٌ مُشْتَقٌّ من الطَّلَاقِ كَالضَّارِبِ وَنَحْوِهِ فيدل [يدل] على ثُبُوتِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ وهو الطَّلَاقُ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَقَّةِ من الْمَعَانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الضَّارِبُ بِلَا ضَرْبٍ وَالْقَاتِلُ بِلَا قَتْلٍ فلا يُتَصَوَّرُ الطَّالِقُ بِلَا طَلَاقٍ فَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَصَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ منه كما لو نَصَّ على الطَّلَاقِ فقال أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا وَكَمَا لو قال أَنْتِ بَائِنٌ وَنَوَى الثَّلَاثَ أَنَّهُ تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ عز وجل: {وإذا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فأمسكوهن بِمَعْرُوفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ}أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِلْمُطَلِّقِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فصل بين ما إذَا نَوَى الثَّلَاثَ أو لم يَنْوِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ عِنْدَ مُطْلَقِ التَّطْلِيقِ إلَّا بِمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ كماإذا قال لها اسْقِينِي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ نَوَى الثَّلَاثَ وَقَوْلُهُ طَالِقٌ لَا يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إن طَالِقٌ اسْمٌ لِلذَّاتِ وَذَاتُهَا وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ ثَبَتَ مُقْتَضَى الطَّالِقِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا لِأَنَّ الطَّالِقَ بِدُونِ الطَّلَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ كَالضَّارِبِ بِدُونِ الضَّرْبِ وَهَذَا الْمُقْتَضَى غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ في نَفْسِهِ فَكَانَ عَدَمًا فِيمَا وَرَاءَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَذَلِكَ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في الثَّابِتِ ضَرُورَةً أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في قَبُولِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَلَا يَثْبُتُ فيه بِخِلَافِ ما إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ مَنْصُوصٌ عليه فَكَانَ ثَابِتًا من جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَيَثْبُتُ في حَقِّ قَبُولِ النِّيَّةِ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ لِأَنَّ الْبَائِنَ مُقْتَضَاهُ الْبَيْنُونَةُ وأنها مُتَنَوِّعَةٌ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ فَكَانَ اسْمُ الْبَائِنِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ لِتَنَوُّعِ مَحَلِّ الِاشْتِقَاقِ وهو الْبَيْنُونَةُ كَاسْمِ الْجَالِسِ يُقَالُ جالس [جلس] أَيْ قَعَدَ وجلس [ويقال] أَيْ أتى نجد [نجدا] فَكَانَ الْجَالِسُ من الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ لِتَنَوُّعِ مَحَلِّ الِاشْتِقَاقِ وهو الْجُلُوسُ فَكَذَا الْبَائِنُ وَالِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ منه إلَّا بِمُعَيَّنٍ فإذا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ عَيَّنَ إحْدَى نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وإذا لم يَكُنْ له لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْمُعَيَّنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَالِقٌ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من الطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ في نَفْسِهِ لَا يَتَنَوَّعُ لِأَنَّهُ رَفْعُ الْقَيْدِ وَالْقَيْدُ نَوْعٌ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ صَارَ مَذْكُورًا على الْإِطْلَاقِ لَكِنَّهُ في اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن رَفْعِ قَيْدِ النِّكَاحِ وَالْقَيْدُ في نِكَاحٍ وَاحِدٌ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ وَاحِدًا ضَرُورَةً فإذا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى الْعَدَدَ فِيمَا لَا عَدَدَ له فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ الثَّلَاثُ أَصْلًا لِأَنَّ وُقُوعَهُ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا فَإِنْ لم تَكُنْ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا كان ثَلَاثًا كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ وفي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ لِلتَّأْكِيدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ طَالِقٌ فيقتضي [يقتضي] الطَّلَاقَ فَكَانَ قَوْلُهُ طَلَاقًا تَنْصِيصًا على الْمَصْدَرِ الذي اقْتَضَاهُ الطَّالِقُ فَكَانَ تَأْكِيدًا كما يُقَالُ قُمْت قِيَامًا وَأَكَلْت أَكْلًا فَلَا يُفِيدُ إلَّا ما أَفَادَهُ الْمُؤَكِّدُ وهو قَوْلُهُ طَالِقٌ فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ كما