الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
الْأَسْبَابُ- مِنْ حَيْثُ هِيَ أَسْبَابٌ شَرْعِيَّةٌ- لِمُسَبَّبَاتٍ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِتَحْصِيلِ مُسَبَّبَاتِهَا، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةُ أَوِ الْمَفَاسِدُ الْمُسْتَدْفَعَةُ، وَالْمُسَبَّبَاتُ بِالنَّظَرِ إِلَى أَسْبَابِهَا ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: مَا شُرِعَتِ الْأَسْبَابُ لَهَا؛ إِمَّا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقُ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْمَقَاصِدِ الْأُوَلِ أَيْضًا، وَإِمَّا بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَهِيَ مُتَعَلِّقُ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ، وَكِلَا الضَّرْبَيْنِ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ. وَالثَّانِي: مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ الْأَسْبَابَ لَمْ تُشْرَعْ لَهَا أَوْ لَا يُعْلَمُ وَلَا يُظَنُّ أَنَّهَا شُرِعَتْ لَهَا أَوْ لَمْ تُشْرَعْ لَهَا، فَتَجِيءُ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ السَّبَبَ شُرِعَ لِأَجْلِهِ، فَتَسَبُّبُ الْمُتَسَبِّبِ فِيهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ، وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِمَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِي التَّوَسُّلِ بِهِ إِلَى مَا أَذِنَ أَيْضًا فِي التَّوَسُّلِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّا فَرَضْنَا أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ مَثَلًا التَّنَاسُلَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَتْبَعُهُ اتِّخَاذُ السَّكَنِ، وَمُصَاهَرَةُ أَهْلِ الْمَرْأَةِ لِشَرَفِهِمْ أَوْ دِينِهِمْ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوِ الْخِدْمَةِ أَوِ الْقِيَامِ عَلَى مَصَالِحِهِ أَوِ التَّمَتُّعِ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ النِّسَاءِ أَوِ التَّجَمُّلِ بِمَالِ الْمَرْأَةِ أَوِ الرَّغْبَةِ فِي جَمَالِهَا أَوِ الْغِبْطَةِ بِدِينِهَا أَوِ التَّعَفُّفِ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ، فَصَارَ إِذًا مَا قَصَدَهُ هَذَا الْمُتَسَبِّبُ مَقْصُودَ الشَّارِعِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهَذَا كَافٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ الْقَصْدَ الْمُطَابِقَ لِقَصْدِ الشَّارِعِ هُوَ الصَّحِيحُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوْلِ بِفَسَادِ هَذَا التَّسَبُّبِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْقَصْدَ إِلَى الِانْتِفَاعِ مُجَرَّدًا لَا يُغْنِي دُونَ قَصْدِ حِلِّ الْبُضْعِ بِالْعَقْدِ أَوَّلًا؛ فَإِنَّهُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَصْدُ، وَالشَّارِعُ إِنَّمَا قَصْدُهُ بِالْعَقْدِ أَوَّلًا الْحِلُّ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ، فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا مُجَرَّدَ الِانْتِفَاعِ فَقَدْ تَخَلَّفَ قَصْدُهُ عَنْ قَصْدِ الشَّارِعِ، فَيَكُونُ مُجَرَّدُ الْقَصْدِ إِلَى الِانْتِفَاعِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِمَا إِذَا أَرَادَ التَّمَتُّعَ بِفُلَانَةٍ كَيْفَ اتَّفَقَ بِحِلٍّ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالنِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ، وَقَصْدُهُ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ بِالزِّنَا لَحَصَّلَ مَقْصُودَهُ، فَإِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا، وَالْحَالُ هَذِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِحَلِّهِ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ حِلَّهَا فَقَدْ خَالَفَ قَصْدَ الشَّارِعِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ بَاطِلًا، وَالْحُكْمُ فِي كُلِّ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ جَارٍ هَذَا الْمَجْرَى. لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ عَلَى مَا فُرِضَ فِي السُّؤَالِ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ حَاصِلَ قَصْدِ هَذَا الْقَاصِدِ أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا قَصَدَ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ جَائِزٍ، فَأَتَاهُ مِنْ وَجْهٍ قَدْ جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُوَصِّلًا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِالْعَقْدِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ، بَلْ قَصَدَ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِإِذْنِ مَنْ إِلَيْهِ الْإِذْنُ، وَأَدَّى مَا الْوَاجِبُ أَنْ يُؤَدَّى فِيهِ، لَكِنْ مُلْجَأً إِلَى ذَلِكَ، فَلَهُ بِهَذَا التَّسَبُّبِ الْجَائِزِ مُقْتَضَاهُ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي قَصْدِهِ إِلَى الْمَحْظُورِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ عَزْمٍ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهَا أَثِمَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنْ كَانَ خَاطِرًا عَلَى غَيْرِ عَزِيمَةٍ، فَمُغْتَفَرٌ كَسَائِرِ الْخَوَاطِرِ، فَلَمْ يَقْتَرِنْ إِذًا بِالْعَقْدِ مَا يُصَيِّرُهُ بَاطِلًا؛ لِوُقُوعِهِ كَامِلَ الْأَرْكَانِ، حَاصِلَ الشُّرُوطِ، مُنْتَفِيَ الْمَوَانِعِ، وَقَصْدُ الْقَاصِدِ لِلْعِصْيَانِ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ خَارِجٌ عَنْ قَصْدِهِ الِاسْتِبَاحَةَ بِالْوَجْهِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ، وَهَذَا الْقَصْدُ الثَّانِي مَوْجُودٌ عِنْدَهُ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ بِوَضْعِ السَّبَبِ، فَصَحَّ التَّسَبُّبُ، وَأَمَّا إِلْزَامُ قَصْدِ الْحِلِّ فَلَا يَلْزَمُ، بَلْ يَكْفِي الْقَصْدُ إِلَى إِيقَاعِ السَّبَبِ الْمَشْرُوعِ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ وُقُوعِ الْحِلِّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ النَّاشِئَ عَنِ السَّبَبِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ التَّكْلِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُشْرَعْ لِأَجْلِهِ ابْتِدَاءً، فَالدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ التَّسَبُّبَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُشْرَعْ أَوَّلًا لِهَذَا الْمُسَبَّبِ الْمَفْرُوضِ، وَإِذَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُ فَلَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ حِكْمَتُهُ فِي جَلْبِ مَصْلَحَةٍ وَلَا دَفْعِ مَفْسَدَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قُصِدَ بِالسَّبَبِ، فَهُوَ إِذًا بَاطِلٌ، هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ الْمَفْرُوضِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَصَارَ كَالسَّبَبِ الَّذِي لَمْ يُشْرَعْ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ التَّسَبُّبُ غَيْرَ الْمَشْرُوعِ أَصْلًا لَا يَصِحُّ، فَكَذَلِكَ مَا شُرِعَ إِذَا أُخِذَ لِمَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّ كَوْنَ الشَّارِعِ لَمْ يَشْرَعْ هَذَا السَّبَبَ لِهَذَا الْمُسَبَّبِ الْمُعَيَّنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّسَبُّبِ مَفْسَدَةً لَا مَصْلَحَةً أَوْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَشْرُوعَ لَهَا السَّبَبُ مُنْتَفِيَةٌ بِذَلِكَ الْمُسَبَّبِ، فَيَصِيرُ السَّبَبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَبَثًا؛ فَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ الْخَاصِّ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، فَإِذَا قُصِدَ بِالنِّكَاحِ مَثَلًا التَّوَصُّلُ إِلَى أَمْرٍ فِيهِ إِبْطَالُهُ كَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ أَوْ بِالْبَيْعِ التَّوَصُّلُ إِلَى الرِّبَا مَعَ إِبْطَالِ الْبَيْعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُهَا، كَانَ هَذَا الْعَمَلُ بَاطِلًا لِمُخَالَفَتِهِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْمَالِ، وَالتَّسَبُّبَاتِ الْعَادِيَّةِ، وَالْعِبَادِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا وَالنَّاكِحُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ؟ وَإِنْ كَانَ قَصَدَ رَفْعَ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ، فَمَا قَصَدَهُ إِلَّا ثَانِيًا عَنْ قَصْدِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي مِلْكِ نِكَاحٍ، فَهُوَ قَصَدَ نِكَاحًا يَرْتَفِعُ بِالطَّلَاقِ، وَالنِّكَاحُ مِنْ شَأْنِهِ وَوَضْعِهِ الشَّرْعِيِّ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ، لَكِنْ كَوْنُهُ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ التَّحْلِيلَ لِلْأَوَّلِ أَمْرٌ آخَرُ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا؛ فَإِنَّهُ إِذَا اقْتَرَنَ أَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا فَلَا تَأْثِيرَ لِأَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ؛ لِانْفِكَاكِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ تَحْقِيقًا كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَفِي الْفِقْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا: فَقَدِ اتَّفَقَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ وَالْعِتْقِ قَبْلَ الْمِلْكِ، فَيَقُولُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ إِنْ تَزَوَّجْتُكِ؛ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِلْعَبْدِ إِنِ اشْتَرَيْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إِنَّ تَزَوَّجَ، وَالْعِتْقُ إِذَا اشْتَرَى، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يُبِيحَانِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ. وَفِي الْمَبْسُوطَةِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَخَافُ الْعَنَتَ قَالَ: أَرَى لَهُ جَائِزًا أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَلَكِنْ إِنْ تَزَوَّجَ طُلِّقَتْ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ، وَهَذَا الشِّرَاءَ لَيْسَ فِيهِمَا شَيْءٌ مِمَّا قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَلَا بِالْقَصْدِ الثَّانِي إِلَّا الطَّلَاقَ، وَالْعِتْقَ، وَلَمْ يُشْرَعِ النِّكَاحُ لِلطَّلَاقِ، وَلَا الشِّرَاءُ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْيَدِ، وَإِنَّمَا شُرِعَا لِأُمُورٍ أُخَرَ، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مِنَ التَّوَابِعِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِمَا، فَمَا جَازَ هَذَا إِلَّا لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقِ ثَانٍ عَنْ حُصُولِ النِّكَاحِ أَوِ الْمِلْكِ، وَعَنِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ فَالنَّاكِحُ قَاصِدٌ بِنِكَاحِهِ الطَّلَاقَ، وَالْمُشْتَرِي قَاصِدٌ بِشِرَائِهِ الْعِتْقَ، وَظَاهِرُ هَذَا الْقَصْدِ الْمُنَافَاةُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ؛ إِمَّا جَوَازُ التَّسَبُّبِ بِالْمَشْرُوعِ إِلَى مَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُ السَّبَبُ؛ وَإِمَّا بُطْلَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِيمَنْ نَكَحَ وَفِي نَفْسِهِ أَنْ يُفَارِقَ، أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِيَمِينٍ لَزِمَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَدْ فَرَضُوا الْمَسْأَلَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ النِّكَاحَ حَلَالٌ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ أَقَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُفَارِقَ فَارَقَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِم: وَهُوَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّا عَلِمْنَا أَوْ سَمِعْنَا قَالَ: وَهُوَ عِنْدَنَا نِكَاحٌ ثَابِتٌ، الَّذِي يَتَزَوَّجُ يُرِيدُ أَنْ يَبُرَّ فِي يَمِينِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ لِلَذَّةٍ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَ مِنْهَا لَا يُرِيدُ حَبْسَهَا، وَلَا يَنْوِي ذَلِكَ، عَلَى ذَلِكَ نِيَّتُهُ وَإِضْمَارُهُ فِي تَزْوِيجِهَا؛ فَأَمْرُهُمَا وَاحِدٌ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَا أَقَامَا، لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ حَلَالٌ، ذَكَرَ هَذِهِ فِي الْمَبْسُوطَةِ. وَفِي الْكَافِي فِي الَّذِي يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ السَّفَر: أَنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مُبَالَغَةَ مَالِكٍ فِي مَنْعِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُجِيزُهُ بِالنِّيَّةِ، كَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِقَصْدِ الْإِقَامَةِ مَعَهَا مُدَّةً، وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَجَازَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ، وَمَثَّلَ بِنِكَاحِ الْمُسَافِرِينَ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ النِّكَاحَ الْأَبَدِيَّ لَكَانَ نِكَاحًا نَصْرَانِيًّا، فَإِذَا سَلِمَ لَفْظُهُ لَمْ تَضُرُّهُ نِيَّتُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَتَزَوَّجُ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ رَجَاءَ الْأُدْمَةِ، فَإِنْ وَجَدَهَا وَإِلَّا فَارَقَ، كَذَلِكَ يَتَزَوَّجُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِصْمَةِ؛ فَإِنِ اغْتَبَطَ ارْتَبَطَ، وَإِنْ كَرِهَ فَارَقَ، وَهَذَا كَلَامُهُ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَحَكَى اللَّخْمِيُّ عَنْ مَالِكٍ [فَمَنْ نَكَحَ لِغُرْبَةٍ] أَوْ لِهَوًى لِيَقْضِيَ أِرَبَهُ، وَيُفَارِقَ فَلَا بَأْسَ. فَهَذِهِ مَسَائِلُ دَلَّتْ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا، وَأَشَدُّهَا مَسْأَلَةُ حِلِّ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ النِّكَاحَ رَغْبَةً فِيهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَلَمْ يُشْرَعِ النِّكَاحُ لِمِثْلِ هَذَا، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَجَمِيعُهَا صَحِيحٌ مَعَ الْقَصْدِ الْمُخَالِفِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِلنِّكَاحِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْفِرَاقِ ثَانِيًا، وَهُمَا قَصْدَانِ غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ؛ [وَإِلَّا] فَإِنْ جَعَلْتَهُمَا مُتَلَازِمَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ، فَعَلَى الْجُمْلَةِ يَلْزَمُ إِمَّا بُطْلَانُ هَذَا كُلِّهِ، وَإِمَّا بُطْلَانُ مَا تَقَدَّمَ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إِجْمَالِيٌّ، وَالْآخَرُ تَفْصِيلِيٌّ. فَأَمَّا الْإِجْمَالِيُّ: فَهُوَ أَنْ نَقُولَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَا اعْتَرَضَ بِهِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَهَا، وَلَا هِيَ مِنْهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ بِالْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ فِيهَا، فَمَا اتَّفَقُوا مِنْهَا عَلَى جَوَازِهِ فَلِسَلَامَتِهِ مِنْ مُقْتَضَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَلِدُخُولِهِ عِنْدَ الْمَانِعِينَ تَحْتَهَا، وَلِسَلَامَتِهِ عِنْدَ الْمُجِيزِينَ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَا يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ مَا وُجِدَ إِلَى غَيْرِهِ سَبِيلٌ، وَهَذَا جَوَابٌ يَكْفِي الْمُقَلِّدَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَيُورَدُ عَلَى الْعَالَمِ مِنْ بَابِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لِيَتَوَقَّفَ، وَيَتَأَمَّلَ، وَيَلْتَمِسَ الْمَخْرَجَ، وَلَا يَتَعَسَّفَ بِإِطْلَاقِ الرَّدِّ. وَأَمَّا التَّفْصِيلِيُّ: فَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَا تَقْدَحُ فِيمَا تَقَدَّمَ، أَمَّا مَسْأَلَةُ التَّعْلِيقِ فَقَدْ قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ عَلَى الْإِمَامَيْنِ، وَإِنَّ مَنْ قَالَ بِشَرْعِيَّةِ النِّكَاحِ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ قَبْلَ الْمِلْكِ، فَقَدِ الْتَزَمَ الْمَشْرُوعِيَّةَ مَعَ انْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ شَرْعًا قَالَ: وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَلْبَتَّةَ، لَكِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ إِجْمَاعًا؛ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ تَحْصِيلًا لِحِكْمَةِ الْعَقْدِ، قَالَ: فَحَيْثُ أَجْمَعْنَا عَلَى شَرْعِيَّتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ حِكْمَتِهِ، وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَقَاصِدِهِ قَالَ: وَهَذَا مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْحَابِنَا انْتَهَى قَوْلُهُ. وَهُوَ عَاضِدٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّ النَّظَرَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلٍ آخَرَ نُدْرِجُهُ أَثْنَاءَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلضَّرُورَةِ إِلَيْهِ، وَهِيَ:
وَذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ الْمَشْرُوعَ لِحِكْمَةٍ لَا يَخْلُو أَنْ يُعْلَمَ أَوْ يُظَنَّ وُقُوعُ الْحِكْمَةِ بِهِ أَوْ لَا فَإِنْ عُلِمَ أَوْ ظُنَّ ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، وَلَا ظُنَّ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ ارْتَفَعَتِ الْمَشْرُوعِيَّةُ أَصْلًا فَلَا أَثَرَ لِلسَّبَبِ شَرْعًا أَلْبَتَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، مِثْلَ الزَّجْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ إِذَا جَنَى، وَالْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالطَّلَاقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَالْعِتْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ، وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَان: الْأَوَّلُ أَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ قَدْ فُرِضَ أَنَّهُ لِحِكْمَةٍ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ إِثْبَاتِ الْمَصَالِحِ حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَلَوْ سَاغَ شَرْعُهُ مَعَ فُقْدَانِهَا جُمْلَةً لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مَشْرُوعًا هَذَا خَلْفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْحُدُودُ وُضِعَتْ لِغَيْرِ قَصْدِ الزَّجْرِ، وَالْعِبَادَاتُ لِغَيْرِ قَصْدِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ امْتِنَاعُ وُقُوعِ حُكْمِ الْأَسْبَابِ- وَهِيَ الْمُسَبَّبَاتُ- لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ مَعَ قَبُولِ الْمَحَلِّ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ فَهَلْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْخَارِجِيُّ فِي شَرْعِيَّةِ السَّبَبِ أَمْ يَجْرِي السَّبَبُ عَلَى أَصْلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَالْخِلَافُ فِيهِ سَائِغٌ، وَلِلْمُجِيزِ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْكُلِّيَّةَ لَا تَقْدَحُ فِيهَا قَضَايَا الْأَعْيَانِ وَلَا نَوَادِرُ التَّخَلُّفِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْخَاصُّ بِهَذَا الْمَكَانِ أَنَّ الْحِكْمَةَ إِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ بِمَحَلِّهَا وَكَوْنِهِ قَابِلًا لَهَا فَقَطْ، وَإِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ بِوُجُودِهَا فِيهِ، فَإِنِ اعْتُبِرَتْ بِقَبُولِ الْمَحَلِّ فَقَطْ فَهُوَ الْمُدَّعَى، وَالْمَحْلُوفُ بِطَلَاقِهَا فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ قَابِلَةٌ لِلْعَقْدِ عَلَيْهَا مِنَ الْحَالِفِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ فِي الْمَنْعِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَإِنِ اعْتُبِرَتْ بِوُجُودِهَا فِي الْمَحَلِّ، لَزِمَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْمَنْعِ فُقْدَانُهَا مُطْلَقًا لِمَانِعٍ أَوْ لِغَيْرِ مَانِعٍ، كَسَفَرِ الْمَلِكِ الْمُتَرَفِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا مَشَقَّةَ لَهُ فِي السَّفَرِ أَوْ هُوَ مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ فَكَانَ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي حَقِّهِ مُمْتَنِعَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِبْدَالُ الدِّرْهَمِ بِمِثْلِهِ، وَإِبْدَالُ الدِّينَارِ بِمِثْلِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي نَجِدُ الْحُكْمَ فِيهَا جَارِيًا عَلَى أَصْلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالْحِكْمَةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ بِإِطْلَاقٍ، وَإِبْدَالَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ مَظِنَّةٌ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ بِإِطْلَاقٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا، فَلْيَجُزِ التَّسَبُّبُ بِإِطْلَاقٍ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا بِإِطْلَاقٍ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَظِنَّةٍ لِلْحِكْمَةِ، وَلَا تُوجَدُ فِيهَا عَلَى حَالٍ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا نَظِيرُ السَّفَرِ بِإِطْلَاقٍ نِكَاحُ الْأَجْنَبِيَّةِ بِإِطْلَاقٍ؛ فَإِنْ قُلْتُمْ بِإِطْلَاقِ الْجَوَازِ مَعَ عَدَمِ اعْتِبَارِ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُقَيَّدَةِ فَلْتَقُولُوا بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا؛ لِأَنَّهَا صُورَةٌ مُقَيَّدَةٌ مِنْ مُطْلَقِ صُوَرِ نِكَاحِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْقَرَابَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بِإِطْلَاقٍ فَالْمَحَلُّ غَيْرُ قَابِلٍ بِإِطْلَاقٍ، فَهَذَا مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ بَعْضُ الْأَسْبَابِ مَشْرُوعًا، وَإِنْ لَمْ تُوجَدِ الْحِكْمَةُ وَلَا مَظِنَّتُهَا، إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ فِي نَفْسِهِ قَابِلًا؛لِأَنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ فِي نَفْسِهِ مَظِنَّةٌ لِلْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ وُقُوعًا، وَهَذَا مَعْقُولٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اعْتِبَارَ وُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي مَحَلٍّ عَيْنًا لَا يَنْضَبِطُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا ثَانِيًا عَنْ وُقُوعِ السَّبَبِ، فَنَحْنُ قَبْلَ وُقُوعِ السَّبَبِ جَاهِلُونَ بِوُقُوعِهَا أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهَا، فَكَمْ مِمَّنْ طَلَّقَ عَلَى أَثَرِ إِيقَاعِ النِّكَاحِ، وَكَمْ مِنْ نِكَاحٍ فُسِخَ إِذْ ذَاكَ لِطَارِئٍ طَرَأَ أَوْ مَانِعٍ مَنَعَ، وَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ وُقُوعَ الْحِكْمَةِ فَلَا يَصِحُّ تَوَقَّفُ مَشْرُوعِيَّةِ السَّبَبِ عَلَى وُجُودِ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَقَدْ فَرَضْنَا وُقُوعَ السَّبَبِ بَعْدَ وُجُودِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُحَالٌ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى اعْتِبَارِ مَظِنَّةِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ كَافِيًا. وَلِلْمَانِعِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِأَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: إِنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ؛ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ شَرْعًا بِكَوْنِهِ قَابِلًا فِي الذِّهْنِ خَاصَّةً، وَإِنْ فُرِضَ غَيْرُ قَابِلٍ فِي الْخَارِجِ، فَمَا لَا يُقْبَلُ لَا يُشْرَعُ التَّسَبُّبُ فِيهِ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ تُوجَدُ حِكْمَتُهُ فِي الْخَارِجِ، فَمَا لَا تُوجَدُ حِكْمَتُهُ فِي الْخَارِجِ لَا يُشْرَعُ أَصْلًا، كَانَ فِي نَفْسِهِ قَابِلًا لَهَا ذِهْنًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ؛ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهِيَ حِكَمُ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَمَا لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَلَا هُوَ مَظِنَّةُ مَصْلَحَةٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ، فَقَدْ سَاوَى مَا لَا يَقْبَلُ الْمَصْلَحَةَ لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ مِنْ حَيْثُ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ، وَإِذَا اسْتَوَيَا امْتَنَعَا أَوْ جَازَا، لَكِنَّ جَوَازَهُمَا يُؤَدِّي إِلَى جَوَازِ مَا اتُّفِقَ عَلَى مَنْعِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِمَنْعِهِمَا مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ أَعْمَلْنَا السَّبَبَ هُنَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَا تَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَلَا تُوجَدُ بِهِ؛ لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ التَّسَبُّبَ هُنَا يَصِيرُ عَبَثًا، وَالْعَبَثَ لَا يُشْرَعُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالْمَصَالِحِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ [مَعْنَى] كَلَامِ الْقَرَافِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ جَوَازَ مَا أُجِيزَ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْمَشَقَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُتَرَفِّهِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، بَلِ الظَّنُّ بِوُجُودِهَا غَالِبٌ؛ غَيْرَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَلَا تَنْضَبِطُ، فَنَصَبَ الشَّارِعُ الْمَظِنَّةَ فِي مَوْضِعِ الْحِكْمَةِ ضَبْطًا لِلْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا جَعَلَ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ ضَابِطًا لِمُسَبَّبَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَاءُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ، وَجَعَلَ الِاحْتِلَامَ مَظِنَّةَ حُصُولِ الْعَقْلِ الْقَابِلِ لِلتَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ فِي نَفْسِهِ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا إِبْدَالُ الدِّرْهَمِ بِمِثْلِهِ، فَالْمُمَاثَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَدْ لَا تُتَصَوَّرُ عَقْلًا؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ مُتَمَاثِلَيْنِ إِلَّا وَبَيْنَهُمَا افْتِرَاقٌ وَلَوْ فِي تَعْيِينِهِمَا، كَمَا أَنَّهُ مَا مِنْ مُخْتَلِفَيْنِ إِلَّا وَبَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ، وَلَوْ فِي نَفْيِ مَا سِوَاهُمَا عَنْهُمَا، وَلَوْ فُرِضَ التَّمَاثُلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُوَ نَادِرٌ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا، وَالْغَالِبُ الْمُطَّرِدُ اخْتِلَافُ الدِّرْهَمَيْنِ، وَالدِّينَارَيْنِ، وَلَوْ بِجِهَةِ الْكَسْبِ، فَأَطْلَقَ الْجَوَازَ لِذَلِكَ، [وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ] كَذَلِكَ؛ فَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى مَسْأَلَتِنَا.
وَقَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ النِّكَاحِ لِلْبِرِّ فِي الْيَمِينِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا؛ فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ فِيهِ احْتِمَالٌ لِلِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ وَجْهُ الصِّحَّةِ هُوَ الْأَقْوَى، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ الْقَابِلِ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ لَمْ يُمْنَعْ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ نِيَّةُ- الْمُفَارَقَةِ أَوْ كَانَ مَظِنَّةً لِذَلِكَ- أَشْبَهَ النِّكَاحَ الْمُؤَقَّتَ؛ لَمْ يَجُزْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَمْ يَحْكِ فِي مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْبِرِّ خِلَافًا، فَقَدْ غَمَزَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الْإِحْصَانُ، وَهَذَا كَافٍ فِيمَا فِيهِ مِنَ الشُّبْهَةِ، فَالْمَوْضِعُ مَجَالُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَجَدْنَا نِكَاحَ الْبِرِّ نِكَاحًا مَقْصُودًا لِغَرَضِهِ الْمَقْصُودِ، لَكِنْ عَلَى أَنْ يَرْفَعَ حُكْمَ الْيَمِينِ، وَكَوْنُهُ مَقْصُودًا بِهِ رَفْعُ الْيَمِينِ يَكْفِي بِأَنَّهُ قُصِدَ لِلنِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الْمَرْأَةُ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَقَاصِدِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ رَفْعَ الْيَمِينِ، وَهَذَا غَيْرُ قَادِحٍ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لِقَضَاءِ الْوَطَرِ مَقْصُودٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْوَطَرِ مِنْ مَقَاصِدِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَنِيَّةُ الْفِرَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الطَّلَاقِ الَّذِي جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ، وَقَدْ يَبْدُو لَهُ فَلَا يُفَارِقُ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ؛ فَإِنَّهُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ بَانٍ عَلَى شَرْطِ التَّوْقِيتِ. وَكَذَلِكَ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَا يُقْصَدُ بِالنِّكَاحِ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ تَحْلِيلُهَا لِلْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ بِصُورَةِ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ، لَا بِحَقِيقَتِهِ؛ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ غَرَضًا مِنْ أَغْرَاضِهِ الَّتِي شُرِعَ لَهَا. وَأَيْضًا؛ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ لِأَجْلِ الْغَيْرِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْبَقَاءُ مَعَهَا عُرْفًا أَوْ شَرْطًا؛ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا يُمْكِنُ اسْتِمْرَارُهُ. وَأَيْضًا؛ فَالنَّصُّ بِمَنْعِهِ عَتِيدٌ، فَيُوقَفُ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ تَرَاوُضٌ وَلَا شَرْطٌ، وَكَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْقَاصِدَ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُصَحِّحُ هَذَا النِّكَاحَ اعْتِبَارًا بِأَنَّهُ قَاصِدٌ الِاسْتِمْتَاعَ عَلَى الْجُمْلَةِ ثُمَّ الطَّلَاقَ، فَقَدْ قَصَدَ عَلَى الْجُمْلَةِ مَا يُقْصَدُ بِالنِّكَاحِ مِنْ أَغْرَاضِهِ الْمَقْصُودَةِ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْعَوْدَ إِلَى الْأَوَّلِ إِنِ اتُّفِقَ عَلَى قَوْلٍ، وَلَا يَتَضَمَّنُهُ عَلَى قَوْلٍ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ وَجْهٍ مِنَ النَّظَرِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حِلَّ الْيَمِينِ إِذَا قُصِدَ بِالنِّكَاحِ لَا يَقْدَحُ فِيهِ، أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ قُرْبَةٍ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، وَيَصِحُّ مِنْهُ قُرْبَةً، وَهَذَا مِثْلُهُ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنَ الْيَمِينِ وَشَبَهِهِ قَادِحًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، لَكَانَ قَادِحًا فِي أَصْلِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِبَادَةِ التَّوَجُّهُ بِهَا إِلَى الْمَعْبُودِ قَاصِدًا بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ، فَكَمَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ الْمَنْذُورَةُ أَوِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا إِلَّا حَلَّ الْيَمِينِ، وَإِلَّا لَمْ يَبَرَّ فِيهِ، فَكَذَلِكَ هُنَا بَلْ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً يَمْلِكُهَا فَالْعَقْدُ بِبَيْعِهَا صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إِلَّا حَلَّ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ إِنْ حَلَفَ أَنْ يَصِيدَ أَوْ يَذْبَحَ هَذِهِ الشَّاةَ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلَيْن: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْأَحْكَامَ الْمَشْرُوعَةَ لِلْمَصَالِحِ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَحَالِّهَا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مَظِنَّةً لَهَا خَاصَّةً. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُمُورَ الْعَادِيَّةَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُنَاقِضَةً لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْمُوَافَقَةِ، وَكِلَا الْأَصْلَيْنِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ هُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِالسَّبَبِ مُسَبَّبًا لَا يُعْلَمُ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ أَوْ غَيْرُ مَقْصُودٍ لَهُ، وَهَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ، وَهُوَ مَحَلُّ إِشْكَالٍ، وَاشْتِبَاهٍ، وَذَلِكَ أَنَّا لَوْ تَسَبَّبْنَا لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لِهَذَا الْمُسَبَّبِ الْمَفْرُوضِ، كَمَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّسَبُّبُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَعَلَى الثَّانِي: يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَإِذَا دَارَ الْعَمَلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى التَّسَبُّبِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ. لَا يُقَالُ: إِنَّ السَّبَبَ قَدْ فُرِضَ مَشْرُوعًا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَلِمَ لَا يُتَسَبَّبُ بِهِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا فُرِضَ مَشْرُوعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مَفْرُوضٍ مَعْلُومٍ لَا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّسَبُّبُ [بِهِ] مُطْلَقًا، إِذَا عَلِمَ شَرْعِيَّتَهُ لِكُلِّ مَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَلَيْسَ مَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِيهِ مِنْ هَذَا، بَلْ عَلِمْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْبَابِ شُرِعَتْ لِأُمُورٍ تَنْشَأُ عَنْهَا، وَلَمْ تُشْرَعْ لِأُمُورٍ وَإِنْ كَانَتْ تَنْشَأُ عَنْهَا، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا كَالنِّكَاحِ؛ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ لِأُمُورٍ كَالتَّنَاسُلِ وَتَوَابِعِهِ، وَلَمْ يُشْرَعْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلتَّحْلِيلِ وَلَا مَا أَشْبَهَهُ، فَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِأُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ، كَانَ مَا جُهِلَ كَوْنُهُ مَشْرُوعًا لَهُ مَجْهُولَ الْحُكْمِ، فَلَا تَصِحُّ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِقْدَامِ حَتَّى يُعْرَفَ الْحُكْمُ. وَلَا يُقَالُ: الْأَصْلُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَالْأَصْلُ فِي الْأَبْضَاعِ الْمَنْعُ؛ إِلَّا بِأَسْبَابٍ مَشْرُوعَةٍ، وَالْحَيَوَانَاتُ الْأَصْلُ فِي أَكْلِهَا الْمَنْعُ حَتَّى تَحْصُلَ الذَّكَاةُ الْمَشْرُوعَةُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بَعْدَ تَحْصِيلِ أَشْيَاءَ لَا مُطْلَقًا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَتَبَيَّنَ مُسَبَّبٌ لَا نَدْرِي أَهْوَ مِمَّا قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِالتَّسَبُّبِ الْمَشْرُوعِ أَمْ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْهُ، وَجَبَ التَّوَقُّفُ حَتَّى يُعْرَفَ الْحُكْمُ فِيهِ، وَلِهَذَا قَاعِدَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَا هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ مُسَبَّبَاتِ الْأَسْبَابِ، وَمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ [وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ].
كَمَا أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ ضِمْنًا، كَذَلِكَ غَيْرُ الْمَشْرُوعَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَيْضًا أَحْكَامٌ ضِمْنًا، كَالْقَتْلِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَالدِّيَةُ فِي مَالِ الْجَانِي أَوِ الْعَاقِلَةِ، وَغُرْمُ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا، وَالْكَفَّارَةُ، وَكَذَلِكَ التَّعَدِّي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالْعُقُوبَةُ، وَالسَّرِقَةُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الضَّمَانُ، وَالْقَطْعُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ الْمُسَبِّبَةِ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا السَّبَبُ الْمَمْنُوعُ يُسَبِّبُ مَصْلَحَةً مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَيْسَ ذَلِكَ سَبَبًا فِيهَا؛ كَالْقَتْلِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِيرَاثُ الْوَرَثَةِ، وَإِنْفَاذُ الْوَصَايَا، وَعِتْقُ الْمُدَبَّرِينَ، وَحُرِّيَّةُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، [وَكَذَلِكَ] الْأَوْلَادُ، وَكَذَلِكَ الْإِتْلَافُ بِالتَّعَدِّي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُتَعَدِّي لِلْمُتْلَفِ تَبَعًا لِتَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ، وَالْغَصْبُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ إِذَا تَغَيَّرَ فِي يَدَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَعْلُومِ بِنَاءً عَلَى تَضْمِينِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ؛ فَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ التَّسَبُّبَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَفْسَدَةٍ عَلَيْهِ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْصَدَ. الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِذَا قُصِدَ فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْمُسَبَّبَ الَّذِي مُنِعَ لِأَجْلِهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ؛ كَالتَّشَفِّي فِي الْقَتْلِ، وَالِانْتِفَاعِ الْمُطْلَقِ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ، فَهَذَا الْقَصْدُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ التَّبَعِيَّةِ الْمَصْلَحِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهَا إِذَا كَانَتْ حَاصِلَةً حَصَلَتْ مُسَبَّبَاتُهَا؛ إِلَّا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ كَمَا فِي حِرْمَانِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا التَّشَفِّي أَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً عِنْدَ مَنْ قَالَ بِحِرْمَانِهِ، وَلَكِنْ قَالُوا: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ أَتْلَفَهُ؛ فَإِنَّ مِنْ أَحْكَامِ [ذَلِكَ] التَّغَيُّرِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا فَصَاحِبُهُ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِيهِ، وَيَجُوزُ لِلْغَاصِبِ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى ضَمَانِ الْقِيمَةِ، عَلَى كَرَاهِيَةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ عِنْدَ آخَرِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَصْدَ هَذَا الْمُتَسَبِّبِ لَمْ يُنَاقِضْ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي تُرَتُّبِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهَا تَرَتَّبَتْ عَلَى ضَمَانِ الْقِيمَةِ أَوِ التَّغَيُّرِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا، وَإِنَّمَا نَاقِضَةٌ فِي إِيقَاعِ السَّبَبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْقَصْدُ إِلَى السَّبَبِ بِعَيْنِهِ؛ لِيَحْصُلُ بِهِ غَرَضٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ الْقَصْدِ إِلَى هَذَا الْمُسَبَّبِ بِعَيْنِهِ الَّذِي هُوَ نَاشِئٌ عَنِ الضَّمَانِ أَوِ الْقِيمَةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَصْبَ يَتْبَعُهُ لُزُومُ الضَّمَانِ عَلَى فَرْضِ تَغَيُّرِهِ، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ بِسَبَبِ التَّغَيُّرِ النَّاشِئِ عَنِ الْغَصْبِ، وَحِينَ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ وَتَعَيَّنَتْ، صَارَ الْمَغْصُوبُ لِجِهَةِ الْغَاصِبِ مِلْكًا لَهُ؛ حِفْظًا لِمَالِ الْغَاصِبِ أَنْ يَذْهَبَ بَاطِلًا بِإِطْلَاقٍ؛ فَصَارَ مِلْكُهُ تَبَعًا لِإِيجَابِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ لَا بِسَبَبِ الْغَصْبِ، فَانْفَكَّ الْقَصْدَانِ، فَقَصْدُ الْقَاتِلِ التَّشَفِّيَ غَيْرُ قَصْدِهِ لِحُصُولِ الْمِيرَاثِ، وَقَصْدُ الْغَاصِبِ الِانْتِفَاعَ غَيْرُ قَصْدِهِ لِضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَإِخْرَاجُ الْمَغْصُوبِ عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ جَرَى الْحُكْمُ التَّابِعُ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ الْقَاتِلُ وَالْغَاصِبُ عَلَى مَجْرَاهُ، وَتَرَتَّبَ نَقِيضُ مَقْصُودِهِ فِيمَا قَصَدَ مُخَالَفَتَهُ وَذَلِكَ عِقَابُهُ، وَأَخْذُ الْمَغْصُوبِ مِنْ يَدِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إِلَّا مَا سُدَّتْ فِيهِ الذَّرِيعَةُ. وَالثَّانِي أَنْ يَقْصِدَ تَوَابِعَ السَّبَبِ، وَهِيَ الَّتِي تَعُودُ عَلَيْهِ بِالْمَصْلَحَةِ ضِمْنًا؛ كَالْوَارِثِ يَقْتُلُ الْمَوْرُوثَ لِيَحْصُلَ لَهُ الْمِيرَاثُ، وَالْمُوصَى لَهُ يَقْتُلُ الْمُوصِي لِيَحْصُلَ لَهُ الْمُوصَى بِهِ، وَالْغَاصِبُ يَقْصِدُ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ فَيُغَيِّرُهُ لِيَضْمَنَ قِيمَتَهُ وَيَتَمَلَّكَهُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا التَّسَبُّبُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَمْنَعْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ لِيَحْصُلَ بِهَا فِي خِطَابِ الْوَضْعِ مَصْلَحَةٌ، فَلَيْسَتْ إِذًا بِمَشْرُوعَةٍ فِي ذَلِكَ التَّسَبُّبِ، وَلَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ هَلْ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ التَّسَبُّبِ الْمَخْصُوصِ كَوْنُهُ مُنَاقِضًا فِي الْقَصْدِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ عَيْنًا حَتَّى لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا قَصَدَهُ الْمُتَسَبِّبُ، فَتَنْشَأُ مِنْ هُنَا قَاعِدَةُ الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ، وَيُطْلَقُ الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِهَا إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْقَصْدُ الْمَفْرُوضُ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ فِي حِرْمَانِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ، وَمُقْتَضَى الْفِقْهِ فِي حَدِيثِ الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ الْمُفْتَرِقِ، وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَكَذَلِكَ مِيرَاثُ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ أَوْ تَأْبِيدُ التَّحْرِيمِ عَلَى مَنْ نَكَحَ فِي الْعِدَّةِ، إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذَا أَوْ يَعْتَبَرُ جَعْلُ الشَّارِعِ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ قَصْدُ هَذَا الْقَاصِدِ؛ فَيَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ مَعَ الْأَوَّلِ، هَذَا مَجَالٌ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ اتِّسَاعُ نَظَرٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَلْنَقْبِضْ عَنَانَ الْكَلَامِ فِيهِ. الْأَسْبَابُ الْمَشْرُوعَةُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ ضِمْنًا.
وَالنَّظَرُ فِيهِ فِي مَسَائِلَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَا كَانَ وَصْفًا مُكَمِّلًا لِمَشْرُوطِهِ فِيمَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ الْمَشْرُوطُ؛ أَوْ فِيمَا اقْتَضَاهُ الْحُكْمُ فِيهِ؛ كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الْحَوْلَ أَوْ إِمْكَانَ النَّمَاءِ مُكَمِّلٌ لِمُقْتَضَى الْمِلْكِ أَوْ لِحِكْمَةِ الْغِنَى، وَالْإِحْصَانَ مُكَمِّلٌ لِوَصْفِ الزِّنَى فِي اقْتِضَائِهِ لِلرَّجْمِ، وَالتَّسَاوِي فِي الْحُرْمَةِ مُكَمِّلٌ لِمُقْتَضَى الْقِصَاصِ أَوْ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ، وَالطَّهَارَةَ وَالِاسْتِقْبَالَ وَسِتْرَ الْعَوْرَةِ مُكَمِّلَةٌ لِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَوْ لِحِكْمَةِ الِانْتِصَابِ لِلْمُنَاجَاةِ وَالْخُضُوعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ وَصْفًا لِلسَّبَبِ أَوِ الْعِلَّةِ أَوِ الْمُسَبَّبِ أَوِ الْمَعْلُولِ أَوْ لِمِحَالِّهَا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُقْتَضَى الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ؛ فَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ ذَلِكَ الْمَشْرُوطِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لَهُ، بِحَيْثُ يُعْقَلُ الْمَشْرُوطُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الشُّرُوطِ، وَإِنْ لَمْ يَنْعَكِسْ كَسَائِرِ الْأَوْصَافِ مَعَ الْمَوْصُوفَاتِ حَقِيقَةً أَوِ اعْتِبَارًا، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ هُنَا؛ فَإِنَّهُ تَقْرِيرُ اصْطِلَاحٍ.
