الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **
الجزء الثالث ذكر ما جرى في السنة الأولى من الهجرة هي سنة أربع عشرة من البعثة وهي سنة أربع وثلاثين من ملك كسرى أبرويز وسنة تسع لهرقل. وأول هذه السنة المحرم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيمًا في المحرم بمكة لم يخرج منها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالخروج إلى المدينة فخرجوا إرسالًا في المحرم وقد كان جماعة خرجوا في ذي الحجة وصدروا المشركين يحتسبون بالاهتمام بأمره والتحيل له فاجتمعوا في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها - يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه. قال ابن إسحاق: فحدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لذلك واتعَدوا أن يدخلوا دار الندوة يتشاورون فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غَدوا في اليوم الذي اتعدوا له فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فوقف على باب الدار فلما رأوه قالوا: مَن الشيخ قال: شيخ من أهل نجدٍ سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يُعْدمكم منه رأي ونصح. قالوا: ادخل. فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم من كل قبيلة من بني عبد شمس: عُتْبة وشَيْبة ابنا ربيعة. ومن بني أمية: أبو سفيان بن حرب. ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي وجُبير بن مُطعم والحارث بن عامر بن نوفل. ومن بني عبد الدار وقصي: النضر بن الحارث بن كلدة. ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البَخْتري بن هشام وزَمْعة بن الأسود وحكيم بن حزام. ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام ومن بني سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج. ومن بني جُمح: أمية بن خلف. ومن كان معهم ومن غيرهم ممن لا يُعَدُ من قريش. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد كان نأمَنهُ على الوثوب علينا فيمَنْ قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيًا. فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد واغلقوا عليه بابًا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهَه من فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه فوثبوا عليكم فانتزعوه من بين أيديكم. فقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حُسْنَ حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به واللّه لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل بحي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ثم يسير بهم إليكم حتى يَطأكم بهم في بلادكم. فقال أبو جهل: والله إن لي فيه لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه. قالوا: وما هو يا أبا الحكم قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابًا جلدًا نسيبًا وسيطًا فيكم ثم يُعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا ثم يعمدون إليه فيضربونه ضربة رَجلٍ واحدٍ فيقتلونه فنستريح فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دَمُهُ في القبائل كلها فلم يقدر بنو عبد منافٍ على حرب قومهم جميعًا ورضوا منا بالعَقْل فعقلناه لهم. فقال الشيخ النجدي: القول ما قال هذا الرجل هذا الرأي لا أرى لكم غيره. فقال: لا تبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. فلمَا كانت العَتْمة اجتمعوا على بابه ثم ترصَدوه متى ينام فيثبون عليه: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه " نمْ على فراشي وتَسج بِبُرْدي الحضرمي الأخضر فَنَمْ فيه فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في بُرده ذلك إذا نام. أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قالَ: أخبرنا أبو بكر بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني عثمان الجزري: أن مِقْسمًا مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس: في قوله تعالى: قال: تَشَاورتْ قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فاثبِتُوه بالوَثَاق يريدون رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بل اقتلوه وقال بعضهم: بل أخرجوه فأطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي رضي اللهّ عنه على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغارة فبات المشركون يحرسُون عليًا يحسبونه النبي عليه السلام فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليًا رد الله مكرهم وقال محمد بن كعب القرظي: اجتمعوا على بابه فقالوا: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوك العرب والعجم ثم بُعثتُم بعد موتكم فجُعل لكم جنانٌ كجنان الأرض فإن لم تفعلوا ذلك كان لكم فيه ذبح ثم بُعثتم بعد موتكم فجعلت لكم نارٌ تُحرقون فيها. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حَفْنة من تراب ثم قال: " نعم أنا أقول ذلك " فنثر التراب على رؤوسهم ولم يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: يس إلى قوله: ثم انصرف إلى حيث أراد فأتاهم آتٍ ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ها هنا قالوا: محمدًا. قال: لقد واللّه خرج عليكم محمد ما ترك منكم رجلًا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا وانطلق لحاجته. فوضع كلّ رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يتطلعون فَيَروْن عليًا رضي الله عنه على الفراش متسجيًّا بِبُرْدة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولون: " إن هذا لمحمد نائم عليه بُرده. فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا: واللّه لقد صدقنا الذي كان حدثنا. وروى الواقدي عن أشياخه: أن الذين كانوا ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من المشركين: أبو جهل والحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث وأميّة بن خلف وابن العيطلة وزمعة بن الأسود وطعيمة بن عديّ وأبو لهب وأبيّ بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج. فلما أصبحوا قام علي رضي الله عنه عن الفراش فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لاعلم لي به. وحكى جرير أنهم ضربوا عليًا وحبسوه ساعة ثم تركوه. أخبرنا عبد الأول قال: أخبرنا ابن المظفر الداوودي قال: أخبرنا ابن أعين قال: حدثنا الفربري قال: أخبرنا البخاري قال: حدثنا يحيى بن أبي بكر قال: أخبرنا الليث عن عُقيل قال: قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: بينا نحن جلوس في بيت أبي بكر في نَحْرِ الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلًا متقنعًا في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداءٌ له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا قالت: فجاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأْذَن فَأذِنَ له فَدَخَلَ فقال لأبي بكر: اخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. فقال أبو بكر: إنما هم أهْلُكَ بأبي أنت يا رسول الله. قال: " فإني قد أذِنَ لي في الخروج " قال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله. قال: نعم قال: فَخُذْ إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بالثمَن ". قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز ووضعنا لهما سُفرة من جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها ثم ربطت به فم الجًراب - ولذلك سميت ذات النطاقين - قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر - وهو غلام شاب ثَقِفٌ لقِن - فيَدلج من عندهما بِسَحَرٍ فيصبح مع قريش كبائتٍ فلا يسمع أمر يُكادُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فَهَيْرة مولى أبي بكر مِنْحَة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رِسْلٍ - وهو لبنُ منحتهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بِغَلسٍ يفعل هذا كل يوم وليلة من الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من بني الديل وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وَوَاعده غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما. قال مؤلف الكتاب: وقد روينا عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى أبا بكر لما أراد الخروج فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غارٍ في جبل ثور. وروى الواقدي عن أشياخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمنزل أبي بكر إلى الليل ثم خرجا إلى الغار وكان خروجهما وقد بقي من صفر ثلاث ليالٍ. قالت أسماء بنت أبي بكر: لما خرجا أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر فخرجتُ إليهم فقالوا: أين أبوك فقلت: لا أدري واللّه أين أبي فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشًا - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا. أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثت يعقوب قال: أخبرنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير: أن أباه حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر مالَه كله معه - - خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم - وانطلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: إني واللّه لأراه قد فجعكمِ بماله مع نفسِهِ. قالت: قلت: كلا إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا. قالت: فأخذت أحجارًا فوضعتها في كوٌة في البيت كان أبي يضع فيها ماله ثم وضعت عليها ثوبًا ثم أخذت بيده فقلت: أيا أبت ضَعْ يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس إن كان تَرك لكم هذا فقد أحْسَن وفي هذا لكم بلاغ. قالت: لا واللّه ما ترك لنا شيئًا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك. أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عفان قال: أخبرنا هَمًام قال: أخبرنا ثابت عن أنس: أن أبا بكرٍ حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. قال: " أيا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ". أخرجاه في الصحيحين. أخبرنا المحمدان: ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر قال: أخبرنا محمد بن العباس بن أيوب قال: أخبرنا أحمد بن محمد المؤدب قال: حدثنا أبو معاوية قال: أخبرنا هلال بن عبد الرحمن قال: أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة عن أنس قال: لما كان ليلة الغار قال أبو بكر: يا رسول الله دعني فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه فكلما رأى جُحرًا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجُحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع. قال: فبقي جحر فوضع عقبه عليه ثم أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أين ثوبك يا أبا بكر " فأخبره بالذي صنع فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: " اللهم اجعل أبا بكرٍ معي في درجتي في الجنة " أو قال: " يوم القيامة " فأوحى الله عز وجل إليه أن قد استجاب لك. وقال الواقدي عن أشياخه: طلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الطلب حتى انتهت إلى باب الغار فقال بعضهم: إن عليه عنكبوتًا قبل ميلاد محمدٍ فانصرفوا. قالت أسماء بنت أبي بكر: ولم ندر بالحال حتى أقبل رجلٌ من الجن من أسفل مكة يغني بأبياب من الشعر من غناء العرب والناس يتبعونه يسمعون صوته وما يَرَوْنه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول: جَزَى الله رَب الناس خَيْرَ جَزائهِ رَفِيقَيْن حلا خَيْمَتَيْ أمَ مَعْبَدِ قال مؤلف الكتاب: وسيأتي ذكر الأبيات والقصة إن شاء الله تعالى. قال أبو الحسن بن البراء: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ليلة الخميس لغرة شهر ربيع الأول. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ومعه أبو بكر رضي الله عنه وعامر بن فهيرة ووليهم عبد الله أريقط الليثي وكان على دين قومه فأخذ بهم طريق السواحل. أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا أبو الحسن بن علي أخبرنا أحمد بن جعفر أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقري قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجًا بثلاثة عشر درهمًا. قال: فقال: مُر البراء فليحمله إلى منزلي. قال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه قال فقال أبو بكر: خرجنا فأدلجنا فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فضربت ببصري هل أرى ظلًا نأوي إليه فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقيةُ ظلها فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروْة وقلت: اضطجع يا رسول الله فاضطجع ثم خرجت أنظر هل أرى أحدًا من الطلب فإذا براعي غنم فقلت: لمن أنت يا غلام فقال: لرجل من قريش. فسماه فعرفته فقلت: هل في غنمك من لبن قال: نعم. قال قلت: هل أنت حالب لي قال: نعم. قال: فأمرته فاعتقل شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار ومعي إداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة من اللبن فصببته على القدح حتى برد أسفَلُهُ ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد استيقظ فقلت: إشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت ثم قلت: هل أتى الرحيل فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سُراقة بن مالك بن جعُشم على فرسٍ له. فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد بلغنا. فقال: " لا تحزن إن اللّه معنا " حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين - أو قال: رمحين أو ثلاثة - قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد بلغنا. وبكيت. قال: " لم تبكي " قلت: أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك. قال: فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم أكفنا بما شئت " فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صَلْد ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فو الله لأعمينَ على مَنْ ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهمًا فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حاجة لي فيها " قال: ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق فرجع إلى أصحابه. أخبرنا عبد الأول قال: أخبرنا ابن المظفر قال: أخبرنا ابن أعين قال: حدثنا الفربري قال: أخبرنا البخاري قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير قال: أخبرنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب: أخبرني جَاءَنا رُسُل كفّار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دِيَة كل واحد منهما لمن قتله أو أسره فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إني قد رأيْت آنِفًا أسْوِدة بالساحل أراها محمدًا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت: إنهم لَيْسوا بهم ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا. ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي فأخذت رمحي وخرجت به من ظهر البيت فَخَطَطْتُ بزُجهِ الأرض وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره ألا أضرهم فركبت فرسي وعصيت الأزلام حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت ولم تكَدْ تُخْرِجُ يديها فلما استوت قائمةً إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع. فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخفِ عنا. فسألته أن يكتب لي كتابَ أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما جرى لهم أنه لقيهم بريدة بن الحُصَيب: أنبأنا زاهر بن طاهر قال: أنبأنا أبو بكر البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الحاكم قال: أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن سورة قال: أخبرنا أحمد بن إسماعيل السكري قال: أخبرنا أحمد بن زهير قال: حدثنا علي بن مهران عن الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير وكان يتفاءل وكانت قريش جعلت مائة من الإبل فيمن يأخذ نبي اللّه فيرده عليهم حين توجه إلى المدينة فركب بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم فتلقى نبي الله فقال نبي الله: " من أنت " قال: أنا بريدة. فالتفت إلى أبي بكر الصديق فقال: " يا أبا بكر بَرَدَ أمرُنا وصلح " ثم قال: " وممن أنت " قال: من بني أسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: " سلمنا " قال: ممن أنت " قال: من بني سهم. قال: " خرج سهمك ". فقال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ أنت قال: " محمد بن عبد اللّه رسول الله " فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدًا رسول الله. فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعًا. فلما أصبح قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء. فحل عمامته ثم شدها في رمح ثم شدها بين يديه فقال: يا نبي اللّه تَنْزل علي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن ناقتي هذه مأمورة " قال بريدة: الحمد للّه الذي أسلمت بنو سَهْم طائعين غير مكرهين. وقال عروة: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير في ركب كانوا تجارًا قافلين من الشام فكسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بيضاء. ومما جرى لهم في الطريق أنهم مروا بخيمتي أم معبد: أخبرنا محمد بن طاهر قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا عمر بن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث ابن أبي أسامة قال: حدثت محمد بن سعد قال: حدثني محمد بن سعد وغيره قالوا: أخبرنا بشير بن محمد الواسطي قال: أخبرنا عبد الملك بن وهب المذحجي عن الحُرّ بن الصيّاح عن أبي معبدٍ الخزاعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فُهيرة ودليلهم عبد اللّه بن أريقط فمروا بخَيْمَتي أم معبد الخزاعيّة وكانت امرأة جَلْدَةً بَرْزَة تحتبي وتقعد بفناء الخمية. ثم تسقي وتُطْعِم فسألوها تمرًا أو لحمًا يشترون. فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك فإذا القوم مُرْمِلُون مُسْنِتُون فقالت: واللهّ لو كان عندنا شيء ما أعْوَزكم القِرَى. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كِسْر الخيمة فقال: " مَا هَذِهِ الشاةُ يا أم مَعْبَد " قالت: هذه شاة خلَّفها الجَهْدُ عن الغنم. قال: " هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ " قالت: هي أجهِد من ذلك. قال: " أتأذَنِينَ لِي أنْ أحْلُبَهَا " قالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حَلَبًا. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله تعالى وقال: " اللَهُمَّ بَارِكْ لَهَا فِي شَاتِهَا ". قالت: فتفاجت ودَرتْ واجَتَّرتْ وأحلبت فدعا بإناء لها يُرْبض الرهط فحلب فيه ثجًّا حتى غلبه الثُّمالُ فسقاها فشربت حتى رَويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم آخِرَهم وقال: " سَاقي القوْم آخِرهُمْ شربًا " فشربوا جميعًا عَلَلًا بعد نَهَلٍ حتى أراضوا ثُمً حلب فيه ثانيًا عودًا على بدءٍ فغادره عندها ثم ارتحلوا عنها فقلَّما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا حُيلًا عجافًا هَزْلى ما تَسَاوَقُ مُخّهنَ قليل لا نِقْيَ بهن فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين لكم هذا والشاة عازبة ولا حَلُوبَةَ في البيت قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مُباركٌ كان من حديثه كَيْتَ وكَيْتَ. قال: والله إني لأراه صاحبَ قريشٍ الذي تطلب صِفيه لي يا أمَ معبد. قالت: رأيتُ رجُلًا ظاهر الوضاءة متبلج الوجه حسن الخَلْق لم تَعِبْه ثُجْلة ولم تُزْرِ بِهِ صَعْلة قَسِيمٌ وسيم في عينيه دَعَج وفي أسفاره وَطَفٌ وفي صوته صَحَل أحْوَر أكحل أزجُ أقرن شديد سواد الشعر في عنقه سَطَع وفي لحيته كثافة إذا صمت فعليه وقار وإذا تكَلم سَما وعلاه البهاء كأنَّ مَنْطقه خرزاتٌ نظمٍ يتحدَرْن حلو المَنطق فصل لا نِزرٌ به ولا هَذَر أجْهَر الناس وأجمله من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب ربعة لا تَشْنؤه عين من طُول ولا تقتحمه عين من قِصر غُصْنٌ بَيْن غُصنين وهو أنضر الثلاثة منظر وأحسنهم قدرًا له رفقاء يحفُون به إذا قال استمعوا لقوله وإن أمر تبادروا لأمره مَحْفُود محمود مَحْشُود لا عابس ولا مُفْنِد. قال: هذا والله صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذكر ولو كنت وافقته يا أم معبد لالتمست أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إِلى ذلك سبيلًا. وأصبح صوتٌ بمكة عاليًا بين السماء والأرض يسمعون ولا يرون مَنْ يقوله وهو يقول: هما نَزَلا بالبِر وارتحلا به فأفْلَح مَنْ أمْسَى رفيقَ محمدِ فيالَ قصَيٍّ ما زَوَى اللَّهُ عنكم به من فِعال لا تُجَازَى وسُؤدد سَلُوا أختكم عن شاتِهَا وإنائها فإنكمُ إنْ تَسْألوا الشاة تَشْهدِ دعاها بشاةِ حائل فتحلَبَتْ له بصريح ضَرة الشاةِ مُزْبِدِ فغادَره رَهنًا لديها لحالب يَدِرُ بها في مَصْدرٍ ثم مَوْرِدِ وأصبح القوم قد فقدوا نبيهم وأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال: لقد خاب قومٌ غاب عنهم نَبيُهم وقُدس من يَسْري إليه ويَغْتدي ترحل عن قوم فزالت عقولُهم وحل على قوم بنورٍ مجَددِ وهل يَسْتوي ضُلال قوم تسفهوا عمًى وهداةٌ يهتدون بمهتدٍ نبي يرى ما لا يَرى النَاسُ حولَه ويتلو كتابَ الله في كل مَشْهَدِ وإِنْ قال في يوم مقالةَ غائِبٍ فتصديقها في ضحوةِ اليوم أوغدِ قال مؤلف الكتاب: البرزة: الكبيرة. والمرملون: الذين قد نفد زادهم. والمُسْنتون: من السًنَة وهي الجَدْب. وكِسْر الخيمة: جانبها. والجهد: المشقة. وتفاجت: فتحت ما بين رجليها للحلب. وُيرْبض الرهط: يثقلهم فيربضوا. والثمال: الرغوة. والعَلَلَ: مرة بعد أخرى. وأراضوا: أي رووا. والحيل: اللاتي لَسْنَ بحوامل. والعازب: البعيد في المرعى. والمتبلج: المُشرق. والثجلة: عظم البطن واسترخاء أسفله. والصُعلة: صغر الرأس. والوسيم: الحسن وكذلك القسيم. والدعج: سواد العين. والوطف: الطول. والصَحَل: كالبحة. والأحور: الشديد سواد أصول الأهداب خِلقة. والسطع: الطول. وقولها: إذا تكلم سما: أي علا برأسه ويده. وقولها: لا تقتحمه عين: أي تحتقره. والمُفْب: الهَرِم. والصريح: الخالص. والضرة: لحم الضرع. وأنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي قال: أنبأنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: حدِّثنا الحسن بن الفهم قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر عن حرام بن هشام عن أبيه عن أم معبد قالت: طلع علينا أربعة على راحلتين فنزلوا بي فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة أريد أن أذبحها فإذا هي ذات در فأدنيتها منه فلمس ضرعها فقال: " لا تذبحيها " فأرسلتها فجئت بأخرى فذبحتها فطحنت لهم فأكل هو وأصحابه فتغدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وملأت سُفْرتهم منها ما وسعت سفرتهم وبقي عندنا لحمها أو أكثره وبقيت الشاة التي لمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة زمان عمر وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة. قالت: وكنا نحلبها صَبُوحًا وغَبُوقًا وما في الأرض قليل ولا كثير. وذلك ببركته صلى الله عليه وسلم. أخبرنا عبد الأول بن عيسى قال: أخبرنا الداوودي قال: أخبرنا ابن أعين قال: أخبرنا الفربري قال: حدثنا البخاري قال: أخبرنا عيسى بن بكر قال: أخبرنا الليث عن عقيل قال: قال ابن شهاب: أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعتِ المسلمون بالمدينة بمَخْرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يَغدون كل غَدَاة إلى الحَرًةِ ينتظرونه حتى يردهم حَرُ الظهيرة فانقلبوا يومًا بعدما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوْفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمرٍ ينظر إليه فبَصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبْيضِين يزول بهم السراب. فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جَدُّكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظَهْر الحَرًة فَعَدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف. فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتًا. قال مؤلف الكتاب: بنو عمرو هم أهل قباء وعليهم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن إسحاق: فنزل على كلثوم بن الهَدْم أخي بني عمرو بن عوف. وقيل: بل نزل على سعد بن خيثمة وذلك أنه كان عزبًَا لا أهل له. قال الزهري: فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلْت من ربيع الأول. وروى حنش الصنعاني عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنين واستنبي يوم الاثنين وَرَفَع الحَجَر يوم الاثنين وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عمرو بن محمد العنقري قال: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة فتلقاه الناس فخرجوا في الطريق وعلى الأجاجير فاشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله جاء محمد. قال وتنازع القوم أيُّهم ينزل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم ذلك ". فلما أصبح غدا حيث أمِر. أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر بن أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني أبو القاسم الأزهري قال: حدثنا محمد بن المظفر قال: حدثنا موسى بن أنيس بن خالد قال: أخبرنا نصر بن علي قال: أخبرنا عبد الأعلى عن عوف عن ثمامة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجوارٍ من الأنصار وهن يغنين: نحن جوارٍ من بني النجار وحبذا محمد من جار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله يعلم أني أحبكن ". صلى الله عليه وسلم قال مؤلف الكتاب: قد ذكرنا أنه بات عند بني النجار أخوال عبد المطلب. وبيان الخؤولة: أن هاشمًا تزوج امرأة من بني عدي بن النجار فولدت له عبد المطلب. ومن الحوادث: أنه لما قدم صلى الله عليه وسلم لعبت الحبشة بحرابهم فرحًا. أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدَّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم لقدومه فرحًا بذلك. قال ابن إسحاق: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون - على كلثوم بن الهدم. ويقال: على سعد بن خيثمة. ونزل أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه على خبَيْب بن إساف بالسنح. وقيل: نزل على خارجة بن زيد. وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسَس مسجدهم ثم خرج عنهم يوم الجمعة. وقيل: مكث فيهم بضعة عشر يومًا. قال محمد بن حبيب القاسمي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين فنزل قباء وكان نزوله على كلثوم بن الهدم وكان يتحدث في منزل سعد بن خيثمة. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم قباء قد بنوا مسجدًا يصلون فيه فصلى بهم فيه ولم يحدث في المسجد شيئًا فأقام صلى الله عليه وسلم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وركب من قباء يوم الجمعة إلى المدينة فجمع في بني سالم فكانت أول جمعة جمعها في الإسلام وخطب يومئذ. ذكر تلك الخطبة روى أبو جعفر ابن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن الجُمحي: أنه بلغه عن خطبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أوّل جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف: الحمد للّه أحمَده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحدَه لا شريك له وان محمَدًا عبدهُ ورسوله أرسله بالهُدى والنور والموعظة على فَتْرة من الرسل وقلةٍ من العلم وضلالةٍ من النَاس وانقطاع عن الزمان ودنو من الساعة وقُرْبِ من الأجَل مَنْ يطعِ اللّه وَرَسُولَهُ فَقَد رَشَدَ ومَنْ يَعْص اللّه ورسوله فقد غَوَى وفرطَ وضل ضلالًا بَعيدًا وأوصيكم بتقوى اللّه فإنه خيرُ ما أوصَى به المسلمُ المسلمَ أن يَحُضّه على الآخرة وأن يأمَره بتقوى اللّه فاحذروا ما حذَركم اللّه من نفسه ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرًا وإن تقوى اللّه لمن عَمِلَ به على وَجلٍ ومخافة من ربّه عوْنُ صدقٍ على ما تَبْغُون من أمر الآخرة ومَن يصلِحِ الذي بينه وبين اللّه من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجَه اللّه يكن له ذكراَ في عاجل أمره وذخرًا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم وما كان من سوى ذلك يَوَد لَوْ أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا ويحذركم الله نفسَه واللّه رؤوف بالعباد. والذي صدق قوله وأنجز وَعْده لا خُلفَ لذلك فإِنَه يقول: خذوا بحظَكم ولا تفَرِّطوا في جنب الله قد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيلَه ليعلَم الذٌين صدقوا وليعلَم الكاذبين. فَأحْسِنوا كما أحْسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حقً جهاده هو اجتباكم وسفَاكم المُسلمين ليهْلِكَ مَنْ هلك عن بينة ويحيا من حَي عن بيَنة ولا قوة إلا بالله فأكثِرُوا ذكْرَ الله واعلموا أنه خير الدنيا وما فيها واعملوا لما بعد الموت فإنه مَنْ يُصلح ما بينه وبين اللهّ يَكْفه اللهّ ما بينه وبين النَاس ذلك بأنً اللّه يقضِي الحق على الناس ولا يقضُون ويملِكُ من الناس ولا يملكون منه الله أكبرُ ولا قوةَ إِلاَ باللّه العلي العظيم. قال ابن إسحاق: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته وأرخى الزمام فجعلت لا تمر بدارٍ من دور الأنصار إلا دعاه أهلها إلى النزول عندهم وقالوا له: هلم يا رسول اللّه إلى العدد والعدة والمنعة. فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: " خلُّوا زمامها فإنها مأمورة ". حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم فبركت على باب مسجده وهو يومئذ مَرْبد لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء يقال لأحدهما: سهل والآخر: سهيل ابنا عمرو بن عباد فلم ينزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها ثم رجعت إلى منزلها أول مرة فبركت فيه ووضعت جرانَها ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فاحتمل أبو أيوب رَحْلَه فوضعه في بيته فدعته الأنصار إلى النزول عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرءُ مع رَحْلِهِ ". فنزل على أبي أيوب خالد بن زيد وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المربد: لمَنْ هو فأخبره معاذ وقال: هو ليتيمين لي وسأرضيهما. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجدًا وأقام عند أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه. أخبرنا عبد الأول قال: أخبرنا الداوودي قال: أخبرنا يحيى بن زكريا قال: أخبرنا الليث عن عقيل قال قال ابن شهاب: أخبرني عروة عن عائشة قالت: لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسِّسىَ على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناسُ حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه رجال من المسلمين وكان مربدًا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت: " هذا إن شاء اللّه. المنزل " ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا. فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله ثم بناه مسجدًا وطفق ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول: هذا الحِمال لا حِمَال خَيْبر هذا أبر رَبًنَا وأظْهَر ويقول: اللهم إن الخيرَ خيرُ الآخرة فارحم الأنصار والمُهَاجرة قال مؤلف الكتاب: انفرد بإخراجه البخاري. وفيه دليل على أن مسجد قباء بُنِيَ قبل مسجد المدينة. تكلم الذئب خارج المدينة ينذر برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذه السنة: تكلم ذئب خارج المدينة ينذر برسول الله صلى الله عليه وسلم. أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أشعب بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى انتزعها منه فصعد الذئب على تلٍ فأقعى واستذفر فقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله انتزعته مني. فقال الرجل: تالله إن رأيت كاليوم ذئبًا يتكلم. قال الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وبما هو كائن عندكم. وكان الرجل يهوديًا فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " إنها أمارة من أمارات بين يدي الساعة أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده ". وفي هذه السنة: زيد في صلاة الحضر - وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين - وذلك بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر في ربيع الآخر لمضي اثنتي عشرة ليلة. قال الواقدي: لا يختلف أهل الحجاز في ذلك. وفي هذه السنة: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها في شوال. وقَد قيل: في السنة الثانية. والأول أصح. وكان تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين. وقيل: كان البناء بها يوم الأربعاء في منزل أبي بكر رضي اللهّ عنه بالسنح.
|