الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
وَلَابُدَّ مِنْ مُقَدِّمَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ هَاهُنَا، وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ، كَانَ لَهُ صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ أَوْ لَا، فَإِذَا قُلْنَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَفِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ أَوْ غَيْرِهِ إِنَّهُ عَامٌّ فَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، بِدَلِيلٍ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ أَوْ لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ هُنَا إِنَّمَا هِيَ الِاسْتِقْرَائِيَّةُ، الْمُحَصِّلَةُ بِمَجْمُوعِهَا الْقَطْعَ بِالْحُكْمِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَالْخُصُوصُ بِخِلَافِ الْعُمُومِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَنَاطُ النَّظَرِ وَتَحَقَّقَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَسَائِلُ:
إِذَا ثَبَتَتْ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ؛ فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا مُعَارَضَةُ: قَضَايَا الْأَعْيَانِ، وَلَا حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ مَقْطُوعٌ بِهَا بِالْفَرْضِ؛ لِأَنَّا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِي الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ مَظْنُونَةٌ أَوْ مُتَوَهَّمَةٌ، وَالْمَظْنُونُ لَا يَقِفُ لِلْقَطْعِيِّ وَلَا يُعَارِضُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُحْتَمِلَةٍ لِاسْتِنَادِهَا إِلَى الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ مُحْتَمِلَةٌ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهَا، أَوْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَهِيَ مُقْتَطَعَةٌ وَمُسْتَثْنَاةٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ؛ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِبْطَالُ كُلِّيَّةِ الْقَاعِدَةِ بِمَا هَذَا شَأْنُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ جُزْئِيَّةٌ، وَالْقَوَاعِدُ الْمُطَّرِدَةُ كُلِّيَّاتٌ، وَلَا تَنْهَضُ الْجُزْئِيَّاتُ أَنْ تَنْقُضَ الْكُلِّيَّاتِ، وَلِذَلِكَ تَبْقَى أَحْكَامُ الْكُلِّيَّاتِ جَارِيَةً فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا مَعْنَى الْكُلِّيَّاتِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّفَرِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُتْرَفِ، وَكَمَا فِي الْغِنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَالِكِ النِّصَابِ وَالنِّصَابُ لَا يُغْنِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبِالضِّدِّ فِي مَالِكِ غَيْرِ النِّصَابِ وَهُوَ بِهِ غَنِيٌّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لَوْ عَارَضَتْهَا؛ فَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَا مَعًا، أَوْ يُهْمَلَا أَوْ يُعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، أَعْنِي فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ؛ فَإِعْمَالُهُمَا مَعًا بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ إِهْمَالُهُمَا؛ لِأَنَّهُ إِعْمَالٌ لِلْمُعَارَضَةِ فِيمَا بَيْنَ الظَّنِّيِّ وَالْقَطْعِيِّ، وَإِعْمَالُ الْجُزْئِيِّ دُونَ الْكُلِّيِّ تَرْجِيحٌ لَهُ عَلَى الْكُلِّيِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْقَاعِدَةِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ، وَهُوَ إِعْمَالُ الْكُلِّيِّ دُونَ الْجُزْئِيِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ عَلَى بَابَيِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ؛ فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمَظْنُونَةِ وَمَا ذَكَرْتَ جَارٍ فِيهَا؛ فَيَلْزَمُ إِمَّا بُطْلَانُ مَا قَالُوهُ، وَإِمَّا بُطْلَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، لَكِنْ مَا قَالُوهُ صَحِيحٌ؛ فَلَزِمَ إِبْطَالُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا فُرِضَ فِي السُّؤَالِ لَيْسَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا بِحَالٍ؛ فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْجُزْئِيُّ مُعَارِضًا وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمُعَارِضٍ؛ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ إِذَا كَانَتْ كُلِّيَّةً، ثُمَّ وَرَدَ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ وَقَضِيَّةٍ عَيْنِيَّةٍ مَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ الْمُعَارَضَةَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ وَحْدَهَا، مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مُوَافِقًا لَا مُخَالِفًا؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنْ لَا مُعَارَضَةَ هُنَا، وَهُوَ هُنَا مَحَلُّ التَّأْوِيلِ لِمَنْ تَأَوَّلَ، أَوْ مَحَلُّ عُمُومِ الِاعْتِبَارِ إِنْ لَاقَى بِالْمَوْضِعِ الِاطِّرَاحَ وَالْإِهْمَالَ كَمَا إِذَا ثَبَتَ لَنَا أَصْلُ التَّنْزِيهِ كُلِّيًّا عَامًّا ثُمَّ وَرَدَ مَوْضِعٌ ظَاهِرُهُ التَّشْبِيهُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ، عَلَى مَا أَعْطَتْهُ قَاعِدَةُ التَّنْزِيهِ؛ فَمِثْلُ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ، وَكَمَا إِذَا ثَبَتَ لَنَا أَصْلُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ لِاحْتِمَالِ حَمْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرِمُ ذَلِكَ الْأَصْلَ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ؛ فَشَيْءٌ آخَرُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْمَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَصِّصِ ظَاهِرُهُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا احْتِمَالٍ؛ فَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ وَيُعْتَبَرُ كَمَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ، عَظِيمُ النَّفْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَمَسِّكِ بِالْكُلِّيَّاتِ إِذَا عَارَضَتْهَا الْجُزْئِيَّاتُ وَقَضَايَا الْأَعْيَانِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَمَسَّكَ بِالْكُلِّيِّ كَانَ لَهُ الْخِيَرَةُ فِي الْجُزْئِيِّ فِي حَمْلِهِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ فَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْجُزْئِيِّ لَمْ يُمْكِنْهُ مَعَ التَّمَسُّكِ الْخِيَرَةُ فِي الْكُلِّيِّ؛ فَثَبَتَ فِي حَقِّهِ الْمُعَارَضَةُ، وَرَمَتْ بِهِ أَيْدِي الْإِشْكَالَاتِ فِي مَهَاوٍ بَعِيدَةٍ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَتَشَكُّكٌ فِي الْقَوَاطِعِ الْمُحْكَمَاتِ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَمِنْ فَوَائِدِ سُهُولَةِ الْمُتَنَاوَلِ فِي انْقِطَاعِ الْخِصَامِ وَالتَّشْغِيبِ الْوَاقِعِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ. وَمِثَالُ هَذَا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ، وَقَدْ وَرَدَ عَلَى غَرْنَاطَةَ بَعْضُ طَلَبَةِ الْعُدْوَةِ الْأَفْرِيقِيَّةِ؛ فَأَوْرَدَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ الْإِشْكَالَ الْمُورَدَ فِي قَتْلِ مُوسَى لِلْقِبْطِيِّ، وَأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْضِي بِوُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِه: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [الْقَصَص: 15] وَقَوْلِه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [الْقَصَص: 16] فَأَخَذَ مَعَهُ فِي تَفْصِيلِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ بِمُجَرَّدِهَا، وَمَا ذَكَرَ فِيهَا مِنَ التَّأْوِيلَاتِ بِإِخْرَاجِ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا، وَهَذَا الْمَأْخَذُ لَا يَتَخَلَّصُ، وَرُبَّمَا وَقَعَ الِانْفِصَالُ عَلَى غَيْرِ وِفَاقٍ؛ فَكَانَ مِمَّا ذَاكَرْتُ بِهِ بَعْضَ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ سَهْلَةٌ فِي النَّظَرِ إِذَا رُوجِعَ بِهَا الْأَصْلُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ فَيُقَالُ لَهُ: الْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَنِ الصَّغَائِرِ بِاخْتِلَافٍ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ مُوسَى كَبِيرَةً، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ أَيْضًا مِنَ الصَّغَائِرِ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُ ذَنْبًا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِذَنْبٍ، وَلَكَ فِي التَّأْوِيلِ السَّعَةُ بِكُلِّ مَا يَلِيقُ بِأَهْلِ النُّبُوَّةِ وَلَا يَنْبُو عَنْهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ، وَرَأَى ذَلِكَ مَأْخَذًا عِلْمِيًّا فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَكَثِيرًا مَا يَبْنِي عَلَيْهِ النُّظَّارُ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا كَانَ قَصْدُ الشَّارِعِ ضَبْطَ الْخَلْقِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، وَكَانَتِ الْعَوَائِدُ قَدْ جَرَتْ بِهَا سُنَّةُ اللَّهِ أَكْثَرِيَّةً لَا عَامَّةً، وَكَانَتِ الشَّرِيعَةُ مَوْضُوعَةً عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الْوَضْعِ؛ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُلْتَفَتِ إِلَيْهِ إِجْرَاءُ الْقَوَاعِدِ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ، لَا الْعُمُومِ الْكُلِّيِّ التَّامِّ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ عَنْهُ جُزْئِيٌّ مَا. أَمَّا كَوْنُ الشَّرِيعَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ؛ فَظَاهِرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَضْعَ التَّكَالِيفِ عَامٌّ؟ وَجَعَلَ عَلَى ذَلِكَ عَلَامَةَ الْبُلُوغِ، وَهُوَ مَظِنَّةٌ لِوُجُودِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَكُونُ عِنْدَهُ فِي الْغَالِبِ لَا عَلَى الْعُمُومِ؛ إِذْ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ كُلِّيًّا عَلَى التَّمَامِ؛ لِوُجُودِ مَنْ يَتِمُّ عَقْلُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَمَنْ يَنْقُصُ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا، إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ الِاقْتِرَانُ. وَكَذَلِكَ نَاطَ الشَّارِعُ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ بِالسَّفَرِ لِعِلَّةِ الْمَشَقَّةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ قَدْ تُوجَدُ بِدُونِهَا وَقَدْ تُفْقَدُ مَعَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَعْتَبِرِ الشَّارِعُ تِلْكَ النَّوَادِرَ، بَلْ أَجْرَى الْقَاعِدَةَ مَجْرَاهَا، وَمِثْلُهُ حَدُّ الْغِنَى بِالنِّصَابِ، وَتَوْجِيهُ الْأَحْكَامِ بِالْبَيِّنَاتِ، وَإِعْمَالُ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسَاتِ الظَّنِّيَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ تَتَخَلَّفُ مُقْتَضَيَاتُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدَمِ التَّخَلُّفِ؛ فَاعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ كُلِّيَّةً عَادِيَّةً لَا حَقِيقِيَّةً. وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تَجِدُ سَائِرَ الْفَوَائِدِ التَّكْلِيفِيَّةِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنْ لَابُدَّ مِنْ إِجْرَاءِ الْعُمُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ مُنْضَبِطَةٌ بِالْمَظِنَّاتِ، إِلَّا إِذَا ظَهَرَ مَعَارِضٌ؛ فَيُعْمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ فِيهِ، كَمَا إِذَا عَلَّلْنَا الْقَصْرَ بِالْمَشَقَّةِ؛ فَلَا يَنْتَقِضُ بِالْمَلِكِ الْمُتْرَفِ وَلَا بِالصِّنَاعَةِ الشَّاقَّةِ، وَكَمَا لَوْ عَلَّلَ الرِّبَا فِي الطَّعَامِ بِالْكَيْلِ؛ فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَا يَتَأَتَّى كَيْلُهُ لِقِلَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَالتَّافِهِ مِنِ الْبُرِّ وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّلْنَاهُ فِي النَّقْدَيْنِ بِالثَّمَنِيَّةِ لَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَا يَكُونُ ثَمَنًا لِقِلَّتِهِ، أَوْ عَلَّلْنَاهُ فِي الطَّعَامِ بِالِاقْتِيَاتِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ اقْتِيَاتٌ، كَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اعْتَرَضَتْ عِلَّةُ الْقُوتِ بِمَا يُقْتَاتُ فِي النَّادِرِ؛ كَاللَّوْزِ، وَالْجَوْزِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالْبُقُولِ، وَشِبْهِهَا، بَلِ الِاقْتِيَاتُ إِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ مِنْهُ مَا كَانَ مُعْتَادًا مُقِيمًا لِلصُّلْبِ عَلَى الدَّوَامِ وَعَلَى الْعُمُومِ، وَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُهُ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْحَدَّ عُلِّقَ فِي الْخَمْرِ عَلَى نَفْسِ التَّنَاوُلِ حِفْظًا عَلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ أُجْرِيَ الْحَدُّ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُذْهِبُ الْعَقْلَ مَجْرَى الْكَثِيرِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ فِي تَنَاوُلِ الْكَثِيرِ، وَعُلِّقَ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْإِيلَاجِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ حِفْظَ الْأَنْسَابِ؛ فَيُحَدُّ مَنْ لَمْ يُنْزِلْ لِأَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ مَعَ الْإِيلَاجِ الْإِنْزَالُ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا. فَلْيَكُنْ عَلَى بَالٍ مِنَ النَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْعَامَّةَ إِنَّمَا تَنْزِلُ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ.