وَإِذْ ذُكِرَ اصْطِلَاحُ هَذَا الْكَتَابِ فِي الشَّرْطِ فَلْيُذْكَرِ اصْطِلَاحُهُ فِي السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَالْمَانِعِ. فَأَمَّا السَّبَبُ فَالْمُرَادُ بِه: مَا وُضِعَ شَرْعًا لِحُكْمٍ لِحِكْمَةٍ يَقْتَضِيهَا ذَلِكَ الْحُكْمُ، كَمَا كَانَ حُصُولُ النِّصَابِ سَبَبًا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالزَّوَالُ سَبَبًا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَالسَّرِقَةُ سَبَبًا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَالْعُقُودُ أَسْبَابًا فِي إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ أَوِ انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَالْمُرَادُ بِهَا: الْحِكَمُ وَالْمَصَالِحُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا الْأَوَامِرُ أَوِ الْإِبَاحَةُ، وَالْمَفَاسِدُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا النَّوَاهِي؛ فَالْمَشَقَّةُ عِلَّةٌ فِي إِبَاحَةِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَالسَّفَرُ هُوَ السَّبَبُ الْمَوْضُوعُ سَبَبًا لِلْإِبَاحَةِ، فَعَلَى الْجُمْلَةِ الْعِلَّةُ هِيَ الْمَصْلَحَةُ نَفْسُهَا أَوِ الْمَفْسَدَةُ لَا مَظِنَّتُهَا، كَانَتْ ظَاهِرَةً أَوْ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ، مُنْضَبِطَةً أَوْ غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» فَالْغَضَبُ سَبَبٌ، وَتَشْوِيشُ الْخَاطِرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ هُوَ الْعِلَّةُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ هُنَا لَفْظُ السَّبَبِ عَلَى نَفْسِ الْعِلَّةِ لِارْتِبَاطِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. وَأَمَّا الْمَانِعُ: فَهُوَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لِعِلَّةٍ تُنَافِي عِلَّةَ مَا مَنَعَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُطْلَقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَبَبٍ مُقْتَضٍ لِحُكْمٍ لِعِلَّةٍ فِيهِ، فَإِذَا حَضَرَ الْمَانِعُ وَهُوَ مُقْتَضٍ عِلَّةً تُنَافِي تِلْكَ الْعِلَّةَ، ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَبَطَلَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ، لَكِنْ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مُخِلًّا بِعِلَّةِ السَّبَبِ الَّذِي نُسِبَ لَهُ الْمَانِعُ؛ فَيَكُونُ رَفْعًا لِحُكْمِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ كَانَ حُضُورُهُ مَعَ مَا هُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ بَابِ تَعَارُضِ سَبَبَيْنِ أَوْ حُكْمَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ، وَهَذَا بَابُهُ كِتَابُ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ فَإِذَا قُلْنَا: الدَّيْنُ مَانِعٌ مِنَ الزَّكَاةِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي افْتِقَارَ الْمِدْيَانِ إِلَى مَا يُؤَدِّي بِهِ دَيْنُهُ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِيمَا بِيَدِهِ مِنَ النِّصَابِ، فَحِينَ تَعَلَّقَتْ بِهِ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ انْتَفَتْ حِكْمَةُ وُجُودِ النِّصَابِ، وَهِيَ الْغِنَى الَّذِي هِيَ عِلَّةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَسَقَطَتْ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْأُبُوَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِصَاصِ؛ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ عِلَّةً تُخِلُّ بِحِكْمَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ.
الشُّرُوطُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْعَقْلِيَّةُ؛ كَالْحَيَاةِ فِي الْعِلْمِ، وَالْفَهْمِ فِي التَّكْلِيفِ. وَالثَّانِي: الْعَادِيَّةُ كَمُلَاصِقَةِ النَّارِ الْجِسْمَ الْمُحْرَقَ- فِي الْإِحْرَاقِ، وَمُقَابَلَةِ الرَّائِي لِلْمَرْئِيِّ، وَتَوَسُّطِ الْجِسْمِ الشَّفَّافِ فِي الْإِبْصَارِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: الشَّرْعِيَّةُ كَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، وَالْإِحْصَانِ فِي الزِّنَى، وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ؛ فَإِنْ حَدَثَ التَّعَرُّضُ لِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَمِنْ حَيْثُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ أَوْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَيَصِيرُ إِذْ ذَاكَ شَرْعِيًّا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ.
افْتَقَرْنَا إِلَى بَيَانِ أَنَّ الشَّرْطَ مَعَ الْمَشْرُوطِ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، وَلَيْسَ بِجُزْءٍ، وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ الِاسْتِقْرَاءُ فِي الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَوْلَ هُوَ الْمُكَمِّلُ لِحِكْمَةِ حُصُولِ النِّصَابِ وَهِيَ الْغِنَى؛ فَإِنَّهُ إِذَا مَلَكَ فَقَطْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إِلَّا بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ؛ فَجَعَلَ الشَّارِعُ الْحَوْلَ مَنَاطًا لِهَذَا التَّمَكُّنِ الَّذِي ظَهَرَ بِهِ وَجْهُ الْغِنَى، وَالْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ مُكَمِّلٌ لِمُقْتَضَاهَا؛ فَإِنَّهَا لَمْ يُجْعَلْ لَهَا كَفَّارَةٌ إِلَّا وَفِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا جِنَايَةٌ مَا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَقْرِيرِهَا، فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَتَحَقَّقُ مُقْتَضَى الْجِنَايَةِ إِلَّا عِنْدَ الْحِنْثِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَمُلَ مُقْتَضَى الْيَمِينِ، وَالزُّهُوقُ أَيْضًا مُكَمِّلٌ لِمُقْتَضَى إِنْفَاذِ الْمَقَاتِلِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، وَمُكَمِّلٌ لِتَقَرُّرِ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ فِي مَالِ الْمَرِيضِ مَرَضًا مُخَوِّفًا، وَالْإِحْصَانُ مُكَمِّلٌ لِمُقْتَضَى جِنَايَةِ الزِّنَى الْمُوجِبَةِ لِلرَّجْمِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ مَشْرُوطَاتِهَا. وَرُبَّمَا يُشْكِلُ هَذَا التَّقْرِيرُ بِمَا يُذْكَرُ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، وَالْإِيمَانَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّقَرُّبَاتِ؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَالتَّكْلِيفُ مُحَالٌ عَقْلًا أَوْ سَمْعًا كَتَكْلِيفِ الْعَجْمَاوَاتِ، وَالْجَمَادَاتِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ مُكَمِّلٌ، بَلْ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ مُكَمِّلٌ لِلْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ الْكَافِرِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا يَصِحُّ أَنْ يُكَمِّلَهَا الْإِيمَانُ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا. وَيَرْتَفِعُ هَذَا الْإِشْكَالُ بِأَمْرَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مِنَ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ، وَكَلَامُنَا فِي الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْحَقِيقَةِ شَرْطٌ مُكَمِّلٌ لِمَحَلِّ التَّكْلِيفِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ لَا فِي نَفْسِ التَّكْلِيفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ مُكَمِّلٌ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَاتِ التَّوَجُّهُ إِلَى الْمَعْبُودِ بِالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ؟ وَهَذَا فَرْعُ الْإِيمَانِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُ الشَّيْءِ، وَقَاعِدَتُهُ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا شَرْطًا فِيهِ؟ هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمَنْ أَطْلَقَ هُنَا لَفْظَ الشَّرْطِ؛ فَعَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْعِبَارَةِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنْ سُلِّمَ فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ فَفِي الْمُكَلَّفِ لَا فِي التَّكْلِيفِ، وَيَكُونُ شَرْطَ صِحَّةٍ عِنْدَ بَعْضٍ، وَشَرْطَ وُجُوبٍ عِنْدَ بَعْضٍ، فِيمَا عَدَا التَّكْلِيفَ بِالْإِيمَانِ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي مَسْأَلَةِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ.
الْأَصْلُ الْمَعْلُومُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ السَّبَبَ إِذَا كَانَ مُتَوَقِّفَ التَّأْثِيرِ عَلَى شَرْطٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ الْمُسَبَّبُ دُونَهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ شَرْطُ الْكَمَالِ، وَشَرْطُ الْإِجْزَاءِ، فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالْكَمَالِ مَعَ فَرْضِ تَوَقُّفِهِ عَلَى شَرْطٍ، [كَمَا لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْإِجْزَاءِ مَعَ فَرْضِ تَوَقُّفِهِ عَلَى شَرْطٍ]، وَهَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ وُقُوعُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ، وَقَدْ فُرِضَ كَذَلِكَ، هَذَا خَلْفٌ. وَأَيْضًا؛ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ، لَكَانَ مُتَوَقِّفَ الْوُقُوعِ عَلَى شَرْطِهِ غَيْرَ مُتَوَقِّفِ الْوُقُوعِ عَلَيْهِ مَعًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ مِنْ حَيْثُ هُوَ [شَرْطٌ] يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْمَشْرُوطُ إِلَّا عِنْدَ حُضُورِهِ فَلَوْ جَازَ وُقُوعُهُ دُونَهُ، لَكَانَ الْمَشْرُوطُ وَاقِعًا وَغَيْرَ وَاقِعٍ مَعًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْأَمْرُ أَوْضَحُ مِنَ الْإِطْنَابِ فِيهِ. وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَصْلٌ آخَرُ، وَعُزِيَ إِلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا حَضَرَ سَبَبُهُ وَتَوَقَّفَ حُصُولُ مُسَبَّبِهِ عَلَى شَرْطٍ فَهَلْ يَصِحُّ وُقُوعُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ؛ اعْتِبَارًا بِاقْتِضَاءِ السَّبَبِ أَوْ بِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ، فَمَنْ رَاعَى السَّبَبَ وَهُوَ مُقْتَضٍ لِمُسَبَّبِهِ، غَلَّبَ اقْتِضَاءَهُ وَلَمْ يُرَاعِ تَوَقُّفَهُ عَلَى الشَّرْطِ، وَمَنْ رَاعَى الشَّرْطَ وَأَنَّ تَوَقُّفَ السَّبَبِ عَلَيْهِ مَانِعٌ مِنْ وُقُوعِ مُسَبَّبِهِ؛ لَمْ يُرَاعِ حُضُورَ السَّبَبِ بِمُجَرَّدِهِ إِلَّا أَنْ يَحْضُرَ الشَّرْطُ فَيَنْتَهِضُ السَّبَبُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي اقْتِضَائِهِ. وَرُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ مُطْلَقًا، وَيُمَثِّلُونَ ذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ مِنْهَا: إِنَّ حُصُولَ النِّصَابِ سَبَبٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَدَوَرَانَ الْحَوْلِ شَرْطُهُ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ عَلَى الْخِلَافِ. وَالْيَمِينَ سَبَبٌ فِي الْكَفَّارَةِ، وَالْحِنْثَ شَرْطُهَا، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَإِنْفَاذَ الْمَقَاتِلِ سَبَبٌ فِي الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، وَالزُّهُوقَ شَرْطٌ، وَيَجُوزُ الْعَفْوُ قَبْلَ الزُّهُوقِ وَبَعْدَ السَّبَبِ، وَلَمْ يَحْكُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خِلَافًا. وَفِي الْمَذْهَب: إِذَا جَعَلَ الرَّجُلُ أَمْرَ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا بِيَدِ زَوْجَةٍ هِيَ فِي مِلْكِهِ، إِنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ أَوْ أَبْقَتْ، فَاسْتَأْذَنَهَا فِي التَّزْوِيجِ فَأَذِنَتْ لَهُ، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا أَرَادَتْ هَذِهِ أَنْ تُطَلِّقَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا قَدْ أَسْقَطَتْ بَعْدَ جَرَيَانِ السَّبَبِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ حُصُولِ الشَّرْطِ وَهُوَ التَّزَوُّجُ. وَإِذَا أَذِنَ الْوَرَثَةُ عِنْدَ الْمَرَضِ الْمُخَوِّفِ فِي التَّصَرُّفِ فِي أَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ جَازَ، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَتَقَرَّرُ مِلْكُهُمْ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْمَرَضُ هُوَ السَّبَبُ لِتَمَلُّكِهِمْ، وَالْمَوْتُ شَرْطٌ فَيُنَفَّذُ إِذْنُهُمْ عِنْدَ مَالِكٍ- خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الشَّرْطُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِإِنْفَاذِ؛ إِذْنِهِمْ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ؛ فَالسَّبَبُ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْقَرَابَةُ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَوْتَ شَرْطٌ. وَفِي الْمَذْهَب: مَنْ جَامَعَ فَالْتَذَّ وَلَمْ يُنْزِلْ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَنْزَلَ، فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ ثَانِيَةً قَوْلَانِ، وَنَفْيُ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْغُسْلِ انْفِصَالُ الْمَاءِ عَنْ مَقَرِّهِ، وَقَدِ اغْتَسَلَ فَلَا يَغْتَسِلُ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى، هَذِهِ حُجَّةُ سَحْنُونَ وَابْنِ الْمَوَّازِ، فَالسَّبَبُ هُوَ الِانْفِصَالُ، وَالْخُرُوجُ شَرْطٌ وَلَمْ يُعْتَبَرْ، إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ تُدَارُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُعَارَضَةِ لِلْأَصْلِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْضِي بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وُقُوعُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَالثَّانِي يَقْضِي بِأَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَرُبَّمَا صَحَّ بِاتِّفَاقٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَفْوِ قَبْلَ الزُّهُوقِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ الْأَصْلَانِ مَعًا بِإِطْلَاقٍ، وَالْمَعْلُومُ صِحَّةُ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي. أَمَّا أَوَّلًا: فَنَفْسُ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ كَافٍ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ الْمَسَائِلَ جَارِيَةٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الشَّرْطِ؛ فَإِنَّا نَقُولُ: مَنْ أَجَازَ تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ قَبْلَ [حُلُولِ] الْحَوْلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَذْهَبِنَا فَبِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الِانْحِتَامِ، فَالْحَوْلُ كُلُّهُ كَأَنَّهُ وَقْتٌ- عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ- لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ مُوَسَّعٌ، وَيَتَحَتَّمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَسَائِرِ أَوْقَاتِ التَّوْسِعَةِ، وَأَمَّا الْإِخْرَاجُ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَسِيرٍ- عَلَى مَذْهَبِنَا- فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الشَّيْءِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ، فَشَرْطُ الْوُجُوبِ حَاصِلٌ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي شَرْطِ الْحِنْث: مَنْ أَجَازَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فِي الِانْحِتَامِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ لَا شَرْطٌ فِي وُجُوبِهَا. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الزُّهُوقِ فَهُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ إِذِ الْعَفْوُ بَعْدَهُ لَا يُمْكِنُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ قَبْلَهُ إِنْ وَقَعَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا؛ إِذْ ذَاكَ فِي صِحَّتِهِ، وَوَجْهُ صِحَّتِهِ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمَجْرُوحِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ؛ فَجَازَ عَفْوُهُ عَنْهُ مُطْلَقًا كَمَا يَجُوزُ عَفْوُهُ عَنْ سَائِرِ الْجِرَاحِ، وَعَنْ عِرْضِهِ إِذَا قُذِفَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُدْرَكَ حُكْمِ الْعَفْوِ لَيْسَ مَا قَالُوهُ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلْمَجْرُوحِ وَلَا لِأَوْلِيَائِهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ أَوْ أَخْذُ دِيَةِ النَّفْسِ كَامِلَةً قَبْلَ الزُّهُوقِ بِاتِّفَاقٍ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوهُ لَكَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَمْلِيكِ الْمَرْأَةِ؛ فَإِنَّهَا لَمَّا أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا فِيمَا شَرَطَتْ عَلَى الزَّوْجِ قَبْلَ تَزَوُّجِهِ، لَمْ يَبْقَ لَهَا مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَتْ تَمْلِكُهُ بِالتَّمْلِيكِ قَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا فِيهِ بَعْدَ مَا جَرَى سَبَبُهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِتُزَوُّجِهِ تَأْثِيرٌ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِسْقَاطِ، وَهُوَ فِقْهٌ ظَاهِرٌ. وَمَسْأَلَةُ إِذْنِ الْوَرَثَةِ بَيِّنَةُ الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ سَبَبٌ فِي صِحَّةِ الْمِلْكِ لَا فِي تَعَلُّقِهِ، وَالْمَرَضَ سَبَبٌ فِي تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَوْرُوثِ لَا فِي تَمَلُّكِهِمْ لَهُ، فَهُمَا سَبَبَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَقْتَضِي حُكْمًا لَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ، فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْمَرَضُ سَبَبًا لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا، كَانَ إِذْنُهُمْ وَاقِعًا فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِمَالِ الْمَوْرُوثِ، صَارَتْ لَهُمْ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكِ، فَإِذَا أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُطَالَبَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا- فِي الْحَالِ الَّذِي أَنْفَذُوا تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ فِيهِ حَالَةَ الْمَرَضِ- كَالْأَجَانِبِ فَإِذَا حَصَلَ الْمَوْتُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ؛ كَالثُّلُثِ. وَ [قَوْلُ] الْقَائِلِ بِمَنْعِ الْإِنْفَاذِ يَصِحُّ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَوْتَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُمْ أَذِنُوا قَبْلَ التَّمْلِيكِ، وَقَبْلَ حُصُولِ الشَّرْطِ، فَلَا يَنْفُذُ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ مَعَ مَشْرُوطَاتِهَا. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْإِنْزَالِ؛ فَيَصِحُّ بِنَاؤُهَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي هَذَا الْغُسْلِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ لَذَّةٍ. فَعَلَى الْجُمْلَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا التَّخْرِيجُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الشَّرْطِ.
