الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
24 - وهي بهذا الاعتبار قسمان: عند الحنفية قسمة جمع وقسمة تفريق، ويتبين ذلك بما يلي: أ - قسمة الجمع: هي قسمة المتعدّد قسمة الشيء الواحد، فإن كان متساوي الأفراد وأجزائها لم يحتج إلا إلى إفراز كلّ نصيب على حدة، دون حاجة إلى تقويم، مثال ذلك: كمّية من الأحجار المتساوية القوالب والصنعة بين ثلاثة بالتساوي، لا تحتاج قسمتها إلا إلى عدّ ثلث منها لهذا، ثم ثلث لذاك، ثم يكون الباقي للثالث، نظير ما لو كان المشترك ثوباً واحداً من القماش " بالمعنى المتداول الآن، أي ذرعاً معيناً من نسيج معين " بينهم على التساوي، فإن قسمته لا تتطلب إلا أن يقاس ثلث الثوب لهذا، ثم ثلث لذاك، ثم يكون للثالث الباقي. وإن كان بين بعض أفراد المال المشترك وبعض تفاوت بحيث لا يمكن تعديل الأنصباء فيه إلا بالتقويم كما هو الغالب في أنواع العقار والحيوان، وكما هي طبيعة الأشياء في الأجناس المتعدّدة كدار ومنقولاتها، وضيعة ومحتوياتها، فإنه أيضاً يعتبر كشيء واحد متفاوت الأجزاء لا تتعدل الأنصباء فيه إلا بتقويمه، كقطعة أرض زراعية تختلف أجزاؤها في درجة الخصب فيقوم عند التشاحّ، ويصيب كل شريك من أفراد المال المشترك ما يساوي نصيبه من القيمة كلّها، فالذي نصيبه الثّلث من مال قيمته ألف ومائتان يأخذ منه ما يساوي أربعمائة. (ر: ف / 12 وما بعدها). ب - قسمة التفريق: وتسمى قسمة الفرد أيضاً، وهي قسمة الشيء الواحد نفسه - كما مثلناه آنفًا في التنظير لقسمة الجمع - أو الأشياء المتعدّدة كلّ واحد على حدة. والفقهاء في سائر مذاهب الفقه لا يبرزون هذا التقسيم " إلى قسمة جمع وقسمة تفريق " إبراز الحنفية، ولكنه يجيء في ثنايا كلامهم.
25 - إذا كانت القسمة هي تمييز الأنصباء لمستحقّيها فإنها لكي تتحقق لا بد لها من المقوّمات التالية: أ - الفاعل الذي يتولى القسمة، وهو القاسم. ب - المستحقّون، أو المقسوم له. ج - المال المشترك الذي تميز حصصه، وهو المقسوم. وبيانها فيما يلي: أ - القاسم: 26 - لا يمكن أن تتحقق قسمة بدون قاسم، إلا أن هذا القاسم قد يكون هو الشّركاء أنفسهم، إن كانوا كملاً، أو أولياءهم إن كانوا قاصرين، وقد يكون أجنبيّاً يولّونه القسمة بينهم، دون لجوء إلى القضاء، وقد يكون القاضي إذا طلب منه القسمة واحد من الشّركاء أو أكثر فيتولاها بنفسه، أو ينصب من يتولاها نيابةً عنه.
27 - اتفق الحنفية على اشتراط العقل والملك أو الولاية في القاسم، واختلفوا في اشتراط الإسلام والعدالة والحرّية فأوجبها القدوريّ والمرغيناني واستحبها الكاسانيّ، ولا خلاف عندهم في هذا بين قاسم الحاكم وقاسم الشّركاء، أما سائر فقهاء المذاهب فيفرّقون بين قاسم الحاكم وقاسم الشّركاء، فقاسم الحاكم لا بد فيه من هذه الشرائط: الشريطة الأولى: العدالة: 28 - تشترط العدالة، ليؤمن الجور في إيصال الحقوق إلى أربابها، فإن قسمته لازمة للمقتسمين، لا خيار لهم في قبولها ورفضها، ومن ثم فإن ولاية القسمة من قبيل الولايات الواجبة الطاعة، وغير العدل ليس من أهلها، قياساً على الحاكم نفسه. وهذه الشريطة اتفق عليها المالكية والشافعية والحنابلة. الشريطة الثانية: الحرّية: 29 - تشترط الحرّية; لأن العبد ليس من أهل الولايات، وبهذه الشريطة يأخذ المالكية والشافعية، دون الحنابلة. الشريطة الثالثة: الذّكورة: 30 - انفرد الشافعية باعتبار هذه الشريطة; لأن المرأة عندهم ليست من أهل الولايات، وهذه خلافية مشهورة، فقالوا: يشترط أن يكون قاسم الحاكم من أهل الشهادات كلّها: فلا بد أن يكون مكلفاً، ذكراً، حرّاً، مسلماً، عدلاً، ضابطاً (لا مغفلاً) سميعاً بصيراً، ناطقاً; لأن كل المتصفين بأضداد هذه الصّفات ليسوا من أهل الولايات، ومن ثم أيضاً منعوا أن يكون الأصل - من أب أو جدّ مهما علا - قاسم حاكم لفرعه مهما نزل، كالولد وولد الولد، وكذلك عكسه، أي أنهم منعوا أن يكون الفرع قاسم حاكم لأصله. الشريطة الرابعة: علمه بالقسمة: 31 - المراد بالعلم: أن تتوفر له الآلة اللازمة للقيام بعمل القاسم كمعرفة الحساب، والمساحة إن نصب قاسماً عامّاً; لأنه لا بد محتاج ذلك أو قاسماً لما لم تمكن قسمته دون هذه المعرفة، نصَّ على هذه الشريطة الشافعية والحنابلة، وقد نص الحنابلة على أن معرفة التقويم مما يتوقف عليه العلم بالقسمة حيثما احتيج إليه، وهذا هو الذي اعتمده البلقينيّ من خلاف عند الشافعية، وإن اعتمد أكثرهم أنها ليست كذلك; لأنه يستطيع الاستعانة بأهل الخبرة في التقويم إن احتاجه، وعند ذاك يعتمد منهم شهادة رجلين عدلين، غاية ما هناك أنه يفضل فيه أن يكون عارفاً بالتقويم أيضاً، أما قاسم لا يعرف حساباً ولا مساحةً، فكقاض لا يعرف الفقه، أو كاتب لا يعرف الخط. الشريطة الخامسة: تعدّد القاسم حين تكون ثَمَّ حاجة إلى التقويم: 32 - جزم الشافعية بتعدّد القاسم إذا كان هو المقوّم، واعتمده الحنابلة، وخالف بعضهم، وعند المالكية: لا يكفي المقوّم الواحد بل لا بد من اثنين حيث كان يترتب على التقويم حدّ أو غرم كتقويم المسروق وأرش الجناية، والمغصوب والمتلف إذا وصف له، والفرق بين القاسم والمقوّم: أن القاسم نائب عن الحاكم فاكتفي فيه بالواحد، والمقوّم كالشاهد على القيمة فترجح فيه جانب الشهادة، وإذا لم يترتب على التقويم حدّ أو غرم كفى واحد. وإذا جعل القاسم حاكماً في التقويم، كما جعل حاكماً في القسمة، فحينئذ يكون له - فيما قرره الشافعية - أن يحكم بعلمه من حيث القيمة، فيكون قد قسم وقوم وهو واحد. وذهب الشافعيّ في قول إلى أنه إذا لم يكن في القسمة تقويم فإنه يشترط قاسمان اثنان من جهة الحاكم، بناءً على المرجوح أنه شاهد لا حاكم. وليس الخرص " تقدير الرّطب والعنب على الشجر " إذا احتيج إليه، من قبيل التقويم; لأن التقويم إخبار يحتمل الكذب، والخرص إنشاء حكم عن اجتهاد كما يفعل القاضي، فيكفي مع الحاجة إلى الخرص قاسم واحد، كما اكتفوا بخارص واحد في الزكاة، وإن قال إمام الحرمين: إن القياس قاسمان اعتباراً بالتقويم; لأن الخارص يجتهد ويعمل باجتهاده، فكان كالحاكم والمقوّم يخبر بقيمة الشيء فهو كالشاهد. 33 - وقاسم الشّركاء الذي هو في حقيقة الأمر مجرد وكيل عنهم، قد يعفيه وضعه هذا من أكثر شرائط قاسم الحاكم، فإن الشافعية ينصُّون على أنه - إذا لم يكن في الشّركاء محجور عليه - لا يشترط فيه سوى التكليف، حتى ليجوز أن يكون امرأةً، أو فاسقاً، أو ذِمِّيَّاً، ولا يشترط أحد تعدّده، فإذا كان في الشّركاء محجور اشترطت في قاسمهم أيضاً شرائط قاسم الحاكم، نظراً وحيطةً. ويكتفي المالكية والحنابلة بالضمان الذي في أيدي الشّركاء بالنّسبة لقاسمهم هذا، أي أن لهم الحق في رفض قسمته إذا لم ترقهم، فلا يشترطون لصحتها ولزومها إلا تراضيهم، ولو كان هذا القاسم لا يعرف القسمة، وظاهر أن ولي المحجور ووكيل الغائب ينوبان منابهما. وينصّ الشافعية هنا على دقيقة، وهي أنه لا يصحّ أن يكون قاسم شريكاً ووكيلاً لسائر الشّركاء أو لبعض منهم، كأن يقولوا كلّهم له: أنت وكيل عنا فاقسم كما ترى، وافرز لنفسك ولكلّ واحد منا نصيبه، أو يكونوا أربعةً، فيوكّل اثنان منهم الاثنين الآخرين في القسمة، بحيث يكون أحدهما وكيلاً عن واحد والآخر عن الآخر، والسّرّ في هذا أن على الوكيل أن يحتاط لموكّله، وهذا ما لا يستطيعه الوكيل هنا، لأنه يتناقض مع احتياطه لنفسه الذي هو أمر غريزيّ مركوز في الفِطَر. نعم إذا وقع التوكيل بحيث لا يؤدّي إلى هذا التناقض، فلا بأس، وذلك كما إذا آثر أحد الشّركاء أن يبقى هو وآخر شريكين بنصيبهما بعد انفصال الآخرين، فيوكّله في القسمة على أن يكون نصيباهما جزءاً واحداً، فإن الوكيل حينئذ يستطيع أن يحتاط لنفسه ولموكّله، بلا أدنى تعارض. أجرة القاسم: من تكون عليه أجرة القاسم؟ 