الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
وَيَتَضَمَّنُ مَسَائِلَ: إِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُبَارَكَةَ عَرَبِيَّةٌ، لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْأَلْسُنِ الْعَجَمِيَّةِ، وَهَذَا- وَإِنْ كَانَ مُبَيَّنًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ كَلِمَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، أَوْ فِيهِ أَلْفَاظٌ أَعْجَمِيَّةٌ تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ; فَوَقَعَ فِيهِ الْمُعَرَّبُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَصْلِ كَلَامِهَا، فَإِنَّ هَذَا الْبَحْثَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ هُنَا. وَإِنَّمَا الْبَحْثُ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَطَلَبُ فَهْمِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ خَاصَّةً; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يُوسُفَ: 2]. وَقَالَ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاء: 195]. وَقَالَ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْل: 103]. وَقَالَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَتْ: 44]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَبِلِسَانِ الْعَرَبِ، لَا أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ وَلَا بِلِسَانِ الْعَجَمِ، فَمَنْ أَرَادَ تَفَهُّمَهُ; فَمِنْ جِهَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ يُفْهَمُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَطَلُّبِ فَهْمِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ، هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ جَاءَتْ فِيهِ أَلْفَاظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَجَمِ، أَوْ لَمْ يَجِئْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ; فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ تَكَلَّمَتْ بِهِ، وَجَرَى فِي خِطَابِهَا، وَفَهِمَتْ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا تَكَلَّمَتْ بِهِ صَارَ مِنْ كَلَامِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَدَعُهُ عَلَى لَفْظِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَجَمِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ حُرُوفُهُ فِي الْمَخَارِجِ وَالصِّفَاتِ كَحُرُوفِ الْعَرَبِ، وَهَذَا يَقِلُّ وُجُودُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مَنْسُوبًا إِلَى الْعَرَبِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حُرُوفُهُ كَحُرُوفِ الْعَرَبِ، أَوْ كَانَ بَعْضُهَا كَذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ; فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تَرُدَّهَا إِلَى حُرُوفِهَا، وَلَا تَقْبَلَهَا عَلَى مُطَابَقَةِ حُرُوفِ الْعَجَمِ أَصْلًا، وَمِنْ أَوْزَانِ الْكَلِمِ مَا تَتْرُكُهُ عَلَى حَالِهِ فِي كَلَامِ الْعَجَمِ، وَمِنْهَا مَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالتَّغْيِيرِ كَمَا تَتَصَرَّفُ فِي كَلَامِهَا، وَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ صَارَتْ تِلْكَ الْكَلِمُ مَضْمُومَةً إِلَى كَلَامِهَا، كَالْأَلْفَاظِ الْمُرْتَجَلَةِ، وَالْأَوْزَانِ الْمُبْتَدَأَةِ لَهَا، هَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَا نِزَاعَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ. وَمَعَ ذَلِكَ; فَالْخِلَافُ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ فِيهَا أَنْ تُوضَعَ مَسْأَلَةٌ كَلَامِيَّةٌ يَنْبَنِي عَلَيْهَا اعْتِقَادٌ، وَقَدْ كَفَى اللَّهُ مَؤُونَةَ الْبَحْثِ فِيهَا بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا عُجْمَةَ فِيهِ، فَبِمَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى لِسَانٍ مَعْهُودٍ فِي أَلْفَاظِهَا الْخَاصَّةِ وَأَسَالِيبِ مَعَانِيهَا، وَأَنَّهَا فِيمَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ مِنْ لِسَانِهَا تُخَاطِبُ بِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ فِي وَجْهٍ وَالْخَاصُّ فِي وَجْهٍ، وَبِالْعَامِّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَالظَّاهِرُ يُرَادُ بِهِ غَيْرُ الظَّاهِرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُعْرَفُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَتَتَكَلُّمُ بِالْكَلَامِ يُنْبِئُ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ، أَوْ آخِرُهُ عَنْ أَوَّلِهِ، وَتَتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ يُعْرَفُ بِالْمَعْنَى كَمَا يُعْرَفُ بِالْإِشَارَةِ، وَتُسَمِّي الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِأَسْمَاءَ كَثِيرَةٍ، وَالْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ بِاسْمٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَهَا لَا تَرْتَابُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ هِيَ وَلَا مَنْ تَعَلَّقَ بِعِلْمِ كَلَامِهَا. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; فَالْقُرْآنُ فِي مَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، فَكَمَا أَنَّ لِسَانَ بَعْضِ الْأَعَاجِمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ جِهَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ، كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ لِسَانُ الْعَرَبِ مِنْ جِهَةِ فَهْمِ لِسَانِ الْعَجَمِ; لِاخْتِلَافِ الْأَوْضَاعِ وَالْأَسَالِيبِ، وَالَّذِي نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الشَّافِعِيُّ الْإِمَامُ، فِي رِسَالَتِهِ الْمَوْضُوعَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُ لَمْ يَأْخُذْهَا هَذَا الْمَأْخَذَ; فَيَجِبُ التَّنَبُّهُ لِذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ نَظَرَان: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةً، دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ مُطْلَقَةٍ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْأَصْلِيَّةُ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُقَيَّدَةً دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ خَادِمَةٍ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ التَّابِعَةُ. فَالْجِهَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْأَلْسِنَةِ، وَإِلَيْهَا تَنْتَهِي مَقَاصِدُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَا تَخْتَصُّ بِأُمَّةٍ دُونَ أُخْرَى، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ فِي الْوُجُودِ فِعْلٌ لِزَيْدٍ مَثَلًا كَالْقِيَامِ، ثُمَّ أَرَادَ كُلُّ صَاحِبِ لِسَانٍ الْإِخْبَارَ عَنْ زَيْدٍ بِالْقِيَامِ، تَأَتَّى لَهُ مَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُمْكِنُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْإِخْبَارُ عَنْ أَقْوَالِ الْأَوَّلِينَ- مِمَّنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ- وَحِكَايَةُ كَلَامِهِمْ، وَيَتَأَتَّى فِي لِسَانِ الْعَجَمِ حِكَايَةُ أَقْوَالِ الْعَرَبِ وَالْإِخْبَارُ عَنْهَا، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَأَمَّا الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ; فَهِيَ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا لِسَانُ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الْحِكَايَةِ وَذَلِكَ الْإِخْبَارُ، فَإِنَّ كُلَّ خَبَرٍ يَقْتَضِي فِي هَذِهِ الْجِهَةِ أُمُورًا خَادِمَةً لِذَلِكَ الْإِخْبَارِ بِحَسَبِ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْمُخْبَرِ بِهِ، وَنَفْسِ الْإِخْبَارِ فِي الْحَالِ، وَالْمَسَاقِ، وَنَوْعِ الْأُسْلُوبِ مِنَ الْإِيضَاحِ وَالْإِخْفَاءِ، وَالْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِخْبَار: قَامَ زَيْدٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّ عِنَايَةٌ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، بَلْ بِالْخَبَرِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ قُلْتَ: زَيْدٌ قَامَ، وَفِي جَوَابِ السُّؤَالِ أَوْ مَا هُوَ مُنَزَّلٌ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ: إِنَّ زَيْدًا قَامَ، وَفِي جَوَابِ الْمُنْكِرِ لِقِيَامِه: وَاللَّهِ إِنَّ زَيْدًا قَامَ، وَفِي إِخْبَارِ مَنْ يَتَوَقَّعُ قِيَامَهُ أَوِ الْإِخْبَارَ بِقِيَامِه: قَدْ قَامَ زَيْدٌ، أَوْ زَيْدٌ قَدْ قَامَ، وَفِي التَّنْكِيتِ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ. ثُمَّ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا بِحَسَبِ تَعْظِيمِهِ أَوْ تَحْقِيرِهِ- أَعْنِي الْمُخْبَرَ عَنْهُ، وَبِحَسَبِ الْكِنَايَةِ عَنْهُ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ، وَبِحَسَبِ مَا يُقْصَدُ فِي مَسَاقِ الْأَخْبَارِ، وَمَا يُعْطِيهِ مُقْتَضَى الْحَالِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ دَائِرٌ حَوْلَ الْإِخْبَارِ بِالْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ. فَمِثْلُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِهَا لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ، وَلَكِنَّهَا مِنْ مُكَمِّلَاتِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ، وَبِطُولِ الْبَاعِ فِي هَذَا النَّوْعِ يَحْسُنُ مَسَاقُ الْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنْكَرٌ، وَبِهَذَا النَّوْعِ الثَّانِي اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَقَاصِيصِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ يَأْتِي مَسَاقُ الْقِصَّةِ فِي بَعْضِ السُّورِ عَلَى وَجْهٍ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَفِي ثَالِثَةٍ عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهَكَذَا مَا تَقَرَّرَ فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ، لَا بِحَسَبِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، إِلَّا إِذَا سَكَتَ عَنْ بَعْضِ التَّفَاصِيلِ فِي بَعْضٍ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضٍ، وَذَلِكَ أَيْضًا لِوَجْهٍ اقْتَضَاهُ الْحَالُ وَالْوَقْتُ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَمَ: 64].
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَلَا يُمْكِنُ مَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ أَنْ يُتَرْجِمَ كَلَامًا مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ بِكَلَامِ الْعَجَمِ عَلَى حَالٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُتَرْجِمَ الْقُرْآنَ وَتَرْجَمَتُهُ وَيُنْقَلَ إِلَى لِسَانٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ، إِلَّا مَعَ فَرْضِ اسْتِوَاءِ اللِّسَانَيْنِ فِي اعْتِبَارِهِ عَيْنًا، كَمَا إِذَا اسْتَوَى اللِّسَانَانِ فِي اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلِهِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللِّسَانِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ مَعَ لِسَانِ الْعَرَبِ أَمْكَنَ أَنْ يُتَرْجَمَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَإِثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا بِوَجْهٍ بَيِّنٌ عَسِيرٌ جِدًّا، وَرُبَّمَا أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَافٍ وَلَا مُغْنٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَقَدْ نَفَى ابْنُ قُتَيْبَةَ إِمْكَانَ التَّرْجَمَةِ فِي الْقُرْآنِ- يَعْنِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ; فَهُوَ مُمْكِنٌ وَمِنْ جِهَتِهِ صَحَّ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ لِلْعَامَّةِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَهْمٌ يَقْوَى عَلَى تَحْصِيلِ مَعَانِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَصَارَ هَذَا الِاتِّفَاقُ حُجَّةً فِي صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ.
