الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
كُلُّ خَصْلَةٍ أُمِرَ بِهَا، أَوْ نُهِيَ عَنْهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ فَلَيْسَ الْأَمْرُ، أَوِ النَّهْيُ فِيهَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ مِنَ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ، وَمُوَاسَاةِ ذِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَالِاقْتِصَادِ فِي الْإِنْفَاقِ وَالْإِمْسَاكِ وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّوْفِيَةِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ وَاتِّبَاعِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالذِّكْرِ لِلَّهِ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَالْخَشْيَةِ وَالصَّفْحِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّفْوِيضِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ، وَحِفْظِ الْأَمَانَةِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّوَكُّلِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَابْتِغَاءِ الْآخِرَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالتَّقْوَى وَالتَّوَاضُعِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّزْكِيَةِ وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِشْفَاقِ وَالْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَالتَّبَتُّلِ، وَهَجْرِ الْجَاهِلِينَ، وَتَعْظِيمِ اللَّهِ وَالتَّذَكُّرِ وَالتَّحَدُّثِ بِالنِّعَمِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْحَقِّ وَالرَّهْبَةِ وَالرَّغْبَةِ، وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ وَالْمُرَاقَبَةُ، وَقَوْلُ الْمَعْرُوفِ وَالْمُسَارِعَةُ إِلَى الْخَيِّرَاتِ، وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالتَّثَبُّتُ فِي الْأُمُورِ وَالصَّمْتُ وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ وَإِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالْإِخْبَاتُ وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ وَالشَّدَّةُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالرَّحْمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالصَّدَقَةُ هَذَا كُلُّهُ فِي الْمَأْمُورَاتِ. وَأَمَّا الْمَنْهِيَّاتُ فَالظُّلْمُ وَالْفُحْشُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَاتِّبَاعُ السُّبُلِ الْمُضِلَّةِ وَالْإِسْرَافُ وَالْإِقْتَارُ وَالْإِثْمُ وَالْغَفْلَةُ وَالِاسْتِكْبَارُ وَالرِّضَا بِالدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَالتَّفَرُّقُ فِي الْأَهْوَاءِ شِيَعًا وَالْبَغْيُ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَكُفْرُ النِّعْمَةِ وَالْفَرَحُ بِالدُّنْيَا وَالْفَخْرُ بِهَا وَالْحُبُّ لَهَا، وَنَقْصُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ وَاتِّبَاعُ الْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَالطُّغْيَانُ وَالرُّكُونُ لِلظَّالِمِينَ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الذَّكَرِ، وَنَقْضُ الْعَهْدِ وَالْمُنْكَرُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالتَّبْذِيرُ وَاتِّبَاعُ الظُّنُونِ وَالْمَشْيُ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا وَطَاعَةُ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَالْإِشْرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْإِجْرَامُ وَلَهْوُ الْقَلْبِ وَالْعُدْوَانُ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالْكَذِبُ وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ وَالْقُنُوطُ وَالْخُيَلَاءُ وَالِاغْتِرَارُ بِالدُّنْيَا وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَالتَّكَلُّفُ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالِاسْتِعْجَالُ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالنَّمِيمَةُ وَالشُّحُّ وَالْهَلَعُ وَالدَّجَرُ وَالْمَنُّ وَالْبُخْلُ وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ وَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلَاةِ وَالرِّيَاءُ، وَمَنْعُ الْمَرَافِقِ، وَكَذَلِكَ اشْتِرَاءُ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلُبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَكَتْمُ الْعِلْمِ، وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ وَاتِّبَاعُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَإِتْبَاعُ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَاتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهِ وَاتِّخَاذُ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ، وَحُبُّ الْحَمْدِ بِمَا لَمْ يُفْعَلْ وَالْحَسَدُ وَالتَّرَفُّعُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَالرِّضَا بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وَالْوَهْنُ لِلْأَعْدَاءِ وَالْخِيَانَةُ وَرَمْيُ الْبَرِيءِ بِالذَّنَبِ، وَهُوَ الْبُهْتَانُ، وَمُشَاقَّةُ اللَّهِ، وَالرَّسُولِ وَاتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَيْلُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْجَهْرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَالِارْتِشَاءُ عَلَى إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَنِسْيَانُ اللَّهِ وَالنِّفَاقُ، وَعِبَادَةُ اللَّهِ عَلَى حَرْفٍ وَالظَّنُّ وَالتَّجَسُّسُ وَالْغِيبَةُ وَالْحَلِفُ الْكَاذِبَةُ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي وَرَدَتْ مُطْلَقَةً فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِحَدٍّ مَحْدُودٍ إِلَّا أَنَّ مَجِيئَهَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، لَكِنْ بِحَسَبِ كُلِّ مَقَامٍ، وَعَلَى مَا تُعْطِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ وَلَا حُكْمٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وُكِلَ ذَلِكَ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ فَيَزِنُ بِمِيزَانِ نَظَرِهِ، وَيَتَهَدَّى لِمَا هُوَ اللَّائِقُ وَالْأَحْرَى فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ آخِذًا مَا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَحَاسِنِ الْعَادِيَّةِ كَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَإِنْفَاقِ عَفْوِ الْمَالِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِه: فِي الْحَدِيث: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» الْحَدِيثَ إِلَخْ. فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْل: 90] لَيْسَ الْإِحْسَانُ فِيهِ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرًا جَازِمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا غَيْرَ جَازِمٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الْمَنَاطَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ إِحْسَانَ الْعِبَادَاتِ بِتَمَامِ أَرْكَانِهَا مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ، وَإِحْسَانَهَا بِتَمَامِ آدَابِهَا مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ. وَمِنْهُ إِحْسَانُ الْقِتْلَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَإِحْسَانُ الذَّبْحِ إِنَّمَا هُوَ مَنْدُوبٌ لَا وَاجِبٌ. وَقَدْ يَكُونُ فِي الذَّبْحِ مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ إِذَا كَانَ هَذَا الْإِحْسَانُ رَاجِعًا إِلَى تَتْمِيمِ الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ، وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ فِي عَدَمِ الْمَشْيِ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ كَالْعَدْلِ فِي أَحْكَامِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، وَغَيْرِهَا، فَلَا يَصِحُّ إِذًا إِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْل: 90] أَنَّهُ أَمْرُ إِيجَابٍ، أَوْ أَمْرُ نَدْبٍ حَتَّى يُفَصَّلَ الْأَمْرُ فِيهِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ تَارَةً، وَإِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا تَارَةً أُخْرَى بِحَسَبِ ظُهُورِ الْمَعْنَى، وَخَفَائِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَأْتِيَ فِي أَقْصَى مَرَاتِبِهَا وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْوَعِيدَ مَقْرُونًا بِهَا فِي الْغَالِبِ، وَتَجِدُ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْهَا أَوْصَافًا لِمَنْ مَدَحَ اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَنْهِيَّ عَنْهَا أَوْصَافًا لِمَنْ ذَمَّ اللَّهُ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَيُعَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَسْبَابُ التَّنْزِيلِ لِمَنِ اسْتَقْرَأَهَا فَكَانَ الْقُرْآنُ آتِيًا بِالْغَايَاتِ تَنْصِيصًا عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ كَانَ الْحَالُ وَالْوَقْتُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَمُنَبِّهًا بِهَا عَلَى مَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى يَكُونَ الْعَقْلُ يَنْظُرُ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ مَا دَلَّهُ دَلِيلُ الشَّرْعِ فَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَرَاتِبِ بِحَسَبِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَيْ لَا يَسْكُنَ إِلَى حَالَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّرَفِ الْمَذْمُومِ، أَوْ مَظِنَّةُ الرَّجَاءِ لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّرَفِ الْمَحْمُودِ تَرْبِيَةُ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ مَوْتِهِ حِينَ قَالَ لَهُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّخَاءِ مَعَ آيَةِ الشِّدَّةِ، وَآيَةُ الشِّدَّةِ مَعَ آيَةِ الرَّخَاءِ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا رَاهِبًا، فَلَا يَرْغَبُ رَغْبَةً يَتَمَنَّى فِيهَا عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُ وَلَا يَرْهَبُ رَهْبَةً يُلْقِي فِيهَا بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَوَلَمَ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ حُسْنٍ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَكُونَ مِنْهُمْ، وَذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَجَاوَزَ لَهُمْ عَمَّا كَانَ لَهُمْ مِنْ سَيِّئٍ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ إِنِّي مُقَصِّرٌ أَيْنَ عَمَلِي مِنْ أَعْمَالِهِمْ؟ هَذَا مَا نَقَلَ، وَهُوَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ صَحَّ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ. وَقَدْ رُوِيَ: أَوْ لَمْ تَرَ يَا عُمَرُ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ حَسَنٍ فَيَقُولُ قَائِلٌ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُمْ فَيَطْمَعُ، وَذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَجَاوَزَ لَهُمْ عَمَّا كَانَ لَهُمْ مِنْ سَيِّئٍ فَيَقُولُ قَائِلٌ مِنْ أَيْنَ أُدْرِكُ دَرَجَتَهُمْ فَيَجْتَهِدُ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَحِيحٌ أَيْضًا يَتَنَزَّلُ عَلَى الْمُسَاقِ الْمَذْكُورِ، فَإِذَا كَانَ الطَّرَفَانِ مَذْكُورَيْنِ كَانَ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَائِلًا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْأَخِيَّتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ فِي مَحَلٍّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ لَفْظًا مُنَبَّهٍ عَلَيْهِ تَحْتَ نَظَرِ الْعَقْلِ لِيَأْخُذَ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ، وَدِقَّةِ نَظَرِهِ، وَيَقَعُ التَّوَازُنُ بِحَسَبِ الْقُرْبِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْآخَرِ. وَأَيْضًا فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ آتِيًا بِالطَّرَفَيْنِ الْغَائِبَيْنِ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْمُسَاقُ فَإِنَّمَا أَتَى بِهِمَا فِي عِبَارَاتٍ مُطْلَقَةٍ تُصَدَّقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَكَمَا يَدُلُّ الْمُسَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَقْصَى الْمَحْمُودِ، أَوِ الْمَذْمُومِ فِي ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ كَذَلِكَ قَدْ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ مُقْتَضَاهُ فَيَزِنُ الْمُؤْمِنُ أَوْصَافَهُ الْمَحْمُودَةَ فَيَخَافُ، وَيَرْجُو، وَيَزِنُ أَوْصَافَهُ الْمَذْمُومَةَ فَيَخَافُ أَيْضًا، وَيَرْجُو. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْل: 90] فَوَزَنَ نَفْسَهُ فِي مِيزَانِ الْعَدْلِ عَالِمًا أَنَّ أَقْصَى الْعَدْلِ الْإِقْرَارُ بِالنِّعَمِ لِصَاحِبِهَا وَرَدُّهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ شُكْرُهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْكُفْرِ، وَاطِّرَاحُ تَوَابِعِهِ، فَإِنْ وَجَدَ نَفْسَهُ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ فَهُوَ يَرْجُو أَنَّ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ يَبْلُغَ فِي هَذَا الْمَدَى غَايَتَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَوْفِيَةِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنْ نَظَرَ بِالتَّفْصِيلِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّ الْعَدْلَ كَمَا يُطْلَبُ فِي الْجُمْلَةِ يُطْلَبُ فِي التَّفْصِيلِ كَالْعَدْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ إِنْ كَانَ حَاكِمًا وَالْعَدْلُ فِي أَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ، وَنَفْسِهِ حَتَّى الْعَدْلِ فِي الْبَدْءِ بِالْمَيَامِنِ فِي لِبَاسِ النَّعْلِ، وَنَحْوِهِ كَمَا أَنَّ هَذَا جَارٍ فِي ضِدِّهِ، وَهُوَ الظُّلْمُ، فَإِنَّ أَعْلَاهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13]، ثُمَّ فِي التَّفَاصِيلِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ أَدْنَاهَا مَثَلًا الْبَدْءُ بِالْمَيَاسِرِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَوْصَافِ وَأَضْدَادُهَا، فَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ. فَلِأَجْلِ هَذَا قِيلَ: إِنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الْفَرَائِضِ، أَوْ مِنَ النَّوَافِلِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ لَكِنَّهَا وُكِلَتْ إِلَى أَنْظَارِ الْمُكَلَّفِينَ لِيَجْتَهِدُوا فِي نَحْوِ هَذِهِ الْأُمُورِ. كَانَ النَّاسُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَتَوَقَّفُونَ عَنِ الْجَزْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَتَحَرَّجُونَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا حَلَالٌ، أَوْ حَرَامٌ هَكَذَا صُرَاحًا، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الشَّيْءِ إِذَا سُئِلُوا عَنْهُ لَا أُحِبُّ هَذَا، وَأَكْرَهُ هَذَا وَلَمْ أَكُنْ لِأَفْعَلَ هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ مُطْلَقَةٌ فِي مَدْلُولَاتِهَا غَيْرُ مَحْدُودَةٍ فِي الشَّرْعِ تَحْدِيدًا يُوقَفُ عِنْدَهُ لَا يُتَعَدَّى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النَّحْل: 116]. وَقَدْ جَاءَ مِمَّا يُعَضِّدُ هَذَا الْأَصْلَ زِيَادَةٌ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فِيهَا قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 82] فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ. فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13]، وَفِي رِوَايَةٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ بِذَلِكَ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13]». وَفِي الصَّحِيحِ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَذَكَرَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَهَمَّهُمَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَضَحِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ؟ إِنَّمَا خَصَصْتُ بِهِنَّ الْمُنَافِقِينَ، أَمَّا قَوْلِي: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الْآيَةَ [الْمُنَافِقُونَ: 1]، أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ، وَأَمَّا قَوْلِي: إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ}- الْآيَاتِ الثَّلَاثَ- [التَّوْبَة: 75- 78] أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: لَا عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ، وَأَمَّا قَوْلِي: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}- الْآيَةَ- [الْأَحْزَاب: 72] فَكُلُّ إِنْسَانٍ مُؤْتَمَنٍ عَلَى دَيْنِهِ، فَالْمُؤْمِنُ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَيَصُومُ، وَيُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَالْمُنَافِقُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بَرَآءُ. وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ وَجَدَ مِنْ هَذَا مَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ فِي اعْتِمَادِ هَذَا الْأَصْلِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي ضَرْبَان: صَرِيحٌ، وَغَيْرُ صَرِيحٍ.