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَشْرُوطَاتِ شَرْعًا عَلَى ضَرْبَيْن:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ؛ إِمَّا مَأْمُورًا بِتَحْصِيلِهَا كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ لَهَا، وَطَهَارَةِ الثَّوْبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِمَّا مَنْهِيًّا عَنْ تَحْصِيلِهَا كَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِمُرَاجَعَةِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِنُقْصَانِ الصَّدَقَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَذَا الضَّرْبُ وَاضِحٌ قَصْدُ الشَّارِعِ فِيهِ، فَالْأَوَّلُ مَقْصُودُ الْفِعْلِ، وَالثَّانِي مَقْصُودُ التَّرْكِ، وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ الْمُخَيَّرُ فِيهِ- إِنِ اتَّفَقَ- فَقَصْدُ الشَّارِعِ فِيهِ جَعْلُهُ لِخِيَرَةِ الْمُكَلَّف: إِنْ شَاءَ فَعَلَهُ فَيَحْصُلُ الْمَشْرُوطُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ فَلَا يَحْصُلُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ؛ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، وَالْإِحْصَانِ فِي الزِّنَى، وَالْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الضَّرْبُ لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَرْطٌ، وَلَا فِي عَدَمِ تَحْصِيلِهِ، فَإِبْقَاءُ النِّصَابِ حَوْلًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ لَيْسَ بِمَطْلُوبِ الْفِعْلِ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ عَلَى [صَاحِبِهِ] إِمْسَاكُهُ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَلَا مَطْلُوبِ التَّرْكِ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُهُ خَوْفًا أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَكَذَلِكَ الْإِحْصَانُ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ لِيَجِبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ إِذَا زَنَى، وَلَا مَطْلُوبُ التَّرْكِ لِئَلَّا يَجِبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ إِذَا زَنَى. وَأَيْضًا؛ فَلَوْ كَانَ مَطْلُوبًا لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ؛ هَذَا خَلْفٌ، وَالْحُكْمُ فِيهِ ظَاهِرٌ. فَإِذَا تَوَجَّهَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَى فِعْلِ الشَّرْطِ أَوْ إِلَى تَرْكِهِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ دَاخِلٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ:
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مُخَيَّرًا فِيهِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَتَنْبَنِي الْأَحْكَامُ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْأَسْبَابُ عَلَى حُضُورِهِ، وَتَرْتَفِعُ عِنْدَ فَقْدِهِ، كَالنِّصَابِ إِذَا أُنْفِقَ قَبْلَ الْحَوْلِ لِلْحَاجَةِ إِلَى إِنْفَاقِهِ أَوْ أَبْقَاهُ لِلْحَاجَةِ إِلَى إِبْقَائِهِ أَوْ يَخْلِطُ مَاشِيَتَهُ بِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَى الْخُلْطَةِ أَوْ يُزِيلُهَا لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى أَوْ يَطْلُبُ التَّحَصُّنَ بِالتَّزْوِيجِ لِمَقَاصِدِهِ أَوْ يَتْرُكُهُ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الْجَارِيَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ شَرْطًا قَصْدًا لِإِسْقَاطِ حُكْمِ الِاقْتِضَاءِ فِي السَّبَبِ أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ؛ فَهَذَا عَمَلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ وَسَعْيٌ بَاطِلٌ، دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مَعًا. فَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ». وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ». وَقَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ تُسْبَقَ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ تُسْبَقَ؛ فَهُوَ قِمَارٌ». وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ حِينَ اشْتَرَطَ أَهْلُهَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ: «مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» الْحَدِيثَ. وَنَهَى [عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] عَنْ بَيْعِ وَشَرْطٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَسَائِرُ أَحَادِيثِ الشُّرُوطِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَمِنْهُ حَدِيثُ: «مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ». وَحَدِيثُ: «إِنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ». وَعَلَيْهِ جَاءَتِ الْآيَةُ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 77]. وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 229]. وَآيَةُ شَهَادَةِ الزُّورِ وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا مِنْ هَذَا أَيْضًا. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 29]. وَمَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَة: 230]. وَمَا جَاءَ مِنْ أَحَادِيثِ «لَعْنِ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ وَالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ». وَحَدِيثِ التَّصْرِيَةِ فِي شِرَاءِ الشَّاةِ عَلَى أَنَّهَا غَزِيرَةُ الدَّرِّ. وَسَائِرِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْغِشِّ. وَالْخَدِيعَةِ. وَالْخِلَابَةِ. وَالنَّجْشِ. وَحَدِيثِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ حِينَ طَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَالْأَدِلَّةُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى عَلَيْهَا هُنَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ يُصَيِّرُ مَا انْعَقَدَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ جَلْبًا لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعًا لِمَفْسَدَةٍ، عَبَثًا لَا حِكْمَةَ لَهُ، وَلَا مَنْفَعَةَ بِهِ، وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا ثَبَتَ فِي قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ وَأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ مُضَادٌّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّبَبَ لَمَّا انْعَقَدَ، وَحَصَلَ فِي الْوُجُودِ، صَارَ مُقْتَضِيًا شَرْعًا لِمُسَبَّبِهِ، لَكِنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى حُصُولِ شَرْطٍ هُوَ تَكْمِيلٌ لِلسَّبَبِ، فَصَارَ هَذَا الْفَاعِلُ أَوِ التَّارِكُ بِقَصْدِ رَفْعِ حُكْمِ السَّبَبِ قَاصِدًا لِمُضَادَّةِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِهِ سَبَبًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ [أَنَّ] مُضَادَّةَ قَصْدِ الشَّارِعِ بَاطِلَةٌ فَهَذَا الْعَمَلُ بَاطِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي سَبَبٍ تَوَقَّفَ اقْتِضَاؤُهُ لِلْحُكْمِ عَلَى شَرْطٍ، فَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطُ بِحُكْمِ الْقَصْدِ إِلَى فَقْدِهِ؛ كَانَ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْقَصْدِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَنْهَضِ السَّبَبُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا؛ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ بِدُونِهِ بِالْفَرْضِ، وَالْمَعْلُومُ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ أَنَّ السَّبَبَ إِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا مُقْتَضِيًا عِنْدَ وُجُودِ الشُّرُوطِ لَا عِنْدَ فَقْدِهَا، فَإِذَا لَمْ يَنْتَهِضْ سَبَبًا، كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ كَمَنْ أَنْفَقَ النِّصَابَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ لِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الِانْتِفَاعِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَقْتَضِ إِيجَابَهَا لِتَوَقُّفِهِ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الَّذِي ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا، فَمِنْ حَيْثُ قِيلَ فِيه: إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ يُقَالُ: إِنَّهُ مُوَافِقٌ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَائِلِ. فَالْجَوَابُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَجْرِي فِيمَا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ رَفْعَ حُكْمِ السَّبَبِ، وَأَمَّا مَعَ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ مَعْنًى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ شَهِدَ لَهُ بِالْإِلْغَاءِ عَلَى الْقَطْعِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ إِذَا عُرِضَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقِ أَوِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ قَدْ نُهِيَ عَنْهَا إِذَا قُصِدَ بِهَا إِبْطَالُ حُكْمِ السَّبَبِ، بِالْإِتْيَانِ بِشَرْطٍ يُنْقِصُهَا حَتَّى تُبْخَسَ الْمَسَاكِينُ؛ فَالْأَرْبَعُونَ شَاةً فِيهَا شَاةٌ بِشَرْطِ الِافْتِرَاقِ، وَنِصْفُهَا بِشَرْطِ اخْتِلَاطِهَا بِأَرْبَعِينَ أُخْرَى مَثَلًا، فَإِذَا جَمَعَهَا بِقَصْدِ إِخْرَاجِ النِّصْفِ فَذَلِكَ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ؛ كَمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ مِائَةً مُخْتَلِطَةً بِمِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ فَفَرَّقَهَا قَصْدًا أَنْ يُخْرِجَ وَاحِدَةً فَكَذَلِكَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ أَتَى بِشَرْطٍ أَوْ رَفَعَ شَرْطًا يَرْفَعُ عَنْهُ مَا اقْتَضَاهُ السَّبَبُ الْأَوَّلُ، فَكَذَلِكَ الْمُنْفِقُ نِصَابَهُ بِقَصْدِ رَفْعِ مَا اقْتَضَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» فَنَهَى عَنِ الْقَصْدِ إِلَى رَفْعِ شَرْطِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ لَهُ بِسَبَبِ الْعَقْدِ، وَعَنِ الْإِتْيَانِ بِشَرْطِ الْفَرَسِ الْمُحَلِّلَةِ [لِلْجُعْلِ] بِقَصْدِ أَخْذِهِ، لَا بِقَصْدِ الْمُسَابَقَةِ مَعَهُ، وَمِثْلُهُ مَسَائِلُ الشُّرُوطِ؛ فَإِنَّهَا شُرُوطٌ يُقْصَدُ بِهَا رَفْعُ أَحْكَامُ الْأَسْبَابِ الْوَاقِعَةِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْكِتَابَةِ اقْتَضَى أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى جَمِيعِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَلَاءُ، فَمَنْ شَرَطَ أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ مِنَ الْبَائِعِينَ؛ فَقَدْ قَصَدَ بِالشَّرْطِ رَفْعَ حُكْمِ السَّبَبِ فِيهِ، وَاعْتَبِرْ هَكَذَا سَائِرَ مَا تَقَدَّمَ تَجِدْهُ كَذَلِكَ؛ فَعَلَى هَذَا الْإِتْيَانُ بِالشُّرُوطِ أَوْ رَفْعُهَا بِذَلِكَ الْقَصْدِ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَانَ مُضَادًّا لِقَصْدِ الشَّارِعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا.