34 - القاسم إن لم يكن متبرّعاً فلا بد له من أجرة، ولو كان هو القاضي نفسه كما سيجيء. وأجرته إن كان قاسم الشّركاء على الشّركاء; لأن نفع القسمة يخصّهم، وإن كان قاسم القاضي، فالأفضل أن تكون أجرته في خزانة الدولة " بيت مال المسلمين " لأن هذا أرفق بالناس، بل مطلوب من القاضي - على سبيل الندب والاستحباب - أن يتخذ قاسماً عامّاً، بصفة دائمة، له رزق جار كسائر عمال الدولة، يكون معدّاً للقيام بالقسمة بين الشّركاء عند طلبها دون تقاضي أجر منهم; لأن هذه منفعة عامة، من جنس عمل القاضي - إذ هي أيضاً لقطع المنازعات - فيكون مقابلها في المال العامّ كرزق القاضي نفسه، فإن لم يجعل أجرته في بيت المال - لأمر ما - فإن أجرته تكون على المتقاسمين لأن النفع واصل إليهم، لكن يقدّرها القاضي بأجرة المثل لئلا يتحكم القاسم ويشتط، ومع ذلك لا يلزمهم بالقاسم الذي ينصبه، بل يدع لهم الخيار، فإن شاءوا قسم لهم، وإن شاءوا استأجروا غيره، ولا سبيل إلى إجبارهم على توكيل قاسم بعينه، كما أنه للمصلحة العامة لا يدع القسامين، يعملون في شركة معاً; لئلا يتواطئوا، ويزيدوا في الأجرة. واتّخاذ القاسم الدائم يظلّ مندوباً إليه وإن لم يقرر له أجرة في بيت المال; لأن القاضي أعرف بمن يصلح لهذا الغرض; ولأن قاسم القاضي أعمّ نفعاً، إذ تنفذ قسمته على المحجور والغائب، بخلاف قسمة غيره. ثم القسمة تشبه القضاء; لأنها تدخل في ولاية القاضي، ويلزم بها الآبي، ولكنها ليست منه على التحقيق، ولذا لا تجب على القاضي مباشرتها بنفسه، فمن أجل كونها ليست قضاءً، إذا تولاها القاضي يجوز له أن يأخذ أجرتها من المتقاسمين، ولكن لمكان شبهها بالقضاء يكون الأولى له أن لا يأخذ. هكذا قرر الحنفية، ولا يخالف أحد من أهل الفقه في أن أجرة قاسم الشّركاء على الشّركاء، ولا في أن نصب الحاكم قاسماً ليقسم بين الناس من المصالح العامة، بل ظاهر قول ابن قدامة في المغني وجوبه، وكلّهم ينقلون أن عليّاً رضي الله عنه كان له قاسم عامّ من عماله الدائمين، وفي بعض الرّوايات أن اسمه عبد الله بن يحيى، وأنه كان يرزقه من بيت المال. لكن الشافعية ينصّون على أنه إذا لم يجر عليه رزقه من بيت المال لعدم كفاية بيت المال فإن هذا قد يفسد المقصود من نصبه; لأنه إذن مظنة أن يغالي في الأجرة، ويقبل الرّشوة، ويجور في القسمة، فحينئذ لا يعيّن قاسماً، ويدع الناس يستأجرون أو يستعينون بمن شاءوا، بل منهم من منع حينئذ هذا التعيين، وقضى بحرمته. ويوجد من أهل الفقه من يكره أخذ الأجرة على القسمة أيّاً كانت، وهذا مما يروى عن أحمد، وعليه ابن حبيب من المالكية، وجرى عليه الدردير; لأنه ليس من مكارم الأخلاق، وهو المتبادر من عبارة المدونة. إذ تقول: كان خارجة وربيعة يقسمان بلا أجر; لأن ما كان من باب العلم لا يؤخذ عليه أجر، ويقول ابن عيينة: لا تأخذ على الخير أجراً. لكن المالكية والحنابلة - وفاقاً لغيرهم - لم يعتدّوا بهذا الخلاف واعتمدوا الجواز بإطلاق، سواء أكانت الأجرة من بيت المال أم على الشّركاء - إلا أن المالكية يقيّدونهم بالرّشداء، ويكرهون أخذ الأجرة من غيرهم، لكن لا تباح الأجرة للقاسم إلا نظير تولّي القسمة - أما أن يأخذ الأجرة من المتقاسمين بحكم منصبه، دون أن يكون هو الذي قسم بينهم، فهذا هو السّحت الذي لا شك فيه، ولو كان بفرض من القاضي أو الإمام.
35 - إذا كانت الأجرة على المتقاسمين لسبب ما كإضاعة من أولي الأمر، أو عوَز في بيت المال، أو رغبة من المتقاسمين عن قاسم الدولة، فقد اختلف الفقهاء في كيفية توزيعه على الشّركاء على النحو التالي: الأول: أنها تقسم على عدد الرّءوس: وعليه أبو حنيفة - دون صاحبيه - وجماهير المالكية، وبعض الحنابلة، وهو قول للشافعيّ، وهؤلاء يحتجّون بأن الأجرة في مقابلة العمل، وعمل القاسم بالنّسبة لجميع المتقاسمين سواء، إذ هو تمييز الأنصباء، وما ذاك إلا شيء واحد لا يقبل التفاوت، فتمييز القليل من الكثير هو بعينه تمييز الكثير من القليل، وإذا لم يتفاوت العمل لم تتفاوت الأجرة، أما الوسائل الموصلة إلى هذا التمييز، كالمساحة وما تتطلبه من جهد، والكيل والوزن، فهذا شيء آخر غير القسمة، وليست أجرة القسمة من أجله، ولذا لو استعان فيه بالمتقاسمين أنفسهم لاستحق أجرته على القسمة كاملةً، وضبط الأجرة بمقدار الأنصباء غير ممكن، إذ ليس النصيب الكبير دائماً أصعب حساباً ولا النصيب اليسير دائماً أيسر، فلا يمكن ضبطها إلا بأصل التمييز. والثاني: أنها تقسم بمقدار الأنصباء: وعليه الصاحبان من الحنفية، وأصبغ من المالكية، وعليه عمل المغاربة أخيراً، وأكثر الشافعية والحنابلة، وهو معتمدهم وعليه معولهم، وهؤلاء يتعلقون بأن أجرة القسمة من مؤن الملك، فتقدر بقدره، كالنفقة على المال المشترك من نحو إطعام بهائم وحفر بئر أو قناة، وحرث أرض أو ريّها، وكيل حبّ مشترىً أو وزنه. 36 - أ - حين يقال تكون الأجرة بمقدار الأنصباء يمكن التساؤل: أهي الأنصباء الأصلية في المال المشترك أم الأنصباء المأخوذة نتيجةً للقسمة؟ مثلاً: حين يكون لأحد الشريكين نصف الأرض المشتركة، لكنه يأخذ بالقسمة ثلثها فحسب; لأنه أجود، هل يكون عليه نصف أجرة القسمة أم ثلثها؟ قال الشافعية: الأجرة توزع على الحصص المأخوذة على المذهب لأنها من مؤن الملك كنفقة الحيوان المشترك. ب - إذا اتفق المتقاسمون على تحمّل الأجرة بنسبة مخالفة لقدر أنصبائهم، وشرطوا ذلك على القاسم فهل هو شرط معتبر أم لاغ؟. قطع الشافعية باعتباره; لأنه أجيرهم فلا يستحقّ في إجارة صحيحة إلا ما وقع العقد عليه، ووافقهم بعض الحنابلة، لكنهم لأمر ما اعتمدوا بطلان الشرط، كما قرره الشافعية في توزيع أجرة المثل حين تكون الإجارة فاسدةً. ج - إذا أتم القاسم القسمة، دون أن تذكر أجرة، فلا أجرة له، قياساً على القصار يدفع إليه الثوب ليقصره، ولا تسمى أجرة، اللهم إلا أن يكون قد قام بالقسمة بتوجيه من الإمام أو القاضي فحينئذ تكون له أجرة المثل. هكذا قرره أكثر الشافعية وهم منازعون في ذلك تأصيلاً وتفريعاً حتى بينهم وبين أنفسهم، وحسبك بخلاف مثل المزنيّ وابن سريج، ثم هذا البجيرميّ من أواخر متأخّريهم يقرّر أن القاسم يستحقّ الأجرة، وإن لم يذكر له الطالب شيئاً، ويقول: إنه مستثنىً ممن عمل عملاً بغير أجرة. د - كيفية استئجار المتقاسمين من يقسم بينهم، هي أن يستأجروه كلّهم - ولو بواسطة وكيل عنهم، بعقد واحد - ومنه ما لو استأجره واحد منهم ورضي سائرهم، أو أن يستأجره كلّ واحد بعقد على حدة لتعيين نصيبه لقاء أجر معلوم، هكذا قرره الشافعية والحنابلة، إلا أن متأخّري الشافعية لم يرتضوا إطلاق الشافعيّ تصحيح الصّورة الأخيرة، بناءً على أن كل واحد إنما يعقد لنفسه فلا حاجة إلى رضاء غيره، وقيدوه برضاء الباقين; لأن كل عقد على حدة يقتضي التصرّف في ملك الغير بغير إذنه. وقد جزم الماورديّ وغيره بما قاله الشافعيّ، فإذا لم يفعلوا ذلك، وإنما استأجره بعضهم، فالإجارة قاصرة على المستأجر، والأجرة عليه وحده. هـ - أجرة الخبير المقوّم، حين يحتاج إلى التقويم، وأجرة كاتب الوثيقة، على ما أسلفناه من الخلاف في أجرة القاسم: فمن قائل على عدد الرّءوس ومن قائل على قدر الأنصباء. 37 - واختلف الفقهاء فيمن يتحمل أجرة القاسم إذا طلبها بعض الشّركاء فعند جمهور الفقهاء تكون على من طلبها ومن لم يطلبها; لأن منفعة الاستقلال بالملك حاصلة بكلّ قسمة وعمل الأجير فيها واقع لكلّ متقاسم، وفي رواية عن أبي حنيفة وبعض الشافعية أنها تكون على الطالب لأن الآبي مستضرّ بالقسمة. ب - المقسوم له: 38 - قال الكاسانيّ: يشترط في المقسوم له أربعة شروط: الأول: أن لا يلحقه ضرر في أحد نوعي القسمة وهي قسمة التفريق جبراً. الثاني: الرّضا في أحد نوعي القسمة وهو رضا الشّركاء فيما يقسمونه بأنفسهم إذا كانوا من أهل الرّضا، أو رضا من يقوم مقامهم إذا لم يكونوا من أهل الرّضا. الثالث: حضور الشّركاء أو من يقوم مقامهم في نوعي القسمة، الجبر والرّضا. الرابع: البيِّنة على الملك في قسمة القضاء. ج - المقسوم: 39 - سبق بيان بعض الشّروط الخاصة بالمقسوم وهي: - اتّحاد الجنس. - اتّحاد الصّنف في قسمة المنقولات. - زوال العلقة بالقسمة. - أن لا تنقص القسمة قيمة المقسوم. - تعذّر إفراد كلّ صنف بالقسمة. وكلّها في قسمة الإجبار، وإن شئت فقل: القسمة القضائية الإجبارية. 40 - وهناك شروط أخرى بيانها فيما يأتي: الأول: أن يكون المال المشترك عيناً أو منفعةً: فلا تصحّ قسمة الدين، اتحد أو تعدد، تراضياً ولا إجباراً، وهذه الشريطة ذكرها الحنفية والشافعية وخالفهم في اعتبارها الحنابلة فجوزوا قسمة الدين بإطلاق، وكذلك المالكية، إلا أنهم إنما يجوّزون قسمة الدين الواحد تراضياً لا إجباراً; لأنه لا تتصور فيه القرعة. الثاني: أن يكون المال المشترك قابلاً للقسمة: وهذه الشريطة متفق عليها بين الذين يشترطون انتفاء الضرر في قسمة الإجبار، وقد عرفناهم فيما سلف فإن انتفاء الضرر في القسمة هو معنى قابلية محلّها لها، إلا أنه ينبغي التنبّه هنا إلى أن من أهل الفقه من يقصر هذه الشريطة على قسمة الإجبار، ولا يرى بأساً من حيث الصّحة بتراضي الشّركاء على أية قسمة ضارة، وهؤلاء هم الحنفية والشافعية والحنابلة، على كلام لبعض الحنفية كما تقدم - ومنهم من يعمّمها في قسمتي الإجبار والتراضي، إذا بلغ الضرر حد الفساد، أعني بطلان المنفعة بطلاناً تامّاً أو ما هو بسبيل من ذلك، كما في قسمة خاتم خسيس، وهؤلاء هم المالكية، فالخيار عندهم في حالة الفساد بين أمرين لا ثالث لهما: إما الإبقاء على الشركة أو البيع، وفي حالة الضرر الأقلّ بين هذين وثالث هو قسمة التراضي. الثالث: أن يكون المقسوم مملوكاً للشّركاء عند القسمة: هذه شريطة عامة في كلّ قسمة لا تخصّ نوعاً دون نوع، وقسمة وليّ المحجور ليست له بل للمحجور نفسه وهو المالك، فالفضوليّ الذي لا ملك له ولا ولاية لا نفاذ لقسمته حتى يجيزها المالك الصحيح التصرّف أو من ينوب عنه نيابةً شرعيةً صحيحةً، فالقسمة تقبل الإجازة. وقال الشافعية: لو قسم بعض الشّركاء في غيبة الباقين وأخذ قسطه فلما علموا قرروه صحت لكن من حين التقرير. ويقول المالكية: إن الذي لا يحضر القسمة من الشّركاء ثم لا يغيّرها " لا ينكرها " عن قرب بعد علمه بها تلزمه، ويكون هذا الريث إقراراً لها.
41 - الأعيان جمع عين، والمراد بها هنا ما قابل الدين والمنفعة، أما الدين فقد علمنا الخلاف في قسمته (ر: ف /40)، وأما المنفعة فسيأتي بحث قسمتها، إن شاء الله. والأعيان تنقسم إلى عقار ومنقول: فالعقار: هو الأرض، سواء أكانت زراعيةً أم غير زراعية، والمنقول: ما عداها كالثّياب والأواني والحيوان والمزروعات، وقد نص الحنفية على أن البناء والشجر يتبعان الأرض في القسمة، والأرض لا تتبعهما فمن وقع في نصيبه من قسمة الأرض شيء منهما فهو له، بخلاف العكس، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. وهذا خلاف ما عليه المالكية من اعتبار كلّ من الأرض والبناء والشجر عقاراً، قال الخرشيّ: العقار هو الأرض وما اتصل بها من بناء أو شجر. ثم كلّ من العقار والمنقول إما أن يكون مما لا تفاوت بين أجزائه وهو المتشابه، أو يكون بينها تفاوت على ما سلف من بيان (ر: ف / 9).
42 - قسمة العقار يمكن أن تكون إفرازاً أو تعديلاً أو ردّاً، كما يمكن أن تكون جمعاً أو تفريقاً، وجبراً أو تراضياً، ذلك أنه قد يكون في محلّ واحد، وقد يكون في محالّ متعدّدة: ففي المحلّ الواحد: قطعة الأرض المتشابهة الأجزاء بلا أدنى تفاوت كألتي تخلو من البناء والشجر وهي درجة سواء من جودة التّربة أو رداءتها لا تحتاج قسمتها إلى أكثر من ذرعها ومعرفة مساحتها، حتى عند المالكية، على ما اعتمده متأخّروهم، وإن كان الأكثرون على أن التعديل في غير المثليات لا يمكن إلا بالقيمة، ثم تمييزها أنصباءً متساويةً، إذا تساوت حقوق المتقاسمين، أو سهاماً متساويةً بقدر النصيب الأقلّ، وهذا هو معنى القسمة بالأجزاء أو قسمة الإفراز. وهكذا يمكن أن تقسم إفرازاً أيضاً إذا كان في كلّ جانب من جوانبها من البناء أو الشجر مثل ما في الآخر بحيث يعرف تساوي الأنصباء من غير تقويم. فإذا تفاوت البناء أو الشجر، أو تفاوتت جودة الأرض ورداءتها فلا يمكن تعديل الأنصباء وتسوية السّهام إلا بواسطة التقويم، وإذن تكون القسمة قسمة تعديل، بل قد يحوج الأمر إلى الاستعانة بعوض من خارج المال المشترك " معدِّل "، يدفعه واحد من المتقاسمين أو أكثر ليتعادل نصيبه مع سائر الأنصباء، وقد يتفق المتقاسمون على ذلك دون ملجئ، وإذن تكون القسمة قسمة ردِّ. وهي على كلّ حالّ قسمة تفريق لأن الفرض اتّحاد المحلّ، وقد سلف بيان طريقة من يمنع الإجبار على قسمة الردّ إلا ضرورةً أو بلا استثناء، ويقبله في قسمة الإفراز وفي قسمة التعديل بشرائط خاصة، وطريقة من يقبل الإجبار بكلّ حال، أو يمنعه بكلّ حال. إلا أنه حيث يكون في الأرض بناء، فإن الحنفية يقولون: لا بد لكي يعدل المقسوم على سهام القسمة من شيئين: التوصّل إلى معرفة المساحة. وتقويم البناء. ولكن متأخّريهم يفسّرون ذلك بأن معناه: أن يقاس ويقوم كلّ من الأرض والبناء; لأن تعديل سهام المقسوم يحتاج إلى معرفة ماليته، ولو أخيراً بالنّسبة إلى الأرض، ومعرفة هذه المالية تتوقف على معرفة مساحة وقيمة كلّ من الأرض والبناء. وفي المحالّ المتعدّدة كالدّور والأراضي والبساتين: يمكن أن تجمع هذه كلّها في قسمة واحدة، اتحد نوعها أم اختلف - على ما تقدم في بيان اتّحاد النوع واختلافه - وتعدل الأنصباء بالقيمة، فتكون القسمة قسمة جمع، إلا أن هذا لا يكون إلا في قسمة التراضي عندما يختلف النوع أو الجنس، كتركة بعضها دور وبعضها أراض زراعية معتادة وبعضها حدائق، أو كلّها حدائق، لكن بعض الحدائق كروم وبعضها رمان أو برتقال أو تفاح أو ما شاكل ذلك. أما عند اتّحاد النوع، فإن القسمة - وهي قسمة جمع لتعدّد المحلّ - تقبل الإجبار، على خلافات في التفاصيل التي تقدمت، كما تقدم أن من أهل العلم من يعكس القضية فيجبر على قسمة الأجناس والأنواع المختلفة قسمة جمع إذا طلبها أحد الشّركاء، ولا يجيز التفريق إلا باتّفاقهم.