لَا كَلَامَ فِي أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا وَضْعِيَّةً، وَالنَّظَرُ فِي هَذَا مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ هُنَا فِي أَمْرٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَطَالِبِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ أَكِيدُ التَّقْرِيرِ هَاهُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ لِلْعُمُومِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّيَغُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ نَظَرَيْن: أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِلَى هَذَا النَّظَرِ قَصْدُ الْأُصُولِيِّينَ؛ فَلِذَلِكَ يَقَعُ التَّخْصِيصُ عِنْدَهُمْ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَسَائِرِ الْمُخَصَّصَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ. وَالثَّانِي: بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ الِاسْتِعْمَالِيَّةِ الَّتِي تَقْضِي الْعَوَائِدُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْوَضْعِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَهَذَا الِاعْتِبَارُ اسْتِعْمَالِيٌّ، وَالْأَوَّلُ قِيَاسِيٌّ. وَالْقَاعِدَةُ فِي الْأُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ الِاسْتِعْمَالِيَّ إِذَا عَارَضَ الْأَصْلَ الْقِيَاسِيَّ كَانَ الْحُكْمُ لِلِاسْتِعْمَالِيِّ. وَبَيَانُ ذَلِكَ هُنَا أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُطْلِقُ أَلْفَاظَ الْعُمُومِ بِحَسَبِ مَا قَصَدَتْ تَعْمِيمَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ خَاصَّةً، دُونَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَلْفَاظُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْإِفْرَادِيِّ؛ كَمَا أَنَّهَا أَيْضًا تُطْلِقُهَا وَتَقْصِدُ بِهَا تَعْمِيمَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقْتَضَى الْحَالِ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَأْتِي بِلَفْظِ عُمُومٍ مِمَّا يَشْمَلُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ نَفْسَهُ وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَقْصِدُ بِالْعُمُومِ صِنْفًا مِمَّا يَصْلُحُ اللَّفْظُ لَهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَصْنَافِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ ذِكْرَ الْبَعْضِ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْضِ الْجَمِيعَ؛ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَمْلِكُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، وَالْمُرَادُ جَمِيعَ الْأَرْضِ، وَضُرِبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَمِنْهُ {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرَّحْمَن: 17] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزُّخْرُف: 84] فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ؛ فَلَيْسَ الْمُتَكَلِّمُ بِمُرَادٍ، وَإِذَا قَالَ: أَكْرَمْتُ النَّاسَ، أَوْ قَاتَلْتُ الْكُفَّارَ؛ فَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْ لَقِيَ مِنْهُمْ؛ فَاللَّفْظُ عَامٌّ فِيهِمْ خَاصَّةً، وَهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ دُونَ مَنْ لَمْ يَخْطُرْ بِالْبَالِ. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: وَلَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ لَيَضْرِبَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي الدَّارِ وَهُوَ مَعَهُمْ فِيهَا، فَضَرَبَهُمْ وَلَمْ يَضْرِبْ نَفْسَهُ؛ لَبَرَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: اتَّهَمَ الْأَمِيرُ كُلَّ مَنْ فِي الْمَدِينَةِ فَضَرَبَهُمْ؛ فَلَا يَدْخُلُ الْأَمِيرُ فِي التُّهَمَةِ وَالضَّرْبِ قَالَ: فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى تَحْتَ الْإِخْبَارِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَر: 62] لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقْصِدُ ذَلِكَ وَلَا تَنْوِيهِ، وَمِثْلُهُ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَة: 282] وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَكِنَّ الْإِخْبَارَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، وَعِلْمُهُ بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ شَيْءٌ آخَرُ قَالَ: فَكُلُّ مَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهِ مِنْ نَحْوِ هَذَا، فَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ؛ فَلَا تَدْخُلُ صِفَاتُهُ تَعَالَى تَحْتَ الْخِطَابِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ وَضْعِ اللِّسَانِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعُمُومَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَوُجُوهُ الِاسْتِعْمَالِ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّ ضَابِطَهَا مُقْتَضَيَاتُ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ الْبَيَانِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الْأَحْقَاف: 25] لَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَنَّهَا تُدَمِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ، وَلَا الْمِيَاهَ وَلَا غَيْرَهَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ مِمَّا شَأْنُهَا أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الْأَحْقَاف: 25] وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذَّارِيَات: 25] وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِحَسَبِ اللِّسَانِ؛ فَلَا يُقَالُ مِنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ إِلَّا نَفْسِي أَوْ أَكْرَمْتُ النَّاسَ إِلَّا نَفْسِي، وَلَا قَاتَلْتُ الْكُفَّارَ إِلَّا مَنْ لَمْ أَلْقَ مِنْهُمْ، وَلَا مَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ مِمَّنْ دَخَلَ الدَّارَ، أَوْ مِمَّنْ لَقِيتُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُوَ الَّذِي يُتَوَهَّمُ دُخُولُهُ لَوْ لَمْ يُسْتَثْنَ، هَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ فِي التَّعْمِيمِ؛ فَهُوَ إِذًا الْجَارِي فِي عُمُومَاتِ الشَّرْعِ. وَأَيْضًا؛ فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ نَبَّهُوا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ قَصْدِهِ التَّعْمِيمَ إِلَّا بِالْإِخْطَارِ لَا يُحْمَلُ لَفْظُهُ عَلَيْهِ؛ إِلَّا مَعَ الْجُمُودِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى؛ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ؛ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» قَالَ الْغَزَالِيُّ: خُرُوجُ الْكَلْبِ عَنْ ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِلدِّبَاغِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، بَلْ هُوَ الْغَالِبُ الْوَاقِعُ، وَنَقِيضُهُ هُوَ الْغَرِيبُ الْمُسْتَبْعَدُ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ أَيْضًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَاعِدَةِ الْعَرَبِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّارِعِ بَلْ لَابُدَّ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي الْأَصْلِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّرْكِيبُ وَالِاسْتِعْمَالُ؛ فَإِمَّا أَنْ تَبْقَى دَلَالَتُهُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ مُقْتَضَى وَضْعِ اللَّفْظِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلَّفْظِ الْعَامِّ، وَكُلُّ تَخْصِيصٍ لَابُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ حَمَلَتِ اللَّفْظَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ يَقْتَضِي عَلَى مَا تَقَرَّرَ خِلَافَ مَا فَهِمُوا، وَإِذَا كَانَ فَهْمُهُمْ فِي سِيَاقِ الِاسْتِعْمَالِ مُعْتَبَرًا فِي التَّعْمِيمِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ عِنْدَهُمْ، بِحَيْثُ صَارَ كَوَضْعٍ ثَانٍ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، ثُمَّ التَّخْصِيصُ آتٍ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13]» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَنَزَلَتْ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}» وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاء: 98] قَالَ بَعْضُ الْكُفَّار: فَقَدْ عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ وَعُبِدَ الْمَسِيحُ فَنَزَلَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاء: 101] إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ سِيَاقُهَا يَقْتَضِي بِحَسَبِ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ عُمُومًا أَخَصَّ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَقَدْ فَهِمُوا فِيهَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَبَادَرَتْ أَفْهَامُهُمْ فِيهِ، وَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ فِي الْأَصْلِ؛ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ فَهْمُهُ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا الِاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِيَّ؛ فَقَدْ تَبْقَى دَلَالَتُهُ الْأُولَى وَقَدْ لَا تَبْقَى، فَإِنْ بَقِيَتْ؛ فَلَا تَخْصِيصَ، وَإِنْ لَمْ تَبْقَ دَلَالَتُهُ؛ فَقَدْ صَارَ لِلِاسْتِعْمَالِ اعْتِبَارٌ آخَرُ لَيْسَ لِلْأَصْلِ، وَكَأَنَّهُ وَضْعٌ ثَانٍ حَقِيقِيٌّ لَا مَجَازِيٌّ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَفْظَ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ إِذَا أَرَادُوا أَصْلَ الْوَضْعِ، وَلَفْظَ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ إِذَا أَرَادُوا الْوَضْعَ الِاسْتِعْمَالِيَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ لِلَّفْظِ الْعَرَبِيِّ أَصَالَتَيْن: أَصَالَةٌ قِيَاسِيَّةٌ، وَأَصَالَةٌ اسْتِعْمَالِيَّةٌ؛ فَلِلِاسْتِعْمَالِ هُنَا أَصَالَةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا لِلَّفْظِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ وَهِيَ الَّتِي وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَتِنَا؛ فَالْعَامُّ إِذًا فِي الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَدْخُلْهُ تَخْصِيصٌ بِحَالٍ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْفَهْمَ فِي عُمُومِ الِاسْتِعْمَالِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَهْمِ الْمَقَاصِدِ فِيهِ، وَلِلشَّرِيعَةِ بِهَذَا النَّظَرِ مَقْصِدَان: أَحَدُهُمَا: الْمَقْصِدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِحَسَبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَالثَّانِي: الْمَقْصِدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مُطْلَقِ الْوَضْعِ الِاسْتِعْمَالِيِّ الْعَرَبِيِّ كَنِسْبَةِ الْوَضْعِ فِي الصِّنَاعَاتِ الْخَاصَّةِ إِلَى الْوَضْعِ الْجُمْهُورِيِّ؛ كَمَا نَقُولُ فِي الصَّلَاة: إِنَّ أَصْلَهَا الدُّعَاءُ لُغَةً، ثُمَّ خُصَّتْ فِي الشَّرْعِ بِدُعَاءٍ مَخْصُوصٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهِيَ فِيهِ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ؛ فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيّ: إِنَّهَا إِنَّمَا تَعُمُّ الذِّكْرَ بِحَسَبِ مَقْصِدِ الشَّارِعِ فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ الدَّلِيلِ عَلَى الْوَضْعِ الِاسْتِعْمَالِيِّ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ، وَاسْتِقْرَاءُ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَالْعَرَبُ فِيهِ شَرَعٌ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَالتَّفَاوُتُ فِي إِدْرَاكِهِ حَاصِلٌ؛ إِذْ لَيْسَ الطَّارِئُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ فِي فَهْمِهِ كَالْقَدِيمِ الْعَهْدِ، وَلَا الْمُشْتَغِلُ بِتَفَهُّمِهِ وَتَحْصِيلِهِ كَمَنْ لَيْسَ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ، وَلَا الْمُبْتَدِئُ فِيهِ كَالْمُنْتَهِي {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [الْمُجَادَلَة: 11] فَلَا مَانِعَ مِنْ تَوَقُّفِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي بَعْضِ مَا يُشْكِلُ أَمْرُهُ، وَيَغْمُضُ وَجْهُ الْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ؛ حَتَّى إِذَا تَبَحَّرَ فِي إِدْرَاكِ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ نَظَرُهُ، وَاتَّسَعَ فِي مَيْدَانِهَا بَاعُهُ؛ زَالَ عَنْهُ مَا وَقَفَ مِنَ الْإِشْكَالِ وَاتَّضَحَ لَهُ الْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ عَلَى الْكَمَالِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ وَجْهُ الِاسْتِعْمَالِ؛ فَمَا ذُكِرَ مِمَّا تَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْقَبِيلِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا فَرَضَهُ الْأُصُولِيُّونَ مِنْ وَضْعِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمَوْضِعَ يَسْتَمِدُّ مِنْهَا، وَهَذَا الْوَضْعُ وَإِنْ كَانَ قَدْ جِيءَ بِهِ مُضَمَّنًا فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ؛ فَلَهُ مَقَاصِدُ تَخْتَصُّ بِهِ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَسَاقُ الْحُكْمِيُّ أَيْضًا، وَهَذَا الْمَسَاقُ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْعَارِفُونَ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْعَارِفُونَ بِمَقَاصِدِ الْعَرَبِ؛ فَكُلُّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ فَمِنْ [هَذَا] الْقَبِيلِ إِذَا تَدَبَّرْتَهُ.
وَيَتَبَيَّنُ لَكَ صِحَّةُ مَا تَقَرَّرَ فِي النَّظَرِ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمُعْتَرَضِ بِهَا فِي السُّؤَالِ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 82] فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ أَنْوَاعُ الشِّرْكِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُقَرِّرَةٌ لِقَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ، وَهَادِمَةٌ لِقَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَمَا يَلِيهِ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ الْآيَةِ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُحَاجَّتِهِ لِقَوْمِهِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُمْ فِي الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الْأَنْعَام: 21] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ ارْتَكَبَ هَاتَيْنِ الْخُلَّتَيْنِ وَظَهَرَ أَنَّهُمَا الْمَعْنِيَّ بِهِمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِبْطَالًا بِالْحُجَّةِ، وَتَقْرِيرًا لِمَنْزِلَتِهِمَا فِي الْمُخَالَفَةِ، وَإِيضَاحًا لِلْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُضَادٌّ لَهُمَا؛ فَكَأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَرَدَ قَبْلَ تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ تَقْرِيرًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِلَفْظٍ عَامٍّ؛ كَانَ مَظِنَّةً لِأَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ ظُلْمٍ، دَقَّ أَوْ جَلَّ؛ فَلِأَجْلِ هَذَا سَأَلُوا وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَقْرِيرِ جَمِيعِ كُلِّيَّاتِ الْأَحْكَامِ. وَسَبَبُ احْتِمَالِ النَّظَرِ ابْتِدَاءً أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الْأَنْعَام: 82] نَفْيٌّ عَلَى نَكِرَةٍ لَا قَرِينَةَ فِيهَا تَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِه: لَمْ يَأْتِنِي رَجُلٌ؛ فَيَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ، وَهِيَ كُلُّهَا نَفْيٌ لِمُوجِبٍ مَذْكُورٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، وَلَا نَصَّ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الْمُحْتَمِلَةِ؛ إِلَّا مَعَ الْإِتْيَانِ بِمَنْ وَمَا يُعْطِي مَعْنَاهَا، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ هُنَا، بَلْ فِي السُّورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ وَارِدٌ عَلَى ظُلْمٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ ظُلْمُ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ؛ فَصَارَتِ الْآيَةُ مِنْ جِهَةِ إِفْرَادِهَا بِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْمَسَاقِ مَعَ كَوْنِهَا أَيْضًا فِي مَسَاقِ تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ مُجْمَلَةً فِي عُمُومِهَا فَوَقَعَ الْإِشْكَالُ فِيهَا، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عُمُومَهَا إِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ نَوْعٌ أَوْ نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَذَلِكَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ عَلَى هَذَا بِوَجْهٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاء: 98] فَقَدْ أَجَابَ النَّاسُ عَنِ اعْتِرَاضِ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِيهَا بِجَهْلِهِ بِمَوْقِعِهَا، وَمَا رُوِيَ فِي الْمَوْضِعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ يَا غُلَامُ» لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْآيَةِ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 98] فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ؛ فَكَيْفَ تَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ؟! وَالَّذِي يَجْرِي عَلَى أَصْلِ مَسْأَلَتِنَا أَنَّ الْخِطَابَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَلَا الْمَسِيحَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ؛ فَقَوْلُهُ: {وَمَا تَعْبُدُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 98] عَامٌّ فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ الِاسْتِعْمَالِيِّ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَكَانَ اعْتِرَاضُ الْمُعْتَرِضِ جَهْلًا مِنْهُ بِالْمَسَاقِ، وَغَفْلَةً عَمَّا قُصِدَ فِي الْآيَاتِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِه: «مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ يَا غُلَامُ» دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَمَكُّنِهِ فِي فَهْمِ الْمَقَاصِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ؛ لِحَدَاثَتِهِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْهِ فِي الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَتَأَمَّلَ مَسَاقَ الْكَلَامِ حَتَّى يَهْتَدِيَ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الْأَنْبِيَاء: 101] بَيَانًا لِجَهْلِهِ وَمِثْلُهُ مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِه: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا؛ لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ؟ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ؛ فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آلِ عِمْرَانَ: 187] كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِه: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 188]؛ فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْضًا وَبِالْجُمْلَةِ فَجَوَابُهُمْ بَيَانٌ لِعُمُومَاتِ تِلْكَ النُّصُوصِ كَيْفَ وَقَعَتْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّ ثَمَّ قَصَدًا آخَرَ سِوَى الْقَصْدِ الْعَرَبِيِّ لَابُدَّ مِنْ تَحْصِيلِهِ، وَبِهِ يَحْصُلُ فَهْمُهَا، وَعَلَى طَرِيقِهِ يَجْرِي سَائِرُ الْعُمُومَاتِ، وَإِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ ثَمَّ تَخْصِيصٌ بِمُنْفَصِلٍ أَلْبَتَّةَ، وَاطَّرَدَتِ الْعُمُومَاتُ قَوَاعِدَ صَادِقَةَ الْعُمُومِ، وَلِنُورِدْ هُنَا فَصْلًا هُوَ مَظِنَّةٌ لِوُرُودِ الْإِشْكَالِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ، وَبِالْجَوَابِ عَنْهُ يَتَّضِحُ الْمَطْلُوبُ اتِّضَاحًا أَكْمَلَ. فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَكَوْنِهِمْ عَرَبًا قَدْ أَخَذُوا بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ الِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُمْ فِي اللَّفْظِ عُمُومُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْإِفْرَادِيِّ وَإِنْ عَارَضَهُ السِّيَاقُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ صَارَ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ خُصُوصَهُ كَالْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِمَّا خُصَّ بِالْمُنْفَصِلِ، لَا مِمَّا وُضِعَ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْعُمُومِ الْمُدَّعَى. وَلِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كَلَامِهِمْ أَمْثِلَةٌ، مِنْهَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَتَّخِذُ الْخَشِنَ مِنَ الطَّعَامِ، كَمَا كَانَ يَلْبَسُ الْمُرَقَّعَ فِي خِلَافَتِهِ؛ فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ طَعَامًا أَلْيَنَ مِنْ هَذَا؟. فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ تُعَجَّلَ طَيِّبَاتِي، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الْأَحْقَاف: 20] الْحَدِيثَ. وَجَاءَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَقَدْ رَأَى بَعْضَهُمْ قَدْ تَوَسَّعَ فِي الْإِنْفَاقِ شَيْئًا: أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الْآيَةَ [الْأَحْقَاف: 20] وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ثُمَّ قَالَ: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الْأَحْقَاف: 20] فَالْآيَةُ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِحَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَخَذَهَا عُمَرُ مُسْتَنِدًا فِي تَرْكِ الْإِسْرَافِ مُطْلَقًا، وَلَهُ أَصْلٌ فِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْمَرْأَتَيْنِ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ؛ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَهُ. فَاسْتَوَى جَالِسًا؛ فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» فَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَأْخَذِ عُمَرَ فِي الْآيَةِ وَإِنْ دَلَّ السِّيَاقُ عَلَى خِلَافِهِ وَفِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هُودٍ: 15] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ فَجَعَلَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ، وَهِيَ فِي الْكُفَّارِ؛ لِقَوْلِه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هُودٍ: 16] إِلَخْ؛ فَدَلَّ عَلَى الْأَخْذِ بِعُمُومِ مَنْ فِي غَيْرِ الْكُفَّارِ أَيْضًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ؛ فَاكْتُتِبْتُ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَخْبَرْتُهُ؛ فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ يَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 97] فَهَذَا أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِيمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّ عِكْرِمَةَ أَخَذَهَا عَلَى وَجْهٍ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ} الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاء: 284] دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَة: 286] قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [الْبَقَرَة: 286] قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ الْحَدِيثَ إِلَخْ، فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ الْعُمُومَ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ بَعْدَهَا {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَة: 286] عَلَى وَجْهِ النَّسَخِ أَوْ غَيْرِهِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجّ: 78] وَهِيَ قَاعِدَةٌ مَكِّيَّةٌ كُلِّيَّةٌ؛ فَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْذِ بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَإِنْ دَلَّ الِاسْتِعْمَالُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الْآيَةَ [النِّسَاء: 115]؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 48] ثُمَّ إِنَّ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَأَنَّ مُخَالِفَهُ عَاصٍ، وَعَلَى أَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الدِّينِ مَذْمُومٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هُودٍ: 5] ظَاهِرُ مَسَاقِ الْآيَةِ أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِه: {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هُودٍ: 5] أَيْ: مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا فِي أُنَاسٍ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ؛ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ فَقَدْ عَمَّ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ الْمَسَاقَ لَا يَقْتَضِيهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، وَهُوَ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظِ لَا خُصُوصِ السَّبَبِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [الْمَائِدَة: 44] مَعَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ عَمُّوا بِهَا غَيْرَ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ فَإِذَا رَجَعَ هَذَا الْبَحْثُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنْ لَا اعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَفِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا عُلِمَ؛ فَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى أَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ الْأَصَحُّ، وَلَا فَائِدَةَ زَائِدَةٌ. وَالْجَوَابُ: إِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ إِنَّمَا جَاءُوا بِذَلِكَ الْفِقْهِ الْحَسَنِ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ آخَرَ غَيْرِ رَاجِعٍ إِلَى الصِّيَغِ الْعُمُومِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودًا يَفْهَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِيَقُومَ الْعَبْدُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ عَلَى قَدَمَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَيَرَى أَوْصَافَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ؛ فَيَجْتَهِدُ رَجَاءَ أَنْ يُدْرِكَهُمْ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يَلْحَقَهُمْ فَيَفِرَّ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَيَرَى أَوْصَافَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ؛ فَيَخَافُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَفِيمَا يُشْبِهُهُ، وَيَرْجُو بِإِيمَانِهِ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِهِمْ؛ فَهُوَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مِنْ حَيْثُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْفَرِيقَيْنِ فِي وَصْفٍ مَا وَإِنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ الطَّرَفَانِ كَانَ الْحَائِلُ بَيْنَهُمَا مَأْخُوذَ الْجَانِبَيْنِ كَمَحَالِّ الِاجْتِهَادِ لَا فَرْقَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ مَحْمَلَ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي آيَةِ الْأَحْقَافِ وَهُودٍ وَالنِّسَاءِ فِي آيَة: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 97] وَيَظْهَرُ أَيْضًا فِي قَوْلِه: {وَيَتَّبِعُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاء: 115] وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَإِمَّا مِنْ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، وَإِمَّا أَنَّهَا بَيَانُ فِقْهِ الْجُزْئِيَّاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الْعَامَّةِ، لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّخْصِيصُ، بَلْ بَيَانُ جِهَةِ الْعُمُومِ، وَإِلَيْكَ النَّظَرُ فِي التَّفَاصِيلِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