هَذَا الْعَمَلُ هَلْ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ بِإِطْلَاقٍ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْحَاصِلُ فِي مَعْنَى الْمُرْتَفِعِ أَوِ الْمَرْفُوعُ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ مَعْنًى أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْحُكْمُ الَّذِي اقْتَضَاهُ السَّبَبُ عَلَى حَالِهِ قَبْلَ هَذَا الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ بَاطِلٌ ضَائِعٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا حُكْمَ لَهُ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ وَهَبَ الْمَالَ قَبْلَ الْحَوْلِ لِمَنْ رَاوَضَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَكَالْجَامِعِ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ رَيْثَمَا يَأْتِي السَّاعِي، ثُمَّ تُرَدُّ إِلَى التَّفْرِقَةِ أَوِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ كَذَلِكَ؛، ثُمَّ يَرُدُّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَكَالنَّاكِحِ لِتَظْهَرَ صُورَةُ الشَّرْطِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْمَعْمُولَ فِيهِ لَا مَعْنًى لَهُ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ تُقْصَدُ شَرْعًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ، وَالنَّظَرُ فِيهَا مُتَجَاذِبٌ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُجَرَّدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ كَافٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ مُكَمِّلٌ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ جُزْءَ الْعِلَّةِ وَالْفَرْضُ بِخِلَافِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَصْدَ فِيهِ قَدْ صَارَ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، فَصَارَ الْعَمَلُ فِيهِ مُخَالِفًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ مَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ، وَاتَّحَدَ مَعَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ حُكْمٌ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: إِنْ أَنْفَقَ النِّصَابَ قَبْلَ الْحَوْلِ فِي مَنَافِعِهِ أَوْ وَهَبَهُ هِبَةً بَتْلَةً لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَصْدِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّكَاةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ عَلِمْنَا- حِينَ نَصَبَ الشَّارِعُ ذَلِكَ السَّبَبَ لِلْحُكْمِ-؛ أَنَّهُ قَاصِدٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهِ، فَإِذَا أَخَذَ هَذَا بِرَفْعِ حُكْمِ السَّبَبِ مَعَ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا؛ كَانَ مُنَاقِضًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَكَوْنُ الشَّرْطِ- حِينَ رُفِعَ أَوْ وُضِعَ- عَلَى وَجْهٍ يَعْتَبِرُهُ الشَّارِعُ عَلَى الْجُمْلَةِ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ الْقَصْدُ الْفَاسِدُ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْتَهِضَ شَرْطًا شَرْعِيًّا، فَكَانَ كَالْمَعْدُومِ بِإِطْلَاقٍ، وَالْتَحَقَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُجَرَّدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ غَيْرُ كَافٍ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاعِثًا؛ قَدْ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ مُقَيَّدًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ، فَإِذًا لَيْسَ كَوْنُ السَّبَبِ بَاعِثًا بِقَاطِعٍ فِي أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ إِيقَاعَ الْمُسَبَّبِ بِمُجَرَّدِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ قَصَدَهُ إِذَا وَقَعَ شَرْطُهُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْقَاصِدُ لِرَفْعِ حُكْمِ السَّبَبِ مَثَلًا بِالْعَمَلِ فِي رَفْعِ الشَّرْطِ لَمْ يُنَاقِضْ قَصْدُهُ قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا قَصَدَ لِمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الشَّارِعِ لِلْإِيقَاعِ أَوْ عَدَمِهِ، وَهُوَ الشَّرْطُ أَوْ عَدَمُهُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْقَصْدُ آيِلًا لِمُنَاقَضَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَا عَيْنًا؛ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ تَرَتُّبِ أَحْكَامِ الشُّرُوطِ عَلَيْهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ لَمَّا كَانَ مُؤَثِّرًا وَحَاصِلًا وَوَاقِعًا، لَمْ يَكُنِ الْقَصْدُ الْمَمْنُوعُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فِي وَضْعِهِ شَرْطًا شَرْعِيًّا أَوْ سَبَبًا شَرْعِيًّا، كَمَا كَانَ تَغَيُّرُ الْمَغْصُوبِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا فِي مَنْعِ صَاحِبِهِ مِنْهُ، وَفِي تَمَلُّكِ الْغَاصِبِ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ بِقَصْدِ الْعِصْيَانِ سَبَبًا فِي ارْتِفَاعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي صِحَّةُ مَا يَقُولُ اللَّخْمِيُّ فِيمَنْ تَصَدَّقَ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ لِتَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ أَوْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ قَصْدًا لِلْإِفْطَارِ أَوْ أَخَّرَ صَلَاةَ حَضَرٍ عَنْ وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ لِيُصَلِّيَهَا فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَخَّرَتِ امْرَأَةٌ صَلَاةً بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا رَجَاءَ أَنْ تَحِيضَ فَتَسْقُطُ عَنْهَا، قَالَ: فَجَمِيعُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَى هَذَا فِي السَّفَرِ صِيَامٌ، وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، وَلَا عَلَى الْحَائِضِ قَضَاؤُهَا، وَعَلَيْهِ أَيْضًا يَجْرِي الْحُكْمُ فِي الْحَالِفِ لَيَقْضِينَّ فُلَانًا حَقَّهُ إِلَى شَهْرٍ، وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَخَافَ الْحِنْثَ فَخَالَعَ زَوْجَتَهُ لِئَلَّا يَحْنَثَ، فَلَمَّا انْقَضَى الْأَجَلُ رَاجَعَهَا فَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِوُقُوعِ الْحِنْثِ، وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لِأَنَّ الْخُلْعَ مَاضٍ شَرْعًا، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ قَصْدَ الْمَمْنُوعِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَيُبْطِلُ الْعَمَلَ فِي الشَّرْطِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ فِي نَفْسِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ كَمَسْأَلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ، وَمَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ نَافِذٌ مَاضٍ وَلَا يُحِلُّهَا ذَلِكَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ حَقُّ اللَّهِ، لِغَلَبَةِ حُقُوقِ اللَّهِ فِي النِّكَاحِ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَيَنْفُذُ مُقْتَضَى الشَّرْطِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ؛ كَالسَّفَرِ لِيَقْصُرَ أَوْ لِيُفْطِرَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. هَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَدُلُّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ إِنْ دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى خِلَافِهِ صِيرَ إِلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ نَقْضًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ دَالٌّ عَلَى إِضَافَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ إِلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ إِلَى حَقِّ الْآدَمِيِّينَ، وَيَبْقَى بَعْدُ مَا إِذِ اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ مَحَلَّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ؛ فَيَغْلِبُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِحَسَبَ مَا يَظْهَرُ لِلْمُجْتَهِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشُّرُوطُ مَعَ مَشْرُوطَاتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِحِكْمَةِ الْمَشْرُوطِ، وَعَاضِدًا لَهَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ مُنَافَاةٌ لَهَا عَلَى حَالٍ؛ كَاشْتِرَاطِ الصِّيَامِ فِي الِاعْتِكَافِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُهُ، وَاشْتِرَاطِ الْكُفْءِ، وَالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ فِي النِّكَاحِ، وَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ وَالْحَمِيلِ وَالنَّقْدِ أَوِ النَّسِيئَةِ فِي الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَاشْتِرَاطِ الْعُهْدَةِ فِي الرَّقِيقِ، وَاشْتِرَاطِ مَالِ الْعَبْدِ، وَثَمَرَةِ الشَّجَرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَا اشْتِرَاطُ الْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، وَالْإِحْصَانُ فِي الزِّنَى، وَعَدَمُ الطَّوْلِ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَالْحِرْزُ فِي الْقَطْعِ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِحِكْمَةِ كُلِّ سَبَبٍ يَقْتَضِي حُكْمًا؛ فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ لَمَّا كَانَ انْقِطَاعًا إِلَى الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهٍ لَائِقٍ بِلُزُومِ الْمَسْجِدِ، كَانَ لِلصِّيَامِ فِيهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ، وَلَمَّا كَانَ غَيْرُ الْكُفْءِ مَظِنَّةً لِلنِّزَاعِ وَأَنَفَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ عُصْبَتِهِمَا، وَكَانَتِ الْكَفَاءَةُ أَقْرَبَ إِلَى الْتِحَامِ الزَّوْجَيْنِ وَالْعُصْبَةِ، وَأَوْلَى بِمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ؛ كَانَ اشْتِرَاطُهَا مُلَائِمًا لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ، وَهَكَذَا الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ، وَسَائِرُ تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ تَجْرِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ فَثُبُوتُهَا شَرْعًا وَاضِحٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِمَقْصُودِ الْمَشْرُوطِ وَلَا مُكَمِّلٍ لِحِكْمَتِهِ، بَلْ هُوَ عَلَى الضِّدِّ مِنَ الْأَوَّلِ؛ الشُّرُوطُ مَعَ مَشْرُوطَاتِهَا كَمَا إِذَا اشْتَرَطَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهَا إِذَا أَحَبَّ أَوِ اشْتَرَطَ فِي الِاعْتِكَافِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْمَسْجِدِ إِذَا أَرَادَ بِنَاءً عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ أَوِ اشْتَرَطَ فِي النِّكَاحِ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ أَنْ لَا يَطَأْهَا وَلَيْسَ بِمَجْبُوبٍ وَلَا عِنِّينٍ أَوْ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِالْمَبِيعِ أَوْ إِنِ انْتَفَعَ فَعَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ شَرَطَ الصَّانِعُ عَلَى الْمُسْتَصْنِعِ أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمُسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ، وَأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي دَعْوَى التَّلَفِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا لَا إِشْكَالَ فِي إِبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِحِكْمَةِ السَّبَبِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهُ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ مُنَافٍ لِمَا شُرِعَتْ لَهُ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالْمُنَاجَاةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِطُ فِي الِاعْتِكَافِ الْخُرُوجَ مُشْتَرِطٌ مَا يُنَافِي حَقِيقَةَ الِاعْتِكَافِ مِنْ لُزُومِ الْمَسْجِدِ، وَاشْتِرَاطُ النَّاكِحِ أَنْ لَا يُنْفِقَ يُنَافِي اسْتِجْلَابَ الْمَوَدَّةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ، وَإِذَا اشْتَرَطَ أَنْ لَا يَطَأَ أَبْطَلَ حِكْمَةَ النِّكَاحِ الْأَوْلَى وَهِيَ التَّنَاسُلُ، وَأَضَرَّ بِالزَّوْجَةِ فَلَيْسَ مِنَ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الدَّوَامِ وَالْمُؤَالَفَةِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ؛ إِلَّا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بَاطِلَةً فَهَلْ تُؤَثِّرُ فِي الْمَشْرُوطَاتِ أَمْ لَا؟ هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ يُسْتَمَدُّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ فِي الشَّرْطِ مُنَافَاةٌ لِمَشْرُوطِهِ وَلَا مُلَاءَمَةٌ الشُّرُوطِ مَعَ مَشْرُوطَاتِهَا، وَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ، هَلْ يُلْحَقُ بِالْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمُنَافَاةِ أَوْ بِالثَّانِي مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ ظَاهِرًا؟، وَالْقَاعِدَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي أَمْثَالِ هَذَا التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، فَمَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ دُونَ أَنْ تَظْهَرَ الْمُلَاءَمَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا التَّعَبُّدُ دُونَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي، وَالْأَصْلَ فِيهَا أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ؛ إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي اخْتِرَاعِ التَّعَبُّدَاتِ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الشُّرُوطِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْعَادِيَّاتِ يُكْتَفَى فِيهِ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَعَانِي دُونَ التَّعَبُّدِ، وَالْأَصْلَ فِيهَا الْإِذْنُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْمَوَانِعُ ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الطَّلَبِ. وَالثَّانِي: مَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَوْعَان: أَحَدُهُمَا: يَرْفَعُ أَصْلَ الطَّلَبِ. وَالثَّانِي: لَا يَرْفَعُهُ، وَلَكِنْ يَرْفَعُ انْحِتَامَهُ. وَهَذَا قِسْمَان: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُخَيَّرًا فِيهِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى مُخَالِفِ الطَّلَبِ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَنَحْوُ زَوَالِ الْعَقْلِ بِنَوْمٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ أَصْلِ الطَّلَبِ جُمْلَةً؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ إِمْكَانُ فَهْمِهِ؛ لِأَنَّهُ إِلْزَامٌ يَقْتَضِي الْتِزَامًا، وَفَاقِدُ الْعَقْلِ لَا يُمْكِنُ إِلْزَامُهُ، كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ؛ فَإِنْ تَعَلَّقَ طَلَبٌ يَقْتَضِي اسْتِجْلَابَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةٍ، فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْغَيْرِ كَرِيَاضَةِ الْبَهَائِمِ وَتَأْدِيبِهَا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَكَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَهُوَ رَافِعٌ لِأَصْلِ الطَّلَبِ، وَإِنْ أَمْكَنَ حُصُولُهُ مَعَهُ، لَكِنْ إِنَّمَا يَرْفَعُ مِثْلُ هَذَا الطَّلَبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَا يُطْلَبُ بِهِ أَلْبَتَّةَ؛ كَالصَّلَاةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا يُطْلَبُ بِهِ بَعْدَ رَفْعِ الْمَانِعِ، فَالْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِيهِ مَشْهُورٌ لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى ذِكْرِهِ هُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ حَالَةَ وُجُودِ الْمَانِعِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَاجْتَمَعَ الضِّدَّانِ؛ لَأَنَّ الْحَائِضَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالنُّفَسَاءَ كَذَلِكَ؛ فَلَوْ كَانَتْ مَأْمُورَةً بِهَا أَيْضًا لَكَانَتْ مَأْمُورَةً حَالَةَ كَوْنِهَا مَنْهِيَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا؛إِذَا كَانَتْ مَأْمُورَةً أَنْ تَفْعَلَ، وَقَدْ نُهِيَتْ أَنْ تَفْعَلَ، لَزِمَهَا شَرْعًا أَنْ تَفْعَلَ وَأَنْ لَا تَفْعَلَ مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَمْرِ بِشَيْءٍ لَا يَصِحُّ لَهَا فِعْلُهُ حَالَةَ وُجُودِ الْمَانِعِ، وَلَا بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَأْمُورَةٍ بِالْقَضَاءِ بِاتِّفَاقٍ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَكَالرِّقِّ وَالْأُنُوثَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجِهَادِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ لَصِقَ بِهِمْ مَانِعٌ مِنَ انْحِتَامِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الدِّينِ مَجْرَى التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ غَيْرُ مَقْصُودِينَ بِالْخِطَابِ فِيهَا إِلَّا بِحُكْمِ التَّبَعِ، فَإِنْ تَمَكَّنُوا مِنْهَا جَرَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مَجْرَاهَا مَعَ الْمَقْصُودِينَ بِهَا، وَهُمُ الْأَحْرَارُ الذُّكُورُ، وَهَذَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَالْحُكْمُ مِثْلُ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَكَأَسْبَابِ الرُّخَصِ، هِيَ مَوَانِعُ مِنَ الِانْحِتَامِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْعَزِيمَةَ مَيْلًا إِلَى جِهَةِ الرُّخْصَةِ، كَقَصْرِ الْمُسَافِرِ، وَفِطْرِهِ، وَتَرْكِهِ لِلْجُمُعَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