وَإِذَا اعْتَبُرِتِ الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ الْأُولَى وُجِدَتْ كَوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا; لِأَنَّهَا كَالتَّكْمِلَةِ لِلْعِبَارَةِ وَالْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ لِلْإِفْهَامِ، وَهَلْ تُعَدُّ مَعَهَا كَوَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ الذَّاتِيَّةِ؟ أَوْ هِيَ كَوَصْفٍ غَيْرِ ذَاتِيٍّ؟ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَبَحْثٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ- جُمْلَةٌ، إِلَّا أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا كَافٍ; فَإِنَّهُ كَالْأَصْلِ لِسَائِرِ الْأَنْظَارِ الْمُتَفَرِّعَةِ; فَالسُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ أُمِّيَّةٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَذَلِكَ فَهُوَ أَجْرَى عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الْجُمُعَة: 2]. وَقَوْلِه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الْأَعْرَاف: 158]. وَفِي الْحَدِيث: «بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ» لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِعُلُومِ الْأَقْدَمِينَ، وَالْأُمِّيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ، وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ وِلَادَةِ الْأُمِّ لَمْ يَتَعَلَّمْ كِتَابًا وَلَا غَيْرَهُ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيث: «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» وَقَدْ فَسَرَ مَعْنَى الْأُمِّيَّةِ فِي الْحَدِيثِ; أَيْ لَيْسَ لَنَا عِلْمٌ بِالْحِسَابِ وَلَا الْكِتَابِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [الْعَنْكَبُوت: 48]. وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ، لِأَنَّ أَهْلَهَا كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ خُصُوصًا وَإِلَى مَنْ سِوَاهُمْ عُمُومًا; إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى نِسْبَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مَنْ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا أُمِّيَّةً؛ أَيْ مَنْسُوبَةً إِلَى الْأُمِّيِّينَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ; لَزِمَ أَنْ تَكُونَ عَلَى غَيْرِ مَا عَهِدُوا، فَلَمْ تَكُنْ لِتَتَنَزَّلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَنْزِلَةً مَا تُعْهَدُ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا وُضِعَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِيهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا يَعْهَدُونَ، وَالْعَرَبُ لَمْ تَعْهَدْ إِلَّا مَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأُمِّيَّةِ، فَالشَّرِيعَةُ إِذًا أُمِّيَّةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا يَعْهَدُونَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مُعْجِزًا، وَلَكَانُوا يَخْرُجُونَ عَنْ مُقْتَضَى التَّعْجِيزِ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا عَلَى غَيْرِ مَا عَهِدْنَا; إِذْ لَيْسَ لَنَا عَهْدٌ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَلَامَنَا مَعْرُوفٌ مَفْهُومٌ عِنْدَنَا، وَهَذَا لَيْسَ بِمَفْهُومٍ وَلَا مَعْرُوفٍ، فَلَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَتْ: 44] فَجَعَلَ الْحُجَّةَ عَلَى فَرْضِ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَعْجَمِيًّا، وَلَمَّا قَالُوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النَّحْل: 103] رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْل: 103] لَكِنَّهُمْ أَذْعَنُوا لِظُهُورِ الْحُجَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِهِ وَعَهْدِهِمْ بِمِثْلِهِ، مَعَ الْعَجْزِ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ، وَأَدِلَّةُ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عُلُومٍ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا الشَّارِعُ وَمَا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا كَانَ لَهَا اعْتِنَاءٌ بِعُلُومٍ ذَكَرَهَا النَّاسُ، وَكَانَ لِعُقَلَائِهِمِ اعْتِنَاءٌ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَاتِّصَافٌ بِمَحَاسِنِ شِيَمٍ، فَصَحَّحَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَزَادَتْ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلَتْ مَا هُوَ بَاطِلٌ، وَبَيَّنَتْ مَنَافِعَ مَا يَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَضَارَّ مَا يَضُرُّ مِنْهُ. فَمِنْ عُلُومِهَا عِلْمُ النُّجُومِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الِاهْتِدَاءِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ بِاخْتِلَافِ سَيْرِهَا، وَتَعَرُّفِ مَنَازِلِ سَيْرِ النَّيِّرَيْنِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَعْنًى مُقَرَّرٌ فِي أَثْنَاءِ الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الْأَنْعَام: 97]. وَقَوْلِه: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النَّحْل: 16]. وَقَوْلِه: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 39- 40]. وَقَوْلِه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يُونُسَ: 5]. وَقَوْلِه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} الْآيَةَ [الْإِسْرَاء: 12]. وَقَوْلِه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الْمُلْك: 5]. وَقَوْلِه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [الْبَقَرَة: 189]. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: عُلُومُ الْأَنْوَاءِ، وَأَوْقَاتُ نُزُولِ الْأَمْطَارِ، وَإِنْشَاءُ السَّحَابِ، وَهُبُوبُ الرِّيَاحِ الْمُثِيرَةِ لَهَا، فَبَيَّنَ الشَّرْعُ حَقَّهَا مِنْ بَاطِلِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} الْآيَةَ [الرَّعْد: 12- 13]. وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الْوَاقِعَة: 68- 69]. وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النَّبَأ: 14]. وَقَالَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَة: 82]. خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَة: 82]؛ قَالَ شُكْرُكُمْ، تَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، وَبِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا. وَفِي الْحَدِيث: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي» الْحَدِيثُ فِي الْأَنْوَاءِ. وَفِي الْمُوَطَّأِ مِمَّا انْفَرَدَ بِه: «إِذَا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً ثُمَّ تَشَاءَمَتْ; فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ». وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالنَّاسُ تَحْتَهُ: كَمْ بَقِيَ مِنْ نَوْءِ الثُّرَيَّا؟ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: بَقِيَ مِنْ نَوْئِهَا كَذَا وَكَذَا. فَمِثْلَ هَذَا مُبَيِّنٌ لِلْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ فِي أَمْرِ الْأَنْوَاءِ وَالْأَمْطَارِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} الْآيَةَ [الْحِجْر: 22]. وَقَالَ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فَاطِرٍ: 9]. إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا. وَمِنْهَا: عِلْمُ التَّارِيخِ وَأَخْبَارُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ احْتَفَلَ فِي ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ بِهَا عِلْمٌ، لَكِنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا كَانُوا يَنْتَحِلُونَ، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 44]. وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هُودٍ: 49]. وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةُ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَى. وَمِنْهَا: مَا كَانَ أَكْثَرُهُ بَاطِلًا أَوْ جَمِيعُهُ; كَعِلْمِ الْعِيَافَةِ، وَالزَّجْرِ، وَالْكِهَانَةِ، وَخَطِّ الرَّمْلِ، وَالضَّرْبِ بِالْحَصَى، وَالطِّيَرَةِ; فَأَبْطَلَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ ذَلِكَ الْبَاطِلَ وَنَهَتْ عَنْهُ; كَالْكِهَانَةِ، وَالزَّجْرِ، وَخَطِّ الرَّمْلِ، وَأَقَرَّتِ الْفَأْلَ لَا مِنْ جِهَةِ تَطَلُّبِ الْغَيْبِ; فَإِنَّ الْكِهَانَةَ وَالزَّجْرَ كَذَلِكَ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَحْرِصُ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ; فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِهَةٍ مِنْ تَعَرُّفِ عِلْمِ الْغَيْبِ مِمَّا هُوَ حَقٌّ مَحْضٌ، وَهُوَ الْوَحْيُ وَالْإِلْهَامُ. وَأُبْقِيَ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ- جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، وَأُنْمُوذَجٌ مِنْ غَيْرِهِ لِبَعْضِ الْخَاصَّةِ وَهُوَ الْإِلْهَامُ وَالْفِرَاسَةُ. وَمِنْهَا: عِلْمُ الطِّبِّ; فَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ مِنْهُ شَيْءٌ لَا عَلَى مَا عِنْدَ الْأَوَائِلِ، بَلْ مَأْخُوذٌ مِنْ تَجَارِيبِ الْأُمِّيِّينَ، غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى عُلُومِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي يُقَرِّرُهَا الْأَقْدَمُونَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمَسَاقِ جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ جَامِعٍ شَافٍ قَلِيلٍ يُطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى كَثِيرٍ; فَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الْأَعْرَاف: 31]. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ التَّعْرِيفُ بِبَعْضِ الْأَدْوِيَةِ لِبَعْضِ الْأَدْوَاءِ، وَأُبْطِلَ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ بَاطِلٌ; كَالتَّدَاوِي بِالْخَمْرِ، وَالرُّقَى الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا. وَمِنْهَا: التَّفَنُّنُ فِي عِلْمِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ، وَالْخَوْضُ فِي وُجُوهِ الْفَصَاحَةِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَعْظَمُ مُنْتَحَلَاتِهِمْ; فَجَاءَهُمْ بِمَا أَعْجَزَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاء: 88]. وَمِنْهَا: ضَرْبُ الْأَمْثَالِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الرُّوم: 58]؛ إِلَّا ضَرْبًا وَاحِدًا، وَهُوَ الشِّعْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ نَفَاهُ وَبَرَّأَ الشَّرِيعَةَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى فِي حِكَايَتِهِ عَنِ الْكُفَّار: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصَّافَّات: 36]؛ أَيْ لَمْ يَأْتِ بِشِعْرٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الْآيَةَ [يس: 69]. وَبَيَّنَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشُّعَرَاء: 224- 226]. فَظَهَرَ أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ، وَلَكِنَّهُ هَيَمَانٌ عَلَى غَيْرِ تَحْصِيلٍ، وَقَوْلٌ لَا يُصَدِّقُهُ فِعْلٌ، وَهَذَا مُضَادٌّ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذَا أُنْمُوذَجٌ يُنَبِّهُكَ عَلَى مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُلُومِ الْعَرَبِ الْأُمِّيَّةِ. وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الِاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَنْضَافُ إِلَيْهَا; فَهُوَ أَوَّلُ مَا خُوطِبُوا بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ آنَسَ لَهُمْ، وَأُجْرِيَ عَلَى مَا يُتَمَدَّحُ بِهِ عِنْدَهُمْ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النَّحْل: 90] إِلَى آخِرِهَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الْأَنْعَام: 151] إِلَى انْقِضَاءِ تِلْكَ الْخِصَالِ. وَقَوْلِه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الْأَعْرَاف: 32]. وَقَوْلِه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الْأَعْرَاف: 33]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي هَذَا الْمَعْنَى. لَكِنْ أُدْرِجَ فِيهَا مَا هُوَ أَوْلَى؛ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ، وَأَبْطَلَ لَهُمْ مَا كَانُوا يُعِدُّونَهُ كَرْمًا وَأَخْلَاقًا حَسَنَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى الْمَصَالِحِ الَّتِي تَوَهَّمُوهَا; كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [الْمَائِدَة: 90]. ثُمَّ بَيَّنَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ خُصُوصًا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ; مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا فِي الْفَسَادِ أَعْظَمُ مِمَّا ظَنُّوهُ فِيهِمَا صَلَاحًا; لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ تُشَجِّعُ الْجَبَانَ، وَتَبْعَثُ الْبَخِيلَ عَلَى الْبَذْلِ، وَتُنَشِّطُ الْكُسَالَى، وَالْمَيْسِرُ كَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ مَحْمُودًا لِمَا كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ مِنْ إِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْعَطْفِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [الْبَقَرَة: 219]. وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا إِنَّمَا هِيَ تَخَلُّقٌ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ». إِلَّا أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مَا أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ مِنْهَا وَمَا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مَأْلُوفًا وَقَرِيبًا مِنَ الْمَعْقُولِ الْمَقْبُولِ، كَانُوا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا خُوطِبُوا بِهِ، ثُمَّ لَمَّا رَسَخُوا فِيهِ تَمَّمَ لَهُمْ مَا بَقِيَ، وَهُوَ: الضَّرْبُ الثَّانِي: وَكَانَ مِنْهُ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَأُخِّرَ; حَتَّى كَانَ مِنْ آخِرِهِ تَحْرِيمُ الرِّبَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ لِلْعَرَبِ أَحْكَامٌ عِنْدِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ، كَمَا قَالُوا فِي الْقِرَاضِ، وَتَقْدِيرِ الدِّيَةِ، وَضَرْبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْقَافَةِ، وَالْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْحُكْمِ فِي الْخُنْثَى، وَتَوْرِيثِ الْوَلَدِ لِلذِّكْرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْقَسَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ. ثُمَّ نَقُولُ: لَمْ يُكْتَفَ بِذَلِكَ حَتَّى خُوطِبُوا بِدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ فِيمَا يَعْرِفُونَ; مِنْ سَمَاءٍ، وَأَرْضٍ، وَجِبَالٍ، وَسَحَابٍ، وَنَبَاتٍ، وَبِدَلَائِلِ الْآخِرَةِ وَالنُّبُوَّةِ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْبَاقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ شَيْءٌ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبِيهِمْ، خُوطِبُوا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَدُعُوا إِلَيْهَا، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ هِيَ تِلْكَ بِعَيْنِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الْحَجّ: 78]. وَقَوْلِه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 67]. غَيْرَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا جُمْلَةً مِنْهُمْ، وَزَادُوا، وَاخْتَلَفُوا، فَجَاءَ تَقْوِيمُهَا مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُخْبِرُوا بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُوَ لَدَيْهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأُخْبِرُوا عَنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَأَصْنَافِهِ بِمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي تَنَعُّمَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، لَكِنْ مُبَرَّأٌ مِنَ الْغَوَائِلِ وَالْآفَاتِ الَّتِي تُلَازِمُ التَّنْعِيمَ الدُّنْيَوِيَّ; كَقَوْلِه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الْوَاقِعَة: 27- 30] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَبَيَّنَ مَنْ مَأْكُولَاتِ الْجَنَّةِ وَمَشْرُوبَاتِهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ; كَالْمَاءِ، وَاللَّبَنِ، وَالْخَمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالنَّخِيلِ، وَالْأَعْنَابِ، وَسَائِرِ مَا هُوَ عِنْدَهُمْ مَأْلُوفٌ دُونَ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْكُمَّثْرَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَوَاكِهِ الْأَرْيَافِ وَبِلَادِ الْعَجَمِ، بَلْ أَجْمَلَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْفَاكِهَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النَّحْل: 125]. فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حِكْمَةٌ، وَقَدْ كَانُوا عَارِفِينَ بِالْحِكْمَةِ، وَكَانَ فِيهِمْ حُكَمَاءُ; فَأَتَاهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ بِمَا عَجَزُوا عَنْ مِثْلِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ أَهْلُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ; كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُجَادِلْهُمْ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْجَدَلِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الْقُرْآنَ وَتَأَمَّلَ كَلَامَ الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ; وَجَدَ الْأَمْرَ سَوَاءً إِلَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ مِنَ الْخَوَاصِّ الْمَعْرُوفَةِ. وَسِرْ فِي جَمِيعِ مُلَابَسَاتِ الْعَرَبِ هَذَا السَّيْرَ; تَجِدِ الْأَمْرَ كَمَا تَقَرَّرَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَضَحَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ لَمْ تَخْرُجْ عَمَّا أَلِفَتْهُ الْعَرَبُ.
مَا تَقَرَّرَ مِنْ أُمِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِهَا وَهُمُ الْعَرَبُ، يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: مِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَجَاوَزُوا فِي الدَّعْوَى عَلَى الْقُرْآنِ الْحَدَّ; فَأَضَافُوا إِلَيْهِ كُلَّ عِلْمٍ يُذْكَرُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ أَوِ الْمُتَأَخِّرِينَ; مِنْ عُلُومِ الطَّبِيعِيَّاتِ وَالتَّعَالِيمِ، وَالْمَنْطِقِ، وَعِلْمِ الْحُرُوفِ، وَجَمِيعِ مَا نَظَرَ فِيهِ النَّاظِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ وَأَشْبَاهِهَا، وَهَذَا إِذَا عَرَضْنَاهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِلَى هَذَا; فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِالْقُرْآنِ وَبِعُلُومِهِ وَمَا أُودِعَ فِيهِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمُدَّعَى، سِوَى مَا تَقَدَّمَ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ، وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَمَا يَلِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ خَوْضٌ وَنَظَرٌ، لَبَلَغَنَا مِنْهُ مَا يَدُلُّنَا عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ; إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ تَقْرِيرٌ لِشَيْءٍ مِمَّا زَعَمُوا، نَعَمْ، تَضَمَّنَ عُلُومًا هِيَ مِنْ جِنْسِ عُلُومِ الْعَرَبِ، أَوْ مَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْهُودِهَا مِمَّا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ أُولُو الْأَلْبَابِ، وَلَا تَبْلُغُهُ إِدْرَاكَاتُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ دُونَ الِاهْتِدَاءِ بِإِعْلَامِهِ، وَالِاسْتِنَارَةِ بِنُورِهِ، أَمَا أَنَّ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا. وَرُبَّمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى دَعْوَاهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْل: 89]. وَقَوْلِه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 38]. وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِفَوَاتِحِ السُّوَرِ وَهِيَ مِمَّا لَمْ يُعْهَدْ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَبِمَا نُقِلَ عَنِ النَّاسِ فِيهَا، وَرُبَّمَا حُكِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَشْيَاءُ. فَأَمَّا الْآيَاتُ; فَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ فِي قَوْلِه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 38] اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَضَمُّنَهُ لِجَمِيعِ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ. وَأَمَّا فَوَاتِحُ السُّوَرِ; فَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهَا بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ لِلْعَرَبِ بِهَا عَهْدًا; كَعَدَدِ الْجُمَّلِ الَّذِي تَعَرَّفُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَسَبَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ السِّيَرِ، أَوْ هِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا بِمَا لَا عَهْدَ بِهِ; فَلَا يَكُونُ، وَلَمْ يَدَّعِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ، فَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى مَا ادَّعَوْا، وَمَا يُنْقَلُ عَنْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فِي هَذَا لَا يَثْبُتُ، فَلَيْسَ بِجَائِزٍ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْقُرْآنِ مَا لَا يَقْتَضِيهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْكَرَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِيهِ، وَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ فِي الِاسْتِعَانَةِ عَلَى فَهْمِهِ عَلَى كُلِّ مَا يُضَافُ عِلْمُهُ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً. فَبِهِ يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ مَا أُودِعَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَنْ طَلَبَهُ بِغَيْرِ مَا هُوَ أَدَاةٌ لَهُ; ضَلَّ عَنْ فَهْمِهِ، وَتَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ مِنِ اتِّبَاعِ مَعْهُودِ الْأُمِّيِّينَ، وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَرَبِ فِي لِسَانِهِمْ عُرْفٌ مُسْتَمِرٌّ; فَلَا يَصِحُّ الْعُدُولُ عَنْهُ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عُرْفٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْرَى فِي فَهْمِهَا عَلَى مَا لَا تَعْرِفُهُ. وَهَذَا جَارٍ فِي الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْهُودَ الْعَرَبِ أَنْ لَا تَرَى الْأَلْفَاظَ تَعَبُّدًا عِنْدَ مُحَافَظَتِهَا عَلَى الْمَعَانِي، وَإِنْ كَانَتْ تُرَاعِيهَا أَيْضًا; فَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهَا بِمُلْتَزَمٍ، بَلْ قَدْ تَبْنِي عَلَى أَحَدِهِمَا مَرَّةً، وَعَلَى الْآخَرِ أُخْرَى، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِحَّةِ كَلَامِهَا وَاسْتِقَامَتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءُ: أَحَدُهَا: خُرُوجُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهَا عَنْ أَحْكَامِ الْقَوَانِينِ الْمُطَّرِدَةِ وَالضَّوَابِطِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَجَرَيَانُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَنْثُورِهَا عَلَى طَرِيقِ مَنْظُومِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَاجَةٌ، وَتَرْكُهَا لِمَا هُوَ أَوْلَى فِي مَرَامِيهَا، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي كَلَامِهَا وَلَا ضَعِيفًا، بَلْ هُوَ كَثِيرٌ قَوِيٌّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مِنْ شَأْنِهَا الِاسْتِغْنَاءَ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ عَمَّا يُرَادُ فِيهَا أَوْ يُقَارِبُهَا، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَلَا اضْطِرَابًا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَالْكَافِي مِنْ ذَلِكَ نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ السَّلَفِ الْعَارِفِينَ بِالْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ أَهْلُ الْقِرَاءَاتِ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي صَحَّتْ عِنْدَهُمْ مِمَّا وَافَقَ الْمُصْحَفَ، وَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ قَارِئُونَ لِلْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا إِشْكَالٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مَا يَعُدُّهُ النَّاظِرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ اخْتِلَافًا فِي الْمَعْنَى; لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِحَسَبِ مَقْصُودِ الْخِطَابِ، كَـ {مَالِكِ} [الْفَاتِحَة: 4]. وَ"مَلِكِ" [الْفَاتِحَة: 4]. {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [الْبَقَرَة: 9]. "وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ" [الْبَقَرَة: 9]. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [الْعَنْكَبُوت: 58]. إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِحَسَبِ فَهْمِ مَا أُرِيدَ مِنَ الْخِطَابِ، وَهَذَا كَانَ عَادَةَ الْعَرَبِ. أَلَا تَرَى مَا حَكَى ابْنُ جِنِّي عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ أَيْضًا; قَالَ: سَمِعْتُ ذَا الرُّمَّةِ يُنْشِدُ: وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِسِ الشَّخْتِ وَاسْتَعِنْ *** عَلَيْهَا الصَّبَا وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لَهَا سِتْرَا فَقُلْتُ: أَنْشَدْتَنِي: مِنْ بَائِسِ; فَقَالَ: يَابِسٌ وَبَائِسٌ وَاحِدٌ. فَأَنْتَ تَرَى ذَا الرُّمَّةِ لَمْ يَعْبَأْ بِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْبُؤْسِ وَالْيُبْسِ; لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْبَيْتِ قَائِمًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَصَوَابًا عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَحْوَل: الْبُؤْسُ وَالْيُبْسُ وَاحِدٌ؛ يَعْنِي: بِحَسَبِ قَصْدِ الْكَلَامِ لَا بِحَسَبِ تَفْسِيرِ اللُّغَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى; قَالَ: أَنْشَدَنِي ابْنُ الْأَعْرَابِيّ: وَمَوْضِعُ زَيْنٍ لَا أُرِيدُ مَبِيتَهُ *** كَأَنِّي بِهِ مِنْ شِدَّةِ الرَّوْعِ آنِسُ فَقَالَ لَهُ شَيْخٌ مِنْ أَصْحَابِه: لَيْسَ هَكَذَا أَنْشَدْتَنَا، وَإِنَّمَا أَنْشَدْتَنَا: وَمَوْضِعُ ضِيقٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَصْحَبُنَا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ الزَّيْنَ وَالضِّيقَ وَاحِدٌ؟! وَقَدْ جَاءَتْ أَشْعَارُهُمْ عَلَى رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبِأَلْفَاظٍ مُتَبَايِنَةٍ، يُعْلَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَلْتَزِمُونَ لَفْظًا وَاحِدًا عَلَى الْخُصُوصِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ مُرَادِفُهُ أَوْ مُقَارَبُهُ عَيْبًا أَوْ ضَعْفًا، إِلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ لَا يَكُونُ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوَاضِعِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا مَعْهُودُهَا الْغَالِبُ مَا تَقَدَّمَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا قَدْ تُهْمِلُ بَعْضَ أَحْكَامِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَبِرُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ; كَمَا اسْتَقْبَحُوا الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا لَهُ لَفْظٌ; وَمَا لَيْسَ لَهُ لَفْظٌ، فَقُبِّحَ قُمْتُ وَزِيدٌ كَمَا قُبِّحَ قَامَ وَزِيدٌ وَجَمَعُوا فِي الرِّدْفِ بَيْنَ عَمُودٍ وَيَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْرَاهٍ، وَوَاوُ عَمُودٍ أَقْوَى فِي الْمَدِّ، وَجَمَعُوا بَيْنَ سَعِيدٍ وَعَمُودٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْأَلْفَاظُ فِي قِيَاسِهَا النَّظَرِيِّ، لَكِنَّهَا تُهْمِلُهَا وَتُولِيهَا جَانِبَ الْإِعْرَاضِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِعَدَمِ تَعَمُّقِهَا فِي تَنْقِيحِ لِسَانِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمَمْدُوحَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ مَا كَانَ بَعِيدًا عَنْ تَكَلُّفِ الِاصْطِنَاعِ، وَلِذَلِكَ إِذَا اشْتَغَلَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ بِالتَّنْقِيحِ اخْتُلِفَ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ; فَقَدْ كَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَعِيبُ الْحُطَيْئَةَ، وَاعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: وَجَدْتُ شِعْرَهُ كُلَّهُ جَيِّدًا; فَدَلَّنِي عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُهُ، وَلَيْسَ هَكَذَا الشَّاعِرُ الْمَطْبُوعُ، إِنَّمَا الشَّاعِرُ الْمَطْبُوعُ الَّذِي يَرْمِي بِالْكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ، جَيِّدِهِ عَلَى رَدِيئِهِ، وَمَا قَالَهُ هُوَ الْبَابُ الْمُنْتَهَجُ، وَالطَّرِيقُ الْمَهَيْعُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ; فَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَمِنْ زَاوَلَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَقَفَ مِنْ هَذَا عَلَى عِلْمٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; فَلَا يَسْتَقِيمُ لِلْمُتَكَلِّمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ فِيهِمَا فَوْقَ مَا يَسَعُهُ لِسَانُ الْعَرَبِ، وَلْيَكُنْ شَأْنُهُ الِاعْتِنَاءَ بِمَا شَأْنُهُ أَنْ تَعْتَنِيَ الْعَرَبُ بِهِ، وَالْوُقُوفَ عِنْدَ مَا حَدَّتْهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي مَسْلَكِ الْأَفْهَامِ وَالْفَهْمِ مَا يَكُونُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْعَرَبِ; فَلَا يُتَكَلَّفُ فِيهِ فَوْقَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْفَهْمِ وَتَأَتِّي التَّكْلِيفِ فِيهِ لَيْسُوا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ وَلَا مُتَقَارِبٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَقَارَبُونَ فِي الْأُمُورِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ مَصَالِحُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَتَعَمَّقُونَ فِي كَلَامِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا لَا يُخِلُّ بِمَقَاصِدِهِمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقْصِدُوا أَمْرًا خَاصًّا لِأُنَاسٍ خَاصَّةٍ، فَذَاكَ كَالْكِنَايَاتِ الْغَامِضَةِ وَالرُّمُوزِ الْبَعِيدَةِ، الَّتِي تَخْفَى عَنِ الْجُمْهُورِ، وَلَا تَخْفَى عَمَّنْ قُصِدَ بِهَا، وَإِلَّا كَانَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ مَعْهُودِهَا. فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَنْزِلَ فَهْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مَعَانِيهِ مُشْتَرَكَةً لِجَمِيعِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَاشْتَرَكَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ حَتَّى كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ تَفْهَمُهُ. وَأَيْضًا; فَمُقْتَضَاهُ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا النَّمَطِ; لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَيْسَ كَالْقَوِيِّ، وَلَا الصَّغِيرَ كَالْكَبِيرِ، وَلَا الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ، بَلْ كُلٌّ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ، فَأَخَذُوا بِمَا يَشْتَرِكُ الْجُمْهُورُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِمْ: بِالْحُجَّةِ الْقَائِمَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَلْزَمَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَلَكَلَّفَهُمْ بِغَيْرِ قِيَامِ حُجَّةٍ، وَلَا إِتْيَانٍ بِبُرْهَانٍ، وَلَا وَعْظٍ، وَلَا تَذْكِيرٍ، وَلَطَوَّقَهُمْ فَهْمَ مَا لَا يُفْهَمُ، وَعِلْمَ مَا لَمْ يُعْلَمْ، فَلَا حِجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ حُجَّةَ الْمُلْكِ قَائِمَةٌ، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الْأَنْعَام: 149]. لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَهُمْ مِنْ حَيْثُ عَهِدُوا، وَكَلَّفَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَهُمُ الْقُدْرَةُ عَلَى مَا بِهِ كُلِّفُوا، وَغُذُّوا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِمَا يَسْتَقِيمُ بِهِ مُنْآدُهُمْ، وَيَقْوَى بِهِ ضَعِيفُهُمْ، وَتَنْتَهِضُ بِهِ عَزَائِمُهُمْ: مِنَ الْوَعْدِ تَارَةً، وَالْوَعِيدِ أُخْرَى، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أُخْرَى، وَبَيَانِ مَجَارِي الْعَادَاتِ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَرِدُوا بِهَذَا الْأَمْرِ دُونَ الْخَلْقِ الْمَاضِينَ، بَلْ هُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَا يَكُونُونَ مُشْتَرِكِينَ إِلَّا فِيمَا لَهُمْ مُنَّةٌ عَلَى تَحَمُّلِهِ، وَزَادَهُمْ تَخْفِيفًا دُونَ الْأَوَّلِينَ، وَأَجْرَى فَوْقَهُمْ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ; قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: «يَا جِبْرِيلُ ! إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ; مِنْهُمُ الْعَجُوزُ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَالْغُلَامُ، وَالْجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ. قَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ». فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِجْرَاءُ الْفَهْمِ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى وِزَانِ الِاشْتِرَاكِ الْجُمْهُورِيِّ الَّذِي يَسَعُ الْأُمِّيِّينَ كَمَا يَسَعُ غَيْرَهُمْ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاعْتِنَاءُ بِالْمَعَانِي الْمَبْثُوثَةِ فِي الْخِطَابِ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا كَانَتْ عِنَايَتُهَا بِالْمَعَانِي، وَإِنَّمَا أَصْلَحَتِ الْأَلْفَاظَ مِنْ أَجْلِهَا، وَهَذَا الْأَصْلُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ; فَاللَّفْظُ إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا أَيْضًا كُلُّ الْمَعَانِي، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْإِفْرَادِيَّ قَدْ يُعْبَأُ بِهِ، إِذَا كَانَ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيُّ مَفْهُومًا دُونَهُ، كَمَا لَمْ يَعْبَأْ ذُو الرُّمَّةِ بِبَائِسٍ وَلَا يَابِسٍ اتِّكَالًا مِنْهُ عَلَى أَنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ. وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا مَا فِي جَامِعِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ; أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31]، قَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: مَا كُلِّفْنَا هَذَا، أَوْ قَالَ: مَا أُمِرْنَا بِهَذَا. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ قَوْلِه: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31]: مَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نُهِينَا عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ. وَمِنَ الْمَشْهُورِ تَأْدِيبُهُ لِصَبِيغٍ حِينَ كَانَ يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنِ الْمُرْسَلَاتِ [الْمُرْسَلَات: 1] وَ الْعَاصِفَاتِ [الْمُرْسَلَات: 2] وَنَحْوِهِمَا. وَظَاهِرُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ; لِأَنَّ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيَّ مَعْلُومٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى فَهْمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، فَرَأَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ تَكَلُّفٌ، وَلِهَذَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ; نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الْبَقَرَة: 177] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَلَوْ كَانَ فَهْمُ اللَّفْظِ الْإِفْرَادِيِّ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ التَّرْكِيبِيِّ; لَمْ يَكُنْ تَكُلُّفًا، بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النَّحْل: 47] فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ: التَّخَوُّفُ عِنْدَنَا التَّنَقُّصُ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ: تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا *** كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّهَا النَّاسُ تَمَسَّكُوا بِدِيوَانِ شِعْرِكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ، فَلَيْسَ بَيْنَ الْخِبْرَيْنِ تَعَارُضٌ; لِأَنَّ هَذَا قَدْ تَوَقَّفَ فَهْمُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا، فَاللَّازِمُ الِاعْتِنَاءُ بِفَهْمِ مَعْنَى الْخِطَابِ; لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْخِطَابُ ابْتِدَاءً، وَكَثِيرًا مَا يُغْفَلُ هَذَا النَّظَرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَتُلْتَمَسُ غَرَائِبُهُ وَمَعَانِيهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، فَتَسْتَبْهِمُ عَلَى الْمُلْتَمِسِ، وَتَسْتَعْجِمُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَقَاصِدَ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ فِي غَيْرِ مَعْمَلٍ، وَمَشْيُهُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَاللَّهُ الْوَاقِي بِرَحْمَتِهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ التَّكَالِيفُ الِاعْتِقَادِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ مِمَّا يَسَعُ الْأُمِّيَّ تَعَقُّلُهَا، لِيَسَعَهُ الدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهَا. أَمَّا الِاعْتِقَادِيَّةُ- بِأَنْ تَكُونَ مِنَ الْقُرْبِ لِلْفَهْمِ، وَالسُّهُولَةِ عَلَى الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجُمْهُورُ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثَاقِبَ الْفَهْمِ أَوْ بَلِيدًا، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ لَمْ تَكُنِ الشَّرِيعَةُ عَامَّةً، وَلَمْ تَكُنْ أُمِّيَّةً، وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبُ عِلْمُهَا وَاعْتِقَادُهَا سَهْلَةَ الْمَأْخَذِ. وَأَيْضًا; فَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُمْهُورِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُعَرِّفْ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَّا بِمَا يَسَعُ فَهْمُهُ، وَأَرْجَتْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَعَرَّفَتْهُ بِمُقْتَضَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَحَضَّتْ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَحَالَتْ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى: 11]، وَسَكَتَتْ عَنْ أَشْيَاءَ لَا تَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعُقُولُ، نَعَمْ، لَا يُنْكَرُ تَفَاضُلُ الْإِدْرَاكَاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي الْقَدْرِ الْمُكَلَّفِ بِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَكُونُ أَصْلًا لِلْبَاحِثِينَ وَالْمُتَكَلِّفِينَ، كَمَا لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، بَلِ الَّذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ النَّهْيُ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَغَيْرِهَا; حَتَّى قَالَ: «لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟». وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَعَنْ تَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِي عَامًّا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، وَأَخْبَرَ مَالِكٌ أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَا كَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ لِفَهْمِهَا مِمَّا سُكِتَ عَنْهُ، أَوْ مِمَّا وَقَعَ نَادِرًا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ مُحَالًا بِهِ عَلَى آيَةِ التَّنْزِيهِ. وَعَلَى هَذَا; فَالتَّعَمُّقُ فِي الْبَحْثِ فِيهَا وَتَطَلُّبُ مَا لَا يَشْتَرِكُ الْجُمْهُورُ فِي فَهْمِهِ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَى وَضْعِ الشَّرِيعَةِ الْأُمِّيَّةِ; فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَمَحَتِ النَّفْسُ إِلَى طَلَبِ مَا لَا يُطْلَبُ مِنْهَا; فَوَقَعَتْ فِي ظُلْمَةٍ لَا انْفِكَاكَ لَهَا مِنْهَا، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِل: وَلِلْعُقُولِ قُوًى تَسْتَنُّ دُونَ مَدًى *** إِنْ تَعْدُهَا ظَهَرَتْ فِيهَا اضْطِرَابَاتُ وَمِنْ طِمَاحِ النُّفُوسِ إِلَى مَا لَمْ تُكَلَّفْ بِهِ نَشَأَتِ الْفِرَقُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا. وَأَمَّا الْعَمَلِيَّاتُ؛ فَمِنْ مُرَاعَاةِ الْأُمِّيَّةِ فِيهَا أَنْ وَقَعَ تَكْلِيفُهُمْ بِالْجَلَائِلِ فِي الْأَعْمَالِ وَالتَّقْرِيبَاتِ فِي الْأُمُورِ، بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا الْجُمْهُورُ كَمَا عَرَّفَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ بِالْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُمْ; كَتَعْرِيفِهَا بِالظِّلَالِ، وَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ، وَغُرُوبِهَا وَغُرُوبِ الشَّفَقِ، وَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [الْبَقَرَة: 187] وَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ حَمَلَ الْعِبَارَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا; نَزَلَ: {مِنَ الْفَجْرِ}. وَفِي الْحَدِيث: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ; فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ». وَقَالَ: «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا». وَقَالَ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ; فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ». وَلَمْ يُطَالِبْنَا بِحِسَابِ مَسِيرِ الشَّمْسِ مَعَ الْقَمَرِ فِي الْمَنَازِلِ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْهُودِ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ عُلُومِهَا، وَلِدِقَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَصُعُوبَةِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ، وَأَجْرَى لَنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ مُجْرَى الْيَقِينِ، وَعَذَرَ الْجَاهِلَ فَرَفَعَ عَنْهُ الْإِثْمَ، وَعَفَا عَنِ الْخَطَأِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ لِلْجُمْهُورِ، فَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ عَمَّا حُدَّ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَا تَطَّلُّبُ مَا وَرَاءَ هَذِهِ الْغَايَةِ، فَإِنَّهَا مَظِنَّةُ الضَّلَالِ، وَمَزِلَّةُ الْأَقْدَامِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ تَدْقِيقِ النَّظَرِ فِي مَوَاقِعِ الْأَحْكَامِ، وَمَظَانِّ الشُّبُهَاتِ، وَمَجَارِي الرِّيَاءِ، وَالتَّصَنُّعِ لِلنَّاسِ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهْلِكَاتِ- الَّتِي هِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الدَّقَائِقِ- الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَى فَهْمِهَا وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَظَائِمَ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْجُمْهُورُ. وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ خَاصَّةً وَعَامَّةً، وَكَانَ لِلْخَاصَّةِ مِنَ الْفَهْمِ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ عَرَبًا وَأُمَّةً أُمِّيَّةً، وَهَكَذَا سَائِرُ الْقُرُونِ إِلَى الْيَوْمِ، فَكَيْفَ هَذَا؟ وَأَيْضًا; فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ عَامَّةً، وَمَا يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ خَاصَّةً، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ الْمُتَشَابِهَاتُ فَهِيَ شَامِلَةٌ لِمَا يُوصَلُ إِلَى فَهْمِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، فَأَيْنَ الِاخْتِصَاصُ بِمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ خَاصَّةً؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْمُتَشَابِهَاتُ; فَإِنَّهَا مِنْ قَبِيلٍ غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا إِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى أُمُورٍ إِلَهِيَّةٍ لَمْ يَفْتَحِ الشَّارِعُ لِفَهْمِهَا بَابًا غَيْرَ التَّسْلِيمِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ آيَةِ التَّنْزِيهِ، وَإِمَّا رَاجِعَةٌ إِلَى قَوَاعِدَ شَرْعِيَّةٍ; فَتَتَعَارَضُ أَحْكَامُهَا، وَهَذَا خَاصٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَامٍّ هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا يُجَابُ عَنْهَا بِأَوْجُهٍ الْمُتَشَابِهَاتُ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أُمُورٌ إِضَافِيَّةٌ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِهَا أَوَّلَ الْأَمْرِ لِلْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ تَعْرِضُ لِمَنْ تَمَرَّنَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَزَاوَلَ أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ، وَامْتَازَ عَنِ الْجُمْهُورِ بِمَزِيدِ فَهْمٍ فِيهَا، حَتَّى زَايَلَ الْأُمِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ تَدْقِيقُهُ فِي الْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَتَهُ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى مَا فَهِمَهُ، نِسْبَةُ الْعَامِّيِّ إِلَى مَا فَهِمَهُ، وَالنِّسْبَةُ إِذَا كَانَتْ مَحْفُوظَةً، فَلَا يَبْقَى تَعَارُضٌ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَرَاتِبَ لَيْسُوا فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ، فَلَيْسَ مَنْ لَهُ مَزِيدٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، كَمَنْ لَا مَزِيدَ لَهُ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ جَارٍ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ. وَالِاخْتِصَاصَاتُ فِيهَا هِبَاتٌ مِنَ اللَّهِ لَا تُخْرِجُ أَهْلَهَا عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ، بَلْ يَدْخُلُونَ مَعَ غَيْرِهِمْ فِيهَا، وَيَمْتَازُونَ هُمْ بِزِيَادَاتٍ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُشْتَرَكِ بِعَيْنِهِ، فَإِنِ امْتَازُوا بِمَزِيدِ الْفَهْمِ لَمْ يُخْرِجْهُمْ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَزِيدَ أَصْلُهُ الْأَمْرُ الْمُشْتَرَكُ. كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الْوَرَعَ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى الْجُمْلَةِ، أَوْجُهُ الْوَرَعِ وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْجَلَائِلِ، كَالْوَرَعِ عَنِ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ وَالْمَكْرُوهِ الْبَيِّنِ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنَ الْجَلَائِلِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُوَ مِنْهَا عِنْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَصَارَ الَّذِينَ عَدُّوهُ مِنَ الْجَلَائِلِ دَاخِلِينَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ امْتَازُوا عَنْهُمْ بِالْوَرَعِ عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَتَوَرَّعُ عَنْهُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، بِنَاءً عَلَى الشَّهَادَةِ بِكَوْنِ الْمَوْضِعِ مُتَأَكَّدًا لِبَيَانِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَأَكَّدٍ لِدِقَّتِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْخَوَاصُّ عَنِ الْعَوَامِّ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْقَانُونِ; فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْجَمِيعَ جَارُونَ عَلَى حُكْمِ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ مَفْهُومٍ لِلْجُمْهُورِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا فِيهِ التَّفَاوُتُ إِنَّمَا تَجِدُهُ فِي الْغَالِبِ فِي الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَمْ يُوضَعْ لَهَا حَدٌّ يُوقَفُ عِنْدَهُ، بَلْ وُكِلَتْ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ، فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ فِيهَا مَطْلُوبًا بِإِدْرَاكِهِ، فَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا قَرِيبًا، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ، وَمِنْ مُدْرِكٍ فِيهَا أَمْرًا هُوَ فَوْقَ الْأَوَّلِ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ، وَرُبَّمَا تَفَاوَتَ الْأَمْرُ فِيهَا بِحَسَبِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الدَّوَامِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ، فَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا، بَلْ بِمَا هُوَ دُونَهَا، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَطْلُوبًا، وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يُعْتَبَرُ مَا جَاءَ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ وُضِعَتِ الْعَمَلِيَّاتُ عَلَى وَجْهٍ لَا تُخْرِجُ الْمُكَلَّفَ إِلَى مَشَقَّةٍ يَمَلُّ بِسَبَبِهَا، أَوْ إِلَى تَعْطِيلِ عَادَاتِهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا صَلَاحُ دُنْيَاهُ، وَيَتَوَسَّعُ بِسَبَبِهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يُزَاوِلْ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الْعَقْلِيَّةِ- وَرُبَّمَا اشْمَأَزَّ قَلْبُهُ عَمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ مُعْتَادِهِ- بِخِلَافِ مَنْ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عَهْدٌ، وَمِنْ هُنَا كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَرَدَتِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ فِيهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَمْ تَنْزِلْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهَا النُّفُوسُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَفِيمَا يُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ، قَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَا تُنَفِّذُ الْأُمُورَ؟ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ الْقُدُورَ غَلَتْ بِي وَبِكَ فِي الْحَقِّ. قَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا تَعْجَلْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْخَمْرَ فِي الْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، وَحَرَّمَهَا فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّى أَخَافُ أَنْ أَحْمِلَ الْحَقَّ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةً، فَيَدْفَعُوهُ جُمْلَةً، وَيَكُونُ مِنْ ذَا فِتْنَةٌ. وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فِي الِاسْتِقْرَاءِ الْعَادِيِّ; فَكَانَ مَا كَانَ أَجْرَى بِالْمَصْلَحَةِ وَأَجْرَى عَلَى جِهَةِ التَّأْنِيسِ، وَكَانَ أَكْثَرُهَا عَلَى أَسْبَابٍ وَاقِعَةٍ; فَكَانَتْ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ حِينَ صَارَتْ تَنْزِلُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ، وَكَانَتْ أَقْرَبَ فَكَانَتْ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ حِينَ صَارَتْ تَنْزِلُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ، وَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى التَّأْنِيسِ حِينَ كَانَتْ تَنْزِلُ حُكْمًا حُكْمًا وَجُزْئِيَّةً جُزْئِيَّةً، لِأَنَّهَا إِذَا نَزَلَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَنْزِلْ حُكْمٌ إِلَّا وَالَّذِي قَبْلَهُ قَدْ صَارَ عَادَةً، وَاسْتَأْنَسَتْ بِهِ نَفْسُ الْمُكَلَّفِ الصَّائِمِ عَنِ التَّكْلِيفِ، وَعَنِ الْعِلْمِ بِهِ رَأْسًا، فَإِذَا نَزَلَ الثَّانِي كَانَتِ النَّفْسُ أَقْرَبَ لِلِانْقِيَادِ لَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ. وَلِذَلِكَ أُونِسُوا فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا يُؤْنَسُ الطِّفْلُ فِي الْعَمَلِ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ أَبِيهِ، يَقُولُ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الْحَجّ: 78]. {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النَّحْل: 123]. {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 68]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَلَوْ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَتَكَاثَرَتِ التَّكَالِيفُ عَلَى الْمُكَلَّفِ; فَلَمْ يَكُنْ لِيَنْقَادَ إِلَيْهَا انْقِيَادَهُ إِلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ. وَفِي الْحَدِيث: «الْخَيْرُ عَادَةٌ» وَإِذَا اعْتَادَتِ النَّفْسُ فِعْلًا مَا مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ حَصَلَ لَهُ بِهِ نُورٌ فِي قَلْبِهِ، وَانْشَرَحَ بِهِ صَدْرُهُ; فَلَا يَأْتِي فِعْلٌ ثَانٍ إِلَّا وَفِي النَّفْسِ لَهُ الْقَبُولُ، هَذَا فِي عَادَةِ اللَّهِ فِي أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَعَادَةٌ أُخْرَى جَارِيَةٌ فِي النَّاسِ أَنَّ النَّفْسَ أَقْرَبُ انْقِيَادًا إِلَى فِعْلٍ يَكُونُ عِنْدَهَا فِعْلٌ آخَرُ مِنْ نَوْعِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ أَضْدَادَ هَذَا وَيُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ، فَكَانَ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَكْرَهُ الْعُنْفَ، وَيَنْهَى عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ مَا لَا يُطَاقُ حَمْلُهُ; لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الِانْقِيَادِ، وَأَسْهَلُ فِي التَّشْرِيعِ لِلْجُمْهُورِ.
إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى اعْتِبَارَيْن: مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَمِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ الَّذِي هُوَ خَادِمٌ لِلْأَصْلِيِّ; كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي تُسْتَفَادُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ، وَهَلْ يَخْتَصُّ بِجِهَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، أَوْ يَعُمُّ الْجِهَتَيْنِ مَعًا؟ أَمَّا جِهَةُ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ; فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ اعْتِبَارِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا يَسَعُ فِيهِ خِلَافٌ عَلَى حَالٍ، وَمِثَالُ ذَلِكَ صِيَغُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْعُمُومَاتِ وَالْخُصُوصَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مُجَرَّدًا مِنَ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ لَهَا عَنْ مُقْتَضَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا جِهَةُ الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ; فَهَلْ يَصِحُّ اعْتِبَارُهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهَا مَعَانٍ زَائِدَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ أَمْ لَا؟ هَذَا مَحَلُّ تَرَدُّدٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. فَلِلْمُصَحِّحِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا النَّوْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ، أَوْ لَا، وَلَا يُمْكِنُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ فِيهِ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي حُكْمًا شَرْعِيًّا; لَمْ يُمْكِنْ إِهْمَالُهُ وَاطِّرَاحُهُ، كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ; فَهُوَ إِذًا مُعْتَبَرٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كَلَامًا فَقَطْ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ يَشْمَلُ مَا دَلَّ بِالْجِهَةِ الْأَوْلَى، وَمَا دَلَّ بِالْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، هَذَا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ كَالْفَصْلِ وَالْخَاصِّ; فَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ ضَائِرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَتَخْصِيصُ الْأُولَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ دُونَ الثَّانِيَةِ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ مُخَصَّصٍ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، فَلَيْسَتِ الْأُولَى إِذْ ذَاكَ بِأَوْلَى لِلدَّلَالَةِ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُمَا مَعًا هُوَ الْمُتَعَيَّنَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدِ اعْتَبَرُوهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَتِهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي»، وَالْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ بِنُقْصَانِ الدِّينِ، لَا الْإِخْبَارُ بِأَقْصَى الْمُدَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُبَالَغَةَ اقْتَضَتْ ذِكْرَ ذَلِكَ، وَلَوْ تُصُوِّرَتِ الزِّيَادَةُ لَتَعَرَّضَ لَهَا. وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِنَجَاسَةٍ لَا تُغَيِّرُهُ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، حَتَّى يَغْسِلَهَا» الْحَدِيثَ; فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ لَكَانَ تَوَهُّمُهُ لَا يُوجِبُ الِاسْتِحْبَابَ; فَهَذَا الْمَوْضِعُ لَمْ يُقْصَدْ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ تَحُلُّهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ، لَكِنَّهُ لَازِمٌ مِمَّا قُصِدَ ذِكْرُهُ. وَكَاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَاف: 15]، مَعَ قَوْلِه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لُقْمَانَ: 14]؛ فَالْمَقْصِدُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بَيَانُ مُدَّةِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ مُدَّةَ الْفِصَالِ قَصْدًا، وَسَكَتَ عَنْ بَيَانِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَحْدَهَا قَصْدًا، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مُدَّةً فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَقَلَّهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 187]، إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِصْبَاحِ جُنُبًا، يَقْصِدُ لِلصَّائِمِ وَصِحَّةِ الصِّيَامِ; لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودَ الْبَيَانِ; لِأَنَّهُ لَازِمٌ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى بَيَانِ إِبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُمْلَكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 26]. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ; فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِإِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَخُصُوصًا لِلْمَلَائِكَةِ نَفْيُ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ، لَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُمْلَكُ، لَكِنَّهُ لَزِمَ مِنْ نَفْيِ الْوِلَادَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهَا إِلَّا عَبْدًا، إِذْ لَا مَوْجُودَ إِلَّا رَبٌّ أَوْ عَبْدٌ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ثُبُوتِ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِ الْحُبُوبِ وَكَثِيرِهَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» الْحَدِيثَ، مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْدِيرُ الْجُزْءِ الْمُخْرَجِ لَا تَعْيِينَ الْمُخْرَجِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ كُلُّ عَامٍّ نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى الْأَخْذِ بِالتَّعْمِيمِ اعْتِبَارًا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَالْمَقْصُودِ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ عَلَى الْخُصُوصِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَة: 9] مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيجَابُ السَّعْيِ لَا بَيَانَ فَسَادِ الْبَيْعِ. وَأَثْبَتُوا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ قِيَاسًا كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ» مُطْلَقُ الْمِلْكِ؛ لَا خُصُوصُ الذِّكْرِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَجَمِيعُهَا تَمَسُّكٌ بِالنَّوْعِ الثَّانِي لَا بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ جِهَتِهِ صَحِيحٌ مَأْخُوذٌ بِهِ. وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَسْتَدِلَّ أَيْضًا بِأَوْجُهٍ الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَحْكَام: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالْفَرْضِ خَادِمَةٌ لِلْأُولَى وَبِالتَّبَعِ لَهَا; فَدَلَالَتُهَا عَلَى مَعْنًى إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، وَمُقَوِّيَةٌ لَهَا وَمُوَضِّحَةٌ لِمَعْنَاهَا، وَمُوقِعَةٌ لَهَا مِنَ الْأَسْمَاعِ مَوْقِعَ الْقَبُولِ، وَمِنَ الْعُقُولِ مَوْقِعَ الْفَهْمِ، كَمَا نَقُولُ فِي الْأَمْرِ الْآتِي لِلتَّهْدِيدِ أَوِ التَّوْبِيخِ; كَقَوْلِه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَتْ: 40]. وَقَوْلِه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَان: 49]. فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْأَمْرُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّهْدِيدِ أَوِ الْخِزْيِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ حُكْمٌ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ، وَكَمَا نَقُولُ فِي نَحْو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يُوسُفَ: 82]: إِنَّ الْمَقْصُودَ: سَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَلَكِنْ جُعِلَتِ الْقَرْيَةُ مَسْئُولَةً مُبَالَغَةً فِي الِاسْتِيفَاءِ بِالسُّؤَالِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ; فَلَمْ يَنْبَنِ عَلَى إِسْنَادِ السُّؤَالِ لِلْقَرْيَةِ حُكْمٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هُودٍ: 107] بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا تَفْنَيَانِ وَلَا تَدُومَانِ، لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِخْبَارَ بِالتَّأْبِيدِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ انْقِطَاعُ مُدَّةِ الْعَذَابِ لِلْكُفَّارِ... إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُؤْتَى عَلَى حَصْرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; فَلَيْسَ لَهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِيضَاحِ وَالتَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ لِلْجِهَةِ الْأُولَى; فَإِذًا لَيْسَ لَهَا خُصُوصُ حُكْمٍ يُؤْخَذُ مِنْهَا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ بِحَالٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهَا مَوْضِعُ خُصُوصِ حُكْمٍ يُقَرَّرُ شَرْعًا دُونَ الْأُولَى لَكَانَتْ هِيَ الْأَوْلَى; إِذْ كَانَ يَكُونُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَقْصُودًا بِحَقِّ الْأَصْلِ; فَتَكُونُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ مِنَ الْجِهَةِ الْأَوْلَى لَا مِنَ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مِنَ الثَّانِيَةِ، هَذَا خُلْفٌ لَا يُمْكِنُ. لَا يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَهَا دَالَّةً بِالتَّبَعِ لَا يَنْفِي كَوْنَهَا دَالَّةً بِالْقَصْدِ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ ثَانِيًا كَمَا نَقُولُ فِي الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّة: إِنَّهَا مَقَاصِدُ أَصْلِيَّةٌ وَمَقَاصِدُ تَابِعَةٌ، وَالْجَمِيعُ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ، وَيَصِحُّ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْقَصْدُ إِلَى الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ حَسَبَ مَا يَأْتِي بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ; فَكَذَلِكَ نَقُولُ هُنَا: إِنْ دَلَالَةَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ لَا تَمْنَعُ قَصْدَ الْمُكَلَّفِ إِلَى فَهْمِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا; لِأَنَّ نِسْبَتَهَا مِنْ فَهْمِ الشَّرِيعَةِ نِسْبَةُ تِلْكَ مِنَ الْأَخْذِ بِهَا عَمَلًا، وَإِذَا اتَّحَدَتِ النِّسْبَةُ كَانَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلَزِمَ مِنِ اعْتِبَارِ إِحْدَاهُمَا اعْتِبَارُ الْأُخْرَى، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ إِهْمَالِ إِحْدَاهُمَا إِهْمَالُ الْأُخْرَى. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا- إِنْ سُلِّمَ- مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ بِقَصْدِ قَضَاءِ الْوَطَرِ مَثَلًا صَحِيحًا، مِنْ حَيْثُ كَانَ مُؤَكِّدًا لِلْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنَ النِّكَاحِ، وَهُوَ النَّسْلُ فَغَفْلَةُ الْمُكَلَّفِ عَنْ كَوْنِهِ مُؤَكِّدًا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ مُؤَكِّدًا فِي قَصْدِ الشَّارِعِ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي مَسْأَلَتِنَا: إِنَّ الْجِهَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ حَيْثُ الْقَصْدُ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ إِنَّمَا هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى فِي نَفْسِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُولَى، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ، فَالْمَعْنَى التَّبَعِيُّ رَاجِعٌ إِلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَيْضًا; فَإِنَّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقًا، وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ بِقَصْدِ قَضَاءِ الْوَطَرِ إِنْ كَانَ دَاخِلًا مِنْ وَجْهٍ تَحْتَ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ لِلضَّرُورِيَّاتِ، فَهُوَ دَاخِلٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ تَحْتَ الْحَاجِيَّاتِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَصْدِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِبَادِ فِي نَيْلِ مَآرِبِهِمْ، وَقَضَاءِ أَوْطَارِهِمْ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ، وَإِذَا دَخَلَ تَحْتَ أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ; صَحَّ إِفْرَادُهُ بِالْقَصْدِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَرَجَعَ إِلَى كَوْنِهِ مَقْصُودًا لَا بِالتَّبَعِيَّةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا; فَإِنَّ الْجِهَةَ التَّابِعَةَ لَا يَصِحُّ إِفْرَادُهَا بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ التَّأْكِيدِ لِلْأُولَى; لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا وَضَعَتْ كَلَامَهَا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِهَذَا الْقَصْدِ، فَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِلْأُولَى يَقْتَضِي أَنَّ مَا تُؤَدِّيهِ مِنَ الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، فَلَوْ جَازَ أَخْذُهُ مَنْ غَيْرِهَا لَكَانَ خُرُوجًا بِهَا عَنْ وَضْعِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى حُكْمٍ زَائِدٍ عَلَى مَا فِي الْأُولَى خُرُوجٌ لَهَا عَنْ كَوْنِهِ تَبَعًا لِلْأُولَى، فَيَكُونُ اسْتِفَادَةُ الْحُكْمِ مِنْ جِهَتِهَا عَلَى غَيْرِ فَهْمٍ عَرَبِيٍّ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَمَا ذُكِرَ مِنِ اسْتِفَادَةِ الْأَحْكَامِ بِالْجِهَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْن: إِمَّا إِلَى الْجِهَةِ الْأُولَى، وَإِمَّا إِلَى جِهَةٍ ثَالِثَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ. فَأَمَّا مُدَّةُ الْحَيْضِ; فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَالٌّ عَلَيْهَا، وَفِيهِ النِّزَاعُ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ أَكْثَرَهَا عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَإِنْ سُلِّمَ; فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بِالْوَضْعِ، وَفِيهِ الْكَلَامُ. وَمَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى لَا مِنَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْإِصْبَاحِ جُنُبًا; إِذْ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَدِ لَا يُمْلَكُ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ مَمْنُوعٌ وَفِيهِ النِّزَاعُ، وَمَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ، فَالْقَائِلُ بِالتَّعْمِيمِ- إِنَّمَا بَنَى عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مَقْصُودٌ، وَلَمْ يَبْنِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَإِلَّا كَانَ تَنَاقُضًا; لِأَنَّ أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ إِنَّمَا أُخِذَ مِنْهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْعُمُومِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَهَكَذَا الْعَامُّ الْوَارِدُ عَلَى سَبَبٍ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَمَنْ قَالَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَة: 9] فَهُوَ عِنْدُهُ مَقْصُودٌ لَا مُلْغًى، وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ فِي الْأَمْرِ كَمَا ذُكِرَ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لَمْ يَجْعَلُوا دُخُولَ الْأَمَةِ فِي حُكْمِ الْعَبْدِ بِالْقِيَاسِ، إِلَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ بِخُصُوصِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُفْرَضُ فِي هَذَا الْبَابِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْجِهَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ، فَلَا يَصِحُّ إِعْمَالُهُ أَلْبَتَّةَ، وَكَمَا أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّالِثِ، كَذَلِكَ يُمْكِنُ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ مُصَادَرَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيه: فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي حُكْمًا شَرْعِيًّا; فَلَا يُمْكِنُ إِهْمَالُهُ، وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي اسْتِقْلَالِ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ; فَالصَّوَابُ إِذًا الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَدْ تَبَيَّنَ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَظَهَرَ أَنَّ الْأَقْوَى مِنَ الْجِهَتَيْنِ جِهَةُ الْمَانِعِينَ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنَّ الْجِهَةَ الثَّانِيَةَ، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ زَائِدٍ أَلْبَتَّةَ. لَكِنْ يَبْقَى فِيهَا نَظَرٌ آخَرُ رُبَّمَا أَخَالُ أَنَّ لَهَا دَلَالَةً عَلَى مَعَانٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، هِيَ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَتَخَلُّقَاتٌ حَسَنَةٌ، يُقِرُّ بِهَا كُلُّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ، فَيَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَا تَكُونُ الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ خَالِيَةً عَنِ الدَّلَالَةِ جُمْلَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُشَكَلُ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَمْثِلَةٍ سَبْعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى بِالنِّدَاءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِبَادِ، وَمِنَ الْعِبَادِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، إِمَّا حِكَايَةً، وَإِمَّا تَعْلِيمًا، فَحِينَ أَتَى بِالنِّدَاءِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ جَاءَ بِحَرْفِ النِّدَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْبُعْدِ ثَابِتًا غَيْرَ مَحْذُوفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [الْعَنْكَبُوت: 56]. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزُّمَر: 53]. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَاف: 158]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الْأَعْرَاف: 158]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَة: 104]. فَإِذَا أَتَى بِالنِّدَاءِ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى; جَاءَ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ فَلَا تَجِدُ فِيهِ نِدَاءً بِالرَّبِّ تَعَالَى بِحَرْفِ نِدَاءٍ ثَابِتٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ لِلتَّنْبِيهِ فِي الْأَصْلِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّنْبِيهِ. وَأَيْضًا; فَإِنَّ أَكْثَرَ حُرُوفِ النِّدَاءِ لِلْبَعِيدِ، وَمِنْهَا يَا الَّتِي هِيَ أُمُّ الْبَابِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الدَّاعِي خُصُوصًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 186]. وَمِنَ الْخَلْقِ عُمُومًا، لِقَوْلِه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [الْمُجَادَلَة: 7]. وَقَوْلِه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهِ عَلَى أَدَبَيْن: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ حَرْفِ النِّدَاءِ. وَالْآخَرُ: اسْتِشْعَارُ الْقُرْبِ. كَمَا أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الْحَرْفِ فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ إِثْبَاتُ التَّنْبِيهِ لِمَنْ شَأْنُهُ الْغَفْلَةُ وَالْإِعْرَاضُ وَالْغَيْبَةُ، وَهُوَ الْعَبْدُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ارْتِفَاعِ شَأْنِ الْمُنَادَى، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُدَانَاةِ الْعِبَادِ; إِذْ هُوَ فِي دُنُوِّهِ عَالٍ، وَفِي عُلُوِّهِ دَانٍ، سُبْحَانَهُ! وَالثَّانِي: أَنَّ نِدَاءَ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ نِدَاءُ رَغْبَةٍ وَطَلَبٍ لِمَا يُصْلِحُ شَأْنَهُ، فَأَتَى فِي النِّدَاءِ الْقُرْآنِيِّ بِلَفْظ: الرَّبِّ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ; تَنْبِيهًا وَتَعْلِيمًا لِأَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ فِي دُعَائِهِ بِالِاسْمِ الْمُقْتَضَى لِلْحَالِ الْمَدْعُوِّ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبَّ فِي اللُّغَة: هُوَ الْقَائِمُ بِمَا يُصْلِحُ الْمَرْبُوبَ; فَقَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ بَيَانِ دُعَاءِ الْعِبَاد: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [الْبَقَرَة: 286] إِلَى آخِرِهَا، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 8]، وَإِنَّمَا أَتَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الْأَنْفَال: 32] مِنْ غَيْرِ إِتْيَانٍ بِلَفْظِ الرَّبِّ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا دَعَوْا بِهِ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُنَافِيهِ، بِخِلَافِ الْحِكَايَةِ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِه: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 114]; فَإِنَّ لَفْظَ الرَّبِّ فِيهَا مُنَاسِبٌ جِدًّا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَتَى فِيهِ الْكِنَايَةُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُسْتَحْيَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِهَا; النِّدَاءُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا كَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِاللِّبَاسِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَعَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ، وَكَمَا قَالَ فِي نَحْوِه: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [الْمَائِدَة: 75] فَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ أَدَبًا لَنَا اسْتَنْبَطْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهَا عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِحُكْمِ التَّبَعِ لَا بِالْأَصْلِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَتَى فِيهِ بِالِالْتِفَاتِ النِّدَاءُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي يُنْبِئُ فِي الْقُرْآنِ عَنْ أَدَبِ الْإِقْبَالِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ إِذَا كَانَ مُقْتَضَى الْحَالِ يَسْتَدْعِيهِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَة: 2- 4]. ثُمَّ قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَة: 5]. وَبِالْعَكْسِ إِذَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ أَيْضًا; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يُونُسَ: 22]. وَتَأَمَّلْ فِي هَذَا الْمَسَاقِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عَبَسَ: 1- 2] حَيْثُ عُوتِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ هَذَا الْعِتَابِ، لَكِنْ عَلَى حَالٍ تَقْتَضِي الْغَيْبَةَ الَّتِي شَأْنُهَا أَخَفُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعَاتَبِ، ثُمَّ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى الْخِطَابِ، إِلَّا أَنَّهُ بِعِتَابٍ أَخَفَّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ خُتِمَتِ الْآيَةُ بِقَوْلِه: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عَبَسَ: 11]. وَالْخَامِسُ: الْأَدَبُ فِي تَرْكِ التَّنْصِيصِ عَلَى نِسْبَةِ الشَّرِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، النِّدَاءُ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْخَالِقَ لِكُلِّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ بَعْدَ قَوْلِه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ: 26] إِلَى قَوْلِه: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آلِ عِمْرَانَ: 26] وَلَمْ يَقُلْ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ مَعًا; لِأَنَّ نَزْعَ الْمُلْكِ وَالْإِذْلَالَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَحِقَ ذَلِكَ بِهِ شَرٌّ ظَاهِرٌ، نَعَمْ، قَالَ فِي أَثَرِه: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 26] تَنْبِيهًا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ خَلْقُهُ; حَتَّى جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ». وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشُّعَرَاء: 78] إِلَخْ، فَنَسَبَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ، وَالْهِدَايَةَ، وَالْإِطْعَامَ، وَالسَّقْيَ، وَالشِّفَاءَ، وَالْإِمَاتَةَ، وَالْإِحْيَاءَ، وَغُفْرَانَ الْخَطِيئَةِ دُونَ مَا جَاءَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ سَكَتَ عَنْ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ. وَالسَّادِسُ: الْأَدَبُ فِي الْمُنَاظَرَةِ النِّدَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنْ لَا يُفَاجِئَ بِالرَّدِّ كِفَاحًا دُونَ التَّقَاضِي بِالْمُجَامَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ; كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سَبَأٍ: 24]. وَقَوْلِه: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزُّخْرُف: 81]. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هُودٍ: 35]. وَقَوْلِه: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزُّمَر: 43]. {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [الْمَائِدَة: 104]. لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ وَتَرْكِ الْعِنَادِ وَإِطْفَاءِ نَارِ الْعَصَبِيَّةِ. وَالسَّابِعُ: الْأَدَبُ فِي إِجْرَاءِ الْأُمُورِ عَلَى الْعَادَاتِ فِي التَّسَبُّبَاتِ وَتَلَقِّي الْأَسْبَابِ مِنْهَا، النِّدَاءُ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ قَدْ أَتَى مِنْ وَرَاءِ مَا يَكُونُ أَخْذًا مِنْ مَسَاقَاتِ التَّرَجِّيَاتِ الْعَادِيَّةِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاء: 79]. {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [الْمَائِدَة: 52]. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 216]. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ جَاءَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَة: 21]. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الْأَنْعَام: 152]. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّرَجِّيَ وَالْإِشْفَاقَ وَنَحْوَهُمَا إِنَّمَا تَقَعُ حَقِيقَةً مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَاللَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، وَلَكِنْ جَاءَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ عَلَى الْمَجْرَى الْمُعْتَادِ فِي أَمْثَالِنَا; فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِعَاقِبَةِ أَمْرٍ، بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَنْ مُعْتَادِ الْجُمْهُورِ- أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ عِنْدَ الْعِبَارَةِ عَنْهُ بِحُكْمِ غَيْرِ الْعَالِمِ، دُخُولًا فِي غِمَارِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ بَانَ عَنْهُمْ بِخَاصِّيَّةٍ يَمْتَازُ بِهَا، وَهُوَ مَنِ التَّنَزُّلَاتِ الْفَائِقَةِ الْحُسْنِ فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُعْلَمُ بِأَخْبَارِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَيُطْلِعُهُ رَبُّهُ عَلَى أَسْرَارِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُعَامِلُهُمْ فِي الظَّاهِرِ مُعَامَلَةً يَشْتَرِكُ مَعَهُمْ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ; لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي عَدَمِ انْخِرَامِ الظَّاهِرِ; فَمَا نَحْنُ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; ظَهَرَ أَنَّ الْجِهَةَ الثَّانِيَةَ يُسْتَفَادُ بِهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَفَوَائِدُ عَمَلِيَّةٌ لَيْسَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الدَّلَالَةِ بِالْجِهَةِ الْأُولَى، وَهُوَ تَوْهِينٌ لِمَا تَقَدَّمَ اخْتِيَارُهُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا لَمْ يُسْتَفَدِ الْحُكْمُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي، وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ جِهَةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَفْعَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَحْتَوِي عَلَى مَسَائِلَ: ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ أَوْ سَبَبَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهِ، فَمَا لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا وَإِنْ جَازَ عَقْلًا، وَلَا مَعْنًى لِبَيَانِ ذَلِكَ هَاهُنَا; فَإِنَّ الْأُصُولِيِّينَ قَدْ تَكَفَّلُوا بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ، وَلَكِنْ نَبْنِي عَلَيْهَا وَنَقُولُ: إِذَا ظَهَرَ مِنَ الشَّارِعِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ الْقَصْدُ إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَذَلِكَ رَاجِعٌ فِي التَّحْقِيقِ إِلَى سَوَابِقِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ أَوْ قَرَائِنِهِ; فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الْبَقَرَة: 132]، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيث: «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ»، وَقَوْلُهُ: لَا تَمُتْ وَأَنْتَ ظَالِمٌ، وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَتَرْكُ الظُّلْمِ، وَالْكَفُّ عَنِ الْقَتْلِ، وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ حَيْثُ تَرَّسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَطَلَّعُ لِيَرَى الْقَوْمَ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يُصِيبُوكَ» الْحَدِيثَ; فَقَوْلُهُ: لَا يُصِيبُوكَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَالْأَوْصَافُ الَّتِي طُبِعَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ كَالشَّهْوَةِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَا يُطْلَبُ بِرَفْعِهَا، وَلَا بِإِزَالَةِ مَا غُرِزَ فِي الْجِبِلَّةِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، كَمَا لَا يُطْلَبُ بِتَحْسِينِ مَا قَبُحَ مِنْ خِلْقَةِ جِسْمِهِ، وَلَا تَكْمِيلِ مَا نَقَصَ مِنْهَا; فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْإِنْسَانِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقْصِدُ الشَّارِعُ طَلَبًا لَهُ وَلَا نَهْيًا عَنْهُ، وَلَكِنْ يَطْلُبُ قَهْرَ النَّفْسِ عَنِ الْجُنُوحِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَإِرْسَالَهَا بِمِقْدَارِ الِاعْتِدَالِ فِيمَا يَحِلُّ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَنْشَأُ مِنَ الْأَفْعَالِ مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ الِاكْتِسَابِ.
إِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ثَمَّ أَوْصَافًا تُمَاثِلُ مَا تَقَدَّمَ فِي كَوْنِهَا مَطْبُوعًا عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ; فَحُكْمُهَا حُكْمُهَا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَطْبُوعَ عَلَيْهَا ضَرْبَان: مِنْهَا: مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِ مُشَاهَدًا مَحْسُوسًا كَالَّذِي تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ خَفِيًّا حَتَّى يَثْبُتَ بِالْبُرْهَانِ فِيهِ ذَلِكَ، وَمِثَالُهُ الْعَجَلَةُ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا مِمَّا طُبِعَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الْأَنْبِيَاء: 37]. وَفِي الصَّحِيح: «إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا رَأَى آدَمَ أَجْوَفَ عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ». وَقَدْ جَاءَ أَنَّ: الشَّجَاعَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ. وَ جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا. إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَقَدْ جُعِلَ مِنْهَا الْغَضَبُ وَهُوَ مَعْدُودٌ عِنْدَ الزُّهَّادِ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ. وَجَاءَ: يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَالَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الطَّلَبُ ظَاهِرًا مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا تَحْتَ كَسْبِهِ قَطْعًا، وَهَذَا قَلِيلٌ; كَقَوْلِه: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الْبَقَرَة: 132]، وَحُكْمُهُ أَنَّ الطَّلَبَ بِهِ مَصْرُوفٌ إِلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ كَسْبِهِ قَطْعًا، وَذَلِكَ جُمْهُورُ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ كَسْبِهِ، وَالطَّلَبُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِهَا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِنَفْسِهَا أَمْ لِغَيْرِهَا. وَالثَّالِثُ: مَا قَدْ يُشْتَبَهُ أَمْرُهُ; كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا; فَحَقُّ النَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَنْظُرَ فِي حَقَائِقِهَا، فَحَيْثُ ثَبَتَتْ لَهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَمْرِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْجُبْنِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْغَضَبِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ اضْطِرَارًا; إِمَّا لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، فَلَا يُطْلَبُ إِلَّا بِتَوَابِعِهَا; فَإِنَّ مَا فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَوْصَافِ يَتْبَعُهَا بِلَا بُدٍّ أَفْعَالٌ اكْتِسَابِيَّةٌ، فَالطَّلَبُ وَارِدٌ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ لَا عَلَى مَا نَشَأَتْ عَنْهُ، كَمَا لَا تَدَخُلُ الْقُدْرَةُ وَلَا الْعَجْزُ تَحْتَ الطَّلَبِ، وَإِمَّا لِأَنَّ لَهَا بَاعِثًا مِنْ غَيْرِهِ فَتَثُورُ فِيهِ فَيَقْتَضِي لِذَلِكَ أَفْعَالًا أُخَرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُثِيرُ لَهَا هُوَ السَّابِقَ وَكَانَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ كَسْبِهِ; فَالطَّلَبُ يَرِدُ عَلَيْهِ كَقَوْلِه: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» فَيَكُونُ كَقَوْلِه: «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ» مُرَادًا بِهِ التَّوَجُّهُ إِلَى النَّظَرِ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ وَكَثْرَةِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَكَنَهْيِهِ عَنِ النَّظَرِ الْمُثِيرِ لِلشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَعَيْنُ الشَّهْوَةِ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُثِيرُ لَهَا دَاخِلًا تَحْتَ كَسْبِهِ; فَالطَّلَبُ يَرِدُ عَلَى اللَّوَاحِقِ; كَالْغَضَبِ الْمُثِيرِ لِشَهْوَةِ الِانْتِقَامِ كَمَا يُثِيرُ النَّظَرُ شَهْوَةَ الْوِقَاعِ.