لو قال أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ قَوْلَهُ طَلَاقًا مَصْدَرٌ فَيَحْتَمِلُ كُلَّ جِنْسِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقَعُ على الْوَاحِدِ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ قال اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}وَصَفَ الثُّبُورَ الذي هو مَصْدَرٌ بِالْكَثْرَةِ وَالثَّلَاثُ في عَقْدٍ وَاحِدٍ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ فإذا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وإذا لم يَكُنْ له نِيَّةٌ يُحْمَلُ على الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا سَبَقَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُحْمَلُ على التَّأْكِيدِ إذَا لم يُمْكِنْ حَمْلُهُ على فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ وَهَهُنَا أَمْكَنَ على ما بَيَّنَّا. وَلَوْ نَوَى اثْنَتَيْنِ لَا على التَّقْسِيمِ في قَوْلِهِ طَالِقٌ طَلَاقًا لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ من تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فيه ثُمَّ الشَّيْءُ قد يَكُونُ وَاحِدًا من حَيْثُ الذَّاتُ وهو أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ وَاحِدًا من النَّوْعِ كَزَيْدٍ من الْإِنْسَانِ وقد يَكُونُ وَاحِدًا من حَيْثُ النَّوْعُ كَالْإِنْسَانِ من الْحَيَوَانِ وَلَا تُوجَدُ في الإثنين لَا من حَيْثُ الذَّاتُ وَلَا من حَيْثُ النَّوْعُ فَكَانَ عَدَدًا مَحْضًا فَلَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظَةُ الْوَاحِدِ بِخِلَافِ الثَّلَاثِ فإنه وَاحِدٌ من حَيْثُ الْجِنْسُ لِأَنَّهُ كُلُّ جِنْسِ ما يَمْلِكُهُ من الطَّلَاقِ في هذا النِّكَاحِ وَكُلُّ جِنْسٍ من الْأَفْعَالِ يَكُونُ جِنْسًا وَاحِدًا لا [ألا] تَرَى أَنَّكَ مَتَى عَدَّدْتَ الْأَجْنَاسَ تَعُدُّهُ جِنْسًا وَاحِدًا من الْأَجْنَاسِ كَالضَّرْبِ يَكُونُ جِنْسًا وَاحِدًا من سَائِرِ أَجْنَاسِ الْفِعْلِ وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُ ذلك وَلَوْ نَوَى اثنتين على التَّقْسِيمِ تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِمَا نذكر [نذر]. وَلَوْ قال أَنْتِ الطَّلَاقُ وَنَوَى الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ قد يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يُقَالُ هذا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُهُ وَهَذَا عِلْمُ أبي حَنِيفَةَ أَيْ مَعْلُومُهُ فَلَوْ حَمَلْنَاهُ على الْمَصْدَرِ لَلَغَا كَلَامُهُ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ على مَعْنَى الْمَفْعُولِ لَصَحَّ فَكَانَ الْحَمْلُ عليه أَوْلَى وَصَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَتَّبِعُ الْمَذْكُورَ وَالْمَذْكُورَ يُلَازِمُ الْجِنْسَ وَلَوْ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ بِدُونِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ الطلاق [الطالق] وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ هذا الْفَرْقَ لَا يُعْرَفُ له وَجْهٌ إلَّا على الرِّوَايَةِ التي روي عن أبي حَنِيفَةَ في قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَأَمَّا على الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ في التَّسْوِيَةِ بين قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا فَلَا يُتَبَيَّنُ وَجْهُ الْفَرْقِ بين قَوْلِهِ أَنْتِ طَلَاقٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ الطَّلَاقُ وَحُكِيَ أَنَّ الْكِسَائِيَّ سَأَلَ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ عن قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَإِنْ تَرْفُقِي يا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ *** وَإِنْ تَخْرَقِي يا هِنْدُ فَالْخُرْقُ أَشْأَمُ فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ *** ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرَقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ فقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ قال وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَلَاقٌ وَصَارَ قَوْلُهُ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ ابْتِدَاءً وَخَبَرًا غير مُتَعَلَّقٍ بِالْأَوَّلِ وَإِنْ قال وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثًا طَلَقَتْ ثَلَاثًا كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ لِأَنَّ الثَّلَاثَ هِيَ في الْحَالِ تَفْسِيرُ الْمُوقَعَ فَاسْتَحْسَنَ الْكِسَائِيُّ جَوَابَهُ وَكَذَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ وَنَوَى الثَّلَاثَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ وَعَرَّفَهُ بلام التَّعْرِيفِ فَيَسْتَغْرِقُ كُلَّ جِنْسِ الْمَشْرُوعِ من الطَّلَاقِ في هذا الْمِلْكِ وهو الثَّلَاثُ فإذا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامه فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِقَرِينَةٍ تَمْنَعُ من التَّصَرُّفِ إلَيْهِ على ما نَذْكُرُهُ وَلَوْ نَوَى اثنتين لَا على التَّقْسِيمِ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ صِيغَتُهُ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فيه لَازِمًا وَالِاثْنَانِ عَدَدٌ مَحْضٌ لَا تُوجَدُ فيه بِوَجْهٍ فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلتَّوْحِيدِ وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الثَّلَاثَ من حَيْثُ التَّوْحِيدُ لِأَنَّهُ كُلُّ جِنْسِ ما يَمْلِكُهُ من الطَّلَاقِ في هذا الْمِلْكِ وَكُلُّ الْجِنْسِ جِنْسٌ وَاحِدٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِهِ من الْأَجْنَاسِ وَأَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فيه وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ لَا يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَرَّفَ الْمَصْدَرَ بلام التَّعْرِيفِ الْمَوْضُوعَةِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ لَكِنَّهُ انْصَرَفَ إلَى الْوَاحِدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ لِأَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مَحْظُورٌ وَالظَّاهِرُ من حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَرْتَكِبَ الْمَحْظُورَ فَانْصَرَفَ إلَى الْوَاحِدِ بِقَرِينَةٍ وَصَارَ هذا كما إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ أو لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أو لَا يُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ إنْ نَوَى كُلَّ جِنْسٍ من هذه الْأَجْنَاسِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ من كل جِنْسٍ لِدَلَالَةِ الْحَالِ كَذَا هذا. وَلَوْ قال أَرَدْت بِقَوْلِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِي الطَّلَاقُ أو طَلَاقًا أُخْرَى صُدِّقَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ إيقَاعًا تَامًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَوْ قال أَنْتِ الطَّلَاقُ أو طَلَاقٌ يَقَعُ أَيْضًا فإذا أَرَادَ بذلك [ذلك] صَارَ كَأَنَّهُ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ حتى لو قالت طَلَّقْتُ نَفْسِي ثَلَاثًا كان ثَلَاثًا لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَصِيرُ مَذْكُورًا في الْأَمْرِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَصِّلِي طَلَاقًا وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ على الْوَاحِدِ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ فإذا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ له نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْضٌ فَكَانَ مَعْنَى التَّوَحُّدِ فيه مُنْعَدِمًا أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَا يَحْتَمِلُهُ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ قال لها قبل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قد جَعَلْتُ تِلْكَ التَّطْلِيقَةَ التي أَوْقَعْتُهَا عَلَيْك ثَلَاثًا أو قال قد جَعَلْتُهَا بَائِنًا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فيه. قال أبو حَنِيفَةَ يَكُونُ ثَلَاثًا وَيَكُونُ بَائِنًا وقال مُحَمَّدٌ لَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَلَا بَائِنًا وقال أبو يُوسُفَ يَكُونُ بَائِنًا وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن الطَّلَاقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ شَرْعًا بِصِفَةٍ لَا يُحْتَمَلُ التَّغْيِيرُ عن تِلْكَ الصِّفَةِ لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ يَكُونُ تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذلك أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً لَا تَصِيرُ وَاحِدَةً وَكَذَا لو طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَجَعَلَهَا رَجْعِيَّةً لَا تَصِيرُ رَجْعِيَّةً لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ التَّطْلِيقَةَ الرَّجْعِيَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَهَا الْبَيْنُونَةُ في الْجُمْلَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لو تَرَكَهَا حتى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَصِيرُ بَائِنَةً فَجَازَ تَعْجِيلُ الْبَيْنُونَةِ فيها أَيْضًا فَأَمَّا الْوَاحِدَةُ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَصِيرَ ثَلَاثًا أَبَدًا فَلَغَا قَوْلَهُ جَعَلْتُهَا ثَلَاثًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ هذه التَّطْلِيقَةِ بَائِنَةً من الِابْتِدَاءِ فَيَمْلِكُ إلْحَاقَهَا بِالْبَائِنَةِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِبَانَةِ في هذه الْجُمْلَةِ كما كان يَمْلِكُهَا في الِابْتِدَاءِ وَمَعْنَى جَعْلِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثًا أَنَّهُ الحق بها تَطْلِيقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ الْوَاحِدَ ثَلَاثًا.
|