الْمَوَانِعُ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْمُكَلَّفِ لَهَا وَلَا رَفْعَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْن: ضَرْبٌ مِنْهَا دَاخِلٌ تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ- مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ كَالِاسْتِدَانَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ انْتِهَاضِ سَبَبِ الْوُجُوبِ بِالتَّأْثِيرِ لِوُجُوبِ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ وُجِدَ النِّصَابُ فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَقْدِ الْمَانِعِ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ مِنْ وُجُوبِهِمَا، وَمِنَ الِاعْتِدَادِ بِمَا طَلَّقَ فِي حَالِ كُفْرِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي مَنَعَ مِنْهَا الْكُفْرُ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ مَانِعٌ مِنَ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ إِلَّا بِحَقِّهَا؛ فَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ جِهَةِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ خَارِجٌ عَنْ مَقْصُودِ الْمَسْأَلَةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ خِطَابِ الْوَضْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَانِعٌ، وَلَا فِي عَدَمِ تَحْصِيلِهِ؛ فَإِنَّ الْمِدْيَانَ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِرَفْعِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ لِتَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، كَمَا أَنَّ مَالَكَ النِّصَابِ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِتَحْصِيلِ الِاسْتِدَانَةِ لِتَسْقُطَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ ارْتَفَعَ مُقْتَضَى السَّبَبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ وَضْعَ السَّبَبِ مُكَمَّلَ الشُّرُوطِ، يَقْتَضِي قَصْدَ الْوَاضِعِ إِلَى تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ، وَقَدْ فُرِضَ كَذَلِكَ، هَذَا خَلْفٌ، وَإِذَا ثَبَتَ قَصْدُ الْوَاضِعِ إِلَى حُصُولِ الْمُسَبَّبِ؛ فَفَرْضُ الْمَانِعِ مَقْصُودًا لَهُ أَيْضًا إِيقَاعُهُ قَصْدٌ إِلَى رَفْعِ تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَاصِدٌ إِلَى نَفْسِ التَّرَتُّبِ، هَذَا خَلْفٌ؛ فَإِنَّ الْقَصْدَيْنِ مُتَضَادَّانِ، وَلَا هُوَ أَيْضًا قَاصِدٌ إِلَى رَفْعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاصِدًا إِلَى ذَلِكَ لَمْ يُثْبِتْ فِي الشَّرْعِ مَانِعًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاصِدًا إِلَى رَفْعِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَانِعٌ؛ لَمْ يَثْبُتْ حُصُولُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرُ؛ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ السَّبَبِ، وَقَدْ فُرِضَ كَذَلِكَ، وَهُوَ عَيْنُ التَّنَاقُضِ. فَإِذَا تَوَجَّهَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَى إِيقَاعِ الْمَانِعِ أَوْ إِلَى رَفْعِهِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَهِيَ:
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ؛ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مُخَيَّرًا فِيهِ، أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَظَاهِرٌ؛ كَالرَّجُلِ يَكُونُ بِيَدِهِ لَهُ نِصَابٌ، لَكِنَّهُ يَسْتَدِينُ لِحَاجَتِهِ إِلَى ذَلِكَ، وَتَنْبَنِي الْأَحْكَامُ عَلَى مُقْتَضَى حُصُولِ الْمَانِعِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَهُ مَثَلًا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَانِعًا، قَصْدًا لِإِسْقَاطِ حُكْمِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا اقْتَضَاهُ، فَهُوَ عَمَلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ النَّقْلِ أُمُورٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا} الْآيَةَ [الْقَلَم: 17]؛ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ بِعِقَابِهِمْ عَلَى قَصْدِ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ، بِتَحَرِّيهُمُ الْمَانِعَ مِنْ إِتْيَانِهِمْ، وَهُوَ وَقْتُ الصُّبْحِ الَّذِي لَا يُبَكِّرُ فِي مِثْلِهِ الْمَسَاكِينُ عَادَةً، وَالْعِقَابُ إِنَّمَا يَكُونُ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الْبَقَرَة: 231]، نَزَلَتْ بِسَبَبِ مُضَارَّةِ الزَّوْجَاتِ بِالِارْتِجَاعِ أَنْ لَا تَرَى بَعْدَهُ زَوْجًا آخَرَ مُطْلَقًا، وَأَنْ لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا إِلَّا بَعْدَ طُولٍ؛ فَكَانَ الِارْتِجَاعُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ؛ إِذْ هُوَ مَانِعٌ مِنْ حَلِّهَا لِلْأَزْوَاجِ. وَفِي الْحَدِيث: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا». وَفِي رِوَايَةٍ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» الْحَدِيثَ. وَفِي بَعْضِ الْحَدِيث: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِأَسْمَاءٍ يُسَمُّونَهَا بِهَا، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، وَالْقَتْلَ بِالرَّهْبَةِ، وَالزِّنَى بِالنِّكَاحِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ». فَكَأَنَّ الْمُسْتَحِلَّ هُنَا رَأَى أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الِاسْمُ؛ فَنَقَلَ الْمُحَرَّمَ إِلَى اسْمٍ آخَرَ، حَتَّى يَرْتَفِعَ ذَلِكَ الْمَانِعُ فَيَحِلَّ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النِّسَاء: 12]؛ فَاسْتَثْنَى الْإِضْرَارَ، فَإِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدِينٍ لِوَارِثٍ أَوْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ قَاصِدًا حِرْمَانَ الْوَارِثِ أَوْ نَقْصَهُ بَعْضَ حَقِّهِ بِإِبْدَاءِ هَذَا الْمَانِعِ مِنْ تَمَامِ حَقِّهِ؛ كَانَ مُضَارًّا، وَالْإِضْرَارُ مَمْنُوعٌ بِاتِّفَاقٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الْآيَةَ [النَّحْل: 91]. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عَجِبْتُ مِمَّا يَقُولُونَ فِي الْحِيَلِ وَالْأَيْمَانِ، يُبْطِلُونَ الْأَيْمَانَ بِالْحِيَلِ، [وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النَّحْل: 91]. وَفِي الْحَدِيث: «لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ». وَفِيه: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ- يَعْنِي الْوَبَاءَ- بِأَرْضٍ؛ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا؛ فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ». وَالْأَدِلَّةُ هُنَا فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ- رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ-. وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي الشُّرُوطِ جَارٍ مَعْنَاهُ فِي الْمَوَانِعِ، وَمِنْ هُنَالِكَ يُفْهَمُ حُكْمُهَا، وَهَلْ يَكُونُ الْعَمَلُ بَاطِلًا أَمْ لَا؛ فَيَنْقَسِمُ إِلَى الضَّرْبَيْنِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ الْمُسْتَجْلِبُ مَثَلًا فِي حُكْمِ الْمُرْتَفِعِ أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْحُكْمُ مُتَوَجِّهٌ كَصَاحِبِ النِّصَابِ اسْتَدَانَ لِتَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ، بِحَيْثُ قَصَدَ أَنَّهُ إِذَا جَازَ الْحَوْلُ رَدَّ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛، بَلْ كَانَ الْمَانِعُ وَاقِعًا شَرْعًا؛ كَالْمُطَلِّقِ خَوْفًا مِنَ انْحِتَامِ الْحِنْثِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ- عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ فِي الشُّرُوطِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّكْرَارِ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ: فِي مَعْنَى الصِّحَّةِ، وَلَفْظُ الصِّحَّةِ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ تَرَتُّبُ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا؛ كَمَا نَقُولُ فِي الْعِبَادَات: إِنَّهَا صَحِيحَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا مُجْزِئَةٌ وَمُبْرِئَةٌ لِلذِّمَّةِ وَمُسْقِطَةٌ لِلْقَضَاءِ فِيمَا فِيهِ قَضَاءٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَكَمَا نَقُولُ فِي الْعَادَاتِ إِنَّهَا صَحِيحَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا مُحَصِّلَةٌ شَرْعًا لِلْأَمْلَاكِ، وَاسْتِبَاحَةِ الْأَبْضَاعِ، وَجَوَازِ الِانْتِفَاعِ، وَمَا يُرْجَعُ إِلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِهِ تَرَتُّبُ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، كَتَرَتُّبِ الثَّوَابِ، فَيُقَالُ: هَذَا عَمَلٌ صَحِيحٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُرْجَى بِهِ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ؛ فَفِي الْعِبَادَاتِ ظَاهِرٌ، وَفِي الْعَادَاتِ يَكُونُ فِيمَا نَوَى بِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَقَصَدَ بِهِ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُخَيَّرِ، إِذَا عَمِلَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ خَيَّرَهُ لَا مِنْ حَيْثُ قَصَدَ مُجَرَّدَ حَظِّهِ فِي الِانْتِفَاعِ غَافِلًا عَنْ أَصْلِ التَّشْرِيعِ، فَهَذَا أَيْضًا يُسَمَّى عَمَلًا صَحِيحًا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقًا غَرِيبًا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ عُلَمَاءُ الْفِقْهِ؛ فَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ عُلَمَاءُ التَّخَلُّقُ كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مِمَّا يُحَافِظُ عَلَيْهِ السَّلَفُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَتَأْمَلْ مَا حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ مِنْ ذَلِكَ.
فِي مَعْنَى الْبُطْلَانِ، وَهُوَ مَا يُقَابِلُ مَعْنَى الصِّحَّةِ؛ فَلَهُ مَعْنَيَان: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا؛ كَمَا نَقُولُ فِي الْعِبَادَات: إِنَّهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَلَا مُبْرِئَةٍ لِلذِّمَّةِ وَلَا مَسْقَطَةٍ لِلْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّ هُنَا نَظَرًا؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْعِبَادَةِ بَاطِلَةً؛ إِنَّمَا هُوَ لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ فِيهَا حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى نَفْسِ الْعِبَادَةِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبُطْلَانِ إِطْلَاقًا؛ كَالصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ أَوْ نَاقِصَةً رَكْعَةٍ أَوْ سَجْدَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِهَا مِنَ الْأَصْلِ، وَقَدْ تَكُونُ رَاجِعَةً إِلَى وَصْفٍ خَارِجِيٍّ مُنْفَكٍّ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِفَةً بِهِ؛ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مَثَلًا؛ فَيَقَعُ الِاجْتِهَادُ: فِي اعْتِبَارِ الِانْفِكَاكِ؛ فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِلشَّارِعِ، وَلَا يَضُرُّ حُصُولُ الْمُخَالَفَةِ مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ. أَوْ فِي اعْتِبَارِ الِاتِّصَافِ، فَلَا تَصِحُّ بَلْ تَكُونُ فِي الْحُكْمِ بَاطِلَةً مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمُوَافِقَةَ إِنَّمَا هِيَ الْمُنْفَكَّةُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ، وَلَيْسَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ كَذَلِكَ؛، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا. وَنَقُولُ أَيْضًا فِي الْعَادَات: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ، بِمَعْنَى عَدَمِ حُصُولِ فَوَائِدِهَا بِهَا شَرْعًا؛ مِنْ حُصُولِ أَمْلَاكٍ وَاسْتِبَاحَةِ فُرُوجٍ، وَانْتِفَاعٍ بِالْمَطْلُوبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَادِيَّاتُ فِي الْغَالِبِ رَاجِعَةً إِلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا؛ كَانَ النَّظَرُ فِيهَا رَاجِعًا إِلَى اعْتِبَارَيْن: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ هِيَ أُمُورٌ مَأْذُونٌ فِيهَا أَوْ مَأْمُورٌ بِهَا شَرْعًا. وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَاعْتَبَرَهُ قَوْمٌ بِإِطْلَاقٍ، وَأَهْمَلُوا النَّظَرَ فِي جِهَةِ الْمَصَالِحِ، وَجَعَلُوا مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ مُخَالَفَةً لِقَصْدِهِ بِإِطْلَاقٍ؛ كَالْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ سَوَاءً، وَكَأَنَّهُمْ مَالُوا إِلَى جِهَةِ التَّعَبُّدِ- وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بَيَانُ أَنَّ فِي كُلِّ مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ تَعَبُّدًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَمُوَاجَهَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ بِالْمُخَالَفَةِ يَقْضِي بِالْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ مُقْتَضَى خِطَابِهِ، وَالْخُرُوجُ فِي الْأَعْمَالِ عَنْ خِطَابِ الشَّارِعِ يَقْضِي بِأَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ بَاطِلٌ، فَهَذَا كَذَلِكَ؛ كَمَا لَمْ تَصِحَّ الْعِبَادَاتُ الْخَارِجَةُ عَنْ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّارِعِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَاعْتَبَرَهُ قَوْمٌ أَيْضًا لَا مَعَ إِهْمَالِ الْأَوَّلِ، بَلْ جَعَلُوا الْأَمْرَ مُنَزَّلًا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الْعَمَلُ بَاطِلًا يُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ حَاصِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّلَافِي فِيهِ؛ بَطَلَ الْعَمَلُ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِيمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي أَنْ لَا مَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ لِبَادِئِ الرَّأْيِ، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنْ لَا مَصْلَحَةَ فِي الْإِقْدَامِ، وَإِنْ ظَنَّهَا الْعَامِلُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ وَلَا كَانَ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ، لَكِنْ أَمْكَنَ تَلَافِيهِ، لَمْ يَحْكُمْ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي بَيْعِ الْمُدَبَّر: إِنَّهُ يُرَدُّ إِلَّا أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُسْتَرِقُ فَلَا يُرَدُّ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ إِنَّمَا مُنِعَ لِحَقِّ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ أَوْ لِحَقِّ اللَّهِ فِي الْعِتْقِ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُهُ مِنْ سَيِّدِهِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ يُفِيتُهُ فِي الْغَالِبِ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَإِذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي حَصَلَ قَصْدُ الشَّارِعِ فِي الْعِتْقِ؛ فَلَمْ يُرَدُّ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ تُرَدُّ مَا لَمْ يَعْتِقِ الْمُكَاتَبُ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْغَاصِبِ لِلْمَغْصُوبِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ رَدِّهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّهِ، فَإِذَا أَجَازَهُ جَازَ، وَمِثْلُهُ الْبَيْعُ وَالسَّلَفُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِذَا أَسْقَطَ مُشْتَرِطُ السَّلَفِ شَرْطَهُ جَازَ مَا عَقَدَاهُ، وَمَضَى عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ، وَقَدْ يَتَلَافَى بِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ شَرْعًا، كَمَا فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ، وَعَلَى مُقْتَضَاهُ جَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي تَصْحِيحِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ كَنِكَاحِ الشَّغَارِ، وَالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَنَحْوَهُمَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي هِيَ بَاطِلَةٌ عَلَى وَجْهٍ؛ فَيُزَالُ ذَلِكَ الْوَجْهُ فَتَمْضِي الْعُقْدَةُ، فَمَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ نَهْيَ الشَّارِعِ كَانَ لِأَمْرٍ، فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ الْأَمْرُ ارْتَفَعَ النَّهْيُ، فَصَارَ الْعَقْدُ مُوَافِقًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ إِمَّا عَلَى حُكْمِ الِانْعِطَافِ إِنْ قَدَّرْنَا رُجُوعَ الصِّحَّةِ إِلَى الْعَقْدِ الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرِ حُكْمِ الِانْعِطَافِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ تَصْحِيحَهُ وَقَعَ الْآنَ لَا قَبْلُ، وَهَذَا الْوَجْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَصَالِحَ الْعِبَادِ مُغَلَّبَةٌ عَلَى حُكْمِ التَّعَبُّدِ. وَالثَّانِي مِنَ الْإِطْلَاقَيْن: أَنْ يُرَادَ بِالْبُطْلَانِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ. فَتَكُونُ الْعِبَادَةُ بَاطِلَةً بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ؛ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا جَزَاءٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ بِهَا، وَقَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَيْضًا. فَالْأَوَّلُ: كَالْمُتَعَبِّدِ رِئَاءَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ. وَالثَّانِي: كَالْمُتَصَدِّقِ بِالصَّدَقَةِ يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 264]. وَقَالَ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر: 65]. وَفِي الْحَدِيث: «أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ». عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ جَعَلَ الْإِبْطَالَ حَقِيقَةً. وَتَكُونُ أَعْمَالُ الْعَادَاتِ بَاطِلَةً أَيْضًا؛ بِمَعْنَى عَدَمِ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَتْ بَاطِلَةً بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؛ فَالْأَوَّلُ كَالْعُقُودِ الْمَفْسُوخَةِ شَرْعًا، وَالثَّانِي كَالْأَعْمَالِ الَّتِي يَكُونُ الْحَامِلُ عَلَيْهَا مُجَرَّدَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ فِيهَا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَأَشْبَاهِهَا، وَالْعُقُودِ الْمُنْعَقِدَةِ بِالْهَوَى، وَلَكِنَّهَا وَافَقَتِ الْأَمْرَ أَوِ الْإِذْنَ الشَّرْعِيَّ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ لَا بِالْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ؛ فَهِيَ أَعْمَالٌ مُقَرَّةٌ شَرْعًا لِمُوَافَقَتِهَا لِلْأَمْرِ أَوِ الْإِذْنِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الدُّنْيَا، فَرُوعِيَ فِيهَا هَذَا الْمِقْدَارُ مِنْ حَيْثُ وَافَقَتْ قَصْدَ الشَّارِعِ فِيهِ، وَتَبْقَى جِهَةُ قَصْدِ الِامْتِثَالِ مَفْقُودَةً؛ فَيَكُونُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ مَفْقُودًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الَّتِي كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا الْهَوَى الْمُجَرَّدَ، إِنْ وَافَقَتْ قَصْدَ الشَّارِعِ بَقِيَتْ بِبَقَاءِ حَيَاةِ الْعَامِلِ؛ فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا فَنِيَتْ بِفَنَاءِ الدُّنْيَا وَبَطَلَتْ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النَّحْل: 96]. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20]. {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الْأَحْقَاف: 20]. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ أَوْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ فَمِنْ هُنَا أَخَذَ مَنْ تَقَدَّمَ بِالْحَزْمِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ أَنْ يُضِيفُوا إِلَيْهَا قَصْدًا يَجِدُونَ بِهِ أَعْمَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَانْظُرْ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ.