فَأَمَّا الصَّرِيحُ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي الصَّرِيحَةُ فَلَهُ نَظَرَانِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ مُجَرَّدِهِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عِلَّةٌ مَصْلَحِيَّةٌ، وَهَذَا نَظَرُ مَنْ يَجْرِي مَعَ مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ مَجْرَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَ صَاحِبِ هَذَا النَّظَرِ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ وَلَا بَيْنَ نَهْيٍ وَنَهْيٍ كَقَوْلِه: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} مَعَ قَوْلِه: «اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ»، وَقَوْلِه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الْجُمُعَة: 9] مَعَ قَوْلِه: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَة: 9]، وَقَوْلِه: «وَلَا تَصُومُوا يَوْمَ النَّحْرِ» مَثَلًا مَعَ قَوْلِه: «لَا تُوَاصِلُوا». وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْهَمُ فِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا نَحْوَ مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَا أُبَيُّ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُجِبْهُ وَصَلَّى فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُجِبْهُ وَصَلَّى فَخَفَّفَ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أُبَيُّ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي إِذَا دَعَوْتُكَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الْأَنْفَال: 24]» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَأَنَّهُ صَاحِبُ الْقِصَّةِ فَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِشَارَةٌ إِلَى النَّظَرِ لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُعَارِضٌ. وَفِي أَبِي دَاوُدَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: «اجْلِسُوا» فَجَلَسَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ». وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِالطَّرِيقِ يَقُولُ: اجْلِسُوا فَجَلَسَ بِالطَّرِيقِ فَمَرَّ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ اجْلِسُوا فَقَالَ لَهُ: «زَادَكَ اللَّهُ طَاعَةً». وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ الْأَحْزَاب: لَا يُصَلِّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَهُمْ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ، بَلْ نُصَلِّي وَلَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدَةً مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ». وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَسَخُوا الْبَيْعَ الْوَاقِعَ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَة: 9]. وَهَذَا وَجْهٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ يُمْكِنُ الِانْصِرَافُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ عَامًّا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَرْجَحَ مِنْهُ وَلَهُ مَجَالٌ فِي النَّظَرِ مُنْفَسِحٌ، فَمِنْ وُجُوهِهِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَخْلُو أَنْ نَعْتَبِرَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَصَالِحَ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهَا فَذَلِكَ أَحْرَى فِي الْوُقُوفِ مَعَ مُجَرَّدِهَا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَاهَا فَلَمْ يَحْصُلْ لَنَا مِنْ مَعْقُولِهَا أَمْرٌ يَتَحَصَّلُ عِنْدَنَا دُونَ اعْتِبَارِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَنَحْنُ جَاهِلُونَ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَا مَثَلًا لِمَعْنَى الزَّجْرِ بِكَوْنِهِ فِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمَ دُونَ ضَرْبِ الْعُنُقِ، أَوِ الْجَلْدِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ إِلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ، أَوِ السَّجْنِ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ بَذْلِ مَالٍ كَالْكَفَّارَاتِ، وَفِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ جَلْدَ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبَ عَامٍ دُونَ الرَّجْمِ، أَوِ الْقَتْلِ، أَوْ زِيَادَةِ عَدَدِ الْجَلْدِ عَلَى الْمِائَةِ، أَوْ نُقْصَانِهِ عَنْهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الزَّجْرِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْعَقْلِ. هَذَا كُلُّهُ لَمْ نَقِفْ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا حُدَّ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ نَعْقِلْ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْعُقُولِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِيمَا حُدَّ مِنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَا نَعْلَمُهَا، وَهَكَذَا يُجْرَى الْحُكْمُ فِي سَائِرِ مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ أَمَّا التَّعَبُّدَاتُ، فَهِيَ أَحْرَى بِذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ لَنَا إِذًا وِزْرٌ دُونَ الْوُقُوفِ مَعَ مُجَرَّدِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَكَثِيرًا مَا يَظْهَرُ لَنَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ لِلْأَمْرِ، أَوِ النَّهْيِ مَعْنًى مَصْلَحِيٌّ، وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ يُبَيِّنُهُ نَصٌّ آخَرُ يُعَارِضُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ النَّصِّ دُونَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَأَيْضًا فَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ، وَنَهْيٍ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْنًى تَعَبُّدِيٍّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِإِهْمَالِهِ سَبِيلٌ فَكُلُّ مَعْنَى يُؤَدِّى إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَإِذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِنْ كَرَّ عَلَيْهِ بِالْإِهْمَالِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْحَاصِلُ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ فَآلَ الْأَمْرُ فِي الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اعْتِبَارِهَا مَعَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي إِعْرَاضٌ عَنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ الْمَعْلُومَةِ كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الَّذِي بَالَ فِيهِ الْإِنْسَانُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَالَ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ صَبَّهُ فِي الْمَاءِ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا أَيْضًا مَعَارِضٌ بِمَا يُضَادُّهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي تَتَبُّعِ الْمَعَانِي مَعَ إِلْغَاءِ الصِّيَغِ كَمَا قِيلَ: فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» إِنَّ الْمَعْنَى قِيمَةُ شَاةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ الْخَلَّةِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِقِيمَةِ الشَّاةِ فَجَعَلَ الْمَوْجُودَ مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومَ مَوْجُودًا، وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا تَكُونَ الشَّاةُ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ عَيْنُ الْمُخَالَفَةِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهِ الْمُخَالَفَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ تَتَبُّعِ الْمَعَانِي. وَإِذَا كَانَتِ الْمَعَانِي غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ بِإِطْلَاقٍ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَقْصُودُ الصِّيَغِ فَاتِّبَاعُ أَنْفُسِ الصِّيَغِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهَا مَعَ الْمَعَانِي كَالْأَصْلِ مَعَ الْفَرْعِ وَلَا يَصِحُّ اتِّبَاعُ الْفَرْعِ مَعَ إِلْغَاءِ الْأَصْلِ، وَيَكْفِي مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى رُجْحَانِ هَذَا النَّحْوِ مَا ذُكِرَ. وَالثَّانِي مِنَ النَّظَرَيْنِ هُوَ مِنْ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي قَصْدٌ شَرْعِيٌّ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ، أَوِ الْمَقَالِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْيَانِ الْمَصَالِحِ فِي الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَفَاسِدِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِه: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالْإِدَامَةُ لَهَا، وَمِنْ قَوْلِه: «اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ» الرِّفْقُ بِالْمُكَلَّفِ خَوْفَ الْعَنَتِ، أَوِ الِانْقِطَاعِ لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْسُ التَّقْلِيلِ مِنَ الْعِبَادَةِ، أَوْ تَرْكُ الدَّوَامِ عَلَى التَّوَجُّهِ لِلَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الْجُمُعَة: 9] مَقْصُودُهُ الْحِفْظُ عَلَى إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ فِيهَا لَا الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا فَقَطْ. وَقَوْلُهُ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَة: 9] جَارٍ مَجْرَى التَّوْكِيدِ لِذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ الشَّاغِلِ عَنِ السَّعْيِ لَا أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى حَدِّ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، أَوْ بَيْعِ الرِّبَا، أَوْ نَحْوِهِمَا. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ النَّحْرِ» الْمَفْهُومُ مِنْهُ مَثَلًا قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى تَرْكِ إِيقَاعِ الصَّوْمِ فِيهِ خُصُوصًا، وَمِنْ قَوْلِه: «لَا تُوَاصِلُوا»، أَوْ قَوْلِه: «لَا تَصُومُوا الدَّهْرَ» الرِّفْقُ بِالْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيمَا لَا يُحْصِيهِ وَلَا يَدُومُ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُوَاصِلُ وَيَسْرُدُ الصَّوْمَ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي مَغْزَاهَا رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَغْزَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْإِبَاحَةُ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ لَا تَقْتَضِي بِوَضْعِهَا الْأَصْلِيِّ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [الْمَائِدَة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الْجُمُعَة: 10]؛ إِذْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ لَيْسَ مُلَابَسَةَ الِاصْطِيَادِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ وَلَا الِانْتِشَارَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَدْ زَالَ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الصَّلَاةِ وَزَوَالُ حُكْمِ الْإِحْرَامِ فَهَذَا النَّظَرُ يُعَضِّدُهُ الِاسْتِقْرَاءُ أَيْضًا. وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ شَرْعًا، وَأَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا فَلَوْ تَرَكْنَا اعْتِبَارَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكُنَّا قَدْ خَالَفْنَا الشَّارِعَ مِنْ حَيْثُ قَصْدِنَا مُوَافَقَتَهُ، فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَقَعَ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا أَلْغَيْنَا النَّظَرَ فِيهَا فِي التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ كُنَّا قَدْ أَهْمَلْنَا فِي الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِ الْأَمْرِ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِيهِ فَيُوشِكُ أَنْ نُخَالِفَهُ فِي بَعْضِ مَوَارِدِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوِصَالَ وَسَرْدَ الصِّيَامِ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَقَدْ وَاصَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَصْحَابِهِ حِينَ نَهَاهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا. وَفِي هَذَا أَمْرَانِ إِنْ أَخَذْنَا بِظَاهِرِ النَّهْيِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَاهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ ظَاهِرُهُ لَكَانُوا قَدْ عَانَدُوا نَهْيَهُ بِالْمُخَالَفَةِ مُشَافَهَةً، وَقَابَلُوهُ بِالْعِصْيَانِ صُرَاحًا، وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا مَا فِيهِ. وَالْآخَرُ أَنَّهُ وَاصَلَ بِهِمْ حِينَ لَمْ يَمْتَثِلُوا نَهْيَهُ وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ تَنَاقُضًا، وَحَاشَى لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ النَّهْيُ لِلرِّفْقِ بِهِمْ خَاصَّةً، وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ فَلَمَّا لَمْ يُسَامِحُوا أَنْفُسَهُمْ بِالرَّاحَةِ وَطَلَبُوا فَضِيلَةَ احْتِمَالِ التَّعَبِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُرِيَهُمْ بِالْفِعْلِ مَا نَهَاهُمْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ دُخُولُ الْمَشَقَّةِ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ نَهْيَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الرِّفْقُ بِهِمْ وَالْأَخْلَقُ بِالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى احْتِمَالِ اللَّأْوَاءِ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ أَشْيَاءَ، وَأَمَرَ بِأَشْيَاءَ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهَا إِطْلَاقًا لِيَحْمِلَهَا الْمُكَلَّفُ فِي نَفْسِهِ، وَفِي غَيْرِهِ عَلَى التَّوَسُّطِ لَا عَلَى مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَجَاءَ الْأَمْرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ وَالنَّهْيُ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَسَائِرِ الْمَنَاهِي الْمُطْلَقَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ جُعِلَ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ وَمُنَّتُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مَعَ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ مُجَرَّدًا مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي. وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَذَكَرَ مِنْهُ أَشْيَاءَ كَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُزْهَى وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْحَصَاةِ، وَغَيْرِهَا. وَإِذَا أَخَذْنَا بِمُقْتَضَى مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ امْتَنَعَ عَلَيْنَا بَيْعٌ كَثِيرٌ مِمَّا هُوَ جَائِزٌ بَيْعُهُ، وَشِرَاؤُهُ كَبَيْعِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْقَسْطَلِ فِي قِشْرِهَا، وَبَيْعِ الْخَشَبَةِ وَالْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ وَالْمَقَاثِي كُلِّهَا، بَلْ كَانَ يَمْتَنِعُ كُلُّ مَا فِيهِ وَجْهٌ مَغَيَّبٌ كَالدِّيَارِ وَالْحَوَانِيتِ الْمُغَيَّبَةِ الْأُسُسِ وَالْأَنْقَاضِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ بِالْجَوَازِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْدُودٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ غَرَرًا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ السَّلَامَةِ وَالْعَطَبِ فَهُوَ مِمَّا خُصَّ بِالْمَعْنَى الْمَصْلَحِيِّ وَلَا يُتْبَعُ فِيهِ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ. وَأَيْضًا فَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ عَلَى تَسَاوٍ فِي دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْهَا أَمْرُ وُجُوبٍ، أَوْ نَدْبٍ، وَمَا هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، أَوْ كَرَاهَةٍ لَا تُعْلَمُ مِنَ النُّصُوصِ، وَإِنْ عُلِمَ مِنْهَا بَعْضٌ فَالْأَكْثَرُ مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَمَا حَصَلَ لَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْمَعَانِي وَالنَّظَرِ إِلَى الْمَصَالِحِ، وَفِي أَيِّ مَرْتَبَةٍ تَقَعُ، وَبِالِاسْتِقْرَاءِ الْمَعْنَوِيِّ وَلَمْ نَسْتَنِدْ فِيهِ لِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ فِي الْأَمْرِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا عَلَى قِسْمٍ وَاحِدٍ لَا عَلَى أَقْسَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَالنَّهِيُ كَذَلِكَ أَيْضًا، بَلْ نَقُولُ: كَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُسَاقِ فِي دَلَالَةِ الصِّيَغِ، وَإِلَّا صَارَ ضِحْكَةً وَهُزْأَةً أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ فُلَانٌ أَسَدٌ، أَوْ حِمَارٌ، أَوْ عَظِيمُ الرَّمَادِ، أَوْ جَبَانُ الْكَلْبِ، وَفُلَانَةٌ بَعِيدَةُ مُهْوَى الْقُرْطِ، وَمَا لَا يَنْحَصِرُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ لَوِ اعْتُبِرَ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ فَمَا ظَنُّكَ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى هَذَا الْمُسَاقِ يَجْرِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَصَبِّهِ مِنَ الْإِنَاءِ فِيهِ. وَقَدْ حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ نَاظَرَ أَبَا بَكْرِ بْنَ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيَّ فِي الْقَوْلِ بِالظَّاهِرِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنْتَ تَلْتَزِمُ الظَّوَاهِرَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَة: 7] فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّتَيْنِ فَقَالَ مُجِيبًا الذَّرَّتَانِ ذَرَّةٌ وَذَرَّةٌ فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ فَلَوْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَنِصْفٍ؟ فَتَبَلَّدَ وَانْقَطَعَ. وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَغَالِيًا فِي رَدِّ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ فَالْعَمَلُ بِالظَّوَاهِرِ أَيْضًا عَلَى تَتَبُّعٍ وَتَغَالٍ بَعِيدٌ عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ كَمَا أَنَّ إِهْمَالَهَا إِسْرَافٌ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَسَيُذْكَرُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَعَمِلَ الْعَامِلُ عَلَى مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ مِنْ عِلَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَهُوَ جَارٍ عَلَى السَّنَنِ الْقَوِيمِ مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي وِرْدِهِ وَصَدَرِهِ وَلِذَلِكَ أَخَذَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَنْفُسَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّحَرِّي فِي الْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ، وَقَهَرُوهَا تَحْتَ مَشَقَّاتِ التَّعَبُّدِ فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ وَارِدَةٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يُونُسَ: 14]، وَ{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْك: 2]. لَكِنَّ لَمَّا كَانَ الْمُكَلَّفُ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ ضَعِيفًا فِي عَزْمِهِ ضَعِيفًا فِي صَبْرِهِ عَذَرَهُ رَبُّهُ الَّذِي عَلِمَهُ كَذَلِكَ، وَخَلَقَهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ ضَعْفِهِ رِفْقًا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فِي الدُّخُولِ فِي الْأَعْمَالِ، وَأَدْخَلَ فِي قَلْبِهِ حُبَّ الطَّاعَةِ، وَقَوَّاهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ مَعَهُ عِنْدَ صَبْرِهِ عَلَى بَعْضِ الزَّعَازِعِ الْمُشَوَّشَةِ وَالْخَوَاطِرِ الْمُشْغِبَةِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ جَعَلَ لَهُ مَجَالًا فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عِنْدَ صَدَمَاتِهِ، وَتَهْيِئَةً لَهُ فِي أَوَّلِ الْعَمَلِ بِالتَّخْفِيفِ اسْتِقْبَالًا بِذَلِكَ ثِقَلَ الْمُدَاوَمَةِ حَتَّى لَا يَصْعُبَ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ فِيهِ وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ، فَإِذَا دَاخَلَ الْعَبْدَ حُبُّ الْخَيْرِ وَانْفَتَحَ لَهُ يُسْرُ الْمَشَقَّةِ صَارَ الثَّقِيلُ عَلَيْهِ خَفِيفًا فَتَوَخَّى مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ بِقَوْلِه: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 8]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَات: 56]. فَكَأَنَّ الْمَشَقَّةَ وَضِدَّهَا إِضَافِيَّانِ لَا حَقِيقَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسَائِلِ الرُّخَصِ، فَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ وَكُلُّ أَحَدٍ فَقِيهُ نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ- الْمُرَادُ بِهِمَا الرِّفْقُ وَالتَّوْسِعَةُ عَلَى الْعَبْدِ؛ اشْتَرَكَتِ الرُّخْصُ مَعَهُمَا فِي هَذَا الْقَصْدِ، فَكَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الْعَزَائِمِ مَقْصُودًا أَنْ يَمْتَثِلَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَفِي الرِّفْقِ رَاجِعًا إِلَى جِهَةِ الْعَبْد: إِذَا اخْتَارَ مُقْتَضَى الرِّفْقِ، فَمِثْلَ الرُّخْصَةِ، وَإِذَا اخْتَارَ خِلَافَهُ فَعَلَى مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 8] وَأَشْبَاهُهُ.
وَأَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي غَيْرُ الصَّرِيحَةِ فَضُرُوبٌ: أَحَدُهَا: مَا جَاءَ مَجِيءَ الْإِخْبَارِ عَنْ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [الْبَقَرَة: 183]. {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الْبَقَرَة: 233]. {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّسَاء: 141]. {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [الْمَائِدَة: 89]. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ فَهَذَا ظَاهِرُ الْحُكْمِ، وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الصَّرِيحِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالثَّانِي: مَا جَاءَ مَجِيءَ مَدْحِهِ، أَوْ مَدْحِ فَاعِلِهِ فِي الْأَوَامِرِ، أَوْ ذَمِّهِ، أَوْ ذَمِّ فَاعِلِهِ فِي النَّوَاهِي، وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْأَوَامِرِ، وَتَرْتِيبِ الْعِقَابِ فِي النَّوَاهِي، أَوِ الْإِخْبَارِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ فِي الْأَوَامِرِ وَالْبُغْضِ وَالْكَرَاهِيَةِ، أَوْ عَدَمِ الْحُبِّ فِي النَّوَاهِي. وَأَمْثِلَةُ هَذَا الضَّرْبِ ظَاهِرَةٌ كَقَوْلِه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الْحَدِيد: 19]. وَقَوْلِه: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الْأَعْرَاف: 81]. وَقَوْلِه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النِّسَاء: 13]. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النِّسَاء: 14]. وَقَوْلِه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 134]. وَقَوْلِه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الْأَعْرَاف: 31]. {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزُّمَر: 7]. {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزُّمَر: 7]. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَالَّةٌ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ فِي الْمَحْمُودِ وَطَلَبِ التَّرْكِ فِي الْمَذْمُومِ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ. وَالثَّالِثُ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ كَالْمَفْرُوضِ فِي مَسْأَلَةِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَكَوْنُ الْمُبَاحِ مَأْمُورًا بِهِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْكَعْبِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي هِيَ لُزُومِيَّةٌ لِلْأَعْمَالِ لَا مَقْصُودَةٌ لِأَنْفُسِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، وَفِي اعْتِبَارِهَا، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ وَلَكِنْ إِذَا بَنَيْنَا عَلَى اعْتِبَارِهَا فَعَلَى الْقَصْدِ الثَّانِي، لَا عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ هِيَ أَضْعَفُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الصَّرِيحَةِ التَّبَعِيَّةِ كَقَوْلِه: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمُعَة: 9]؛ لِأَنَّ رُتْبَةَ الصَّرِيحِ لَيْسَتْ كَرُتْبَةِ الضِّمْنِيِّ فِي الِاعْتِبَارِ أَصْلًا. وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ الْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ ضَرْبَان: مَقَاصِدٌ أَصْلِيَّةٌ، وَمَقَاصِدٌ تَابِعَةٌ فَهَذَا الْقِسْمُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مُسْتَمَدٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِقْهٌ كَثِيرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَسْأَلَةٍ تُقَرِّرُهَا فِي فَصْلٍ يُبَيِّنُ ذَلِكَ حَتَّى تُتَّخَذَ دُسْتُورًا لِأَمْثَالِهَا فِي فِقْهِ الشَّرِيعَةِ بِحَوْلِ اللَّهِ.
الْغَصَبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ التَّعَدِّي عَلَى الرِّقَابِ وَالتَّعَدِّي مُخْتَصٌّ بِالتَّعَدِّي عَلَى الْمَنَافِعِ دُونَ الرِّقَابِ. فَإِذَا قَصَدَ الْغَاصِبُ تَمَلُّكَ رَقَبَةِ الْمَغْصُوبِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ آثِمٌ فِيمَا فَعَلَ مِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الرَّقَبَةَ فَكَانَ النَّهْيُ أَوَّلًا عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الرَّقَبَةِ. وَأَمَّا التَّعَدِّي عَلَى الْمَنَافِعِ فَالْقَصْدُ فِيهِ تَمَلُّكُ الْمَنَافِعِ دُونَ الرَّقَبَةِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعِ مِنْ جِهَةِ مَا قَصَدَ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الْمَنَافِعَ، لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُلْزِمُهُ الْآخَرُ بِالْحُكْمِ التَّبَعِيِّ، وَبِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ. فَإِذَا كَانَ غَاصِبًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِلرِّقَابِ لَا لِلْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ لَا بِأَرْفَعِ الْقِيَمِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ تَابِعٌ. فَإِذَا كَانَ تَابِعًا صَارَ النَّهْيُ عَنِ الِانْتِفَاعِ تَابِعًا لِلنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الرَّقَبَةِ فَلِذَلِكَ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمَنَافِعِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ مُشَارِكَةٌ فِي الْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:» إِلَخْرَاجُ بِالضَّمَانِ»، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِانْتِفَاعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْغَصْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ. فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ صَحِيحًا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مَعَ النَّهْيِ الضِّمْنِيِّ، وَهَذَا الْبَحْثُ جَارٍ فِي مَسْأَلَةِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا، فَإِنْ قُلْنَا: غَيْرُ وَاجِبٍ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ قُلْنَا: وَاجِبٌ فَلَيْسَ وُجُوبُهُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِذَلِكَ فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حُكْمٌ مُنْحَتِمٌ إِلَّا عِنْدَ فَرْضِهِ مَقْصُودًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فَضَمَانُهُ ضَمَانُ التَّعَدِّي لَا ضَمَانُ الْغَصْبِ، فَإِنَّ الرَّقَبَةَ تَابِعَةٌ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ النَّهْيُ عَنْ إِمْسَاكِ الرَّقَبَةِ تَابِعًا لِلنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَنَافِعِ فَلِذَلِكَ يَضْمَنُ بِأَرْفَعِ الْقِيَمِ مُطْلَقًا، وَيَضْمَنُ مَا قَلَّ، وَمَا كَثُرَ. وَأَمَّا ضَمَانُ الرَّقَبَةِ فِي التَّعَدِّي فَعِنْدَ التَّلَفِ خَاصَّةً مِنْ حَيْثُ كَانَ تَلَفُهَا عَائِدًا عَلَى الْمَنَافِعِ بِالتَّلَفِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُمَا وَاحِدًا لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ وَلَا غَيْرُهُ قَالَ: مَالِكٌ فِي الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ إِذَا حَبَسَ الْمَغْصُوبَ، أَوِ الْمَسْرُوقَ عَنْ أَسْوَاقِهِ، وَمَنَافِعِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّهِ أَنْ يَضْمَنَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعِيرًا، أَوْ مُتَكَارِيًا ضَمِنَ قِيمَتَهُ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَإِلَّا فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى غَيْرِهِ فَالْمَأْخَذُ آخَرُ وَالْأَصْلُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ ثَابِتٌ. فَالْقَائِلُ بِاسْتِوَاءِ الْبَابَيْنِ يَنْبَنِي قَوْلَهُ عَلَى مَآخِذَ. مِنْهَا الْقَاعِدَةُ الَّتِي يَذْكُرُهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ هَلِ الدَّوَامُ كَالِابْتِدَاءِ، فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ الدَّوَامُ كَالِابْتِدَاءِ فَذَلِكَ جَارٍ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْغَصْبِ فَالضَّمَانُ يَوْمَ الْغَصْبِ وَالْمَنَافِعُ تَابِعَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَالِابْتِدَاءِ فَالْغَاصِبُ فِي كُلِّ حِينٍ كَالْمُبْتَدِئِ لِلْغَصْبِ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ ضَمَانًا جَدِيدًا فَيَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ الْمَغْصُوبَ بِأَرْفَعِ الْقِيَمِ كَمَا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَأَشْهَبُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ. قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَتَى لَمْ يَرُدَّهُ كَانَ كَمُغْتَصِبِهِ حِينَئِذٍ. وَمِنْهَا الْقَاعِدَةُ الْمُتَقَرِّرَةُ، وَهِيَ أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا يَمْلِكُهَا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بَارِيهَا تَعَالَى، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ مِنْهَا الْمَنَافِعُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلِ الْقَصْدُ إِلَى مِلْكِ الرِّقَابِ مُنْصَرِفٌ إِلَى مِلْكِ الْمَنَافِعِ أَمْ لَا، فَإِنْ قُلْنَا هُوَ مُنْصَرِفٌ إِلَيْهَا؛ إِذْ أَعْيَانُ الرِّقَابِ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَعْيَانٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ فَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي فِي ضِمَانِ الْمَنَافِعِ، وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ بِمُنْصَرِفٍ فَهُوَ بِمُقْتَضَى التَّفْرِقَةِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْغَاصِبَ إِذَا قَصَدَ تَمَلُّكَ الرَّقَبَةِ فَهَلْ يَتَقَرَّرُ لَهُ عَلَيْهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ لَهَا أَمْ لَا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهَا شُبْهَةُ مَالِكٍ كَالَّذِي فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» فَكَانَتْ كُلُّ غَلَّةٍ وَثَمَنٍ يَعْلُو أَوْ يَسْفُلُ، أَوْ حَادِثٍ يَحْدُثُ لِلْغَاصِبِ وَعَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الضَّمَانِ كَالِاسْتِحْقَاقِ وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَتَقَرَّرُ لَهُ عَلَيْهَا شُبْهَةُ مِلْكٍ، بَلِ الْمَغْصُوبُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ مِنْ غَلَّةٍ، وَمَنْفَعَةٍ فَعَلَى مِلْكِهِ، فَهِيَ لَهُ، فَلَا بُدَّ لِلْغَاصِبِ مِنْ غُرْمِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ غَصَبَهَا أَيْضًا. وَأَمَّا مَا يَحْدُثُ مِنْ نَقْصٍ فَعَلَى الْغَاضِبِ بِعَدَائِهِ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ إِتْلَافٌ لِبَعْضِ ذَاتِهِ فَيَضْمَنُهُ كَمَا يَضْمَنُ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الذَّاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَافِعِ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ الْخِلَافُ. وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ: هَلِ الْمَغْصُوبُ إِذَا رُدَّ بِحَالِهِ إِلَى يَدِ صَاحِبِهِ يُعَدُّ كَالْمُتَعَدِّي فِيهِ؛ لِأَنَّ الصُّورَةَ فِيهِمَا مَعًا وَاحِدَةٌ وَلَا أَثَرَ لِقَصْدِ الْغَصْبِ إِذَا كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ رَدَّ مَا غَصَبَ اسْتِرْوَاحًا مِنْ قَاعِدَةِ مَالِكٍ فِي اعْتِبَارِ الْأَفْعَالِ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْمَقَاصِدِ، وَإِلْغَائِهِ الْوَسَائِطَ أَمْ لَا يُعَدُّ كَذَلِكَ؟ فَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ مَالِكٍ هُنَا أَنَّ لِلْقَصْدِ أَثَرًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ لَا أَثَرَ لَهُ وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ مَالِكٌ فِي الْغَاصِبِ، أَوِ السَّارِقِ إِذَا حَبَسَ الشَّيْءَ الْمَأْخُوذَ عَنْ أَسْوَاقِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّهِ أَنْ يَضْمَنَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعِيرًا، أَوْ مُتَكَارِيًا ضَمِنَ قِيمَتَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِم: لَوْلَا مَا قَالَهُ مَالِكٌ لَجَعَلْتُ عَلَى السَّارِقِ مِثْلَ مَا جُعِلَ عَلَى الْمُتَكَارِي. فَهَذِهِ أَوْجُهٌ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْخِلَافِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ عَلَيْهَا مَعَ بَقَاءِ الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى حَالِهَا، وَهَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَوَامِرِ، أَوِ النَّوَاهِي بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَحُكْمُهُ مُنْحَتِمٌ، بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي. فَإِذَا نَظَرَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ ظَهَرَ وَجْهُ الْخِلَافِ وَرُبَّمَا خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ تَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ وَلَا تَنْقُضُ أَصْلَ الْقَاعِدَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَبَيَّنَ مِنْهُ وَجْهُ صِحَّةِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ بُطْلَانِهَا، وَوَجْهُ مَذْهَبِ ابْنِ حَنْبَلٍ، وَأَصْبُغَ، وَسَائِرِ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِهَا. وَقَدْ أَذْكَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةً أُخْرَى تَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهِيَ:
الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَارَدَا عَلَى مُتَلَازِمَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا مَأْمُورًا بِهِ وَالْآخِرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ عِنْدَ فَرْضِ الِانْفِرَادِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِلْآخَرِ وَجُودًا، أَوْ عَدَمًا، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الِاقْتِضَاءَيْنِ مَا انْصَرَفَ إِلَى جِهَةِ الْمَتْبُوعِ. وَأَمَّا مَا انْصَرَفَ إِلَى جِهَةِ التَّابِعِ فَمُلْغًى وَسَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، هَذَا وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ هُنَالِكَ غَيْرَ صَرِيحٍ، وَهُنَا صَرِيحٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِذَا ثَبَتَ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ وَلِذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْقَائِلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمْ يَبْنِ عَلَى كَوْنِ النَّهْيِ تَبَعِيًّا. وَإِنَّمَا بَنَى الْبُطْلَانَ عَلَى كَوْنِهِ مَقْصُودًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِذَا تَوَارَدَا عَلَى الْمُتَلَازِمَيْنِ. أَمَّا أَنْ يَرِدَا مَعًا عَلَيْهِمَا أَوْ لَا يَرِدَا أَلْبَتَّةَ، أَوْ يَرِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَالْأَوَّلُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ قَدْ فَرَضْنَاهُمَا مُتَلَازِمَيْنِ، فَلَا يُمْكِنُ الِامْتِثَالُ فِي التَّلَبُّسِ بِهِمَا لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَمِنْ حَيْثُ أَخَذَ فِي الْعَمَلِ صَادَمَهُ النَّهْيُ عَنْهُ، وَمِنْ حَيْثُ تَرَكَهُ صَادَمَهُ الْأَمْرُ فَيُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَعَلَ أَوْ تَرَكَ، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَالثَّانِي: كَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الطَّلَبَيْنِ تَوَجَّهَا، فَلَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا مَعًا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ أَحَدُهُمَا دُونَ الثَّانِي. وَقَدْ فَرَضْنَا أَحَدَهُمَا مَتْبُوعًا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَالْآخَرُ تَابِعًا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ ثَانِيًا فَتَعَيَّنَ تَوَجُّهُ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَتْبُوعِ دُونَ مَا تَعَلَّقَ بِالتَّابِعِ وَلَا يَصِحُّ الْعَكْسُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْقُولِ. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِقْرَاءُ مِنَ الشَّرِيعَةِ كَالْعَقْدِ عَلَى الْأُصُولِ مَعَ مَنَافِعِهَا وَغَلَّاتِهَا وَالْعَقْدِ عَلَى الرِّقَابِ مَعَ مَنَافِعِهَا وَغَلَّاتِهَا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ فَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الرِّقَابَ، وَيَتْبَعُهَا مَنَافِعُهَا وَلَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَمَلَّكُ أَنْفُسَ الْمَنَافِعِ خَاصَّةً، وَتَتْبَعُهَا الرِّقَابُ مِنْ جِهَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ، وَيَصِحُّ الْقَصْدُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ يَتَبَيَّنُ فِيهَا وَجْهُ التَّبَعِيَّةِ بِصُوَرٍ لَا خِلَافَ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ فِي شِرَاءِ الدَّارِ، أَوِ الْفَدَّانِ، أَوِ الْجَنَّةِ، أَوِ الْعَبْدِ، أَوِ الدَّابَّةِ، أَوِ الثَّوْبِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ عَقْدٌ عَلَى الرِّقَابِ لَا عَلَى الْمَنَافِعِ التَّابِعَةِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً وَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ وَقْتَ الْعَقْدِ مَعْدُومَةً، وَإِذَا كَانَتْ مَعْدُومَةً امْتَنَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا لِلْجَهْلِ بِهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَمِنْ كُلِّ طَرِيقٍ؛ إِذْ لَا يَدْرِي مِقْدَارَهَا وَلَا صِفَتَهَا وَلَا مُدَّتَهَا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ لَا يَدْرِي هَلْ تُوجَدُ مِنْ أَصْلٍ أَمْ لَا، فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا عَلَى فَرْضِ انْفِرَادِهَا لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَالْمَجْهُولِ، بَلِ الْعَقْدُ عَلَى الْأَبْضَاعِ لِمَنَافِعِهَا جَائِزٌ وَلَوِ انْفَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ لَامْتَنَعَ مُطْلَقًا إِنْ كَانَ وَطْئًا وَلَامْتَنَعَ فِيمَا سِوَى الْبُضْعِ أَيْضًا إِلَّا بِضَابِطٍ يُخْرِجُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ كَالْخِدْمَةِ وَالصَّنْعَةِ، وَسَائِرِ مَنَافِعِ الرِّقَابِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ. وَالْعَكْسُ كَذَلِكَ أَيْضًا كَمَنَافِعِ الْأَحْرَارِ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِاتِّفَاقٍ وَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الرِّقَابِ بِاتِّفَاقٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ عَلَى الْمَنَافِعِ فِيهِ يَسْتَتْبِعُ الْعَقْدَ عَلَى الرَّقَبَةِ؛ إِذِ الْحُرُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ زَمَنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ رَقَبَتِهِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ أَثَرُ كَوْنِ الرَّقَبَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، لَكِنْ بِالْقَصْدِ الثَّانِي وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى الْجُمْلَةِ يُعْطَى أَنَّ التَّوَابِعَ مَعَ الْمَتْبُوعَاتِ لَا يُتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ تَوَابِعُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا قُصِدَتِ ابْتِدَاءً، وَهِيَ إِذْ ذَاكَ مَتْبُوعَةٌ لَا تَابِعَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ بِأُمُورٍ أَحَدِهَا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الرِّقَابَ- وَبِالْجُمْلَةِ الذَّوَاتِ- لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ فِي التَّمَلُّكِ شَرْعًا مَنَافِعُ الرِّقَابِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ هِيَ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْعِبَادِ بِالْمَصَالِحِ لَا أَنْفُسَ الذَّوَاتِ فَذَاتُ الْأَرْضِ، أَوِ الدَّارِ، أَوِ الثَّوْبِ، أَوِ الدِّرْهَمِ مَثَلًا لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا ضُرٌّ مِنْ حَيْثُ هِيَ ذَوَاتٌ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَرْضَ تَزْدَرِعُ مَثَلًا وَالدَّارَ تَسْكُنُ وَالثَّوْبَ يُلْبَسُ وَالدِّرْهَمَ يُشْتَرَى بِهِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْمَنْفَعَةِ فَهَذَا ظَاهِرٌ حَسْبَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَقْدُ أَوَّلًا إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْمَنَافِعِ خَاصَّةً وَالرِّقَابُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمِلْكِ، فَلَا تَابِعَ وَلَا مَتْبُوعَ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَشْبَاهِهِ تَابِعٌ وَمَتْبُوعٌ بَطَلَ فَكُلُّ مَا فُرِضَ مِنَ الْمَسَائِلِ خَارِجٌ عَنْ تَمْثِيلِ الْأَصْلَ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهِ أَوَّلًا وَاقِعًا فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ثَانِيًا. وَالثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الذَّوَاتَ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فَالْمَنَافِعُ هِيَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الذَّوَاتَ لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا ضُرَّ مِنْ حَيْثُ هِيَ ذَوَاتٌ فَصَارَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا هِيَ الْمَنَافِعُ، وَحِينَ كَانَتِ الْمَنَافِعُ لَا تَحْصُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ إِلَّا عِنْدَ تَحْصِيلِ الذَّوَاتِ سَعَى الْعُقَلَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا فَالتَّابِعُ إِذًا فِي الْقَصْدِ هِيَ الذَّوَاتُ وَالْمَتْبُوعُ هُوَ الْمَنَافِعُ فَاقْتَضَى هَذَا بِحُكْمِ مَا تُحُصِّلَ أَوَّلًا أَنْ تَكُونَ الذَّوَاتُ مَعَ الْمَنَافِعِ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ إِذْ لَا تَكُونُ ذَاتُ الْحُرِّ تَابِعَةً لِحُكْمِ مَنَافِعِهِ بِاتِّفَاقٍ، بَلْ لَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ وَلَا الْكِرَاءُ فِي شَيْءٍ يَتْبَعُهُ ذَاتُ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَاكْتِرَاءُ الدَّارِ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهَا وَلَا يَتْبَعُهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مُسْتَأْجِرٍ مِنْ أَرْضٍ، أَوْ حَيَوَانٍ، أَوْ عَرَضٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا أَصْلٌ مُنْخَرِمٌ إِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّا وَجَدْنَا الشَّارِعَ نَصَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ، وَقَالَ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ فَهَذَانَ حَدِيثَانِ لَمْ يَجْعَلَا الْمَنْفَعَةَ لِلْمُبْتَاعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مَعَ أَنَّهَا عِنْدَكُمْ تَابِعَةٌ لِلْأُصُولِ كَسَائِرِ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ، بَلْ جَعَلَ فِيهِمَا التَّابِعَ لِلْبَائِعِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ انْفِصَالِ الثَّمَرَةِ عَنِ الْأَصْلِ حُكْمًا، وَهُوَ يُعْطَى فِي الشَّرْعِ انْفِصَالَ التَّابِعِ مِنَ الْمَتْبُوعِ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا. وَالرَّابِعُ أَنَّ الْمَنَافِعَ مَقْصُودَةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ، وَأَرْبَابِ الْعَوَائِدِ، وَإِنْ فُرِضَ الْأَصْلُ مَقْصُودًا فَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ وَلِذَلِكَ يُزَادُ فِي ثَمَنِ الْأَصْلِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْمَنَافِعِ، وَيَنْقُصُ مِنْهُ بِحَسَبِ نُقْصَانِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَيْفَ تَكُونُ الْمَنَافِعُ مُلْغَاةً، وَهِيَ مَثْمُونَةٌ مُعْتَدٌّ بِهَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ مَقْصُودَةٌ فَهَذَا يَقْتَضِي الْقَصْدَ إِلَيْهَا، وَعَدَمَ الْقَصْدِ إِلَيْهَا مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْقَصْدَ إِلَيْهَا عَادِيٌّ، وَعَدَمُ الْقَصْدِ إِلَيْهَا شَرْعِيٌّ فَانْفَصَلَا، فَلَا تَنَاقُضَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَوْنُ الشَّارِعِ غَيْرَ قَاصِدٍ لَهَا فِي الْحُكْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا عُرْفًا، وَعَادَةً؛ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ إِجْرَاءَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْعَوَائِدِ. وَمِنْ أُصُولِهِ مُرَاعَاةُ الْمَصَالِحِ، وَمَقَاصِدُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا أَعَنَى فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَصَالِحَ الْأُصُولِ هِيَ الْمَنَافِعُ، وَأَنَّ الْمَنَافِعَ مَقْصُودَةٌ عَادَةً وَعُرْفًا لِلْعُقَلَاءِ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَقَدْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَنَافِعَ مُلْغَاةٌ شَرْعًا مَعَ الْأُصُولِ، فَهِيَ إِذًا مُلْغَاةٌ فِي عَادَاتِ الْعُقَلَاءِ، لَكِنْ تَقَرَّرَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ فِي عَادَاتِ الْعُقَلَاءِ هَذَا خُلْفٌ مُحَالٌ. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا أَصَّلُوهُ صَحِيحٌ وَلَا يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِنَا؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَيْضًا لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا مِلْكٌ حَقِيقِيٌّ إِلَّا مِثْلُ مَالَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالذَّوَاتِ فَكَمَا تُضَافُ الْأَفْعَالُ إِلَى الْعِبَادِ كَذَلِكَ تُضَافُ إِلَيْهِمُ الصِّفَاتُ وَالذَّوَاتُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنَّ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا هُوَ لَنَا مُكْتَسَبٌ وَلَيْسَ لَنَا مِنَ الصِّفَاتِ وَلَا الذَّوَاتِ شَيْءٌ مُكْتَسَبٌ لَنَا، وَمَا أُضِيفَ لَنَا مِنَ الْأَفْعَالِ كَسْبًا فَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ لِمُسَبِّبَاتٍ هِيَ أَنْفُسُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، أَوْ طَرِيقٌ إِلَيْهَا، وَمِنْ جِهَتِهَا كُلِّفْنَا فِي الْأَسْبَابِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَأَمَّا أَنْفُسُ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُسَبَّبَاتٌ فَمَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى حَسْبَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فَكَمَا يَجُوزُ إِضَافَةُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ إِلَيْنَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ قُدْرَتِنَا كَذَلِكَ الذَّوَاتُ يَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَيْنَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِنَا، وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْهَا مَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْإِتْلَافِ وَالتَّغْيِيرِ كَذَبْحِ الْحَيَوَانِ وَقَتْلِهِ لِلْمَأْكَلَةِ، وَإِتْلَافِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأُبِيحَ لَنَا إِتْلَافُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إِذَا كَانَ مُؤْذِيًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا، وَكَانَ إِتْلَافُهُ تَكْمِلَةً لِمَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ مِنَ الْمَنَافِعِ كَإِزَالَةِ الشَّجَرَةِ الْمَانِعَةِ لِلشَّمْسِ عَنْكَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَجَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي أَنْفُسِ الذَّوَاتِ بِالْإِتْلَافِ وَالتَّغْيِيرِ وَغَيْرِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَمَلُّكِهَا شَرْعًا وَلَا يَبْقَى بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَنْ أَطْلَقَ تِلْكَ الْعِبَارَةَ أَنَّ الذَّوَاتَ لَا يَمْلِكُهَا إِلَّا اللَّهُ سِوَى الْخِلَافِ فِي اصْطِلَاحٍ. وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمَعْنَى فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ مِلْكُ الذَّوَاتِ وَكَانَتِ الْمَنَافِعُ نَاشِئَةً عَنْهَا صَحَّ كَوْنُ الْمَنَافِعِ تَابِعَةً، وَتُصُوِّرَ مَعْنَى الْقَاعِدَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ سُلِّمَ عَلَى الْجُمْلَةِ فَهُوَ فِي التَّفْصِيلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. أَمَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنَافِعُ فَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِلَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا ضَابِطَ لَهَا إِلَّا ذَوَاتُهَا الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ لَا تَنْحَصِرُ، وَإِنِ انْحَصَرَتِ الْأَعْيَانُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَثَلًا قَدْ هُيِّئَ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ إِلَى كُلِّ مَا يَصْلُحُ لَهُ الْآدَمِيُّ مِنَ الْخِدَمِ وَالْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَالْعُلُومِ وَالتَّعَبُّدَاتِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ وَكُلُّ نَوْعٍ تَحْتَهُ أَشْخَاصٌ مِنَ الْمَنَافِعِ لَا تَتَنَاهَى هَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْعَادَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَدُخُولُهُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ مُعَرَّفًا فِيهِ، أَوْ فِي بَعْضِ أَصْنَافِهِ يَكْفِي فِي حَصْرِ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنَ الْمَنَافِعِ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ شَخْصٍ مِنْهَا تَصِحُّ مُؤَاجَرَتُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَيْرِ بِأُجْرَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا عُمُرُهُ، وَكَذَلِكَ كَلُّ رَقَبَةٍ مِنَ الرِّقَابِ، وَعَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فَالنَّظَرُ إِلَى الْأَعْيَانِ نَظَرٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الْمَنَافِعِ. وَأَمَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَنَافِعِ، فَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَحْصُرُ مِنْهَا بَعْضٌ إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الْقَصْدُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ وَالْحَالِ وَالْإِمْكَانِ فَحَصَلَ الْقَصْدُ مِنْ جِهَتِهَا جُزْئِيًّا لَا كُلِّيًّا وَلَمْ تَنْضَبِطِ الْمَنَافِعُ مِنْ جِهَتِهَا قَصْدًا لَا فِي الْوُقُوعِ وُجُودًا وَلَا فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا شَرْعًا لِحُصُولِ الْجَهَالَةِ حَتَّى يُضْبَطَ مِنْهَا بَعْضٌ إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ، وَشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ جُزْئِيٌّ لَا كُلِّيٌ. فَإِذَا النَّظَرُ إِلَى الْمَنَافِعِ خُصُوصًا نَظَرٌ إِلَى جُزْئِيَّاتِ الْمَنَافِعِ وَالْكُلِّيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجُزْئِيِّ طَبْعًا، وَعَقْلًا، وَهُوَ أَيْضًا مُقَدَّمٌ شَرْعًا كَمَا مَرَّ. فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا عَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنَافِعُ أَنَّ الذَّوَاتَ هِيَ الْمُقَدَّمَةُ الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا الْمَتْبُوعَةُ، وَأَنَّ الْمَنَافِعَ هِيَ التَّابِعَةُ، وَظَهَرَ لَكَ حِكْمَةُ الشَّارِعِ فِي إِجَازَةِ مِلْكِ الرِّقَابِ لِأَجْلِ الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا مَحْصُورَةٍ، وَمَنْعِ مِلْكِ الْمَنَافِعِ خُصُوصًا إِلَّا عَلَى الْحَصْرِ وَالضَّبْطِ وَالْعِلْمِ الْمُقَيَّدِ الْمُحَاطِ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ أَنْفُسَ الرِّقَابِ ضَابِطٌ كُلِّيٌّ لِجُمْلَةِ الْمَنَافِعِ فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ جِهَةِ الْكُلِّيَّةِ الْحَاصِلَةِ. بِخِلَافِ أَنْفُسِ الْمَنَافِعِ مُسْتَقِلَّةٍ بِالنَّظَرِ فِيهَا فَإِنَّهَا غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ فِي أَنْفُسِهَا وَلَا مَعْلُومَةٌ أَمَدًا وَلَا حَدًّا وَلَا قَصْدًا وَلَا ثَمَنًا وَلَا مَثْمُونًا. فَإِذَا رُدَّتْ إِلَى ضَابِطٍ يَلِيقُ بِهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ أَمْكَنَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَالْقَصْدُ فِي الْعَادَةِ إِلَيْهَا، فَإِنْ أَجَازَهُ الشَّارِعُ جَازَ، وَإِلَّا امْتَنَعَ. وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنَ الْمَنَافِعِ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَالرِّقَابُ تَابِعَةٌ؛ إِذْ هِيَ الْوَسَائِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا مُطْلَقًا فَمَمْنُوعٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَرَادَ تَبَعِيَّةً مَا فَمُسَلَّمٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحْظُورٌ، فَإِنَّ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ قَدْ تَتْبَعُ جُزْئِيَّاتِهَا بِوَجْهٍ مَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَبَعِيَّتُهَا لَهَا مُطْلَقًا. وَأَيْضًا فَالْإِيمَانُ أَصْلُ الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُهُ وَسِيلَةً وَشَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ حَسْبَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ وَالشَّرْطُ مِنْ تَوَابِعِ الْمَشْرُوطِ فَيَلْزَمُ إِذًا عَلَى مُقْتَضَى السُّؤَالِ أَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ هِيَ الْأُصُولُ وَالْإِيمَانُ تَابِعٌ لَهَا أَوَّلًا تَرَى أَنَّهُ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ التَّبَعِيَّةُ إِنْ ظَهَرَتْ فِي الْأَصْلِ جُزْئِيَّةً لَا كُلِّيَّةً. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ بِانْفِرَادِهَا يَتْبَعُهَا الْأُصُولُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُسْتَوْفَى إِلَّا مِنَ الْأُصُولِ، فَلَا تَخْلُو الْأُصُولُ مِنْ إِبْقَاءِ يَدِ الْمُنْتَفِعِ عَلَيْهَا، وَتَحْجِيرِهَا عَنِ انْتِفَاعِ صَاحِبِهَا بِهَا كَالْعِقْدِ عَلَى الْأُصُولِ سَوَاءٌ، وَهُوَ مَعْنَى الْمِلْكِ إِلَّا أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، وَمُنْقَضٍ بِانْقِضَائِهَا فَلَمْ يُسَمَّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ مِلْكًا، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ الْعَادِيَّ وَالشَّرْعِيَّ قَدْ جَرَى بِأَنَّ التَّمَلُّكَ فِي الرِّقَابِ هُوَ التَّمَلُّكُ الْمُطْلَقُ الْأَبَدِيُّ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ إِلَّا بِالْمَوْتِ، أَوْ بِانْتِفَاعِ صَاحِبِهَا بِهَا، أَوِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ نَفْسَهُ مِنَ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ مَنْفَعَةَ الْمُسْلِمِ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ رَقَبَتَهُ وَامْتَنَعَ شِرَاءُ الشَّيْءِ عَلَى شَرْطٍ فِيهِ تَحْجِيرٌ كَشِرَاءِ الْأَمَةِ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَجَرَ عَلَيْهِ بَعْضَ مَنَافِعِ الرَّقَبَةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمْلُكْهَا مِلْكًا تَامًّا وَلَيْسَ بِشَرِكَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَلَى الشِّيَاعِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَانْظُرْ فِي تَعْلِيلِ مَالِكٍ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ مَا يُفْعَلُ بِالْوَلِيدَةِ إِذَا بِيعَتْ فِي الْمُوَطَّأِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ الْمُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مُؤَسِّسٌ لَا مُنْخَرِمٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى صِحَّةِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الثَّمَرَةَ لَمَّا بَرَزَتْ فِي الْأَصْلِ بَرَزَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا أَوَّلًا بِسَبَبِ سَبْقِ اسْتِحْقَاقِهِ لِأَصْلِهَا عَلَى حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأَصْلِ فَلَمَّا صَارَ الْأَصْلُ لِلْمُشْتَرِي وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ اشْتِرَاطٌ، وَكَانَتْ قَدْ أُبْرِزَتْ، وَتَمَيَّزَتْ بِنَفْسِهَا عَنْ أَصْلِهَا لَمْ تَنْتَقِلِ الْمَنْفَعَةُ إِلَيْهِ بِانْتِقَالِ الْأَصْلِ؛ إِذْ كَانَتْ قَدْ تَعَيَّنَتْ مَنْفَعَةٌ لِمَنْ كَانَ الْأَصْلُ إِلَيْهِ فَلَوْ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي إِعْمَالًا لِلتَّبَعِيَّةِ لَكَانَ هَذَا الْعَمَلُ بِعَيْنِهِ قَطْعًا، وَإِهْمَالًا لِلتَّبَعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَائِعِ، وَهُوَ السَّابِقُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّبَعِيَّةِ فَثَبَتَتْ أَنَّهَا لَهُ دُونَ الْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ لَمَّا بَرَزَ فِي يَدِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ أَشْبَهَ الثَّمَرَةَ مَعَ الْأَصْلِ فَاسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الثَّانِي لَهُ، فَإِنِ اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِي، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنَّمَا جَازَ اشْتِرَاطُهُ، وَإِنَّ تَعَلَّقَ بِهِ الْمَانِعُ مِنْ أَجْلِ بَقَاءِ التَّبَعِيَّةِ أَيْضًا، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ قَبْلَ الطِّيبِ مُضْطَرَّةٌ إِلَى أَصْلِهَا لَا يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إِلَّا مَعَ اسْتِصْحَابِهِ فَأَشْبَهَتْ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ الْأَصْلِ. وَكَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْعَبْدِ وَفِي حَوْزِهِ لَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ إِلَّا بِحُكْمِ الِانْتِزَاعِ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تَطِبْ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ لِلْأَصْلِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرَ أَنَّ مَسْأَلَةَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَمَالِ الْعَبْدِ تَعَارَضَ فِيهَا جِهَتَانِ لِلتَّبَعِيَّةِ جِهَةُ الْبَائِعِ وِجِهَةُ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الْبَائِعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ الْأَوَّلُ، فَإِنِ اشْتَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ انْتَقَلَتِ التَّبَعِيَّةُ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا. وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الْمَنَافِعِ لَا إِشْكَالَ فِي حُصُولِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَكِنْ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْأَصْلِ يَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْ حَيْثُ أَنْفَسِهَا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ أَمْ هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْ حَيْثُ رُجُوعِهَا إِلَى الْأَصْلِ كَوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّهَا مَقْصُودَةٌ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي لَمْ تَبْرُزْ إِلَى الْوُجُودِ بَعْدُ مَقْصُودَةٌ، وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَعَ الْأَصْلِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ فَالْقَصْدُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ فَالشَّجَرَةُ إِذَا اشْتُرِيَتْ، أَوِ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ خِدْمَةً، أَوْ صِنَاعَةً وَلَمْ يَسْتَفِدْ مَالًا وَالْأَرْضُ قَبْلَ أَنْ تُكْرَى، أَوْ تَزْدَرِعَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ مَقْصُودٌ فِيهَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ، وَغَيْرُهَا، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الْأَعْيَانِ وَالرِّقَابِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِ الْمَنَافِعِ؛ إِذْ هِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ بَعْدُ فَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ إِذَا قُصِدَ الِاسْتِقْلَالُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْأَصْلُ. فَالْمَنَافِعُ إِنَّمَا هِيَ كَالْأَوْصَافِ فِي الْأَصْلِ كَشِرَاءِ الْعَبْدِ الْكَاتِبِ لِمَنْفَعَةِ الْكِتَابَةِ، أَوِ الْعَالِمِ لِلِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ الَّتِي لَا تَسْتَقِلُّ فِي أَنْفُسِهَا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِلَّ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَ الذَّاتِ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْلَالُهَا دُونَ الذَّاتِ، قَدْ زِيدَ فِي أَثْمَانِ الرِّقَابِ لِأَجْلِهَا فَحَصَلَ لِجِهَتِهَا قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ لَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الرِّقَابِ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الرِّقَابَ هِيَ ضَوَابِطُ الْمَنَافِعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ انْدَفَعَ التَّنَافِي وَالتَّنَاقُضُ وَصَحَّ الْأَصْلُ الْمُقَرَّرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ الطَّلَبَيْنِ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى هَذَا الْمَجْمُوعِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ الطَّلَبُ إِلَى الْمَتْبُوعِ خَاصَّةً.
وَبَقِيَ هُنَا تَقْسِيمٌ مُلَائِمٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ مَنَافِعَ الرِّقَابِ، وَهَى الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: مَا كَانَ فِي أَصْلِهِ بِالْقُوَّةِ لَمْ يَبْرُزْ إِلَى الْفِعْلِ لَا حُكْمًا وَلَا وُجُودًا كَثَمَرَةِ الشَّجَرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ قَبْلَ الْحَمْلِ، وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَوَطْءٍ قَبْلَ حُصُولِ التَّهْيِئَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ الْمَنَافِعَ هُنَا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ فِي الْحُكْمِ؛ إِذْ لَمْ تَبْرُزْ إِلَى الْوُجُودِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَسْتَقِلَّ، فَلَا قَصْدَ إِلَيْهَا هُنَا أَلْبَتَّةَ وَحُكْمُهَا التَّبَعِيَّةُ كَمَا لَوِ انْفَرَدَتْ فِيهِ الرَّقَبَةُ بِالِاعْتِبَارِ. وَالثَّانِي: مَا ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَجُودًا وَحُكْمًا، أَوْ حُكْمًا عَادِيًّا، أَوْ شَرْعِيًّا كَالثَّمَرَةِ بَعْدَ الْيُبْسِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ أُمِّهِ، وَمَالِ الْعَبْدِ بَعْدَ الِانْتِزَاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ، وَحُكْمُهُ مَعَ الْأَصْلِ حُكْمُ غَيْرِ الْمُتَلَازِمَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا قَصْدًا لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: مَا فِيهِ الشَّائِبَتَانِ فَمُبَايَنَةُ الْأَصْلِ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، لَكِنْ عَلَى غَيْرِ الِاسْتِقْلَالِ، فَلَا هُوَ مُنْتَظِمٌ فِي سِلْكِ الْأَوَّلِ وَلَا فِي الثَّانِي، وَهُوَ ضَرْبَان: الْأَوَّلُ: مَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ مَحْسُوسًا كَالثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ قَبْلَ مُزَايَلَةِ الْأَصْلِ وَالْعَبْدِ ذِي الْمَالِ الْحَاضِرِ تَحْتَ مِلْكِهِ، وَوَلَدِ الْحَيَوَانِ قَبْلَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أُمِّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْآخَرُ مَا كَانَ فِي حُكْمِ الْمَحْسُوسِ كَمَنَافِعِ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا حَصَلَتْ فِيهِ التَّهْيِئَةُ لِلتَّصَرُّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالْوَطْءِ وَالْخِدْمَةِ وَالِاسْتِصْنَاعِ وَالِازْدِرَاعِ وَالسُّكْنَى، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّرْبَيْنِ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ صَاحِبِهِ مِنْ وَجْهٍ وَانْفَرَدَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا وَاحِدٌ. فَالطَّرَفَانِ يَتَجَاذَبَانِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَلَكِنْ لَمَّا ثَبَتَتِ التَّبَعِيَّةُ عَلَى الْجُمْلَةِ ارْتَفَعَ تَوَارُدُ الطَّلَبَيْنِ عَنْهُ وَصَارَ الْمُعْتَبَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِجِهَةِ الْمَتْبُوعِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَمَّا بَرَزَ التَّابِعُ وَصَارَ مِمَّا يَقْصِدُ تَعَلُّقَ الْغَرَضِ فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَلَا يُنَازَعُ فِي هَذَا أَيْضًا؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ الْمُثْمِرَةُ فِي قِيمَتِهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُثْمِرَةً، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ دُونَ مَالٍ لَا تَكُونُ قِيمَتُهُ كَقِيمَتِهِ مَعَ الْمَالِ وَلَا الْعَبْدُ الْكَاتِبُ كَالْعَبْدِ غَيْرِ الْكَاتِبِ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ بِسَبَبِ تَجَاذُبِ الطَّرَفَيْنِ فِيهِ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ تَجَاذُبُ الطَّرَفَيْنِ فِيهِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، بَلْ يَقْوَى الْمَيْلُ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي حَالٍ وَلَا يَقْوَى فِي حَالٍ أُخْرَى، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الثَّمَرَةَ حِينَ أَبْرَزُوهَا وَقَبْلَ الْإِبَارِ لَيْسَتْ فِي الْقَصْدِ وَلَا فِي الْحُكْمِ كَمَا بَعْدَ الْإِبَارِ، وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَلَا هِيَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ كَمَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَقَبْلَ الْيُبْسِ فَإِنَّهَا قَبْلَ الْإِبَارِ لِلْمُشْتَرِي. فَإِذَا أُبِّرَتْ، فَهِيَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ فَتَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ. فَإِذَا بَدَا صَلَاحُهَا، فَقَدْ قَرُبَتْ مِنَ الِاسْتِقْلَالِ، وَبَعُدَتْ مِنَ التَّبَعِيَّةِ فَجَازَ بَيْعُهَا بِانْفِرَادِهَا وَلَكِنَّ مَنِ اعْتَبَرَ الِاسْتِقْلَالَ قَالَ: هِيَ مَبِيعَةٌ عَلَى حُكْمِ الْجَذِّ كَمَا لَوْ يَبِسَتْ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ، فَلَا جَائِحَةَ فِيهَا، وَمَنِ اعْتَبَرَ عَدَمَ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَبْقَى حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ قَالَ: حُكْمُهَا عَلَى التَّبَعِيَّةِ لِمَا بَقِيَ مِنْ مَقَاصِدِ الْأَصْلِ فِيهَا، وَوَضْعَ فِيهَا الْجَوَائِحَ اعْتِبَارًا بِأَنَّهَا لَمَّا افْتَقَرَتْ إِلَى الْأَصْلِ كَانَتْ كَالْمَضْمُونَةِ إِلَيْهِ التَّابِعَةِ لَهُ فَكَأَنَّهَا عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْأَصْلِ، وَحِينَ تَعَيَّنَ وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى الْمُعْتَادِ صَارَتْ كَالْمُسْتَقِلَّةِ فَكَانَتِ الْجَائِحَةُ الْيَسِيرَةُ مُغْتَفِرَةٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ فِي الْكَثِيرِ كَالتَّبَعِ. وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفُوا فِي السَّقْيِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ هَلْ هُوَ عَلَى الْبَائِعِ أَمْ عَلَى الْمُبْتَاعِ؟ فَإِذَا انْتَهَى الطِّيبُ فِي الثَّمَرَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَا تَضْطَرُّ إِلَى الْأَصْلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ عَلَى جِهَةِ التَّكْمِلَةِ مِنْ بَقَاءِ النَّضَارَةِ وَحِفْظِ الْمَائِيَّةِ اخْتُلِفَ هَلْ بَقِيَ فِيهَا حُكْمُ الْجَائِحَةِ أَمْ لَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا اسْتَقَلَّتْ بِنَفْسِهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَصْلِ مُطْلَقًا أَمْ لَا. فَإِذَا انْقَطَعَتِ الْمَائِيَّةُ وَالنَّضَارَةُ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ فَانْقَطَعَتِ التَّبَعِيَّةُ، وَعَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ يَجْرِي الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَتَرَكَّبُ فَوَائِدُ. مِنْهَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ تَبَعِيَّةٌ جَارٍ فِي الْحُكْمِ مَجْرَى التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ أَصْلٌ آخَرُ كَمَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِمَامَةِ مَعَ الْأَذَانِ، أَوْ خِدْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَمَسْأَلَةِ اكْتِرَاءِ الدَّارِ تَكُونُ فِيهَا الشَّجَرَةُ، أَوْ مُسَاقَاةِ الشَّجَرِ يَكُونُ بَيْنَهَا الْبَيَاضُ الْيَسِيرُ، وَمَسْأَلَةِ الصَّرْفِ وَالْبَيْعِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَلَازَمُ فِي الْحِسِّ، أَوْ فِي الْقَصْدِ، أَوْ فِي الْمَعْنَى، وَيَكُونُ بَيْنَهَا قِلَّةٌ، وَكَثْرَةٌ، فَإِنَّ لِلْقَلِيلِ مَعَ الْكَثِيرِ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ فِي الْوُجُودِ وَلَكِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْقَلِيلَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْكَثِيرِ فِي حُكْمِ الْمُلْغَى قَصْدًا فَكَانَ كَالْمُلْغَى حُكْمًا. وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ تَابِعٍ قُصِدَ فَهَلْ تَكُونُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ مَقْصُودَةً عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَمْ هِيَ مَقْصُودَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ؟ وَالْحَقُّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ التَّبَعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ جُمَلِيًّا لَا تَفْصِيلِيًّا؛ إِذْ لَوْ كَانَ تَفْصِيلِيًّا لَصَارَ إِلَى حُكْمِ الِاسْتِقْلَالِ فَكَانَ النَّهْيُ وَارِدًا عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِذَا فُرِضَ هَذَا الْقَصْدُ، فَإِنْ كَانَ جُمَلِيًّا صَحَّ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ فَلَهُ جِهَتَانِ. جِهَةُ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ وَجِهَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِيهِ. فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ التَّابِعُ فَهَلْ يُرْجَعُ بِقِيمَتِهِ أَمْ لَا يُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ وَلِأَجْلِهِ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ هَذَا الضَّابِطِ كَالْعَبْدِ إِذَا رُدَّ بِعَيْبٍ وَقَدْ كَانَ أَتْلَفَ مَالَهُ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ ثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ وَصُوفُ الْغَنَمِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَمِنْهَا قَاعِدَةُ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ فَالْخَرَاجُ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ. فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ حَاصِلًا فِيهِ شَرْعًا فَمَنَافِعُهُ تَابِعَةٌ سَوَاءٌ طَرَأَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقٌ أَوْ لَا، فَإِنْ طَرَأَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ كَانْتِقَالِ الْمِلْكِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَتَأَمَّلْ مَسَائِلَ الرُّجُوعِ بِالْغَلَّاتِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ عَدَمِ الرُّجُوعِ تَجِدْهَا جَارِيَةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَمِنْهَا فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ مَا كَانَ تَابِعًا لِلشَّيْءِ الْمُسْتَصْنَعِ فِيهِ هَلْ يَضْمَنُهُ الصَّانِعُ كَجَفْنِ السَّيْفِ، وَمِنْدِيلِ الثَّوْبِ وَطَبَقِ الْخُبْزِ، وَنُسْخَةِ الْكِتَابِ الْمُسْتَنْسَخِ، وَوِعَاءِ الْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَابِعٌ كَمَا يَضْمَنُ نَفْسَ الْمُسْتَصْنَعِ أَمْ لَا، فَلَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ الصَّانِعِ. وَمِنْهَا فِي الصَّرْفِ مَا كَانَ مِنْ حِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ وَنَحْوِهِمَا تَابِعًا وَغَيْرَ تَابِعٍ، وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ، أَوْ مَنَافِعُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا حَرَامًا أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا حَلَالًا، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِهِ وَعَلَيْهِ. وَهَذَانَ الْقَسَمَانِ وَإِنْ تُصُوِّرَا فِي الذِّهْنِ بَعِيدٌ أَنْ يُوجَدَا فِي الْخَارِجِ؛ إِذْ مَا مِنْ عَيْنٍ مَوْجُودَةٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا إِلَّا وَفِيهَا جِهَةُ مَصْلَحَةٍ وَجِهَةُ مَفْسَدَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ فَيَرْجِعُ الْقَسَمَانِ إِذًا إِلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَنَافِعِ حَلَالًا، وَبَعْضُهَا حَرَامًا فَهَاهُنَا مُعْظَمُ نَظَرِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَوَّلًا ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَصَالَةِ عُرْفًا وَالْجَانِبُ الْآخَرُ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْعَادَةِ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَعَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ لِمَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْأَصَالَةِ وَالْعُرْفِ وَالْآخَرُ لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْجَانِبَ التَّابِعَ لَمْ يَصِحَّ لَنَا تَمَلُّكُ عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ وَلَا عَقْدٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ مَنَافِعِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنَافِعَ مُحَرَّمَةً، وَهُوَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى سُقُوطِ الطَّلَبِ فِي جِهَةِ التَّابِعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّ جِهَةَ التَّبَعِيَّةِ يُلْغَى فِيهَا مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنَ الطَّلَبِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَاقِدِ قَصْدٌ إِلَى الْمُحَرَّمِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: اعْتِبَارُ الْقَصْدِ الْأَصِيلِ، وَإِلْغَاءِ التَّابِعِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا فَيَرْجِعُ إِلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وَالْآخَرُ: اعْتِبَارُ الْقَصْدِ الطَّارِئِ؛ إِذْ صَارَ بِطَرَيَانِهِ سَابِقًا، أَوْ كَالسَّابِقِ، وَمَا سِوَاهُ كَالتَّابِعِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ. وَمِثَالُهُ فِي أَصَالَةِ الْمَنَافِعِ الْمُحَلِّلَةِ شِرَاءُ الْأَمَةِ بِقَصْدِ إِسْلَامِهَا لِلْبِغَاءِ كَسْبًا بِهِ، وَشِرَاءُ الْغُلَامِ لِلْفُجُورِ بِهِ، وَشِرَاءُ الْعِنَبِ لِيُعْصَرَ خَمْرًا وَالسِّلَاحِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لِلتَّدْلِيسِ بِهَا، وَفِي أَصَالَةِ الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ شِرَاءُ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالضَّرْعِ وَالزَّرْعِ عَلَى رَأْيِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَشِرَاءُ السِّرْقِينِ لِتَدْمِينِ الْمَزَارِعِ، وَشِرَاءُ الْخَمْرِ لِلتَّخْلِيلِ، وَشِرَاءُ شَحْمِ الْمَيْتَةِ لِتُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، أَوْ يَسْتَصْبِحَ بِهِ النَّاسُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالْمُنْضَبِطُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ مَا يُقْصَدُ بِالْأَصَالَةِ، وَالْعَادَةِ هُوَ الَّذِي جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ الْقَصْدُ إِلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَإِنَّ شِرَاءَ الْأَمَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فِي التَّسَرِّي إِنْ كَانَتْ مِنْ عَلِيِّ الرَّقِيقِ، أَوِ الْخِدْمَةِ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَخْشِ، وَشِرَاءَ الْخَمْرِ لِلشُّرْبِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ لِلْأَكْلِ هُوَ الْغَالِبُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي نَحْو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إِلَى قَوْلِه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاء: 24] فَوَجَّهَ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ عَلَى أَنْفُسِ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَفْهُومٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَة: 188]. {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النِّسَاء: 10]، وَأَشْبَاهِهِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فِي غَيْرِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْمَقَاصِدِ وَأَعْظَمَهَا هُوَ الْأَكْلُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالتَّبَعِ، وَمَا لَا يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ عَادَةً إِلَّا بِالتَّبَعِيَّةِ لَا حُكْمَ لَهُ، وَقَدْ وَرَدَ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَأَخَوَاتِهَا، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَحْمِ الْمَيْتَة: إِنَّهُ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهِ النَّاسُ فَأَوْرَدَ مَا دَلَّ عَلَى مَنْعِ الْبَيْعِ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ بِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَكْلُ مُحَرَّمٌ، وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا». وَقَالَ فِي الْخَمْر: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا»، وَ«إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» لِأَجْلِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِي الْعَادَةِ هُوَ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّحْرِيمُ، وَمَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَا حُكْمَ لَهُ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَجَازُوا نِكَاحَ الرَّجُلِ لِيَبَرَّ يَمِينَهُ إِذَا حَلَفَ أَنَّ يَتَزَوَّجَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْبَقَاءَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَوَابِعٌ، وَلَوْ كَانَتِ التَّوَابِعُ مَقْصُودَةً شَرْعًا حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا مِنَ الطَّلَبِ لَمْ يَجُزْ كَثِيرٌ مِنَ الْعُقُودِ لِلْجَهَالَةِ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ، بَلْ لَمْ يَجُزِ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَكَحَ لَزِمَهُ الْقِيَامُ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالْإِنْفَاقِ، وَسَائِرِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ إِلَى بَذْلِ الصَّدَاقِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَالْعِوَضِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْبُضْعِ، وَهَذَا ثَمَنٌ مَجْهُولٌ فَالْمَنَافِعُ التَّابِعَةُ لِلرَّقَبَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، أَوْ لِلْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ سَابِقَةٌ فِي الْمَقَاصِدِ الْعَادِيَّةِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، وَمَا سِوَاهَا مِمَّا هُوَ تَبَعٌ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ قَصْدًا فَيَكُونَ فِيهِ نَظَرٌ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا حُكْمَ لَهُ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ لِعُمُومِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلِخُصُوصِ الْحَدِيثِ فِي سُؤَالِهِمْ عَنْ شَحْمِ الْمَيْتَةِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يُقْصَدُ لِطِلَاءِ السُّفُنِ وَلِلِاسْتِصْبَاحِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِمَّا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِالشَّحْمِ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَصْدَ الْخَاصَّ لَا يُعَارِضُ الْقَصْدَ الْعَامَّ. فَإِنْ صَارَ التَّابِعُ غَالِبًا فِي الْقَصْدِ، وَسَابِقًا فِي عُرْفِ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ حَتَّى يَعُودَ مَا كَانَ بِالْأَصَالَةِ كَالْمَعْدُومِ الْمُطَّرَحِ فَحِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ الْحُكْمُ، وَمَا أَظُنُّ هَذَا يَتَّفِقُ هَكَذَا بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنْ إِنْ فُرِضَ اتِّفَاقُهُ انْقَلَبَ الْحُكْمُ، وَالْقَاعِدَةُ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ كَمَا وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ، وَلَكِنَّ الْقَصْدَ إِلَى التَّابِعِ كَثِيرٌ فَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ مَا يُقْصَدُ مِثْلُهُ عُرْفًا وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ اعْتِبَارًا بِالِاحْتِمَالَيْنِ، وَقَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ أَيْضًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى سَبْقِ الْقَصْدِ إِلَى الْمَمْنُوعِ، وَكَثْرَةُ ذَلِكَ فِي ضَمِّ الْعَقْدَيْنِ، وَمَنْ لَا يَرَاهَا بَنَى عَلَى أَصْلِ الْقَصْدِ فِي انْفِكَاكِ الْعَقْدَيْنِ عُرْفًا، وَأَنَّ الْقَصْدَ الْأَصْلِيَّ خِلَافُ ذَلِكَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ تَبَعًا فِي الْقَصْدِ الْعَادِيِّ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يَسْبِقُ الْقَصْدَ إِلَيْهِ عَادَةً بِالْأَصَالَةِ كَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةِ إِذَا فَرَضْنَا الْعَيْنَ وَالصِّيَاغَةَ مَقْصُودَتَيْنِ مَعًا عُرْفًا، أَوْ يَسْبِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ عُرْفًا فَهَذَا بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ فِيهِ بِاجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَيْهِمَا مُتَلَازِمَانِ، فَلَا بُدَّ مِنِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا، وَاطِّرَاحِ الْآخَرِ حُكْمًا. أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا مَرَّ فَيَسْقُطُ الطَّلَبُ الْمُتَوَجِّهُ إِلَى التَّابِعِ. وَأَمَّا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا فَيَصِيرُ التَّابِعُ عَفْوًا، وَيَبْقَى التَّعْيِينُ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَمَوْضِعُ إِشْكَالٍ، وَيَقِلُّ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُهُ فَكُلُّ أَحَدٍ، وَمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي نَحْوِ هَذَا الْقِسْمِ فِي الْبُيُوع: يَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْمَمْنُوعِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ مَقْصُودَةً يَقْتَضِي أَنَّ لَهَا حِصَّةً مِنَ الثَّمَنِ، وَالْعَقْدُ وَاحِدٌ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا سَبِيلَ إِلَى تَبْعِيضِهِ وَالْمُعَاوَضَةُ عَلَى الْمُحَرَّمِ مِنْهُ مَمْنُوعَةٌ فَمَنْعُ الْكُلِّ لِاسْتِحَالَةِ التَّمْيِيزِ، وَإِنَّ سَائِرَ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ يَصِيرُ ثَمَنُهَا مَجْهُولًا لَوْ قُدِّرَ انْفِرَادُهُ بِالْعَقْدِ هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ. وَأَيْضًا فَقَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ تَقْوَى هَا هُنَا إِذَا قَدْ ثَبَتَ الْقَصْدُ إِلَى الْمَمْنُوعِ. وَأَيْضًا فَقَاعِدَةُ مُعَارَضَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ جَارِيَةٌ هُنَا؛ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ، وَلِأَنَّ قَاعِدَةَ التَّعَاوُنِ هُنَا تَقْضِي بِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ عَلَى مِثْلِ هَذَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ بِاتِّفَاقٍ شِرَاءُ الْعِنَبِ لِلْخَمْرِ قَصْدًا، وَشِرَاءُ السِّلَاحِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَشِرَاءُ الْغُلَامِ لِلْفُجُورِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَصْدُ تَبَعِيًّا فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى الْحُكْمِ بِالْمَنْعِ فِيهِ لَكِنَّهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّظَرُ الْخِلَافِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقْطَعِ الْحُكْمِ، وَكَوْنِ الْمُعَاوَضَةِ فَاسِدَةً، أَوْ غَيْرَ فَاسِدَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ بَسْطٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ.
وُرُودُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْآخَرِ، وَلَا هُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا فِي الْعُرْفِ الْجَارِي إِلَّا أَنَّ الْمُكَلِّفَ ذَهَبَ قَصْدُهُ إِلَى جَمْعِهِمَا مَعًا فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ، وَفِي غَرَضٍ وَاحِدٍ كَجَمْعِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلْنَصْطَلِحْ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَلَى وَضْعِ الْأَمْرِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الْجُمُعَة: 10]. وَإِنَّمَا قَصَدَ هُنَا الِاخْتِصَارَ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ وَالْمَعْنَى فِي الْمُسَاقِ مَفْهُومٌ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَابِعٍ فِي الْقَصْدِ بِالْفَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُمَا عَلَى حُكْمِ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ يَأْبَاهُ وَالْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ مِنَ الشَّرْعِ عَرَّفَ أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرًا فِي أَحْكَامٍ لَا تَكُونُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَ مَأْمُورٍ، وَمَنْهِيٍّ مَعَ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ مَأْمُورَيْنِ، أَوْ مَنْهِيَّيْنِ، فَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ لَجَازَ. وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ مَعَ جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بِانْفِرَادِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، وَقَالَ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ، وَهُوَ دَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي مَسْأَلَتِنَا مِنْ حَيْثُ كَانَ لِلْجَمْعِ حُكْمٌ لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ فَكَانِ الِاجْتِمَاعُ مُؤَثِّرًا، وَهُوَ دَلِيلٌ، وَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي قَطْعِ الْأَرْحَامِ، وَهُوَ رَفْعُ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى تَأْثِيرِ الِاجْتِمَاعِ. وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَوْ مَا بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ تَقَدُّمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ، وَعَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ لِمِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا. وَنَهَى عَنْ جَمْعِ الْمُفْتَرِقِ، وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرًا لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ وَاقْتِضَاؤُهُ أَنَّ لِلِانْفِرَادِ حُكْمًا لَيْسَ لِلِاجْتِمَاعِ يُبَيِّنُ أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ حُكْمًا لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ، وَلَوْ فِي سَلْبِ الِانْفِرَادِ. وَنَهَى عَنِ الْخَلِيطَيْنِ فِي الْأَشْرِبَةِ؛ لِأَنَّ لِاجْتِمَاعَهُمَا تَأْثِيرًا فِي تَعْجِيلِ صِفَةِ الْإِسْكَارِ. وَعَنِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَعَنِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ. وَأَيْضًا فَإِذَا أُخِذَ الدَّلِيلُ فِي الِاجْتِمَاعِ أَعَمَّ مِنْ هَذَا تَكَاثَرَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَالْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفْرِقَةِ لِمَا فِي الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَيْسَتْ فِي الِانْفِرَادِ كَالتَّعَاوُنِ وَالتَّظَاهُرِ، وَإِظْهَارِ أُبَّهَةِ الْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ، وَإِخْمَادِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتِ الْجَمَاعَاتُ وَالْجُمُعَاتُ وَالْأَعْيَادُ، وَشُرِعَتِ الْمُوَاصَلَاتُ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ خُصُوصًا، وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عُمُومًا. وَقَدْ مُدِحَ الِاجْتِمَاعُ، وَذُمَّ الِافْتِرَاقُ، وَأُمِرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَذَمِّ ضِدِّهَا، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَأَيْضًا فَالِاعْتِبَارُ النَّظَرِيُّ يَقْضِي أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ أَمْرًا زَائِدًا لَا يُوجَدُ مَعَ الِافْتِرَاقِ هَذَا وَجْهُ تَأْثِيرِ الِاجْتِمَاعِ. وَلِلِافْتِرَاقِ أَيْضًا تَأْثِيرٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهَا إِذَا كَانَ لِلِاجْتِمَاعِ مَعَانٍ لَا تَكُونُ فِي الِافْتِرَاقِ فَلِلِافْتِرَاقِ أَيْضًا مَعَانٍ لَا تُزِيلُهَا حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ فَالنَّهْيُ عَنْ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُجْتَمِعَيْنِ قَضَى بِأَنَّ لِافْتِرَاقِهِمَا مَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ إِذْ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّهُمَا نَشَأَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى زَائِدٌ لِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّهْيُ وَزِيَادَةُ الْمَعْنَى فِي الِاجْتِمَاعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْدِمَ مَعَانِي الِانْفِرَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِثْلُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ لِلِاجْتِمَاعِ مَعَانٍ لَا تَكُونُ فِي الِانْفِرَادِ فَلِلِانْفِرَادِ فِي الِاجْتِمَاعِ خَوَاصٌّ لَا تَبْطُلُ بِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَمِعَيْنِ مَعَانِيَ لَوْ بَطَلَتْ لَبَطَلَتْ مَعَانِي الِاجْتِمَاعِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْضَاءِ مَعَ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ مَجْمُوعَهَا هُوَ الْإِنْسَانُ، وَلَكِنْ لَوْ فُرِضَ اجْتِمَاعُهَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، أَوْ عَلَى تَحْصِيلِ مَعْنَى وَاحِدٍ لَبَطَلَ الْإِنْسَانُ، بَلِ الرَّأْسُ يُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الْيَدُ وَالْيَدُ تُفِيدُ مَا لَا تُفِيدُهُ الرِّجْلُ، وَهَكَذَا الْأَعْضَاءُ الْمُتَشَابِهَةُ كَالْعِظَامِ وَالْعَصَبِ وَالْعُرُوقِ، وَغَيْرِهَا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَافْهَمْ مِثْلَهُ فِي سَائِرِ الِاجْتِمَاعَاتِ. فَالْأَمْرُ بِالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِفَوَائِدِ الْأَفْرَادِ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ فَمِنْ حَيْثُ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ بِالِاجْتِمَاعِ، فَهِيَ حَاصِلَةٌ مِنْ جِهَةِ الِافْتِرَاقِ أَيْضًا حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ. وَأَيْضًا فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الِاجْتِمَاعُ فِي شَيْئَيْنِ يَصِحُّ اسْتِقْلَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ يَصِحُّ أَنْ يُعْتَبَرَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا فَيَتَعَارَضَانِ فِي مِثْلِ مَسْأَلَتِنَا حَتَّى يُنْظَرَ فِيهَا فَلَيْسَ اعْتِبَارُ الِاجْتِمَاعِ وَحْدَهُ بِأَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الِانْفِرَادِ، وَلِكُلٍّ وَجْهٌ تَتَجَاذَبُهُ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحِينَ امْتَزَجَ الْأَمْرَانِ فِي الْمَقْصِدِ صَارَا فِي الْحُكْمِ كَالْمُتَلَازِمَيْنِ فِي الْوُجُودِ اللَّذَيْنِ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُتَلَازِمَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمَا بِالْأَمْرِ، أَوْ بِالنَّهْيِ، أَوْ لَا، فَإِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُجْرَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الِانْفِكَاكِ وَالِاسْتِقْلَالِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْوُجُودِيِّ وَالِاسْتِعْمَالِ إِذَا كَانَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ عَنْ صَاحِبِهِ وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الصَّفْقَةِ تَجْمَعُ بَيْنَ حَرَامٍ وَحَلَالٍ، وَوَجْهُ كُلِّ قَوْلِ مِنْهُمَا قَدْ ظَهَرَ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الَّذِي يُسَاعِدُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَأْثِيرُ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنَّ لَهُ حُكْمًا لَا يَكُونُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَجْمُوعِ كَالتَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ، فَإِنَّهُ صَارَ جُزْءًا مِنَ الْجُمْلَةِ، وَبَعْضُ الْجُمْلَةِ تَابِعٌ لِلْجُمْلَةِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ، أَوْ مَنْدُوبًا بِالْجُزْءِ وَاجِبًا بِالْكُلِّ، وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا حُكْمُ الْجُزْءِ مَعَ الْكُلِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا. فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْجُمْلَةِ وَجَدْنَا مَحَلَّ النَّهْيِ مَوْجُودًا فِي الْجُمْلَةِ فَتَوَجَّهَ النَّهْيُ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَوَجْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَعْلِيلِ الْمَازِرِيِّ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُزْئَيْنِ كَالتَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ فَلَيْسَ جُزْءُ الْحَرَامِ بِأَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا، وَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ لَا يُنْكَرُ، وَلَهُ مُعَارِضٌ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَفْرَادِ كَمَا مَرَّ. وَأَمَّا تَوْجِيهُ الْمَازِرِيِّ فَاعْتِبَارُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَا غَيْرِهِ فَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِ مُجْتَهِدٌ، وَيُمْكِنَ أَنْ لَا.
الْأَمْرَانِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَابِعٍ لِصَاحِبِهِ إِذَا ذَهَبَ قَصْدُ الْمُكَلِّفِ إِلَى جَمْعِهَا مَعًا فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ، وَفِي غَرَضٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْجَمْعِ تَأْثِيرًا، وَأَنَّ فِي الْجَمْعِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الِانْفِرَادِ كَمَا أَنَّ مَعْنَى الِانْفِرَادِ لَا يَبْطُلُ بِالِاجْتِمَاعِ. وَلَكِنْ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُنَافِيَ الْأَحْكَامِ لِأَحْكَامٍ أُخَرَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ رَجَعَ فِي الْحُكْمِ إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الشَّيْئَيْنِ يَجْتَمِعَانِ قَصْدًا، وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ تَقْتَرِنُ بِهِ، فَهِيَ مَنُوطَةٌ بِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْمَصَالِحِ الْمَوْضُوعَةِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَادَةً، أَوْ عِبَادَةً، فَإِنِ اقْتَرَنَ عَمَلَانِ، وَكَانَتْ أَحْكَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُنَافِي أَحْكَامَ الْآخَرِ فَمِنْ حَيْثُ صَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْقَصْدِ الِاجْتِمَاعِيِّ اجْتَمَعَتِ الْأَحْكَامُ الْمُتَنَافِيَةُ الَّتِي وُضِعَتْ لِلْمَصَالِحِ فَتَنَافَتْ وُجُوهُ الْمَصَالِحِ، وَتَدَافَعَتْ، وَإِذَا تَنَافَتْ لَمْ تَبْقَ مَصَالِحَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَاسْتَقَرَّتِ الْحَالُ عَلَى وَجْهِ اسْتِقْرَارِهَا فِي اجْتِمَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَاسْتَوَيَا فِي تَنَافِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ وَالْأَمْرَ يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ وَاجْتِمَاعُهُمَا يُؤَدِّي إِلَى الِامْتِنَاعِ كَمَا مَرَّ فَامْتَنَعَ مَا كَانَ مِثْلُهُ. وَأَصْلُ هَذَا نَهِيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ؛ لِأَنَّ بَابَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي الْمُغَابَنَةَ وَالْمُكَايَسَةَ، وَبَابُ السَّلَفِ يَقْتَضِي الْمُكَارَمَةَ وَالسَّمَاحَ وَالْإِحْسَانَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا دَاخَلَ السَّلَفَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْبَيْعِ فَخَرَجَ السَّلَفُ عَنْ أَصْلِهِ؛ إِذْ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، أَوِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً فَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ الصَّرْفُ أَصْلُهُ الْمُغَابَنَةُ وَالْمُكَايَسَةُ، وَالْمُكَايَسَةُ فِيهِ وَطَلَبُ الرِّبْحِ مَمْنُوعَةٌ. فَإِذَا رَجَعَ السَّلَفُ إِلَى أَصْلِهِ بِمُقَارَنَةِ الْبَيْعِ امْتَنَعَ مِنْ جِهَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: الْأَجَلُ الَّذِي فِي السَّلَفِ. وَالْأُخْرَى: طَلَبُ الرِّبْحِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمُكَايَسَةُ أَنَّهُ لَمْ يَضُمَّ إِلَى الْبَيْعِ إِلَّا وَقَدْ دَاخَلَهُ فِي قَصْدِ الِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْمَعْنَى فِي إِشْرَاكِ الْمُكَلِّفِ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهَا مِمَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ إِمَّا وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا، أَوْ إِبَاحَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ، وَكَانَتْ أَحْكَامُهُمَا مُتَنَافِيَةً مِثْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالذَّبْحِ وَالْكَلَامِ الْمُنَافِي فِي الصَّلَاةِ وَجَمْعِ نِيَّةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فِي الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَالنَّدْبِ مَعًا وَجَمْعِ فَرْضَيْنِ مَعًا فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ كَظُهْرَيْنِ، أَوْ عَصْرَيْنِ، أَوْ ظُهْرٌ وَعَصْرٌ، أَوْ صَوْمُ رَمَضَانَ أَدَاءً وَقَضَاءً مَعًا إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَلِأَجْلِ هَذَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ جَمْعِ عُقُودِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا خِلَافٌ فَالْجَوَازُ يَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَةِ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ فَمَنَعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الصَّرْفِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ وَالْبَيْعِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْبَيْعِ وَالشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ وَالْجُعْلِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي الِاجْتِمَاعِ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْبَيْعِ، وَمَنَعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجُزَافِ وَالْمَكِيلِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اجْتِمَاعِ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ. وَهَذَا كُلُّهُ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ فَالصَّرْفُ مَبْنِيٌّ عَلَى غَايَةِ التَّضْيِيقِ حَتَّى شُرِطَ فِيهِ التَّمَاثُلُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْجِنْسِ وَالتَّقَابُضُ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَلَا تَأْخِيرَ، وَلَا بَقَاءَ عَلَقَةٍ، وَلَيْسَ الْبَيْعُ كَذَلِكَ. وَالنِّكَاحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُكَارَمَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَعَدَمِ الْمُشَاحَّةِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهَ الصَّدَاقَ نِحْلَةً، وَهِيَ الْعَطِيَّةُ لَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَأُجِيزَ فِيهِ نِكَاحُ التَّفْوِيضِ. بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ مَبْنِيَّانِ عَلَى التَّوْسِعَةِ؛ إِذْ هُمَا مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ أَصْلٍ مَمْنُوعٍ، وَهُوَ الْإِجَارَةُ الْمَجْهُولَةُ فَصَارَا كَالرُّخْصَةِ. بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى رَفْعِ الْجَهَالَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ وَالْأَجَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَأَحْكَامُهُ تُنَافِي أَحْكَامَهُمَا. وَالشَّرِكَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَعْرُوفِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى إِقَامَةِ الْمَعَاشِ لِلْجَانِبَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَالْبَيْعُ يُضَادُّ ذَلِكَ وَالْجُعْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْجَهَالَةِ بِالْعَمَلِ، وَعَلَى أَنَّ الْعَامِلَ بِالْخِيَارِ وَالْبَيْعُ يَأْبَى هَذَيْنِ وَاعْتِبَارُ الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلِ قَصْدٌ إِلَى غَايَةِ الْمُمْكِنِ فِي الْعِلْمِ بِالْمَكِيلِ وَالْجُزَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِي الْعِلْمِ بِالْمَبْلَغِ لِلِاجْتِزَاءِ فِيهِ بِالتَّخْمِينِ الَّذِي لَا يُوَصِّلُ إِلَى عِلْمٍ. وَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ لَمْ تُوجَدْ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْجَهَالَةِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ لِحَاجَةِ التَّعَاوُنِ كَالشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي عَقْدٍ عَلَى بَتٍّ فِي سِلْعَةٍ، وَخِيَارٍ فِي أُخْرَى وَالْمَنْعُ بِنَاءٌ عَلَى تَضَادِّ الْبَتِّ وَالْخِيَارِ. وَكَمَا اخْتَلَفُوا فِي جَمْعِ الْعَادِيَيْنَ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى الشَّهَادَةِ بِتَضَادِّ الْأَحْكَامِ فِيهِمَا، أَوْ عَدَمِ تَضَادِّهَا كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي جَمْعِ الْعِبَادِيِّ مَعَ الْعَادِي كَالتِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ، أَوِ الْجِهَادِ، وَكَقَصْدِ التَّبَرُّدِ مَعَ الْوُضُوءِ، وَقَصْدِ الْحِمْيَةِ مَعَ الصَّوْمِ، وَفِي بَعْضِ الْعِبَادَتَيْنِ كَالْغُسْلِ بِنْيَةِ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ. وَقَدْ مَرَّ هُنَا، وَفِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ مَعَ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَنَافِي الْأَحْكَامِ، فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنِ اعْتِبَارِ قَصْدِ الِاجْتِمَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَبْلُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُحْدِثَ الِاجْتِمَاعُ حُكْمًا يَقْتَضِي النَّهْيَ، أَوْ لَا. فَإِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ صَارَتِ الْجُمْلَةُ مَنْهِيًّا عَنْهَا وَاتَّحَدَتْ جِهَةُ الطَّلَبِ، فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ أَلْغَى الطَّلَبَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْأَجْزَاءِ وَصَارَتِ الْجُمْلَةُ شَيْئًا وَاحِدًا يَتَعَلَّقُ بِهِ، إِمَّا الْأَمْرُ، وَإِمَّا النَّهْيُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ إِنِ اقْتَضَى الْمَصْلَحَةَ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ النَّهْيُ إِذَا اقْتَضَى مَفْسَدَةً فَالْفَرْضُ هُنَا أَنَّهُ اقْتَضَى مَفْسَدَةً، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ صَوْمِ أَطْرَافِ رَمَضَانَ مَعَ مَا قَبْلَهُ، وَمَا بَعْدَهُ وَالْخَلِيطَيْنِ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَجَمْعِ الرَّجُلَيْنِ فِي الْبَيْعِ سِلْعَتَيْهِمَا عَلَى رَأْيِ مَنْ رَآهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يَقْتَضِي عَدَمَ اعْتِبَارِ الْإِفْرَادِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْجَهَالَةِ فِي الثَّمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْلُومَةً فَامْتَنَعَ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَأَمَّا الْمُجِيزُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اعْتَبَرَ أَمْرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَيِ السِّلْعَتَيْنِ لَمَّا قَصَدَا إِلَى جَمْعِ سِلْعَتَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ صَارَ ذَلِكَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ فِيهِمَا فَكَأَنَّهُمَا قَصَدَا الشَّرِكَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ بِيْعَهُمَا وَالِاشْتِرَاكَ فِي الثَّمَنِ، وَإِذَا كَانَا فِي حُكْمِ الشَّرِيكَيْنِ فَلَمْ يَقْصِدَا إِلَى مِقْدَارِ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السِّلْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ كَجُزْءِ السِّلْعَةِ الْوَاحِدَةِ فَهُوَ قَصْدٌ تَابِعٌ لِقَصْدِ الْجُمْلَةِ، فَلَا أَثَرَ لَهُ، ثُمَّ الثَّمَنُ يُفَضُّ عَلَى رُءُوسِ الْمَالَيْنِ إِذَا أَرَادَا الْقِسْمَةَ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي ذَلِكَ؛ إِذْ لَا جَهَالَةَ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الِاجْتِمَاعِ حُدُوثُ فَسَادٍ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يَقْتَضِي النَّهْيَ فَالْأَمْرُ مُتَوَجَّهٌ؛ إِذْ لَيْسَ إِلَّا أَمْرٌ، أَوْ نَهْيٌ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ.
|