43 - يمكن أن تقع القسمة بقرعة، وأن تقع بدونها، سواء أكانت قسمة تراض أم إجبار; لأن تعيين القاسم المجبر لكلّ نصيب على حدة كاف كما سيجيء إلا أن استعمال القرعة سنة متبعة اتّقاءً للتّهمة، إلا أن يصر المتقاسمون عليها، فقد نص بعض الشافعية على وجوبها حينئذ، نعم. لا إجبار في غير المثليّ عند المالكية إلا بقرعة، وفي كلام بعض الحنابلة ما يشير إليه كقول صاحب الشرح الكبير في قسمة عرض الجدار: ويحتمل أن لا يجبر; لأنه لا تدخله القرعة، خوفاً من أن يحصل لكلّ واحد منهما ما يلي ملك الآخر، بل هو صريح مذهبهم، كما نصّوا عليه. كما أن تراضي المتقاسمين على توزيع الأنصباء بينهم بكيفية ما يمكن أن يتم بدون أن يستعينوا بقرعة، بل دون تعديل أو تقويم أصلاً ما دام المحلّ ليس ربويّاً، بل وإن كان ربويّاً بناءً على أن القسمة محض تمييز حقوق، بل عند المالكية وبناءً على أنها بيع إذا دخلا على التفاضل البيّن كفدان فاكهة في نظير فدانين، لخروجها حينئذ من باب البيع المبنيّ على المهارة التّجارية ومحاولة الغلب من كلا الجانبين إلى باب المنيحة والتطوّل. لكن المالكية يشترطون لجواز القرعة شرائط معينةً: الأول: أن تكون فيما تماثل أو تجانس، ليقل الغرور. الثاني: أن لا تكون في مثليّ متحد الصّفة أي مكيل أو موزون أو معدود. الثالث: أن لا يجمع فيها بين نصيبين، إذ لا ضرورة. ويوافقهم ابن تيمية في الشريطة الثانية.
44 - القرعة مشروعة في القسمة بلا خلاف عند أحد من أهل الفقه وإن اختلفوا في مشروعيتها في غير القسمة، والحنفية مع المنازعين في مشروعيتها إلا في القسمة وما يجري مجراها، وهم يقولون في ذلك: إنها قمار لتعليق الاستحقاق على خروجها، لكن هذا المعنى منتف في القسمة; لأن القاسم المجبر لو عين لكلّ واحد نصيبه دون قرعة لكفى، إذ هو في معنى القضاء، لكن ربما يتهم بالمحاباة، فيلجأ إلى القرعة لئلا تبقى ريبة، ولذا جرى العمل بها منذ عهد النبيّ صلوات الله عليه حتى يوم الناس هذا، فهي سنة عملية مجمع عليها. وتفصيل ذلك في مصطلح (قرعة).
وأصله المثليّ المتحد الصّفة، ثم ألحق به ما في معناه من القيميّ الذي لا تختلف الأنصباء فيه صورةً وقيمةً كبعض الثّياب والحيوان: 45 - اتفق الفقهاء في الجملة في المثليّ المتحد الصّفة - على خلاف بينهم في معنى المثليّ - على أن قسمته لا تحتاج إلى تقويم، وإنما هي مجرد إفراز بطريق الكيل أو الوزن إلخ، فلا تعديل ولا رد، إلا أن عند المالكية - فيما يجوز فيه التفاضل كالذي لا يدخر مثل الفاكهة - طريقة أخرى بجواز قسمته بطريق التحرّي والخرص، إما مطلقاً، وإما إذا كان من قبيل الموزون لا غير، بل جوز ابن القاسم قسمة التحرّي فيما يمتنع تفاضله بشرطين: - أن يكون قليلاً. - موزوناً كاللحم والخبز. ثم قد تكون القسمة تراضياً، وقد تكون إجباراً، إذ لا يمنع الإجبار هنا حيث لا ضرر إلا مطلقو منعه كأبي ثور في بعض ما يروى عنه، وقد تكون جمعاً، كما في قسمة كمّية من الحبوب كالقمح أو الشعير، وقد تكون تفريقاً كالسبيكة من ذهب تقسم وزناً. أما ما ألحق بالمثليّ فالشافعية والحنابلة وبعض المالكية هم الذين يجعلون قسمته كقسمة المثليّ في كلّ ما تقدم. أما الحنفية وجماهير قدماء المالكية فعلى التقويم في كلّ متقوّم، وعلى هذا فقسمته قسمة تعديل، والمفروض أن لا حاجة فيه إلى ردّ. ثم قد تكون قسمة إجبار حيث لا ضرر وقد تكون تراضياً، وعند التراضي يجوز التفاضل على ما تقدم من بيان (ر: ف / 43)، وقد تكون جمعاً، كما في قسمة عدد من الأغنام أو الأبقار المتشابهة، وقد تكون تفريقاً، كما في قسمة بناء متصل بعضه ببعض مع تشابه أجزائه إذا جرينا على أنه منقول، كما عليه الجمهور. وفي كيفية قسمة المنقول المتشابه بقرعة أو بدونها التفصيل السابق في كيفية قسمة العقار.
46 - تتنوع قسمة المنقول غير المتشابه " كالثّياب المختلفة، والأواني المختلفة، والحيوان كذلك " إلى أنواع. فهو لا يقسم قسمة جمع إلا تعديلاً بطريق التقويم، إلا على رأي من يكتفي في تحقّق المثلية بالتماثل في معظم الصّفات (ر: ف / 43)، فإنه يطبّق عند هذا التماثل ما تقدم من المنقول المتشابه خاصّاً بالمثليّ (ر: ف / 33) والأصل فيه أن تكون قسمته قسمة تراض إلا أنه قد يقبل الإجبار في حالات خاصة تختلف من مذهب إلى آخر كحالة اتّحاد النوع عند الحنفية، وتقاربه عند المالكية، واتّحاد الصّنف وصنف الصّنف عند الشافعية، في تفصيلات عديدة تقدم ذكر بعضها. وتكون قسمته قسمة تفريق إذا قسم كلّ واحد على حدة، وقسمة جمع فيما عدا ذلك، ولا مانع من قسمة الردّ إذا تراضى عليها المتقاسمون: كأن يأخذ هذا الثّياب، وذاك الأواني، ويدفع أو يأخذ الفرق من حيث القيمة، بشريطة أن يكون ما يدفع فرقاً " المعدل " من مال الشركة، أو بدون تقيّد بهذه الشريطة، على الخلاف الذي سلف، لكن قسمة الإفراز لا تتصور هنا إلا عند المتوسّعين في تفسير المثلية.
47 - قسمة عين واحدة لا تقبل القسمة: كالثوب والإناء والعقار الواحد الذي هو بهذه المثابة، أعني أن في قسمته إضراراً بجميع الشّركاء أو ببعض منهم، أو فساداً وإضاعة مال دون نفع ما. وجواب هذه المسألة - من حيث الإجبار على القسمة أو التراضي عليها - يعلم مما تقدم في بيان معنى الضرر المانع من قسمة الإجبار، لكن للمالكية بها فضل عناية، ولهم فيها مزيد بيان، وهذا موضع تفصيله: ذلك أنهم تفريعاً على ضرر القسمة حينئذ يجعلون للشريكين - وينوب القاضي عن الغائب منهما، فيمضي له ما يراه - الخيار بين شيئين: أ - الإبقاء على الشركة، والانتفاع بالعين مشتركةً. ب - بيع العين واقتسام ثمنها، ومنه أو بمثابته المزايدة عليها بعد رسوّ سعرها في السّوق " أو بعد تقويم خبير إن لم يرضوا السّوق " - وتسمى المقاواة - فمن رغب فيها بأكثر أخذها، وإذا استويا فالممتنع من البيع أولى بأخذها، ثم على آخذها أن يدفع لصاحبه مقابل حقّه في ثمن الجملة. هذا إذا كانت القسمة محض فساد كقسمة بئر، أما إذا كانت ضارةً، مع إمكان الانتفاع بالمقسوم بعدها انتفاعاً ما مخالفاً لجنس منفعتها قبل القسمة كدار يمكن جعلها بعد القسمة مربطين لدابتين، فإن للشّركاء وجهاً ثالثاً من وجوه الخيار: هو أن يقتسموا العين بطريق التراضي. إلا أن الإجبار على البيع مشروط عندهم بعدة شرائط. أ - أن يطلب البيع أحد الشريكين، فلا يجبر على بيع العين دون طلب من أحد منهما. ب - أن تكون العين على ما وصفنا من عدم قابلية القسمة; لأنه مع قبول القسمة لا يجبر على البيع مؤثرها عليه. ج - أن ينقص ثمن حصة طالب البيع، لو بيعت منفردةً، وإلا فليبع إن شاء حصته وحدها، إذ لا ضرر عليه في ذلك. د - أن لا يلتزم الشريك الآخر بفرق الثمن المترتّب على بعض الحصة منفردةً، وإلا فلا معنى لإجباره على البيع. هـ - أن يكون الشريكان قد ملكا العين جملةً فلو ملك كلّ واحد منهما نصيبه على حدة، لما كان له الحقّ في إجبار شريكه على البيع، لأنه ملك على حدة فيبيع على حدة، ولكن أنكر هذه الشريطة ابن عبد السلام من كبار المالكية وقال اليزناسيّ: العمل الآن على عدم اشتراطها. و - أن لا تكون العين عقاراً للاستغلال كالمطحن والمخبز والمصنع والحمام; لأن عقار الاستغلال، أو " ريع الغلة " كما يقولون، لا تنقص قيمة الحصة منه إذا بيعت مفردةً، بل ربما زادت، وأنكر ابن عرفة هذه الشريطة " على أنها لو سلمت، فإن شريطة نقص ثمن الحصة تغني عنها ". وحجة المالكية في الإجبار على البيع القياس على الشّفعة بجامع دفع الضرر في كلّ، والجماهير من حنفية وشافعية وكثير من الحنابلة يردّونه بأن الأصل أن الجبر على إزالة الملك غير مشروع، لقوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}، فلا ينتقل عنه إلا بدليل ناقل، وليس هنا هذا الدليل الناقل، إذ القياس على الشّفعة قياس مع الفارق، فلو لم تشرع الشّفعة للزم ضرر متجدّد على الدوام، ولا كذلك البيع مع الشريك، ولعله لذلك عدل ابن رشد الحفيد إلى الاستدلال بمجرد الاستصلاح دفعاً للضرر، مع أن فيه إنزال ضرر بالشريك الممتنع، فهي إذن موازنة بين الضررين، ألا تراه يقول: وهذا من باب القياس المرسل. والحنابلة في معتمدهم يوافقون المالكية على إجبار الشريك على البيع مع شريكه، بل يطلقون القول بأن من دعا شريكه إلى البيع في كلّ ما لا ينقسم إلا بضرر أو ردّ عوض أجبر على إجابته، فإن أبى بيع عليهما وقسم الثمن ويزيدون أنه لو دعي إلى الإجارة أجبر أيضاً. وقد ذهب كثير من الحنابلة إلى أن طلب البيع ليس حتماً لإجبار الشريك على البيع مع شريكه، بل يكفي طلب القسمة; لأن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النّصف، فلا يصل إلى حقّه إلا ببيع الكلّ، ولذا أمر الشرع في السّراية أن يقوم العبد كلّه، ثم يعطى الشّركاء قيمة حصصهم. 48 - لا تقسم لا جبراً ولا تراضياً، إذ لا يمكن قسمها إلا بوضع حاجز فيها أو أكثر بين النصيبين أو الأنصباء، وفي هذا من الضرر ونقص الماء ما يجعل القسمة فساداً، أما مجرى الماء إذا اتسع لمجريين، فإنه تصحّ قسمته تراضياً لا جبراً، إذ لا يمكن تحقّق المساواة، فقد يكون اندفاع الماء في جانب أقوى منه في الآخر، كما أن الماء نفسه تمكن قسمته تراضياً، كيفما شاء الشّركاء، أما جبراً فلا يقسم إلا بالقلد - وهو المعيار الذي يتوصل به إلى إعطاء كلّ ذي حقّ حقه - هكذا قرره المالكية، وأصول الحنفية والشافعية والحنابلة لا تأبى من قسمة العين نفسها تراضياً لا إجباراً، كما يفهم مما تقدم.