وَمِنْ هَذَا الْمَلْمَحِ فِقْهُ الْأَوْصَافِ الْبَاطِنَةِ كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا مِنَ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَالْجَاهِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي رُبْعِ الْمُهْلِكَاتِ وَغَيْرُهُ. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَكَذَلِكَ فِقْهُ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ; كَالْعِلْمِ، وَالتَّفَكُّرِ، وَالِاعْتِبَارِ، وَالْيَقِينِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ نَتِيجَةُ عَمَلٍ، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ الْقَلْبِيَّةَ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى إِثْبَاتِهَا وَلَا نَفْيِهَا، أَفَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلْمَ وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا، فَلَيْسَ تَحْصِيلُهُ بِمَقْدُورٍ أَصْلًا، فَإِنَّ الطَّالِبَ إِذَا تَوَجَّهَ نَحْوَ مَطْلُوبٍ إِنْ كَانَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَهُوَ حَاصِلٌ وَلَا يُمْكِنُهُ الِانْصِرَافُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِتَقْدِيمِ النَّظَرِ، وَهُوَ الْمُكْتَسَبُ دُونَ نَفْسِ الْعِلْمِ; لِأَنَّهُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ بَعْدَ النَّظَرِ ضَرُورَةً، لِأَنَّ النَّتِيجَةَ لَازِمَةٌ لِلْمُقَدِّمَتَيْنِ فَتَوْجِيهُ النَّظَرِ فِيهِ هُوَ الْمُكْتَسَبُ، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبَ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْعِلْمُ عَلَى أَثَرِ النَّظَرِ، فَسَوَاءٌ عَلَيْنَا قُلْنَا إِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْمُسَبَّبَاتِ مَعَ أَسْبَابِهَا، كَمَا هُوَ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ، أَمْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ، فَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْكَسْبِ نَفْسِهِ، وَإِذَا حَصَلَ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهُ عَلَى حَالٍ. وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَكُونُ وَصْفًا بَاطِنًا، إِذَا اعْتَبَرْتَهُ وَجَدْتَهُ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ; لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِهَا أَنْفُسِهَا، وَإِنْ جَاءَ فِي الظَّاهِرِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ ذَلِكَ; فَمَصْرُوفٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَدَّمُهَا، أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا، أَوْ يُقَارِنُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْأَوْصَافُ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى جَلْبِهَا وَلَا دَفْعِهَا بِأَنْفُسِهَا عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ نَتِيجَةَ عَمَلٍ، كَالْعِلْمِ وَالْحُبِّ فِي نَحْوِ قَوْلِه: أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِطْرِيًّا وَلَمْ يَكُنْ نَتِيجَةَ عَمَلٍ، كَالشَّجَاعَةِ، وَالْجُبْنِ، وَالْحِلْمِ، وَالْأَنَاةِ الْمَشْهُودِ بِهِمَا فِي أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا. فَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُسَبَّبَاتٍ عَنْ أَسْبَابٍ مُكْتَسَبَةٍ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَلَا قَصَدَهَا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ، عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ. وَالثَّانِي وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهَا فِطْرِيًّا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَتَيْن: إِحْدَاهُمَا: مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ مَحْبُوبَةٌ لِلشَّارِعِ أَوْ غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ لَهُ. وَالثَّانِيَةُ: مِنْ جِهَةِ مَا يَقَعُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَوْ لَا يَقَعُ؟ فَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ; فَإِنَّ ظَاهِرَ النَّقْلِ أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ يَتَعَلَّقُ بِهَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْس: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ». وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَيْهِمَا، وَفِي بَعْضِ الْحَدِيث: الشَّجَاعَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ. وَجَاءَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قَتْلِ حَيَّةٍ» وَفِي الْحَدِيث: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ; فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»، وَهَذَا مَعْنَى التَّحَابِّ وَالتَّبَاغُضِ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيث: «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ». وَقَدْ حُمِلَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ شِدَّةَ الْبَدَنِ وَصَلَابَةَ الْأَمْرِ، وَالضَّعْفُ خِلَافُ ذَلِكَ. وَجَاءَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا». وَجَاءَ: «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ». وَقَالَ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الْأَنْبِيَاء: 37]. وَجَاءَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ ضِدُّ الْعَجَلِ مَحْبُوبًا وَهُوَ الْأَنَاةُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ يَتَعَلَّقَانِ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَفْعَالِ; لِأَنَّ ذَلِكَ: أَوَّلًا: خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَثَانِيًا: أَنَّهُمَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُمَا بِالذَّوَاتِ، وَهِيَ أَبْعَدُ عَنِ الْأَفْعَالِ مِنَ الصِّفَاتِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 54]. «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا غَذَاكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ». وَ «مِنَ الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ». وَلَا يَسُوغُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ حُبُّ الْأَفْعَالِ فَقَطْ; فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الصِّفَاتِ- إِذَا تَوَجَّهَ الْحُبُّ إِلَيْهَا فِي الظَّاهِرِ- إِنَّ الْمُرَادَ الْأَفْعَالُ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَيَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ بِالْأَفْعَالِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النِّسَاء: 148]. {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوْبَة: 46]. «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ». «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ». وَهَذَا كَثِيرٌ. وَإِذَا قُلْتَ: أُحِبُّ الشُّجَاعَ وَأَكْرَهُ الْجَبَانَ; فَهَذَا حُبٌّ وَكَرَاهَةٌ يَتَعَلَّقَانِ بِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْوَصْفِ; نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 134]. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 146]. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [الْبَقَرَة: 222]. وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لُقْمَانَ: 18]. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 57]. وَفِي الْحَدِيث: «إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ». فَإِذًا; الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مُطْلَقٌ فِي الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ; فَتَعَلُّقُهُمَا بِهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ذَاتٌ أَوْ صِفَةٌ أَوْ فِعْلٌ. وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ- وَهِيَ غَيْرُ الْمَقْدُورَةِ لِلْإِنْسَانِ إِذَا اتَّصَفَ بِهَا- الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ أَمْ لَا يَصِحُّ؟ هَذَا يُتَصَوَّرُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَا مَعًا بِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ. أَمَّا هَذَا الْأَخِيرُ; فَيُؤْخَذُ النَّظَرُ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ; فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَطْبُوعَ عَلَيْهَا وَمَا أَشْبَهَهَا لَا يُكَلَّفُ بِإِزَالَتِهَا وَلَا بِجَلْبِهَا شَرْعًا; لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَمَا لَا يُكَلَّفُ بِهِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ، لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ تَابِعٌ لِلتَّكْلِيفِ شَرْعًا; فَالْأَوْصَافُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا لَا ثَوَابَ عَلَيْهَا وَلَا عِقَابَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ ذَوَاتِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَاتٌ أَوْ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقَاتِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ فِي كُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُثَابًا عَلَيْهَا، كَانَتْ صِفَةً مَحْبُوبَةً أَوْ مَكْرُوهَةً شَرْعًا، وَمُعَاقَبًا عَلَيْهَا أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ مُتَعَلَّقَاتِهَا، فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمُتَعَلَّقَاتِ- وَهِيَ الْأَفْعَالُ وَالتُّرُوكُ- لَا عَلَيْهَا، فَثَبَتَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا لَا يُثَابُ عَلَيْهَا وَلَا يُعَاقَبُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا الثَّانِي; فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَمْرَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ قَدْ ثَبَتَ تَعَلُّقُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ بِهَا، وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى; إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمَا نَفْسُ الْإِنْعَامِ أَوِ الِانْتِقَامِ; فَيَرْجِعَانِ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمَا إِرَادَةُ الْإِنْعَامِ وَالِانْتِقَامِ; فَيَرْجِعَانِ إِلَى صِفَاتِ الذَّاتِ لِأَنَّ نَفْسَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ الْمَفْهُومَيْنِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَقِيقَةً مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا رَأْيُ طَائِفَةٍ أُخْرَى، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ رَاجِعَانِ إِلَى نَفْسِ الْإِنْعَامِ أَوِ الِانْتِقَامِ، وَهُمَا عَيْنُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ; فَالْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ إِذًا يَتَعَلَّقُ بِهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ لَا يَرْجِعَانِ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَتَعَلُّقُهُمَا بِالصِّفَاتِ; إِمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، أَوْ لَا، فَإِنِ اسْتَلْزَمَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ، فَتَعَلُّقُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ إِمَّا لِلَذَّاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، تَعَالَى أَنْ يَفْتَقِرَ لِغَيْرِهِ أَوْ يَتَكَمَّلَ بِشَيْءٍ، بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذُو الْكَمَالِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، وَإِمَّا لِلْعَبْدِ وَهُوَ الْجَزَاءُ; لَا زَائِدَ يَرْجِعُ لِلْعَبْدِ إِلَّا ذَلِكَ. وَأَمْرٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّهَا مَحْبُوبَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقَاتِهَا وَهُوَ الْأَفْعَالُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ مَعَ الصِّفَاتِ مِثْلَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْجَزَاءُ مُتَفَاوِتًا; فَقَدْ صَارَ لِلصِّفَاتِ قِسْطٌ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا; لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ حِينَ صَاحَبَهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ مُسَاوِيًا لِفِعْلِ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِمَا وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْفِعْلِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَحْبُوبُ عِنْدَ اللَّهِ مُسَاوِيًا لِمَا لَيْسَ بِمَحْبُوبٍ، وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ لَيْسَ بِمَحْبُوبٍ، وَبِالْعَكْسِ، وَهُوَ مُحَالٌ; فَثَبَتَ أَنَّ لِلْوَصْفِ حَظًّا مِنَ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ حَظًّا مَا مِنَ الْجَزَاءِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الْجَزَاءِ; فَالْأَوْصَافُ الْمَطْبُوعُ عَلَيْهَا وَمَا أَشْبَهَهَا مُجَازًى عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا مُشْكِلٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ; فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مَعَ التَّكْلِيفِ لَا يَتَلَازَمَانِ، فَقَدْ يَكُونُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى غَيْرِ الْمَقْدُورِ لِلْمُكَلَّفِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّكْلِيفُ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ; فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْمَصَائِبِ النَّازِلَةِ بِالْإِنْسَانِ اضْطِرَارًا، عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَالثَّانِي; كَشَارِبِ الْخَمْرِ، وَمَنْ أَتَى عَرَّافًا; حُكْمُهُ فَإِنَّهُ جَاءَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَلَا أَعْلَمَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ صَلَاتِهِ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ أَرْكَانُهَا وَشُرُوطُهَا، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، وَإِذَا لَمْ يَتَلَازَمَا لَا يَصِحُّ هَذَا الدَّلِيلُ. وَأَمَّا الثَّانِي; فَقَدِ اعْتَرَضَهُ الدَّلِيلُ الثَّالِثُ الدَّالُّ عَلَى الْجَزَاءِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ الْجَزَاءَ وَقَعَ عَلَى الْعَمَلِ أَوِ التَّرْكِ إِنْ أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدًا كَمَا يَقَعُ دُونَ الْوَصْفِ; فَقَدْ ثَبَتَ بُطْلَانُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَعَ اقْتِرَانِ الْوَصْفِ فَقَدْ صَارَ لِلْوَصْفِ أَثَرٌ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ دَالٌّ عَلَى صِحَّةِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ لَا عَلَى نَفْيِهِ. وَلِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى الثَّانِي فِي أَدِلَّتِه: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ مَعْنَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ امْتَنَعَ أَنْ يَتَعَلَّقَا بِمَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَهُوَ الصِّفَاتُ وَالذَّوَاتُ الْمَخْلُوقُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الثَّانِي; فَإِنَّ الْقِسْمَةَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ; إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَتَعَلَّقَا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ لِلْعَبْدِ غَيْرِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ، وَذَلِكَ كَوْنُهُ اتَّصَفَ بِمَا هُوَ حَسَنٌ أَوْ قَبِيحٌ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ; فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَمَّا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنِ الصِّفَاتِ; فَوُقُوعُهَا عَلَى حَسَبِهَا فِي الْكَمَالِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ بِكَمَالِ الصَّنْعَةِ عَلَى كَمَالِ الصَّانِعِ وَبِالضِّدِّ; فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْتَصُّ الثَّوَابُ بِالْأَفْعَالِ، وَيَكُونُ التَّفَاوُتُ رَاجِعًا إِلَى تَفَاوُتِهَا لَا إِلَى الصِّفَاتِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّظَرَ يَتَجَاذَبُهُ الطَّرَفَانِ، وَيَحْتَمِلُ تَحْقِيقُهُ بَسْطًا أَوْسَعَ مِنْ هَذَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
|