مَا ذُكِرَ مِنْ إِطْلَاقِ الْبُطْلَانِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي يَحْتَمِلُ تَقْسِيمًا، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ الْعَادِيِّ؛ إِذْ لَا يَخْلُو الْفِعْلُ الْعَادِيُّ- إِذَا خَلَا عَنْ قَصْدِ التَّعَبُّدِ- أَنْ يُفْعَلَ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَالْمَفْعُولُ بِقَصْدٍ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ مُجَرَّدَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَنْظُرَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْمُوَافَقَةِ فَيَفْعَلَ أَوْ فِي الْمُخَالَفَةِ فَيَتْرُكَ؛ إِمَّا اخْتِيَارًا وَإِمَّا اضْطِرَارًا؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الْبُطْلَانُ فِي الْعَادَات: أَحَدُهَا: أَنْ يُفْعَلَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَالْغَافِلِ وَالنَّائِمِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ اقْتِضَاءٍ وَلَا تَخْيِيرٍ، فَلَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَعْمَالِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، فَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ تَكْلِيفٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُفْعَلَ لِقَصْدِ نَيْلِ غَرَضِهِ مُجَرَّدًا، فَهَذَا أَيْضًا لَا ثَوَابَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ التَّكْلِيفِ أَوْ وَقَعَ وَاجِبًا كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا تَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ بِحُكْمِ الطَّبْعِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيث: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَقْطُوعٌ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ. فَهَذَا الْقِسْمُ وَالَّذِي قَبْلَهُ بَاطِلٌ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ الثَّانِي. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَفْعَلَ مَعَ اسْتِشْعَارِ الْمُوَافَقَةِ اضْطِرَارًا، كَالْقَاصِدِ لِنَيْلِ لَذَّتِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ بِالزِّنَى لِامْتِنَاعِهَا أَوْ لِمَنْعِ أَهْلِهَا، عَقَدَ عَلَيْهَا عَقْدَ نِكَاحٍ لِيَكُونَ مُوَصِّلًا لَهُ إِلَى مَا قَصَدَ، فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ بِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ إِلَّا مُضْطَرًّا، وَمِنْ حَيْثُ كَانَ مُوَصِّلًا إِلَى غَرَضِهِ لَا مِنْ حَيْثُ أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَاطِلٍ بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الزَّكَاةُ الْمَأْخُوذَةُ كُرْهًا؛ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ؛ إِذْ كَانَتْ مُسْقِطَةً لِلْقَضَاءِ أَوْ مُبْرِئَةً لِلذِّمَّةِ، وَبَاطِلَةً عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا أَوِ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْحُدُودُ كَفَّارَاتٍ فَقَطْ، فَلَمْ يُخْبِرِ الشَّارِعُ عَنْهَا أَنَّهَا مُرَتِّبَةٌ ثَوَابًا عَلَى حَالٍ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كَوْنُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَفْعَلَ لَكِنْ مَعَ اسْتِشْعَارِ الْمُوَافَقَةِ اخْتِيَارًا؛ كَالْفَاعِلِ لِلْمُبَاحِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا لَمْ يَفْعَلْهُ؛ فَهَذَا الْقِسْمُ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ النَّظَرُ فِيهِ فِي الْمُبَاحِ، أَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ يَفْعَلُهُ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ أَوِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَتْرُكُهُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ أَيْضًا؛ فَهُوَ مِنَ الصَّحِيحِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ أَوْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَصْدًا لِلْمُخَالَفَةِ، فَهُوَ مِنَ الْبَاطِلِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ؛ فَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي فِعْلِ الْمُبَاحِ أَوْ تَرْكِهِ مِنْ حَيْثُ خَاطَبَهُ الشَّرْعُ بِالتَّخْيِيرِ فَاخْتَارَ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ لِمُجَرَّدِ حَظِّهِ فَتَحْتَمِلُ فِي النَّظَرِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَاطِلًا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي، وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ فِي تَصَوُّرِ الْمُبَاحِ بِالنَّظَرِ إِلَى نَفْسِهِ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ، مَعًا بِنَاءً عَلَى تَحَرِّيهِ فِي نَيْلِ حَظِّهِ مِمَّا أُذِنَ لَهُ فِيهِ دُونَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ الْحَدِيثُ فِي الْأَجْرِ فِي وَطْءِ الزَّوْجَةِ، وَقَوْلِهِمْ: أَيَقْضِي شَهْوَتَهُ، ثُمَّ يُؤْجَرُ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ»، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ مَعًا فِي الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ، وَصَحِيحًا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَاطِلًا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي فِي الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْكُلِّ، وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ قِسْمَيِ الْأَحْكَامِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ الْمُبَاحِ، وَالْأَوَّلُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ إِطْلَاقِ الصِّحَّةِ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي، أَقْسَامُ الصِّحَّةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً؛ فَإِنْ كَانَ عِبَادَةً فَلَا تَقْسِيمَ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ عَادَةً؛ فَإِمَّا أَنْ يَصْحَبَهُ مَعَ قَصْدِ التَّعَبُّدِ قَصْدُ الْحَظِّ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْحَظِّ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَصْحَبُهُ حَظٌّ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ. وَالثَّانِي: كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الَّذِي لَهُ الْحُكْمُ، وَمَا سِوَاهُ فِي حُكْمِ الْمُطَّرِحِ. وَالثَّالِثُ: مُحْتَمِلٌ لِأَمْرَيْن: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي أَيْضًا؛ إِعْمَالًا لِلْجَانِبِ الْمَغْلُوبِ، وَاعْتِبَارًا بِأَنَّ جَانِبَ الْحَظِّ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَادِيَّاتِ بِخِلَافِ الْعِبَادِيَّاتِ، وَأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؛ إِعْمَالًا لِحُكْمِ الْغَلَبَةِ، وَبَيَانُ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَالنَّظَرُ فِيهِ فِي مَسَائِلَ:
الْعَزِيمَةُ: مَا شُرِعَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ ابْتِدَاءً.
وَمَعْنَى كَوْنِهَا كُلِّيَّةً أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُكَلَّفُونَ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ؛ كَالصَّلَاةِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ فِي كُلِّ شَخْصٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَسَائِرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْكُلِّيَّةِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا مَا شُرِعَ لِسَبَبٍ مَصْلَحِيٍّ فِي الْأَصْلِ؛ كَالْمَشْرُوعَاتِ الْمُتَوَصَّلِ بِهَا إِلَى إِقَامَةِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ مِنَ الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْجِنَايَاتِ، وَالْقِصَاصِ، وَالضَّمَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ جَمِيعُ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ. وَمَعْنَى شَرْعِيَّتِهَا ابْتِدَاءً أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الشَّارِعِ بِهَا إِنْشَاءَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَلَا يَسْبِقُهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ سَبَقَهَا وَكَانَ مَنْسُوخًا بِهَذَا الْأَخِيرِ، كَانَ هَذَا الْأَخِيرُ كَالْحُكْمِ الِابْتِدَائِيِّ تَمْهِيدًا لِلْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ. وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا مَا كَانَ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَارِدًا عَلَى سَبَبٍ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدْ تَكُونُ مَفْقُودَةً قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا وُجِدَتِ اقْتَضَتْ أَحْكَامًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [الْبَقَرَة: 104]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الْأَنْعَام: 108]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [الْبَقَرَة: 198]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 187]. وَقَوْلِه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 203]. وَمَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِأَحْكَامٍ وَرَدَتْ [شَيْئًا] بَعْدَ شَيْءٍ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ؛ فَكُلُّ هَذَا يَشْمَلُهُ اسْمُ الْعَزِيمَةِ؛ فَإِنَّهُ شَرْعٌ ابْتِدَائِيٌّ حُكْمًا، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنَ الْعُمُومَاتِ وَسَائِرِ الْمَخْصُوصَاتِ كُلِّيَّاتٌ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْضًا؛ كَقَوْلِهِ [تَعَالَى]: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 229]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النِّسَاء: 19]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التَّوْبَة: 5]. وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْعَزَائِمِ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَحْكَامٍ كُلِّيَّةٍ ابْتِدَائِيَّةٍ.
وَأَمَّا الرُّخْصَةُ؛ فَمَا شُرِعَ لِعُذْرٍ شَاقٍّ، اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ. فَكَوْنُهُ مَشْرُوعًا لِعُذْرٍ هُوَ الْخَاصَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا عُلَمَاءُ الْأُصُولِ. وَكَوْنُهُ شَاقًّا؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعُذْرُ مُجَرَّدَ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ مَوْجُودَةٍ، فَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ رُخْصَةً؛ كَشَرْعِيَّةِ الْقِرَاضِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهُ لِعُذْرٍ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ عَجْزُ صَاحِبِ الْمَالِ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَيَجُوزُ حَيْثُ لَا عُذْرَ وَلَا عَجْزَ، وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ وَالْقَرْضُ وَالسَّلَمُ، فَلَا يُسَمَّى هَذَا كُلُّهُ رُخْصَةً، وَإِنَّ كَانَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ أَصْلٍ مَمْنُوعٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا دَاخِلًا تَحْتَ أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ الْكُلِّيَّاتِ، وَالْحَاجِيَّاتُ لَا تُسَمَّى عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاسْمِ الرُّخْصَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعُذْرُ رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ تَكْمِيلِيٍّ فَلَا يُسَمَّى رُخْصَةً أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا أَوْ يَقْدِرُ بِمَشَقَّةٍ، فَمَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْجُلُوسِ، وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، لَكِنْ بِسَبَبِ الْمَشَقَّةِ اسْتُثْنِيَ فَلَمْ يَتَحَتَّمْ عَلَيْهِ الْقِيَامُ؛ فَهَذَا رُخْصَةٌ مُحَقَّقَةٌ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُتَرَخِّصُ إِمَامًا؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «وَإِنْ صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» فَصَلَاتُهُمْ جُلُوسًا وَقَعَ لِعُذْرٍ؛ إِلَّا أَنَّ الْعُذْرَ فِي حَقِّهِمْ لَيْسَ الْمَشَقَّةَ، بَلْ لِطَلَبِ الْمُوَافِقَةِ لِلْإِمَامِ وَعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ عَلَيْهِ، فَلَا يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا رُخْصَةً، وَإِنْ كَانَ مُسْتَثْنًى لِعُذْرٍ. وَكَوْنُ هَذَا الْمَشْرُوعِ لِعُذْرٍ مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الرُّخَصَ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ ابْتِدَاءً؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ كُلِّيَّاتٍ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ عَرَضَ لَهَا ذَلِكَ؛ فَبِالْعَرَضِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا أَجَزْنَا لَهُ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ؛ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، هَذَا وَإِنْ كَانَتْ آيَاتُ الصَّوْمِ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ثَانٍ عَنِ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 173]. وَكَوْنُهُ مُقْتَصِرًا بِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ خَاصَّةً مِنْ خَوَاصِّ الرُّخَصِ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ مَا شُرِعَ مِنَ الْحَاجِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ، وَمَا شُرِعَ مِنَ الرُّخَصِ؛ فَإِنَّ شَرْعِيَّةَ الرُّخَصِ جُزْئِيَّةٌ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ؛ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا انْقَطَعَ سَفَرُهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ مِنْ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَإِلْزَامِ الصَّوْمِ، وَالْمَرِيضُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُصَلِّ قَاعِدًا، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ لَمْ يَتَيَمَّمْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الرُّخَصِ بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ يُشْبِهُ الرُّخْصَةَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِرُخْصَةٍ فِي حَقِيقَةِ هَذَا الِاصْطِلَاحِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ أَيْضًا، وَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْتَرِضَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى الِاقْتِرَاضِ، وَأَنْ يُسَاقِيَ حَائِطَهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقَارِضَ بِمَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التِّجَارَةِ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاسْتِئْجَارِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ ابْتِدَائِيٍّ، وَالرُّخْصَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى جُزْئِيٍّ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْكُلِّيِّ.
|