49 - قال الحنفية: إذا اختلف المتقاسمون في قسمة دار أو أرض، فقال بعضهم: نقتسم ولا ندع طريقاً، وقال بعض: بل ندعه، فإن القاضي ينظر في التوفيق بين المصلحة، وتحقيق معنى القسمة على الكمال ما أمكن، فإن كان بوسع كلّ منهم أن يتخذ لنفسه طريقاً على حدة استوفى معنى القسمة، ولم يبق شيئاً مشتركاً بينهم، وإلا فالمصلحة تقتضي إبقاء طريق مشترك بينهم، إذ لا يكمل الانتفاع بالمقسوم بدونه، فيجبرهم على ذلك، يقسم ما عدا الطريق، ويبقي الطريق على الشركة الأولى دون تغيير، إلا أن يقع التشارط على شيء من التغيير، كأن يتفقوا على أن يجعلوه بينهم على التفاوت وقد كان على التساوي لأن القسمة على التفاوت بالتراضي جائزة في غير الرّبويات، أو على أن يجعلوا ملكية الطريق لبعضهم، وحق المرور فحسب للآخرين، وقيدوه في الفتاوى الهندية بأن تكون ملكية الطريق لمن ترك مقابلاً له من نصيبه، وأهملوه في المجلة، فإذا اختلفوا في مقدار الطريق فبالغ بعضهم في سعته، وبعضهم في ضيقه، وبعضهم في علوّه، وبعضهم في انخفاضه، فإن القاضي يجعله على عرض باب الدار وارتفاعه; لأن هذا يحقّق المقصود منه، ولا تتطلب الحاجة أكثر من ذلك، وإنما يحدد ارتفاعه بما ذكرنا ليتمكن الشّركاء من الانتفاع بهوائه وراء هذا المقدار، كأن يشرع أحدهم جناحاً; لأنه حينئذ باق على خالص حقّه، إذ الهواء فيما فوق ارتفاع الباب مقسوم بينهم، كما أن هذا التحديد يمنع عدوان أحدهم بالبناء أخفض من ذلك فوق الطريق المشترك، إذ يكون حينئذ بانياً على الهواء المشترك، وهو لا يجوز دون رضا باقي الشّركاء، هذا في طريق الدار، أما طريق الحقل فيكون بمقدار ما يمرّ ثور واحد، إذ لا بد للزّراعة منه، فيقتصر فيه على الحدّ الأدنى، وإن كان يحتاج إلى مرور ثورين فإنه يحتاج أيضاً إلى مرور عربة وما إليها على فحش تفاوت الأحجام فلا يقف عند حدّ. والمذاهب الأخرى على خلافه أخذاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبعة أذرع»، ويحرص الحنابلة هنا على التنبيه على أن حديثه صلى الله عليه وسلم في أرض مملوكة لجماعة أرادوا البناء فيها، وتشاجروا في مقدار ما يتركونه منها للطريق، وأنه لا علاقة له إطلاقاً بالطريق العامّ حتى يتمسك به في جواز تضييقه إلى سبعة أذرع كما هو المتبادر من كلام المالكية. ونص المالكية والشافعية والحنابلة على أن ليس للشريك في الطريق إشراع جناح فيه، مهما كان ارتفاعه إلا برضا سائر الشّركاء، وإن كان عند كلّ من المالكية والشافعية رأي بالجواز، بشريطة عدم الضرر بحجب ضوء أو تعويق راكب مثلاً، وهو مذهب المدونة والأشبه بمذهب الحنفية.
50 - العلوّ والسّفل لبيت واحد أو لبيتين، أو منزلين متلاصقين، في دار واحدة، وتصويره في حالة التعدّد أن يكون أحد الأمرين " العلوّ والسّفل " مشتركًا بين اثنين والآخر لثالث. وهل العلوّ والسّفل جنس " نوع " واحد متحد الصّفة فيقسمان قسمة جمع باعتبار العين، لا باعتبار القيمة: أي أنهما يقسمان بالذرع والمساحة، والقسم في الساحة من السطح أو الأرض لا في البناء، أم هما جنس واحد مختلف الصّفة، فلا يمكن تعديل قسمتهما قسمة جمع، إلا باعتبار القيمة؟ بالأول قال أبو حنيفة وأبو يوسف،وبالثاني قال محمد، ومحلّ النّزاع إنما هو في قسمة الإجبار، لا في قسمة التراضي، إذ للمتقاسمين أن يتراضوا على ما شاءوا في مثل هذا الموضع. وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أن المقصود هنا هو السّكنى، ولا تفاوت في أصل السّكنى بين علوّ وسفل، فلا نبالي بتفاوتهما في مرافق أخرى من مثل استنشاق الهواء، واتّقاء الحرّ. ووجه قول محمد: أنه لا يمكن تجاهل المرافق الأخرى لتأثيرها البالغ في قيمة العين، وإلا كانت قسمةً جائرةً، والتعديل هو أساس قسمة الإجبار، ولا شك أن لكلّ من العلوّ والسّفل مرافقه الخاصة، ففي الوسع أن يتخذ في السّفل، دون العلوّ، بئر أو سرداب أو إصطبل، وأن يتقى في العلوّ، دون السّفل التأثير الضارّ للرّطوبة على الجدران وأسسها، وأن يستنشق الهواء في وفرة ونقاء، وأغراض الناس إذ تتعلق بهذه المرافق، تتفاوت تفاوتاً بعيد المدى في كلّ زمان ومكان. ويقول القدوريّ: قوّم كلّ واحد على حدة، وقسم بالقيمة، ولا معتبر بغير ذلك، ويقول صاحب الهداية: والفتوى اليوم على قول محمد. وبعد اتّفاق أبي حنيفة وأبي يوسف على القسمة بالذرع والمساحة، دون القيمة فقد اختلفا في كيفية القسمة بالذرع أتكون ذراعاً من السّفل بذراع من العلوّ؟ أم ذراعاً من السّفل بذراعي من العلوّ؟ بالثاني قال أبو حنيفة، وبالأول قال أبو يوسف. أما أبو يوسف فجرى على أصله من أن المقصود السّكنى، ولا تفاوت فيها; لأن لصاحب العلوّ أن يبني على علوّه دون رضاء صاحب السّفل أو غيره، كما أن لصاحب السّفل أن يبني على سفله دون رضاء من أحد. وأما أبو حنيفة، فلما كان من أصله أن صاحب العلوّ ليس من حقّه أن يبني على علوّه إلا برضا صاحب السّفل، تحقق عنده تفاوت في المقصود - وهو السّكنى - على الجملة، وإن لم يكن ثَمَّ تفاوت في أصل السّكنى، فصاحب السّفل يسكن - وهذه منفعة - وله أن يبني فوق سفله ليتوسع في السّكنى كما شاء - وهذه منفعة أخرى - وليس لصاحب العلوّ إلا منفعة واحدة، هي أصل السّكنى، دون التوسّع فيها بالبناء على علوّه، فإذا كان ثم منفعة واحدة في مقابل منفعتين كانت العدالة أن تكون القسمة كذلك على الثّلث والثّلثين; لأن الثّلث مع منفعتين يعدل الثّلثين مع منفعة واحدة. فإذا كان سفل من بيت، وعلوّ من بيت آخر، وكانا بين اثنين، وطلب أحدهما قسمتهما، يقسم البناء بالقيمة دون نزاع من أحد، وأما الساحة " العرصة " فتقسم بالذرع أي المساحة، ذراعاً من السّفل بذراعين من العلوّ، أي على الثّلث والثّلثين عند الإمام، وذراعاً من السّفل بذراع من العلوّ، أي على التساوي عند أبي يوسف، وعند محمد يقومان ويقسمان باعتبار القيمة، ولا يلزم التساوي ولا التثليث، فإن استويا في القيمة قسما ذراعاً بذراع، وإن كانت قيمة أحدهما ضعف قيمة الآخر قسما ذراعاً من الأعلى بذراعين من الآخر أيّاً ما كان. فإذا كان بيت تامّ " سفل وعلوّ "، وعلوّ فقط من بيت آخر بين اثنين وطلب أحدهما القسمة يقسم البناء بالقيمة، ثم تكون قسمة الساحة أرباعاً عند الإمام، إذ يحسب كلّ ذراع من البيت التامّ بثلاثة أذرع من العلوّ وحده، وتكون أثلاثاً عند أبي يوسف، إذ يحسب ذراع من البيت التامّ بذراعين من العلوّ فقط، وتكون القسمة عند محمد كما تقتضيه قسمة القيمة، دون قيود. وإذا كان بيت تامّ " سفل وعلوّ "، وسفل فقط من بيت آخر بعد طلب أحد الشريكين يقسم البناء بالقيمة، ثم تكون قسمة الساحة عند الإمام على أساس ذراع من البيت التامّ بذراع ونصف من السّفل فقط، وتكون عند أبي يوسف أثلاثاً، إذ يحسب ذراع من البيت التامّ بذراعين من السّفل فقط، ويقسم محمد حسب القيمة، كيفما اقتضت. هكذا قرر الحنفية هذه المسألة.