إِذَا تَقَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ؛ فَالتَّخْصِيصُ إِمَّا بِالْمُنْفَصِلِ أَوْ بِالْمُتَّصِلِ. فَإِنْ كَانَ بِالْمُتَّصِلِ؛ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالصِّفَةِ، وَالْغَايَةِ، وَبَدَلِ الْبَعْضِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِإِخْرَاجٍ لِشَيْءٍ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ مِنْهُ غَيْرَ مَا قَصَدَ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِ سِيبَوَيْه: زَيْدٌ الْأَحْمَرُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ كَزَيْدٍ وَحْدَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ زَيْدًا الْأَحْمَرَ هُوَ الِاسْمُ الْمُعَرَّفُ بِهِ مَدْلُولُ زِيدٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا كَانَ الْمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ هُوَ الِاسْمُ لَا أَحَدُهُمَا، وَهَكَذَا إِذَا قُلْتَ: الرَّجُلُ الْخَيَّاطُ فَعَرَفَهُ السَّامِعُ؛ فَهُوَ مُرَادِفٌ لِزَيْدٍ فَإِذًا الْمَجْمُوعُ هُوَ الدَّالُّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا قُلْتَ: عَشْرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً فَإِنَّهُ مُرَادِفٌ لِقَوْلِكَ: سَبْعَةٌ فَكَأَنَّهُ وَضْعٌ آخَرُ عَرَضَ حَالَةَ التَّرْكِيبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا تَخْصِيصَ فِي مَحْصُولِ الْحُكْمِ لَا لَفْظًا وَلَا قَصْدًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُجَازٌ أَيْضًا لِحُصُولِ الْفَرْقِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ قَوْلِكَ: مَا رَأَيْتُ أَسَدًا يَفْتَرِسُ الْأَبْطَالَ وَقَوْلِكَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا شُجَاعًا وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَجَازٌ، وَالثَّانِيَ حَقِيقَةٌ، وَالرُّجُوعُ فِي هَذَا إِلَيْهِمْ، لَا إِلَى مَا يُصَوِّرُهُ الْعَقْلُ فِي مَنَاحِي الْكَلَامِ. وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالْمُنْفَصِلِ؛ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ فِي عُمُومِ الصِّيَغِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي رَأْسِ الْمَسْأَلَةِ، لَا أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَةِ التَّخْصِيصِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ. فَإِنْ قِيلَ: وَهَكَذَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ: إِنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ الْمَقْصُودِ بِالصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَإِنَّهُ رَفْعٌ لِتَوَهُّمِ دُخُولِ الْمَخْصُوصِ تَحْتَ عُمُومِ الصِّيغَةِ فِي فَهْمِ السَّامِعِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ الدُّخُولُ تَحْتَهَا، وَإِلَّا كَانَ التَّخْصِيصُ نَسْخًا، فَإِذًا لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّخْصِيصِ بِالْمُنْفَصِلِ وَالتَّخْصِيصِ بِالْمُتَّصِلِ عَلَى مَا فَسَّرْتَ؛ فَكَيْفَ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَا ذَكَرْتَ وَبَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ؟. فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى بَيَانِ وَضْعِ الصِّيَغِ الْعُمُومِيَّةِ فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ خُرُوجِ الصِّيغَةِ عَنْ وَضْعِهَا مِنَ الْعُمُومِ إِلَى الْخُصُوصِ؛ فَنَحْنُ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَيَانٌ لِوَضْعِ اللَّفْظِ، وَهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ بَيَانٌ لِخُرُوجِ اللَّفْظِ عَنْ وَضْعِهِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ؛ فَالتَّفْسِيرُ الْوَاقِعُ هَنَا نَظِيرُ الْبَيَانِ الَّذِي سِيقَ عَقِبَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِيُبَيِّنَ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَالَّذِي لِلْأُصُولِيِّينَ نَظِيرُ الْبَيَانِ الَّذِي سِيقَ عُقَيْبَ الْحَقِيقَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَجَازُ؛ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا يَفْتَرِسُ الْأَبْطَالَ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَكُونُ تَأْصِيلُ أَهْلِ الْأُصُولِ كُلُّهُ بَاطِلًا، أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ، وَإِنْ كَانَ صَوَابًا وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إِجْمَاعُهُمْ؛ فَكُلُّ مَا يُعَارِضُهُ خَطَأٌ، فَإِذًا كَلُّ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ خَطَأٌ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ أَوَّلًا غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ؛لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِبْطَالُ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اعْتَبَرُوا صِيَغَ الْعُمُومِ بِحَسَبِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْوَضْعِ الْإِفْرَادِيِّ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا حَالَةَ الْوَضْعِ الِاسْتِعْمَالِيِّ، حَتَّى إِذَا أَخَذُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأَحْكَامِ؛ رَجَعُوا إِلَى اعْتِبَارِه: كُلٌّ عَلَى اعْتِبَارٍ رَآهُ، أَوْ تَأْوِيلٍ ارْتَضَاهُ؛ فَالَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنِ اعْتِبَارِهِمُ الصِّيَغَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؛ إِلَّا مَا يَفْهَمُ عَنْهُمْ مَنْ لَا يُحِيطُ عِلْمًا بِمَقَاصِدِهِمْ، وَلَا يُجَوِّدُ مَحْصُولَ كَلَامِهِمْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قِيلَ: حَاصِلُ مَا مَرَّ أَنَّهُ بَحْثٌ فِي عِبَارَةٍ، وَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ. فَالْجَوَابُ أَنْ لَا، بَلْ هُوَ بَحْثٌ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَحْكَامٌ: مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ إِذَا خُصَّ؛ هَلْ يَبْقَى حُجَّةً أَمْ لَا؟ وَهِيَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخَطِيرَةِ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ شَنِيعٌ لِأَنَّ غَالِبَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَعُمْدَتَهَا هِيَ الْعُمُومَاتُ، فَإِذَا عُدَّتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بِنَاءً عَلَى مَا قَالُوهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُمُومَاتِ أَوْ غَالِبَهَا مُخَصَّصٌ؛ صَارَ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ مُخْتَلَفًا فِيهَا: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُلْقَى فِي الْمُطْلَقَاتِ فَانْظُرْ فِيهِ، فَإِذَا عَرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ؛ لَمْ يَبْقَ الْإِشْكَالُ الْمَحْظُورُ، وَصَارَتِ الْعُمُومَاتُ حُجَّةً عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَلَقَدْ أَدَّى إِشْكَالُ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى شَنَاعَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي حَقِيقَتِهِ مِنَ الْعُمُومِ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَفِيهِ مَا يَقْتَضِي إِبْطَالَ الْكُلِّيَّاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَإِسْقَاطَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ جُمْلَةً؛ إِلَّا بِجِهَةٍ مِنَ التَّسَاهُلِ وَتَحْسِينِ الظَّنِّ، لَا عَلَى تَحْقِيقِ النَّظَرِ وَالْقَطْعِ بِالْحُكْمِ، وَفِي هَذَا إِذَا تُؤُمِّلَ تَوْهِينُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتَضْعِيفُ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهَا، وَرُبَّمَا نَقَلُوا فِي الْحُجَّةِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عَامٌّ إِلَّا مُخَصَّصٌ، إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَة: 282] وَجَمِيعُ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْعَرَبِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنِ الْقَطْعِ بِعُمُومَاتِهِ الَّتِي فَهِمُوهَا تَحْقِيقًا، بِحَسَبِ قَصْدِ الْعَرَبِ فِي اللِّسَانِ، وَبِحَسَبِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي مَوَارِدِ الْأَحْكَامِ. وَأَيْضًا؛ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لَهُ الْكَلَامُ اخْتِصَارًا عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ، وَأَقْرَبُ مَا يُمْكِنُ فِي التَّحْصِيلِ، وَرَأْسُ هَذِهِ الْجَوَامِعِ فِي التَّعْبِيرِ الْعُمُومَاتُ فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْقُرْآنِ جَوَامِعَ، بَلْ عَلَى وَجْهٍ تَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى مُخَصِّصَاتٍ وَمُقَيِّدَاتٍ وَأُمُورٍ أُخَرَ؛ فَقَدْ خَرَجَتْ تِلْكَ الْعُمُومَاتُ عَنْ أَنْ تَكُونَ جَوَامِعَ مُخْتَصِرَةً، وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ؛ فَيَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. فَالْحَقُّ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ إِذَا وَرَدَتْ أَنَّهَا عَلَى عُمُومِهَا فِي الْأَصْلِ الِاسْتِعْمَالِيِّ، بِحَيْثُ يُفْهَمُ مَحَلُّ عُمُومِهَا الْعَرَبِيِّ الْفَهْمَ الْمُطَّلِعَ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ؛ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِقْهٌ كَثِيرٌ وَعَلَمٌ جَمِيلٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
عُمُومَاتُ الْعَزَائِمِ وَإِنْ ظَهَرَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ الرُّخَصَ تُخَصِّصُهَا؛ فَلَيْسَتْ بِمُخَصِّصَةٍ لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ، بَلِ الْعَزَائِمُ بَاقِيَةٌ عَلَى عُمُومِهَا، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَنَّ الرُّخَصَ خَصَّصَتْهَا؛ فَإِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّخْصَةِ؛ إِمَّا أَنْ تَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَتْ بِرُخْصَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ إِذْ لَمْ يُخَاطَبْ بِالْعَزِيمَةِ مَنْ لَا يُطِيقُهَا، وَإِنَّمَا يُقَالُ هُنَا: إِنَّ الْخِطَابَ بِالْعَزِيمَةِ مَرْفُوعٌ مِنَ الْأَصْلِ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى رَفْعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ؛ فَانْتَقَلَتِ الْعَزِيمَةُ إِلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى، وَكَيْفِيَّةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْأَوْلَى كَالْمُصَلِّي لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ؛ فَلَيْسَ بِمُخَاطَبٍ بِالْقِيَامِ، بَلْ صَارَ فَرْضُهُ الْجُلُوسَ أَوْ عَلَى جَنْبٍ أَوْ ظَهْرٍ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَمَعْنَى الرُّخْصَةُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ إِنِ انْتَقَلَ إِلَى الْأَخَفِّ؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، لَا أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ تَكَلَّفَ فَصَلَّى قَائِمًا؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَدَّى الْفَرْضَ عَلَى كَمَالِ الْعَزِيمَةِ، أَوْ لَا؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ عَلَى كَمَالِهِ؛ إِذْ قَدْ سَاوَى فِيهِ الصَّحِيحَ الْقَادِرَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ؛ فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؛ فَلَابُدَّ أَنَّهُ أَدَّاهُ عَلَى كَمَالِهِ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ بِالْقِيَامِ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قُلْتَ: إِنَّ الْعَزِيمَةَ مَعَ الرُّخْصَةِ مِنْ بَابِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛ فَأَيُّ الْخَصْلَتَيْنِ فَعَلَ فَعَلَى حُكْمِ الْوُجُوبِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَعَمَلُهُ بِالْعَزِيمَةِ عَمَلٌ عَلَى كَمَالٍ، وَقَدِ ارْتَفَعَ عَنْهُ حُكْمُ الِانْحِتَامِ، وَذَلِكَ مَعْنَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْعَزِيمَةِ بِالرُّخْصَةِ؛ فَقَدْ تَخَصَّصَتْ عُمُومَاتُ الْعَزَائِمِ بِالرُّخَصِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ؛ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْعُمُومَاتِ إِذْ ذَاكَ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ بَقَاءِ حُكْمِ الْعَزِيمَةِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى بَقَاءِ الْعَزِيمَةِ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حَتْمًا، وَمَعْنَى جَوَازِ التَّرَخُّصِ أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتْمًا، وَهُمَا قَضِيَّتَانِ مُتَنَاقِضَتَانِ، لَا تَجْتَمِعَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ؛ فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمْرٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَزِيمَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الْعَزِيمَةُ هُنَا بَاقِيَةً عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ الْمُنْحَتِمِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ لَا يُمْكِنُ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَزِيمَةَ مَعَ الرُّخْصَةِ لَيْسَتَا مِنْ بَابِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ إِذْ لَمْ يَأْتِ دَلِيلٌ ثَابِتٌ يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ التَّخْيِيرِ، بَلِ الَّذِي أَتَى فِي حَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَهَا؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ خَاصَّةً، لَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي فَصْلِ الْعَزَائِمِ وَالرُّخَصِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ؛ فَالْعَزِيمَةُ عَلَى كَمَالِهَا وَأَصَالَتِهَا فِي الْخِطَابِ بِهَا، وَلِلْمُخَالِفَةِ حُكْمٌ آخَرُ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ بِالْعَزِيمَةِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْخِطَابَ بِالرُّخْصَةِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ الْعَبْدِ؛ فَلَيْسَا بِوَارِدَيْنِ عَلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْجِهَاتُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ وَزَالَ التَّنَاقُضُ الْمُتَوَهَّمُ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَنَظِيرُ تَخَلُّفِ الْعَزِيمَةِ لِلْمَشَقَّةِ تَخَلُّفُهَا لِلْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْإِكْرَاهِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ مَعَ وُجُودِهَا مَعَ أَنَّ التَّخَلُّفَ غَيْرُ مُؤَثَّمٍ وَلَا مُوقِعٌ فِي مَحْظُورٍ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي مَعْنًى آخَرَ يَعُمُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرَهَا وَهُوَ أَنَّ الْعُمُومَاتِ الَّتِي هِيَ عَزَائِمُ إِذَا رُفِعَ الْإِثْمُ عَنِ الْمُخَالِفِ فِيهَا لِعُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ؛ فَأَحْكَامُ تِلْكَ الْعَزَائِمِ مُتَوَجَّهَةٌ عَلَى عُمُومِهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَنَّ الْأَعْذَارَ خَصَّصَتْهَا؛ فَعَلَى الْمَجَازِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلِنَعُدَّهَا مَسْأَلَةً عَلَى حِدَتِهَا، وَهِيَ:
وَالْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهَا مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ؛ فَالصَّوَابُ جَرَيَانُهَا عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ الْعَزَائِمُ مَعَ الرُّخَصِ، وَلِنَفْرِضِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعَيْن: أَحَدُهُمَا: فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْخَطَأُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فَتَنَاوَلَ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ؛ ظَهَرَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ كَشَارِبِ الْمُسْكِرِ يَظُنُّهُ حَلَالًا، وَآكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ أَوْ غَيْرِهِ يَظُنُّهُ مَتَاعَ نَفْسِهِ، أَوْ قَاتِلِ الْمُسْلِمِ يَظُنُّهُ كَافِرًا، أَوْ وَاطِئِ الْأَجْنَبِيَّةِ يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَفَاسِدَ الَّتِي حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لِأَجْلِهَا وَاقِعَةٌ أَوْ مُتَوَقَّعَةٌ، فَإِنَّ شَارِبَ الْمُسْكِرِ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ وَصَدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ قَدْ أَخَذَ مَالَهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ الضَّرَرُ وَالْفَقْرُ وَقَاتِلُ الْمُسْلِمِ قَدْ أَزْهَقَ دَمَ نَفْسٍ وَمَنْ قَتَلَهَا فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [الْمَائِدَة: 32] وَوَاطِئُ الْأَجْنَبِيَّةِ قَدْ تَسَبَّبَ فِي اخْتِلَاطِ نَسَبِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ؛ فَهَلْ يُسَوَّغُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهَا وَأَمَرَ بِهَا؟ كَلَّا، بَلْ عَذَرَ الْخَاطِئَ وَرَفَعَ الْحَرَجَ وَالتَّأْثِيمَ بِهَا، وَشَرَعَ مَعَ ذَلِكَ فِيهَا التَّلَافِي حَتَّى تَزُولَ الْمَفْسَدَةُ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْإِزَالَةُ؛ كَالْغَرَامَةِ، وَالضَّمَانِ فِي الْمَالِ، وَأَدَاءِ الدِّيَةِ مَعَ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ فِي النَّفْسِ، وَبَذْلِ الْمَهْرِ مَعَ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْوَاطِئِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الْأَعْرَاف: 28] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النَّحْل: 90] غَيْرَ أَنَّ عُذْرَ الْخَطَأِ رَفْعُ حُكْمِ التَّأْثِيمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا أَخْطَأَ الْحَاكِمُ فِي الْحُكْمِ؛ فَسَلَّمَ الْمَالَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، أَوِ الزَّوْجَةَ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، أَوْ أَدَّبَ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ تَأْدِيبًا وَتَرَكَ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بَرِيئَةً إِمَّا لِخَطَأٍ فِي دَلِيلٍ أَوْ فِي الشُّهُودِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 49] وَقَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاق: 2] فَإِذَا أَخْطَأَ فَحَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ؟ أَوْ أَشْهَدَ ذَوَيْ زُورٍ؛ فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَبُولِهِمْ وَبِإِشْهَادِهِمْ؟ هَذَا لَا يُسَوَّغُ بِنَاءً عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَحْكَامِ، تَفَضُّلًا كَمَا اخْتَرْنَاهُ، أَوْ لُزُومًا كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، غَيْرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي عَدَمِ إِصَابَتِهِ كَمَا مَرَّ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ وَهَذَا الْحَاكِمُ مَأْمُورًا بِمَا أَخْطَأَ فِيهِ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ؛ لَكَانَ الْأَمْرُ بِتَلَافِيهِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ، وَإِذْنٍ وَإِذْنٍ؛ إِذِ الْجَمِيعُ ابْتِدَائِيٌّ؛ فَالتَّلَافِي بَعْدَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ شَيْءٌ لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ. فَإِنِ الْتَزَمَ أَحَدٌ هَذَا الرَّأْيَ وَجَرَى عَلَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ، وَرَشَّحَهُ بِأَنَّ الْحَرَجَ مَوْضُوعٌ فِي التَّكَالِيفِ وَإِصَابَةِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَجٌ أَوْ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ بِمَا يَظُنُّهُ صَوَابًا، وَقَدْ ظَنَّهُ كَذَلِكَ؛ فَلْيَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ، وَالتَّلَافِي بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَانٍ بِخِطَابٍ جَدِيدٍ؛ فَهَذَا الرَّأْيُ جَارٍ عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ مَرَّ لَهُ تَقْرِيرٌ فِي فَصْلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَوْلَا أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ عَرَضَتْ لَكَانَ الْأَوْلَى تَرَكُ الْكَلَامِ فِيهَا لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا فِقْهٌ مُعْتَبَرٌ.
الْعُمُومُ إِذَا ثَبَتَ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ جِهَةِ صِيَغِ الْعُمُومِ فَقَطْ، بَلْ لَهُ طَرِيقَان: أَحَدُهُمَا: الصِّيَغُ إِذَا وَرَدَتْ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَالثَّانِي اسْتِقْرَاءُ مَوَاقِعِ الْمَعْنَى حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ فِي الذِّهْنِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ؛ فَيَجْرِي فِي الْحُكْمِ مَجْرَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الصِّيَغِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الثَّانِي وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ هَكَذَا شَأْنُهُ؛ فَإِنَّهُ تَصَفُّحُ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِيَثْبُتَ مِنْ جِهَتِهَا حُكْمٌ عَامٌّ؛ إِمَّا قَطْعِيٌّ، وَإِمَّا ظَنِّيٌّ، وَهُوَ أَمْرٌ مُسَلَّمٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ؛ فَإِذَا تَمَّ الِاسْتِقْرَاءُ حُكِمَ بِهِ مُطْلَقًا فِي كُلِّ فَرْدٍ يُقَدَّرُ، وَهُوَ مَعْنَى الْعُمُومِ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ هَذَا مَعْنَاهُ؛ فَإِنَّ جُودَ حَاتِمٍ مَثَلًا إِنَّمَا ثَبَتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَعَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، بِنَقْلِ وَقَائِعَ خَاصَّةٍ مُتَعَدِّدَةٍ تَفُوتُ الْحَصْرَ، مُخْتَلِفَةٍ فِي الْوُقُوعِ، مُتَّفِقَةٍ فِي مَعْنَى الْجُودِ، حَتَّى حَصَّلَتْ لِلسَّامِعِ مَعْنًى كُلِّيًّا حُكِمَ بِهِ عَلَى حَاتِمٍ وَهُوَ الْجُودُ، وَلَمْ يَكُنْ خُصُوصُ الْوَقَائِعِ قَادِحًا فِي هَذِهِ الْإِفَادَةِ، فَكَذَلِكَ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ مَثَلًا مَفْقُودٌ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ؛ فَإِنَّا نَسْتَفِيدُهُ مِنْ نَوَازِلَ مُتَعَدِّدَةٍ خَاصَّةٍ، مُخْتَلِفَةِ الْجِهَاتِ مُتَّفِقَةٍ فِي أَصْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، كَمَا إِذَا وَجَدْنَا التَّيَمُّمَ شُرِعَ عِنْدَ مَشَقَّةِ طَلَبِ الْمَاءِ، وَالصَّلَاةَ قَاعِدًا عِنْدَ مَشَقَّةِ الْقِيَامِ، وَالْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فِي السَّفَرِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السِّفْرِ وَالْمَرَضِ وَالْمَطَرِ، وَالنُّطْقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ مَشَقَّةِ الْقَتْلِ وَالتَّأْلِيمِ، وَإِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَشَقَّاتِ، وَالصَّلَاةَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ لِعُسْرِ اسْتِخْرَاجِ الْقِبْلَةِ، وَالْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَالْخُفَّيْنِ لِمَشَقَّةِ النَّزْعِ وَلِرَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْعَفْوَ فِي الصِّيَامِ عَمَّا يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، إِلَى جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا قَصْدُ الشَّارِعِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَإِنَّا نَحْكُمُ بِمُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي الْأَبْوَابِ كُلِّهَا، عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ؛ فَكَأَنَّهُ عُمُومٌ لَفْظِيٌّ، فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِنَّمَا عَمِلَ السَّلَفُ بِهَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَعَمَلِهِمْ فِي تَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَكَإِتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ فِي حَجِّهِ بِالنَّاسِ، وَتَسْلِيمِ الصَّحَابَةِ لَهُ فِي عُذْرِهِ الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِهَا الَّتِي عَمِلُوا بِهَا، مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ خَاصَّةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [الْبَقَرَة: 104] وَقَوْلِه: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَام: 108] وَفِي الْحَدِيث: «مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ» وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَهِيَ أُمُورٌ خَاصَّةٌ لَا تَتَلَاقَى مَعَ مَا حَكَمُوا بِهِ إِلَّا فِي مَعْنَى سَدِّ الذَّرِيعَةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ. فَإِنْ قِيلَ: اقْتِنَاصُ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّةِ غَيْرُ بَيِّنٍ، مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ لَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْعَقْلِيَّةَ بَسَائِطُ لَا تَقَبَلُ التَّرْكِيبَ، وَمُتَّفِقَةٌ لَا تَقْبَلُ الِاخْتِلَافَ؛ فَيَحْكُمُ الْعَقْلُ فِيهَا عَلَى الشَّيْءِ بِحُكْمِ مِثْلِهِ شَاهِدًا وَغَائِبًا؛ لِأَنَّ فَرْضَ خِلَافِهِ مُحَالٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الْوَضْعِيَّاتِ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَ النَّقْلِيَّاتِ، وَإِلَّا كَانَتْ هِيَ هِيَ بِعَيْنِهَا؛ فَلَا تَكُونُ وَضْعِيَّةً، هَذَا خَلْفٌ، وَإِذَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَهَا، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى وَفْقِ الِاخْتِيَارِ الَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمِثْلِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ؛ لَمْ يَصِحَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُقْتَنَصَ فِيهَا مَعْنًى كُلِّيٌّ عَامٌّ مِنْ مَعْنًى جُزْئِيٍّ خَاصٍّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ تَسْتَلْزِمُ مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامِّ، أَوْ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، وَهَذَا وَاضِحُ فِي الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ، وَإِذْ ذَاكَ لَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الْعَامِّ دُونَ التَّعَلُّقِ بِالْخَاصِّ عَلَى الِانْفِرَادِ، أَوْ بِهِمَا مَعًا؛ فَلَا يَتَعَيَّنُ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ؛ لَمْ يَصِحَّ نَظْمُ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ مِنْ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ إِلَّا عِنْدَ فَرْضِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ إِلَّا بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْعَامِّ دُونَ غَيْرِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَعِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا يَتَبَقَّى تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ فِي اسْتِفَادَةِ مَعْنًى عَامٍّ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِعُمُومِ صِيغَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ عَنْ هَذَا الْعَنَاءِ الطَّوِيلِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّخْصِيصَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ؛ فَيُخَصُّ مَحَلٌّ بِحُكْمٍ وَيُخَصُّ مِثْلُهُ بِحُكْمٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ؛ كَجَعْلِ التُّرَابِ طَهُورًا كَالْمَاءِ، وَلَيْسَ بِمُطَهِّرٍ كَالْمَاءِ، بَلْ هُوَ بِخِلَافِهِ، وَإِيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِهِمَا، وَسُقُوطِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَنِ الْحَائِضِ ثُمَّ قَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَتَحْصِينِ الْحُرَّةِ لِزَوْجِهَا وَلَمْ تُحْصِنِ الْأَمَةُ سَيِّدَهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَمَنْعِ النَّظَرِ إِلَى مَحَاسِنِ الْحُرَّةِ دُونَ مَحَاسِنِ الْأَمَةِ، وَقَطْعِ السَّارِقِ دُونَ الْغَاصِبِ وَالْجَاحِدِ وَالْمُخْتَلِسِ، وَالْجَلْدِ بِقَذْفِ الزِّنَى دُونَ غَيْرِهِ، وَقَبُولِ شَاهِدَيْنِ فِي كُلِّ حَدٍّ مَا سِوَى الزِّنَى، وَالْجَلْدِ بِقَذْفِ الْحُرِّ دُونَ قَذْفِ الْعَبْدِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ عِدَّتَيِ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ، وَحَالِ الرَّحِمِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِمَا وَاسْتِبْرَاءِ الْحُرَّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، وَالْأَمَةِ بِوَاحِدَةٍ، وَكَالتَّسْوِيَةِ فِي الْحَدِّ بَيْنَ الْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَبَيْنَ الزِّنَى وَالْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي دَمِ الْعَمْدِ، وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ، وَفِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ، وَبَيْنَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ مُسْتَوِيَانِ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمُفْتَرَقَانِ بِالتَّكْلِيفِ اللَّائِقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ كَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْعِدَّةِ، وَأَشْبَاهِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَالِاخْتِصَاصُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِصَاصُ فِيهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ؛ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجِهَادِ، وَالْإِمَامَةِ وَلَوْ فِي النِّسَاءِ، وَفِي الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ؛ فَفَرَّقَ بَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، مَعَ فَقْدِ الْفَارِقِ فِي الْقِسْمِ الْمُشْتَرِكِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْعَبْدُ، فَإِنَّ لَهُ اخْتِصَاصَاتٍ فِي الْقِسْمِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛لَمْ يَصِحَّ الْقَطْعُ بِأَخْذِ عُمُومٍ مِنْ وَقَائِعَ مُخْتَصَّةٍ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ إِمْكَانَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَطْعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَقَعَ مِثْلُهُ؛ فَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْوَضْعَ الِاخْتِيَارِيَّ الشَّرْعِيَّ مُمَاثِلٌ لِلْعَقْلِيِّ الِاضْطِرَارِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ حَتَّى فَهِمُوهُ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَمْ يَنْظِمُوا الْمَعْنَى الْعَامَّ مِنَ الْقَضَايَا الْخَاصَّةِ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ وَمَا بِهِ الِامْتِيَازُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَوْ كَانَتِ الْخُصُوصِيَّاتُ مُعْتَبَرَةً بِإِطْلَاقٍ لَمَا صَحَّ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ وَلَارْتَفَعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ رَأْسًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ الْإِشْكَالُ الْمُورَدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ؛ فَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ هُوَ الْجَوَابُ هُنَا.
وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَوَائِدُ تَنْبَنِي عَلَيْهَا أَصْلِيَّةٌ وَفَرْعِيَّةٌ وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا تَقَرَّرَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، ثُمَّ اسْتَقْرَى مَعْنًى عَامًّا مِنْ أَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ، وَاطَّرَدَ لَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ يَفْتَقِرْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى خُصُوصِ نَازِلَةٍ تَعِنُّ بَلْ يَحْكُمُ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً بِالدُّخُولِ تَحْتَ عُمُومِ الْمَعْنَى الْمُسْتَقْرَى مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِقِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ إِذْ صَارَ مَا اسْتُقْرِئَ مِنْ عُمُومِ الْمَعْنَى كَالْمَنْصُوصِ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ فَكَيْفَ يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى صِيغَةٍ خَاصَّةٍ بِمَطْلُوبِهِ؟ وَمَنْ فَهِمَ هَذَا هَانَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ إِشْكَالِ الْقَرَافِيِّ الَّذِي أَوْرَدَهُ عَلَى أَهْلِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، حَيْثُ اسْتَدَلُّوا فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا} [الْأَنْبِيَاء: 108] وَقَوْلِه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [الْبَقَرَة: 65] وَبِحَدِيث: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا» إِلَخْ وَقَوْلِه: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِّينٍ» قَالَ فَهَذِهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَهِيَ لَا تُفِيدُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعَ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ذَرَائِعَ خَاصَّةٍ، وَهِيَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا؛ فَيَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِلَّا؛ فَهَذِهِ لَا تُفِيدُ. قَالَ: وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ عَلَى هَذِهِ الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمُ الْقِيَاسَ خَاصَّةً وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ إِبْدَاءُ الْجَامِعِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِدَفْعِهِ بِالْفَارِقِ، وَيَكُونُ دَلِيلُهُمْ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُدْرَكَهُمُ النُّصُوصَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرُوا نُصُوصًا خَاصَّةً بِذَرَائِعَ بُيُوعِ الْآجَالِ خَاصَّةً وَيَقْتَصِرُونَ عَلَيْهَا؛ كَحَدِيثِ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ هَذَا مَا قَالَ فِي إِيرَادِ هَذَا الْإِشْكَالِ. وَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِأَنَّ الذَّرَائِعَ قَدْ ثَبَتَ سَدُّهَا فِي خُصُوصَاتٍ كَثِيرَةٍ بِحَيْثُ أَعْطَتْ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْنَى السَّدِّ مُطْلَقًا عَامًّا وَخِلَافُ الشَّافِعِيِّ هُنَا غَيْرُ قَادِحٍ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا الشَّافِعِيُّ؛ فَالظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ تَمَّ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِتَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ إِعْلَامًا بِعَدَمِ وُجُوبِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ صَرِيحٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ عَمَلُ جُمْلَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لَكِنْ عَارَضَهُ فِي مَسْأَلَةِ بُيُوعِ الْآجَالِ دَلِيلٌ آخَرُ رَاجِحٌ عَلَى غَيْرِهِ فَأَعْمَلَهُ؛ فَتَرَكَ سَدَّ الذَّرِيعَةِ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا تَرَكَهُ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ لَمْ يُعَدَّ مُخَالِفًا فِي أَصْلِهِ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ جَوَازُ إِعْمَالِ الْحِيَلِ؛ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْلِهِ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ إِلَّا الْجَوَازُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَرْكُهُ لِأَصْلِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَهَذَا وَاضِحٌ إِلَّا أَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ مُوَافَقَةُ مَالِكٍ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ فِيهَا وَإِنْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ الْمَسْأَلَةِ.
الْعُمُومَاتُ إِذَا اتَّحَدَ مَعْنَاهَا، وَانْتَشَرَتْ فِي أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ تَكَرَّرَتْ فِي مَوَاطِنَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ؛ فَهِيَ مُجْرَاةٌ عَلَى عُمُومِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْمُنْفَصِلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَرَّرَتْ أَنْ لَا حَرَجَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ تَسْتَثْنِ مِنْهُ مَوْضِعًا وَلَا حَالًا؛ فَعَدَّهُ عُلَمَاءُ الْمِلَّةِ أَصْلًا مُطَّرِدًا وَعُمُومًا مَرْجُوعًا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، وَلَا طَلَبِ مُخَصِّصٍ وَلَا احْتِشَامٍ مِنْ إِلْزَامِ الْحُكْمِ بِهِ، وَلَا تَوَقُّفٍ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِمَا فَهِمُوا بِالتَّكْرَارِ وَالتَّأْكِيدِ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى التَّعْمِيمِ التَّامِّ. وَأَيْضًا قَرَّرَتْ أَنَّ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْأَنْعَام: 164]، فَأَعْمَلَتِ الْعُلَمَاءُ الْمَعْنَى فِي مَجَارِي عُمُومِهِ، وَرَدُّوا مَا خَالَفَهُ مِنْ أَفْرَادِ الْأَدِلَّةِ بِالتَّأْوِيلِ وَغَيْرِهِ وَبَيَّنَتْ بِالتَّكْرَارِ أَنَّ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَأَبَى أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ تَخْصِيصِهِ، وَحَمَلُوهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً كَانَ لَهُ مِمَّنِ اقْتَدَى بِهِ حَظٌّ إِنْ حَسَنًا وَإِنْ سَيِّئًا وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا دَخَلَ النَّارَ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَكُلُّ أَصْلٍ تَكَرَّرَ تَقْرِيرُهُ وَتَأَكَّدَ أَمْرُهُ وَفُهِمَ ذَلِكَ مِنْ مَجَارِي الْكَلَامِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ عَلَى حَسَبِ عُمُومِهِ، وَأَكْثَرُ الْأُصُولِ تَكْرَارًا الْأُصُولُ الْمَكِّيَّةُ كَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالْبَغْيِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعُمُومُ مُكَرَّرًا وَلَا مُؤَكَّدًا وَلَا مُنْتَشِرًا فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ؛ فَالتَّمَسُّكُ بِمَجَرَّدِهِ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَلَابُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَمَّا يُعَارِضُهُ أَوْ يُخَصِّصُهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ فِيهِ التَّكْرَارُ وَالتَّأْكِيدُ وَالِانْتِشَارُ صَارَ ظَاهِرُهُ بِاحْتِفَافِ الْقَرَائِنِ بِهِ إِلَى مَنْزِلَةِ النَّصِّ الْقَاطِعِ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ بِخِلَافِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِاحْتِمَالَاتٍ؛ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي الْقَطْعِ بِمُقْتَضَاهُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَى غَيْرِهِ وَيُبْحَثَ عَنْ وُجُودِ مَعَارِضٍ فِيهِ.
وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي الْقَوْلُ فِي الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ وَهَلْ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمُخَصِّصِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ أَفَادَ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ فِيهِ إِلَى بَحْثٍ إِذْ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ إِلَّا حَيْثُ تُخَصِّصُ الْقَوَاعِدُ بَعْضَهَا بَعْضًا فَإِنْ قِيلَ: قَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ فِي أَنَّهُ يُمْنَعُ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ حَتَّى يُبْحَثَ هَلْ لَهُ مُخَصِّصٌ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ دَلِيلٌ مَعَ مُعَارَضِهِ؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَأَيْضًا فَالْبَحْثُ يُبْرِزُ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْعُمُومَاتِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَغَيْرُ مُخَصَّصٍ بَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ بَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يَحْصُلُ لِلْمُتَأَخِّرِ دُونَ بَحْثٍ بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَسَائِلُ: إِنَّ النَّبِيَّ كَانَ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ لَمَّا كَانَ مُكَلَّفًا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44] فَكَانَ يُبَيِّنُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الطَّلَاقِ «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» وَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاق: 8] إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِه: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ» إِنَّمَا عَنَيْتُ بِذَلِكَ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً وَكَانَ أَيْضًا يُبَيِّنُ بِفِعْلِهِ أَلَا أَخْبَرْتِهِ أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 50] وَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ بِفِعْلِهِ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَ«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ إِقْرَارُهُ بَيَانًا أَيْضًا إِذَا عَلِمَ بِالْفِعْلِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَارِهِ لَوْ كَانَ بَاطِلًا أَوْ حَرَامًا حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي مَسْأَلَةِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنْ نَصِيرُ مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهِيَ:
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَالِمَ وَارِثُ النَّبِيِّ؛ فَالْبَيَانُ فِي حَقِّهِ لَابُدَّ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَان: أَحَدُهُمَا: مَا ثَبَتَ مِنْ كَوْنِ «الْعُلَمَاءِ وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ» وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ ثَابِتٌ وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ وَارِثًا قِيَامُهُ مَقَامَ مَوْرُوثِهِ فِي الْبَيَانِ، وَإِذَا كَانَ الْبَيَانُ فَرْضًا عَلَى الْمَوْرُوثِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْوَارِثِ أَيْضًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْبَيَانِ بَيْنَ مَا هُوَ مُشْكِلٌ أَوْ مُجْمَلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَبَيْنَ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ فِي الْإِتْيَانِ بِهَا؛ فَأَصْلُ التَّبْلِيغِ بَيَانٌ لِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ، وَبَيَانُ الْمُبَلِّغِ مِثْلُهُ بَعْدَ التَّبْلِيغِ. وَالثَّانِي: مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلَمَاءِ؛ فَقَدْ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 159] {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَة: 42] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 140] وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ. وَفِي الْحَدِيث: «أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ» وَقَالَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْن: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالَا؛ فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ؛ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» وَقَالَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ». وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَالْبَيَانُ يَشْمَلُ الْبَيَانَ الِابْتِدَائِيَّ وَالْبَيَانَ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ وَالتَّكَالِيفَ الْمُتَوَجِّهَةَ؛ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَالِمَ يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْبَنَى عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ وَهِيَ:
فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ الْبَيَانُ يَتَأَتَّى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ فَلَابُدَّ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَالِمِ، كَمَا حَصَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَكَذَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِمَّنْ صَارَ قُدْوَةً فِي النَّاسِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ، فَلَا نَطُولُ بِهِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ تَكْرَارٌ.
إِذَا حَصَلَ الْبَيَانُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الْمُطَابِقِ لِلْقَوْلِ؛ فَهُوَ الْغَايَةُ فِي الْبَيَانِ كَمَا إِذَا بَيَّنَ الطَّهَارَةَ أَوِ الصَّوْمَ أَوِ الصَّلَاةَ أَوِ الْحَجَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْعَادَاتِ، فَإِنْ حَصَلَ بِأَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيَانٌ أَيْضًا؛ إِلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ قَاصِرٌ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ مِنْ وَجْهٍ، بَالِغٌ أَقْصَى الْغَايَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَالْفِعْلُ بَالِغٌ مِنْ جِهَةِ بَيَانِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا الْبَيَانُ الْقَوْلِيُّ، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّلَاةَ بِفِعْلِهِ لِأُمَّتِهِ، كَمَا فَعَلَ بِهِ جِبْرِيلُ حِينَ صَلَّى بِهِ، وَكَمَا بَيَّنَ الْحَجَّ كَذَلِكَ وَالطَّهَارَةَ كَذَلِكَ، وَإِنْ جَاءَ فِيهَا بَيَانٌ بِالْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عُرِضَ نَصُّ الطَّهَارَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عَيْنِ مَا تُلُقِّيَ بِالْفِعْلِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ الْمُدْرَكُ بِالْحِسِّ مِنِ الْفِعْلِ فَوْقَ الْمُدْرَكِ بِالْعَقْلِ مِنَ النَّصِّ لَا مَحَالَةَ مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. وَهَبْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَادَ بِالْوَحْيِ الْخَاصِّ أُمُورًا لَا تُدْرَكُ مِنَ النَّصِّ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَتِلْكَ الزِّيَادَاتُ بَعْدَ الْبَيَانِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى النَّصِّ لَمْ يُنَافِهَا بَلْ يَقْبَلْهَا؛ فَآيَةُ الْوُضُوءِ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهَا فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْوُضُوءِ شَمِلَهُ بِلَا شَكٍّ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْحَجِّ مَعَ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ، وَلَوْ تَرَكَنَا وَالنَّصَّ؛ لَمَا حَصَلَ لَنَا مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ، بَلْ أَمْرٌ أَقَلُّ مِنْهُ، وَهَكَذَا نَجِدُ الْفِعْلَ مَعَ الْقَوْلِ أَبَدًا، بَلْ يَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُوجَدَ قَوْلٌ لَمْ يُوجَدْ لِمَعْنَاهُ الْمُرَكَّبِ نَظِيرٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمُعْتَادَةِ الْمَحْسُوسَةِ، بِحَيْثُ إِذَا فَعَلَ الْفِعْلَ عَلَى مُقْتَضَى مَا فُهِمَ مِنَ الْقَوْلِ؛ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا إِخْلَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَائِطُهُ مُعْتَادَةً كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا يَقْرُبُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْفِعْلِيُّ بَسِيطٌ، وَوُجِدَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمُعْتَادِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ إِحَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُعْتَادٍ فَبِهِ حَصَلَ الْبَيَانُ لَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَقُمِ الْقَوْلُ هُنَا فِي الْبَيَانِ مَقَامَ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَالْفِعْلُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ يَقْصُرُ عَنِ الْقَوْلِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بَيَانٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَشْخَاصِ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ ذُو صِيَغٍ تَقْتَضِي هَذِهِ الْأُمُورَ وَمَا كَانَ نَحْوَهَا، بِخِلَافِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَعَلَى زَمَانِهِ، وَعَلَى حَالَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَعَدٍّ عَنْ مَحَلِّهِ أَلْبَتَّةَ، فَلَوْ تُرِكْنَا وَالْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا؛ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا مِنْهُ غَيْرُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَعَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ. فَيَبْقَى عَلَيْنَا النَّظَرُ: هَلْ يَنْسَحِبُ طَلَبُ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ أَوْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهَذَا الزَّمَانِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِهِ وَحْدَهُ، أَوْ يَكُونُ حُكْمُ أُمَّتِهِ حُكْمَهُ؟. ثُمَّ بَعَدَ النَّظَرِ فِي هَذَا يَتَصَدَّى نَظَرٌ آخَرُ فِي حُكْمِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ: مِنْ أَيِّ نَوْعٍ هُوَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؟. وَجَمِيعُ ذَلِكَ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ لَا يَتَبَيَّنُ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ؛ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَاصِرٌ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ إِقَامَةُ الْفِعْلِ مَقَامَ الْقَوْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا بَيِّنٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَاب: 21] وَقَالَ حِينَ بَيَّنَ بِفِعْلِهِ الْعِبَادَات: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، «وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِيَسْتَمِرَّ الْبَيَانُ إِلَى أَقْصَاهُ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْبَيَانَيْنِ؛ فَلَا يُقَالُ: أَيُّهُمَا أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ؛ الْقَوْلُ، أَمِ الْفِعْلُ؟ إِذْ لَا يَصْدُقَانِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ إِلَّا فِي الْفِعْلِ الْبَسِيطِ الْمُعْتَادِ مِثْلِهِ إِنِ اتَّفَقَ؛ فَيَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، وَهُنَالِكَ يُقَالُ: أَيُّهُمَا أَبْلَغُ، أَوْ أَيُّهُمَا أَوْلَى؟ كَمَسْأَلَةِ الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَمِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ ذَلِكَ وَالَّذِي وُضِعَ إِنَّمَا هُوَ فِعْلُهُ ثُمَّ غُسْلُهُ؛ فَهُوَ الَّذِي يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَقَامَ صَاحِبِهِ، أَمَّا حُكْمُ الْغُسْلِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ وَتَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ فِيهِ فَيَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ بَيَانًا؛ فَالْفِعْلُ شَاهِدٌ لَهُ وَمُصَدِّقٌ، أَوْ مُخَصِّصٌ أَوْ مُقَيِّدٌ، وَبِالْجُمْلَةِ عَاضِدٌ لِلْقَوْلِ حَسْبَمَا قُصِدَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَرَافِعٌ لِاحْتِمَالَاتٍ فِيهِ تَعْتَرِضُ فِي وَجْهِ الْفَهْمِ، إِذَا كَانَ مُوَافِقًا غَيْرَ مُنَاقِضٍ، وَمُكَذِّبٌ لَهُ أَوْ مُوقِعٌ فِيهِ رِيبَةً أَوْ شُبْهَةً أَوْ تَوَقُّفًا إِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ إِيجَابِ الْعِبَادَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِ الْفُلَانِيِّ، ثُمَّ فَعَلَهُ هُوَ وَلَمْ يُخِلَّ بِهِ فِي مُقْتَضَى مَا قَالَ فِيهِ؛ قَوِيَ اعْتِقَادُ إِيجَابِهِ، وَانْتَهَضَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ سَمِعَهُ يُخْبِرُ عَنْهُ وَرَآهُ يَفْعَلُهُ وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ تَحْرِيمِهِ مَثَلًا، ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَمْ يُرَ فَاعِلًا لَهُ وَلَا دَائِرًا حَوَالَيْهِ؛ قَوِيَ عِنْدَ مُتْبِعِهِ مَا أُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْبَرَ عَنْ إِيجَابِهِ ثُمَّ قَعَدَ عَنْ فِعْلِهِ أَوْ أَخْبَرَ عَنْ تَحْرِيمِهِ ثُمَّ فَعَلَهُ فَإِنَّ نُفُوسَ الْأَتْبَاعِ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُ طُمَأْنِينَتَهَا إِذَا ائْتَمَرَ وَانْتَهَى بَلْ يَعُودُ مِنَ الْفِعْلِ إِلَى الْقَوْلِ مَا يَقْدَحُ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ إِمَّا مِنْ تَطْرِيقِ احْتِمَالٍ إِلَى الْقَوْلِ، وَإِمَّا مِنْ تَطْرِيقِ تَكْذِيبٍ إِلَى الْقَائِلِ، أَوِ اسْتِرَابَةٍ فِي بَعْضِ مَآخِذِ الْقَوْلِ، مَعَ أَنَّ التَّأَسِّيَ فِي الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُعَظَّمُ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا كَالْمَغْرُورِ فِي الْجِبِلَّةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعِيَانِ؛ فَيَصِيرُ الْقَوْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَائِلِ كَالتَّبَعِ لِلْفِعْلِ؛ فَعَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ الْقَائِلُ فِي مُوَافَقَةِ فِعْلِهِ لِقَوْلِهِ يَكُونُ اتِّبَاعُهُ وَالتَّأَسِّي بِهِ، أَوْ عَدَمُ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الرُّتْبَةِ الْقُصْوَى مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَانَ الْمُتَّبِعُونَ لَهُمْ أَشَدُّ اتِّبَاعًا، وَأَجْرَى عَلَى طَرِيقِ التَّصْدِيقِ بِمَا يَقُولُونَ، مَعَ مَا أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ شَوَاهِدَ الْعَادَاتِ تُصَدِّقُ الْأَمْرَ أَوْ تُكَذِّبُهُ؛ فَالطَّبِيبُ إِذَا أَخْبَرَكَ بِأَنَّ هَذَا الْمُتَنَاوَلَ سُمٌّ فَلَا تَقْرَبْهُ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَنَاوُلِهِ دُونَكَ، أَوْ أَمَرَكَ بِأَكْلِ طَعَامٍ أَوْ دَوَاءٍ لِعِلَّةٍ بِكَ وَمِثْلُهَا بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ؛ دَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى خَلَلٍ فِي الْإِخْبَارِ، أَوْ فِي فَهْمِ الْخَبَرِ؛ فَلَمْ تَطْمَئِنَّ النَّفْسُ إِلَى قَبُولِ قَوْلِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} الْآيَةَ [الصَّفّ: 2] وَيَخْدِمُ هَذَا الْمَعْنَى الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَصِدْقُ الْوَعْدِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَاب: 23]. وَقَالَ فِي ضِدِّه: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إِلَى قَوْلِه: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التَّوْبَة: 75- 77] فَاعْتُبِرَ فِي الصِّدْقِ كَمَا تَرَى مُطَابَقَةُ الْفِعْلِ الْقَوْلَ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الصِّدْقِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ؛ فَهَكَذَا إِذَا أَخْبَرَ الْعَالِمُ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؛ فَإِنَّمَا يُرِيدُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَأَنَا مِنْهُمْ؛ فَإِنْ وَافَقَ صَدَقَ وَإِنْ خَالَفَ كَذَبَ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُنْتَصِبَ لِلنَّاسِ فِي بَيَانِ الدِّينِ مُنْتَصِبٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَإِنَّهُ وَارِثُ النَّبِيِّ، وَالنَّبِيُّ كَانَ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَكَذَلِكَ الْوَارِثُ لَابُدَّ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الْأَحْكَامَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِقْرَارَاتِهِ وَسُكُوتِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ فَكَذَلِكَ الْوَارِثُ، فَإِنْ كَانَ فِي التَّحَفُّظِ فِي الْفِعْلِ كَمَا فِي التَّحَفُّظِ فِي الْقَوْلِ؛ فَهُوَ ذَلِكَ وَصَارَ مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى هُدًى، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ صَارَ مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى خِلَافِ الْهُدَى، لَكِنْ بِسَبَبِهِ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُبَّمَا تَوَقَّفُوا عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي أَبَاحَهُ لَهُمُ السَّيِّدُ الْمَتْبُوعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ، حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِفِعْلِهِ وَإِنَّ تَقَدَّمَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ أَرْجَحَ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ؛ حَتَّى إِذَا فَعَلَهُ اتَّبَعُوهُ فِي فِعْلِهِ كَمَا فِي التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ، هَذَا وَكُلٌّ صَحِيحٌ؛ فَمَا ظَنَّكَ بِمَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ؟ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُبَيِّنَ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ، وَيُحَافِظَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ؛ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ الْمُبَيَّنِ خَلَلٌ، بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنِ اعْتُبِرَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِالْفِعْلِ؛ فَلْيُعْتَبَرْ فِي تَرْكِ اتِّبَاعِ الْقَوْلِ، وَإِذْ ذَاكَ يَقَعُ فِي الرُّتْبَةِ فَسَادٌ لَا يُصْلَحُ، وَخَرْقٌ لَا يُرْقَعُ؛ فَلَابُدَّ أَنْ يَجْرِيَ الْفِعْلُ مَجْرَى الْقَوْلِ، وَلِهَذَا تُسْتَعْظَمُ شَرْعًا زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَتَصِيرُ صَغِيرَتُهُ كَبِيرَةً مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ جَارِيَةً فِي الْعَادَةِ عَلَى مَجْرَى الِاقْتِدَاءِ، فَإِذَا زَلَّ حُمِلَتْ زَلَّتُهُ عَنْهُ قَوْلًا كَانَتْ أَوْ فِعْلًا لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَنَارًا يُهْتَدَى بِهِ، فَإِنْ عُلِمَ كَوْنُ زَلَّتِهِ زَلَّةً؛ صَغُرَتْ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَجَسَرَ عَلَيْهَا النَّاسُ تَأَسِّيًا بِهِ، وَتَوَهَّمُوا فِيهَا رُخْصَةً عَلِمَ بِهَا وَلَمْ يَعْلَمُوهَا هُمْ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، وَإِنْ جُهِلَ كَوْنُهَا زَلَّةً؛ فَأَحْرَى أَنْ تُحْمَلَ عَنْهُ مَحْمَلَ الْمَشْرُوعِ وَذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «إِنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ» قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمِ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ». وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِثَلَاثٍ: دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ، وَزَلَّةِ عَالِمٍ، وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ عَنْ سَلْمَانَ أَيْضًا وَشَبَّهَ الْعُلَمَاءُ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِكَسْرِ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْهُ؛ فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ وَهَذِهِ الْأُمُورُ حَقِيقٌ أَنَّ تَهْدِمَ الدِّينَ، أَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ؛ فَكَمَا تَقَدَّمَ، وَمِثَالُ كَسْرِ السَّفِينَةِ وَاقِعٌ فِيهَا، وَأَمَّا الْحُكْمُ الْجَائِرُ؛ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَأَمَّا الْهَوَى الْمُتَّبَعُ فَهُوَ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَمَّا الْجِدَالُ بِالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ اللَّسِنِ الْأَلَدِّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِتَنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَهِيبٌ جِدًّا، فَإِنْ جَادَلَ بِهِ مُنَافِقٌ عَلَى بَاطِلٍ أَحَالَهُ حَقًّا وَصَارَ مَظِنَّةً لِلِاتِّبَاعِ عَلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْمُجَادِلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخَوَارِجُ فِتْنَةً عَلَى الْأُمَّةِ؛ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ جَادَلُوا بِهِ عَلَى مُقْتَضَى آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَوَثَّقُوا تَأْوِيلَاتِهِمْ بِمُوَافَقَةِ الْعَقْلِ لَهَا؛ فَصَارُوا فِتْنَةً عَلَى النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ لِأَنَّهُمْ بِمَا مَلَكُوا مِنَ السَّلْطَنَةِ عَلَى الْخَلْقِ وَقَدَرُوا عَلَى رَدِّ الْحَقِّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلِ حَقًّا، وَأَمَاتُوا سُنَّةَ اللَّهِ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الشَّيْطَانِ، وَأَمَّا الدُّنْيَا؛ فَمَعْلُومٌ فِتْنَتُهَا لِلْخَلْقِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَقْوَى فِي التَّأَسِّي وَالْبَيَانِ إِذَا جَامَعَتِ الْأَقْوَالَ مِنِ انْفِرَادِ الْأَقْوَالِ، فَاعْتِبَارُهَا فِي نَفْسِهَا لِمَنْ قَامَ فِي مَقَامِ الِاقْتِدَاءِ أَكِيدٌ لَازِمٌ، بَلْ يُقَالُ: إِذَا اعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ مَنْ هُوَ فِي مَظِنَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَمَنْزِلَةِ التَّبْيِينِ؛ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ تَفَقُّدُ جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَا هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ لَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ اعْتِبَارَيْنِ أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَتَفَصَّلُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ. وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ صَارَ فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَأَحْوَالُهُ بَيَانًا وَتَقْرِيرًا لِمَا شَرَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا انْتَصَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا وَالْأَفْعَالُ فِي حَقِّهِ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُحَرَّمٌ، وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا لِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُبَيِّنٌ، وَالْبَيَانُ وَاجِبٌ لَا غَيْرُ، فَإِذَا كَانَ مِمَّا يُفْعَلُ؛ أَوْ يُقَالُ؛ كَانَ وَاجِبَ الْفِعْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُفْعَلُ؛ فَوَاجِبُ التَّرْكِ حَسْبَمَا يَتَقَرَّرُ بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ هُوَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ لَكِنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقْتَدَى بِهِ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ حَيْثُ تُوجَدُ مَظِنَّةُ الْبَيَانِ؛ إِمَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بِحُكْمِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، وَإِمَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ خِلَافِ الْحُكْمِ، أَوْ مَظِنَّةِ اعْتِقَادِ خِلَافِهِ. فَالْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ بَيَانُهُ بِالْفِعْلِ، أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي يُوَافِقُ الْفِعْلَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَنْدُوبًا مَجْهُولَ الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا وَمَظِنَّةً لِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ؛ فَبَيَانُهُ بِالتَّرْكِ، أَوْ بِالْقَوْلِ الَّذِي يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ التَّرْكُ، كَمَا فَعَلَ فِي تَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ وَتَرْكِ صِيَامِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَظِنَّةً لِاعْتِقَادِ عَدَمِ الطَّلَبِ أَوْ مَظِنَّةً لِلتَّرْكِ؛ فَبَيَانُهُ بِالْفِعْلِ وَالدَّوَامِ فِيهِ عَلَى وَزَانِ الْمَظِنَّةِ؛ كَمَا فِي السُّنَنِ وَالْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي تُنُوسِيَتْ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ. وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ بَيَانُهُ بِالتَّرْكِ، أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي يُسَاعِدُهُ التَّرْكُ إِنْ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا؛ فَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ مَظِنَّةً لِاعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ وَتَرَجَّحَ بَيَانُهُ بِالْفِعْلِ تَعَيَّنَ الْفِعْلُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ وَأَقْرَّ بِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَاب: 21] وَقَالَ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 50] وَفِي حَدِيثِ الْمُصْبِحِ جُنُبًا قَوْلُهُ: «وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَتَرْغَبُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصْنَعُ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَن: لَا وَاللَّهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ زِيَادِ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَسُوقُ رَاحِلَتَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَهُوَ يَقُولُ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا *** إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَفْعَلْ لَمِيسَا قَالَ: فَذَكَرَ الْجِمَاعَ بِاسْمِهِ؛ فَلَمْ يُكَنِّ عَنْهُ قَالَ فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! أَتَتَكَلَّمُ بِالرَّفَثِ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا الرَّفَثُ مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ كَأَنَّهُ رَأَى مَظِنَّةَ هَذَا الِاعْتِقَادِ فَنَفَاهُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 197] وَأَنَّ الرَّفَثَ لَيْسَ إِلَّا مَا كَانَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَ مَظِنَّةً لِاعْتِقَادِ الطَّلَبِ أَوْ مَظِنَّةً لِأَنْ يُثَابِرَ عَلَى فِعْلِهِ؛ فَبَيَانُهُ بِالتَّرْكِ جُمْلَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ أَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَكِنْ فِي الْإِبَاحَةِ أَوْ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ؛ كَمَا فِي سُجُودِ الشُّكْرِ عِنْدَ مَالِكٍ وَكَمَا فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ، حَسْبَمَا بَيَّنَهُ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ، وَسَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمُرَاعَى هَاهُنَا مَوَاضِعُ طَلَبِ الْبَيَانِ الشَّافِي الْمُخْرِجِ عَنِ الْأَطْرَافِ وَالِانْحِرَافَاتِ، وَالرَّادِّ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيَرَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ تَبَيَّنَ مَا تَقَرَّرَ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَلَابُدَّ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ أَوْ بَعْضِهَا حَتَّى يَظْهَرَ فِيهَا الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
|