إذا تمت قسمة الأعيان على الصّحة ترتبت عليها آثار شتى، من أهمّها:
51 - قال الحنفية: تلزم القسمة إذا لم يوجد سبب للخيار (ر: ف /54)، فإنها لا تقبل الرّجوع بالإرادة المنفردة، بمعنى أن ينقضها واحد أو أكثر ويرد المال إلى الشركة، دون اتّفاق من جميع المتقاسمين. وتتمّ القسمة بتعيين القاسم لكلّ واحد نصيبه، سواء أكان هذا القاسم هو قاسم القاضي أم قاسماً حكّموه بينهم ليقوم بهذا التعيين، وإلزام كلّ واحد بالنصيب الذي يفرزه له - سواء أكان ذلك بقرعة أم بدونها، كما تتمّ إذا اقتسموهم بالتراضي - دون تحكيم محكم ملزم - واقترعوا اقتراعاً تامّاً خرجت به جميع الأجزاء " السّهام " لأربابها، ويكفي لذلك إجراء القرعة على جميع الأجزاء عدا الجزء الأخير; لأنه يتعين تلقائيّاً لمن بقي من الشّركاء، وإذن فيكون لبعضهم في هذه الحالة حقّ الرّجوع أثناء القرعة أي قبل أن تنتهي إلى هذه الغاية، فإذا لم يستخدموا القرعة واكتفوا بالتراضي على أن يختص كلّ واحد منهم بنصيب بعينه، فإن القسمة لا تتمّ بمجرد هذا التراضي، بل يتوقف تماماً على قبض كلّ واحد نصيبه، أو قضاء القاضي. وقالوا: إن كانت الدار بين رجلين فاقتسما على أن يأخذ أحدهما الثّلث من مؤخّرها بجميع حقوقه، ويأخذ الآخر الثّلثين من مقدّمها بجميع حقوقه، فلكلّ واحد منهما أن يرجع عن ذلك، ما لم تقع الحدود بينهما، ولا يعتبر رضاهما بما قالا قبل وقوع الحدود، وإنما يعتبر رضاهما بعد وقوع الحدود. فإذا كان هناك رجوع معتبر، أو اعتراض وعدم رضاً أعلن به حيث احتيج إلى الرّضا، فإن العدول بعد ذلك إلى الموافقة على القسمة واستمرارها لا يجدي فتيلاً; لأن القسمة ترتدّ بالردّ. أما الرّجوع باتّفاق جميع المتقاسمين فهو تقايل، وقد علمنا أن أصول الحنفية ونصوص بعض متونهم وشراحهم تقتضي إطلاق قبوله. وعبارة متن تنوير الأبصار وشرحه: القسمة تقبل النقص، فلو اقتسموا وأخذوا حصصهم، ثم تراضوا على الاشتراك بينهم صح، وعادت الشركة في عقار أو غيره. أما المالكية فيطلقون القول بلزوم القسمة إذا صحت، سواء بقرعة أم بدونها، ولا تصحّ قسمة الإجبار عندهم في غير المثليّ إلا بقرعة، ويذكرون أن من أراد الرّجوع لم يمكن منه، ويعلّلونه بأنه انتقال من معلوم إلى مجهول، وهو تعليل يتبادر منه أيضاً منع التقايل باتّفاق المتقاسمين، وقد صرح به ابن رشد الحفيد، إذ يقول: القسمة من العقود اللازمة، لا يجوز للمتقاسمين نقضها ولا الرّجوع فيها، إلا بالطوارئ عليها، وهو نقيض ما صرح به الدردير في قسمة التراضي، لكن المدونة صريحة فيما قرره الأولون: فقد سأل سحنون ابن القاسم: أرأيت لو أن داراً بيني وبين رجل تراضينا في أن جعلت له طائفةً من الدار على أن جعل لي طائفةً أخرى، فرجع أحدنا قبل أن تنصب الحدود بيننا؟. فأجاب ابن القاسم: ذلك لازم لهما، ولا يكون لهما أن يرجعا عند مالك، إلا أنه علله بأن القسمة بيع من البيوع. والحنابلة مع المالكية في أن القسمة لا تقبل الرّجوع بالإرادة المنفردة ولا المجتمعة، لكن فيما كان من القسمة محض تمييز حقوق، وهذه هي القسمة بجميع أنواعها عدا قسمة الردّ في قيل اعتمده الحنابلة، أما ما هو منها بيع، فإنه عندهم عقد لازم بمجرد التراضي والتفرّق. ويقبل التقايل كالبيع، إلا أنه إذا استخدمت القرعة توقف لزوم القسمة على خروجها، وعلى الرّضا بالقسمة بعد خروج القرعة، هذا في قسمة التراضي، أما في قسمة الإجبار، فيتوقف اللّزوم على خروج القرعة عند الحنابلة. وقال الشافعية: إن وقعت القسمة بتراض من الشريكين بغير نزاع فلا بد من رضاً بها بعد خروج القرعة، سواء في قسمة الإفراز أو الردّ أو التعديل، أما في قسمة الردّ والتعديل فلأن كلّاً منهما بيع، والبيع لا يحصل بالقرعة، فافتقر إلى الرّضا بعد خروجهما كقبله، وأما في غيرهما فقياساً عليهما، وذلك كقولهما: رضينا بهذه القسمة أو بهذا أو بما أخرجته القرعة، فإن وقعت إجباراً لم يعتبر فيها تراض، لا قبل القرعة ولا بعدها، أو وقعت بدون قرعة أصلاً بأن اتفقا على أن يأخذ أحدهما أحد الجانبين والآخر الآخر، أو أحدهما الخسيس والآخر النفيس ويرد زائد القسمة فلا حاجة إلى تراض ثان بعد ذلك.
52 - ذهب الفقهاء إلى استقلال كلّ واحد من الشّركاء بعد القسمة بملك نصيبه والتصرّف فيه كأيّ مالك فيما يملك، لأن هذا هو ثمرة القسمة ومقصودها. ويذكر الحنفية هنا أن القسمة الفاسدة، كألتي شرط فيها هبة أو صدقة أو بيع من المقسوم أو من غيره يترتب عليها أيضاً هذا الاستقلال بعد القبض، وإن كان مع الضمان بالقيمة، قياساً على البيع، ويردّون ما قال ابن نجيم في الأشباه من نفي هذا الترتّب; لأنه بناه على أن الفساد والبطلان في القسمة سواء، وليس كذلك، والذي قاله ابن نجيم هو مذهب الجماهير من غير الحنفية وقد ضرب صاحب البدائع هنا عدة أمثلة لهذه التصرّفات التي يملكها كلّ واحد من المتقاسمين في نصيبه دون أن يكون لمقاسمه حقّ الاعتراض أو المنع، وذلك إذ يقول: لو وقع في نصيب أحد الشريكين ساحة لا بناء فيها، ووقع البناء في نصيب الآخر، فلصاحب الساحة أن يبني في ساحته، وله أن يرفع بناءه، وليس لصاحب البناء أن يمنعه، وإن كان يفسد عليه الرّيح والشمس; لأنه يتصرف في ملك نفسه، فلا يمنع منه، وكذا له أن يبني في ساحته مخرجاً أو تنّوراً أو حماماً أو رحىً، لما قلنا. وكذا له أن يقعد في بنائه حداداً أو قصاراً - أي الذي يبيّض الثّياب - وإن كان يتأذى به جاره، لما قلنا. وله أن يفتح باباً أو كوةً - أي الثّقبة في الحائط - لما ذكرنا; ألا ترى أن له أن يرفع الجدار أصلاً، ففتح الباب والكوة أولى. وله أن يحفر في ملكه بئراً أو بالوعةً أو كرياساً - أي كنيفاً في أعلى السطح - وإن كان يهي بذلك حائط جاره، ولو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر على التحويل، ولو سقط الحائط من ذلك لا يضمن; لأنه لا صنع منه في ملك الغير، والأصل أن لا يمنع الإنسان من التصرّف في ملك نفسه، إلا أن الكف عما يؤذي الجار أحسن. ثالثاً للمتقاسمين إحداث أبواب ونوافذ في السّكة المشتركة غير النافذة: 53 - وهذا مما يقع كثيراً; لأن قسمة الدار يترتب عليها إدخال تعديلات كثيرة، وتهيئة مرافق لم تكن، وليس لسائر الشّركاء في السّكة المذكورة الحيلولة دون ذلك; لأن للمتقاسمين أن يزيلوا الجدران فأولى أن يفتحوا فيها ما شاءوا من أبواب وكوىً. هكذا قرر صاحب البدائع من الحنفية وأطلقه والذي عند الشافعية أن الذي له أن يفتح باباً في السّكة غير النافذة هو من كان من أهلها، وهو من له فيها باب، لا من لاصقها جداره، ثم الذي له فيها باب لا يملك عندهم فتح باب آخر إلا إذا كان أقرب إلى رأس السّكة، وهو مفاد متون الحنفية أيضاً، لكن زاد الشافعية شريطةً أخرى لفتح باب جديد، هي أن يغلق الأول، هذا عند المشاحة، أما بالتراضي فلا كلام. كما أن المالكية يصرّحون بمنع فتح باب قبالة باب آخر لشريك في السّكة غير النافذة; لأنه يؤذيه ويسيء إلى أهله.
54 - قد يطرأ على القسمة بعد وقوعها أمور قد يرى الشّركاء أو بعضهم بسببها إعادة النظر بالقسمة ومنها: أ - الغبن: ذهب الفقهاء إلى أن الغبن في القسمة إذا كان يسيراً محتملاً فهذا قلما تخلو منه قسمة ولذا لا تسمع دعوى من يدعيه ولا تقبل بيّنته، أما الغبن الفاحش - الذي لا يتسامح فيه عادةً، في كلّ قضية بحسبها - فهذا هو الذي تسمع فيه الدعوى والبيّنة، والتفصيل في مصطلح (غبن ف / 7). ب - العيب: لم يحكم ببطلان القسمة بظهور العيب في بعض الأنصباء إلا الحنابلة، وليس هو أصل المذهب، وإنما أبدوه احتمالاً بناءً على أن التعديل من شرائط القسمة، وأحال الحنفية والشافعية والحنابلة في المذهب أحكام العيب على أحكامه في البيع، وبسط المالكية البحث في العيب في القسمة، والتفصيل في مصطلح (عيب ف /39). ج - الاستحقاق: إذا استحق جميع المال المقسوم يتبين أن لا قسمة لأنها لم تصادف محلّاً، وإذا استحق نصيب أحد المتقاسمين أو بعض نصيبه ففي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح (استحقاق ف /36).
55 - وتسمى قسمة المهايأة، بتحقيق الهمزة وتسهيلها، وهي في أصل اللّغة: مفاعلة من الهيئة قال في المصباح: تهايأ القوم تهايؤًا من الهيئة، جعلوا لكلّ واحد هيئةً معلومةً والمراد النوبة. وهي شرعاً: قسمة المنافع: لأن كل واحد فيها، إما أن يرضى بهيئة واحدة ويختارها، وإما أن الشريك الثاني ينتفع بالعين على الهيئة التي وقع بها انتفاع شريكه الأول.
56 - القياس عند الحنفية يقتضي امتناع قسمة المنافع لأنها مبادلة منفعة بجنسها نسيئةً، إذ كلّ واحد من الشريكين ينتفع بملك شريكه عوضاً عن انتفاع شريكه بملكه، لكن ترك القياس إلى القول بجوازها استحساناً، لما قام من دلائل مشروعيتها إذ هذه المشروعية ثابتة بالكتاب والسّنة والإجماع والمعقول: أما الكتاب: فقوله عز اسمه - حكايةً عن نبيّه صالح يخاطب قومه: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إذ هو يدلّ على جواز المهايأة الزمانية بنصّه - بناءً على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه وما لم يقص علينا من غير إنكار - وعلى جواز المهايأة المكانية بدلالته; لأن هذه أشبه من المهايأة الزمانية بقسمة الأعيان، إذ كلا الشريكين يستوفي حقه في نفس الوقت، دون تراخ عن صاحبه. أما السّنة: فقد جاء «أنهم كانوا يوم بدر بين ثلاثة نفر بعير يتهايئون في ركوبه» وهذه مهايأة زمانية، والمكانية أولى منها بالجواز، كما علمناه. وروي «أن الرجل الذي رغب في خطبة المرأة التي وهبت نفسها للنبيّ صلوات الله عليه حين رأى إعراض النبيّ، عرض إزاره مهراً ولم يكن له سواه، فقال صلوات الله عليه: ما تصنع بإزارك؟ إن لَبِسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لَبِسَتْه لم يكن عليك شيء» - يشير إلى أن الشأن في قسمة ما لا ينقسم - ولا يحتمل الاجتماع على منفعته في وقت واحد - أن يقسم على التهايؤ. وأما الإجماع: فلا يعرف في صحة قسمة المنافع على الجملة نزاع لأحد من أهل الفقه. وأما المعقول: فلأن ما لا يقبل القسمة، قد يتعذر الاجتماع على الانتفاع به في وقت واحد، فلو لم تشرع قسمة المنافع لضاعت منافع كثيرة، وتعطلت أعيان إنما خلقها الله سبحانه لينتفع بها، ولا يستقيم هذا في عقل أو شرع حكيم.
57 - تكون قسمة المنافع إذا صادفت محلها، وتراضى عليها الشّركاء، أو طلبها أحدهم والقسمة العينية غير ممكنة، أو ممكنة ولكن لم يطلبها شريك آخر، والمنفعة غير متفاوتة تفاوتاً يعتدّ به. أو تعذر الاجتماع على الانتفاع. والمنافع، كما هو فرض الكلام، أي منافع الأعيان التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء أعيانها، فلا يصحّ التهايؤ على الكتابة من محبرة مثلاً، ولا على الغلات المتمثّلة أعياناً بطبيعتها كالثّمار واللبن; لأن التهايؤ الذي هو شكل قسمة المنافع، إنما جاز ضرورةً أن المنافع أعراض سيالة لا تمكن قسمتها بعد وجودها لتقضّيها وعدم بقائها زمانين، فقسمت قبل وجودها بالتهايؤ في محلّها، أما الأعيان التي هي غلات فتبقى وتمكن قسمتها بذواتها، فلا حاجة إلى التهايؤ في قسمتها على ما فيه من الغرر، فالأراضي الزّراعية المشتركة بين اثنين تمكن قسمتها بالمهايأة: كأن يأخذ كلّ واحد نصفها، أو يأخذها أحدهما كلها فترةً معينة من الزمن ثم الآخر كذلك; لأن هذه قسمة منافع الأرض بزراعتها، أما النخل وشجر الفاكهة يكون بينهما فيتقاسمان على نحو ما قلنا في الأرض، ليستقل كلّ بما يتحصل من الثمرة في حصته أو في نوبته فلا سبيل إلى ذلك باتّفاق الإمام وصاحبيه; لأن الثّمار أعيان تمكن قسمتها بعد وجودها، وكذلك البقر والغنم وما إليهما، لا تجوز قسمة ألبانها بطريق المهايأة على نحو ما سلف للمعنى ذاته، ومثل الحنفية لذلك برجلين تواضعا في بقرة بينهما على أن تكون عند كلّ واحد منهما خمسة عشر يوماً، يحلب لبنها، كان باطلاً، ولا يحلّ فضل اللبن لأحدهما، وإن جعله صاحبه في حلّ; لأنه هبة المشاع فيما يقسم، إلا أن يكون صاحب الفضل استهلك الفضل، فإذا جعله صاحبه في حلّ، كان ذلك إبراءً من الضمان فيجوز، أما حال قيام الفضل فيكون هبةً أو إبراءً من العين، وإنه باطل. ويذكرون أن المخرج للمهايأة في الثمر أو اللبن أن يشتري هذا حصة شريكه من الأصل " أي الشجر أو الحيوان " ثم يبيعه إياه كله بعد انقضاء نوبته ليبدأ ذاك نوبته، حتى إذا انقضت باع صاحبه الأصل بدوره، وهكذا دواليك، أو يستقرض حصة صاحبه من اللبن أو الثمر، بأن يزن كل يوم ما يخصّه، حتى إذا انقضت نوبته استوفى صاحبه بالوزن ما كان أقرض، إذ قرض المشاع جائز، أصلاً وتأجيلاً. هكذا قرر الحنفية، وهو موضع وفاق من غيرهم إلا أن الشافعية والحنابلة يذكرون أن المخرج في التهايؤ على الثمر واللبن هو الإباحة، أي أن يبيح كلّ من الشريكين نصيبه لصاحبه مدة نوبته، ويغتفر الجهل لمكان الشركة وتسامح الناس. والمالكية قالوا في اللبن: يجوز التهايؤ عليه إذا كان على الفضل البيّن; لأنه يخرج من باب المعاوضات إلى باب المعروف البحت، وذلك كما لو جعلا لبن البقرة لأحدهما يوماً وللآخر يومين.
58 - قسمة المنافع أيضاً تتنوع إلى قسمة تراض وقسمة إجبار، ويستخلص من كلام الحنفية أن قسمة المنافع في تنوّعها هذا معتبرة بقسمة الأعيان: أ - فحيث اتحد الجنس واتفقت المنافع يمكن أن تكون القسمة قسمة إجبار لغلبة معنى الإفراز حينئذ، وذلك كما في قسمة دار للسّكنى، أو أرض للزّراعة، باتّفاق أبي حنيفة وصاحبيه، أو دارين أو أرضين على رأي الصاحبين إذا رأى القاضي وجه العدالة في ذلك. وإذاً فإذا طلب المهايأة أحد الشريكين أجبر الآخر عليها إلا أن يكون المحلّ قابلاً للقسمة العينية وطلبها هذا الآخر فإنها تقدم; لأن فيها - مع وصول كلّ إلى حقّه في نفس الوقت - فائدةً مقصودةً: هي إفراز الملك وتمييزه عن ملك الغير، بل لو وقعت القسمة مهايأةً بالفعل، وكان قد سكت هذا الشريك فصحت، ثم بدا له فعاد فطلب القسمة العينية، فإنه يجاب وتبطل قسمة المهايأة، لما ذكر. وهذا ينتظم العين المشتركة التي لا تقبل القسمة، فيجبر على التهايؤ فيها إذا طلبه أحد الشّركاء وكذلك العين المستأجرة التي لا يمكن الاجتماع على الانتفاع بها، كدار لا تسع إلا سكنى أحد الشريكين. ب - وحيث كان الأمر على العكس من ذلك بأن اختلف الجنس كدار وأرض، أو تفاوتت المنفعة، كدار تقسم مهايأةً ليكون بعضها حصةً للسّكنى والبعض الآخر حصة للاستغلال، فلا إجبار ولا سبيل إلى قسمة المهايأة إلا بالتراضي. 59 - ثم لا فرق بين أن تكون القسمة بالمهايأة المكانية أو المهايأة الزمانية، إذ لكلّ منهما مزيته، فالأولى أعدل، لوصول كلّ واحد إلى حقّه في نفس الوقت، والثانية أكمل، لأن كل واحد ينتفع بالعين كلّها، ولذا لو اختلفا في التهايؤ على الدار: هذا يطلب أن يسكن أحدهما في مقدّمها، والآخر في مؤخّرها، وذاك يطلب أن يسكن أحدهما جميع الدار شهراً، ثم الآخر شهراً آخر، فإن القاضي لا يجيب أحدهما، إذ لا رجحان لأحد، وإنما يأمرهما بأن يتفقا، ثم إذا اتفقا على المهايأة الزمانية أقرع بينهما لتعيين من له البداءة، وإن اتفقا على المهايأة المكانية، ولكن تنازعا مكاناً بعينه أقرع بينهما ليتعين بالقرعة لكلّ واحد مكانه. وقد ذهب إلى قصر الإجبار على المهايأة المكانية صاحب المحرر من الحنابلة حيث لا تنطوي القسمة على ضرر، ولكن الذي اعتمده الحنابلة خلافه: وهو نفي الإجبار في قسمة المنافع كلّها، قبلت العين القسمة العينية أم لم تقبلها، اتفقت المنفعة أم اختلفت، وهو الذي قال به المالكية والشافعية لأن في هذه القسمة معنى المعاوضة على العموم، إذ كلّ واحد من الشريكين ينتفع بنصيب صاحبه أو حصته عنده لقاء انتفاع صاحبه بنصيبه أو حصته; ولأن المنفعة معدومة عند القسمة، ولا يدري أحد من المتقاسمين ما يحصل له منها وما لا يحصل، ثم لأن في المهايأة الزمانية خاصةً غبناً لمن تتأخر نوبته. لكن يقرّر البلقينيّ من الشافعية أن المانع الحقيقي من دخول الإجبار في قسمة المهايأة هو بقاء العلقة بالشركة في العين ذاتها، ولذا فإن المنافع المملوكة بغير حقّ ملك الذات، كما في الإجارة والوصية، تقبل الإجبار على قسمتها، وفي نهاية المحتاج ما يفيد أنه أحد وجهين في المذهب، والوجه الآخر هو إطلاق القول بعدم الإجبار، إلا في حالة الضرورة كما سيجيء. وفي تنقيح الحامدية كلام مستدرك عن عدم الإجبار على تهايؤ المستأجرين. وذكر الشافعية أن الشّركاء قد يأبون من قسمة المهايأة فيما لا يقبل القسمة العينية، فحينئذ يؤجّره القاضي عليهم أو يجبرهم على إيجاره، مدةً قريبةً كسنة، فإن تعذر الإيجار لكساد لا يرجى انقشاع غمته من قريب، فإنه يبيع عليهم، لكن ربما تعذر البيع أيضاً، وهنا يقول الزركشيّ: يجبرهم على المهايأة إذا طلبها أحدهم، ولا يعرض عنهم إلى الصّلح كما في العارية; لأنه ضرر عامّ وكثير ولابن البناء من الحنابلة نحوه، إلا أنه لم يذكر البيع، ومعلوم موقف المالكية المتميّز ومعهم موافقوهم في الإجبار على البيع، لكن بطلب أحد الشّركاء (ر: ف /47). وقد مضى أبو حنيفة في غير العقار على وتيرة واحدة. إذ منع المهايأة على غلة الكراء وحكم ببطلانها; لأنها عين وتمكن قسمتها، فيبقى المال المشترك دون مهايأة، ثم ما يتحصل من غلته يقتسمه الشّركاء بينهم، فعنده لا يصحّ التهايؤ على استغلال الدابة أو الدابتين. ولكنه استثنى غلة العقار، فألحقها بالمنافع، وجوز التهايؤ على قسمتها، فلا مانع منه في الدار الواحدة أو الدارين، والأرض الواحدة أو الأرضين، سواء أكان التهايؤ زمانيّاً أم مكانيّاً، فاحتاج إلى الفرق بين العقار والحيوان مثلاً فوجده في كثرة الغرر في الحيوان، لأن تعرّضه للتغيّرات أكثر، ففي المهايأة عليه تكون المعادلة، التي هي من شرائط القسمة، في مظنة الفوات، ولا كذلك في العقار: فإن الظاهر فيه بقاء التعادل القائم عند القسمة. ثم فرق بين المهايأة المكانية والمهايأة الزمانية - على الاستغلال - ففي المكانية إذا زادت الغلة في نوبة أحد الشريكين عنها في نوبة الآخر لا يشتركان في الزّيادة، بل تخصّ من وقعت في نوبته، لقوة معنى التمييز والإفراز في هذا النوع من القسمة، بسبب اتّحاد زمان استيفاء كلّ حقّه، وفي الزمانية يشتركان في الزّيادة، لضعف هذا المعنى فيها، بسبب تعاقب استيفاء كلّ حقه فيقدر معنى القرض ليحصل التعادل: كأن هذا أقرض نصيبه من غلة هذا الشهر على أن يستوفي من نصيب الآخر في الشهر الثاني، ويقدر أن كلّاً منهما وكيل عن صاحبه في تأجير نصيبه فإذا استوفى المقرض قدر قرضه كان الباقي مشتركاً بينهما. ومنع المهايأة على الغلة - بمعنى الكراء - هو مذهب المالكية الذي لا يختلفون عليه، فيما قل وكثر; لأنها تتفاوت ويدخلها من الغرر ما يدخل كل ما لا انضباط له، حتى لقد ردّوا قول محمد بن عبد الحكم: يسهل ذلك في اليوم الواحد. ولم يعتبروه معبّراً عن المذهب. نعم إذا انضبطت الغلة، كما في حالات التسعير الجبريّ بواسطة السّلطات الحاكمة فذاك.
60 - قسمة المنافع تتنوع إلى نوعين: وإن شئت فقل تكون بإحدى صورتين: أ - مهايأة زمانية: وهي التناوب على الانتفاع بالعين المشتركة كاملةً مدةً معلومةً من الزمن تتناسب في جانب كلّ من الشريكين أو الشّركاء مع نصيبه في العين المشتركة، إلا أن ينزل عن شيء بطيب نفس منه، كأن يتهايأ الشريكان على أن يزرعا الأرض أو يسكنا الدار: هذا سنةً وهذا سنةً، ولا مفر من هذه الكيفية في المهايأة على البيت الصغير، وكلّ ما لا تنقسم عينه فيتهايأ الشريكان على أن تكون لأحدهما سكنى الدار أسبوعاً أو أكثر أو أقل ثم للآخر كذلك.. وهكذا. لكن أبا حنيفة خلافاً لصاحبيه يمنع الإجبار على التهايؤ في ركوب الدابة، يركبها هذا يوماً مثلاً وهذا يوماً، لفحش التفاوت النازل منزلة اختلاف الجنس بين ركوب وركوب: فرب راكب حاذق ورب آخر أخرق، والدابة حيوان أعجم لا يستطيع أن يرفض حين يساء استعماله. ب - مهايأة مكانية: وهي أن يستقل كلّ واحد من الشريكين أو الشّركاء بالانتفاع ببعض معين من المال المشترك، مع بقاء الشركة في عين المال بحالها، ولا يشترط بيان مدة لأنها ليست مبادلةً محضةً، بل معنى الإفراز فيها أغلب. فالدار الواحدة القابلة للقسمة، والأرض الواحدة، يمكن بلا خلاف أن يتهايأ الشريكان فيها على أن يسكن أو يزرع أحدهما مقدّمها، والآخر مؤخّرها، وإذا كان في الدار علوّ وسفل، أمكن أن يتهايآ على أن يسكن أحدهما العلو والآخر السّفل، إجباراً; لأن هذا كله لا يختلف أبو حنيفة وصاحباه في الإجبار على قسمته قسمة أعيان، وقسمة المنافع معتبرة بقسمة الأعيان. والداران يمكن كذلك أن تتهايأ الشريكان على أن يسكن هذا هذه وهذا هذه، وكذلك الأرضان زراعةً والفرسان ركوباً، وهذا أيضاً بلا خلاف، وقد كان يتوهم في الإجبار عليه خلاف أبي حنيفة اعتباراً بقسمة الأعيان، ولكنه - في ظاهر الرّواية - نظر هنا إلى أن التفاوت في قسمة المنافع وحدها لا يتفاحش تفاحشه في قسمة الأعيان، فلم يفرق هنا بين دار ودارين وأرض وأرضين. على أنه في غير ظاهر الرّواية مضى على أصله في قسمة الأعيان فمنع الإجبار على قسمة المنافع في الدارين والأرضين قسمة جمع، بل روي عنه امتناع المهايأة فيهما بإطلاق، جبراً وتراضياً، أما جبراً فلما تقدم، وأما تراضياً فلأنها بيع المنفعة بجنسها نسيئةً. أما التهايؤ على دابتين للرّكوب من جنس واحد: كفرسين عربيتين، يأخذ هذا واحدةً والآخر الأخرى، فأبو حنيفة - خلافًا لصاحبيه الناظرين إلى قسمة الأعيان - على أصله من أن الرّكوب في حكم جنسين مختلفين، ولذا لا يملك من استأجر دابةً ليركبها أن يؤجّرها للرّكوب، ولو فعل لضمن، فلا يمكن الإجبار على هذا التهايؤ، أما بالتراضي فلا بأس. هذا تقرير مذهب الحنفية، ويوافقهم الشافعية والحنابلة على كيفية قسمة المنافع، وتنوّعها إلى مهايأة زمانية ومهايأة مكانية، ونص الحنابلة على أنه لا يشترط فيها بيان مدة. أما عند المالكية: فالمذهب أنه يشترط لصحة قسمة المنافع تعيين الزمان، سواء اتحد المقسوم أو تعدد، وقيل: إنه لا يشترط تعيين الزمان في المتعدّد، فإن عيّن الزمان فهي لازمة، وإن لم يعين الزمان فلكلّ منهما أن ينحل متى شاء، وقال ابن الحاجب وابن عبد السلام: إن تعيين الزمان شرط اللّزوم وليس شرط الصّحة، قال الدّسوقيّ: إن عيّن الزمن في القسمة صحت ولزمت في المقسوم المتحد والمتعدّد، وإن لم يعين فسدت في المتحد اتّفاقاً وفي المتعدّد خلاف، فابن الحاجب يقول بصحتها، وابن عرفة بفسادها.
|