الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)} قالت فرقة {الذين} في موضع نصب بدل من {من} في قوله {من كان مختالاً فخوراً} [النساء: 36] ومعناه على هذا: «يبخلون بأموالهم ويأمرون الناس» يعني إخوانهم، ومن هو مظنة طاعتهم بالبخل بالأموال، فلا تنفق في شيء من وجود الإحسان إلى من ذكر، {ويكتمون ما آتاهم من فضله}، يعني: من الرزق والمال، فيجيء على هذا أن الباخلين منفية عنهم محبة الله، والآية إذاً في المؤمنين، فالمعنى: أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمى، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم من المؤمنين، وأما الكافرون فإنه أعد لهم {عذاباً مهيناً}، ففصل توعد المؤمنين من توعد الكافرين، بأن جعل الأول عدم المحبة، والثاني {عذاباً مهيناً} وقالت فرقة: {الذين}- في موضع بالابتداء، والخبر محذوف، تقديره بعد قوله {من فضله} معذبون أو مجازون أو نحوه، وقال الزجّاج: الخبر في قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء: 40] وفي هذا تكلف ما، والآية على هذا كله في كفار، وقد روي: أنها نزلت في أحبار اليهود بالمدينة، فإنهم بخلوا بالإعلام بصفة محمد عليه السلام، وبما عندهم من العلم في ذلك وأمروا الناس بالبخل على جهتين، بأن قالوا لأتباعهم وعوامهم: اجحدوا أمر محمد، وابخلوا به، وبأن قالوا للأنصار: لم تنفقون أموالكم على هؤلاء المهاجرين فتفتخرون عليهم؟ ونحو هذا مروي عن مجاهد وحضرمي وابن زيد وابن عباس، وحقيقة «البخل»: منع ما في اليد، والشح: هو البخل الذي تقترن به الرغبة فيما في أيدي الناس، «وكتمان الفضل» هو على هذا: كتمان العلم، والتوعد بالعذاب المهين لهم، وقرأ عيسى ابن عمر والحسن «بالبُخْل» بضم الباء والخاء، وقرأ الجمهور بضم الباء وسكون الخاء، وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الحديد «بالبَخَل» بفتح الباء والخاء، وقرأ ابن الزبير وقتادة وجماعة: بفتح الباء وسكون الخاء، وهي لكها لغات، {وأعتدنا} معناه: يسرنا وأعددنا وأحضرنا، والعتيد، الحاضر، والمهين: الذي يقترن به خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب. وقوله تعالى: {والذين ينفقون} الآية- قال الطبري: {الذين} في موضع خفض عطف على الكافرين، ويصح أن يكون في موضع رفع عطفاً على {الذين يبخلون} على تأويل: من رآه مقطوعاً ورأى الخبر محذوفاً، وقال: إنها نزلت في اليهود، ويصح أن يكون في موضع رفع على العطف وحذف الخبر، وتقديره: بعد اليوم الآخر معذبون، وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في اليهود، قال الطبري: وهذا ضعيف، لأنه نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود ليسوا كذلك. قال القاضي أبو محمد: وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام، إذا إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان، من حيث لا ينفعهم، وقال الجمهور: نزلت في المنافقين، وهذا هو الصحيح، وإنفاقهم: هو ما كانوا يعطون من زكاة، وينفقون في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، «رياء» ودفعاً عن أنفسهم، لا إيماناً بالله، ولا حباً في دينه {ورثاء} نصب على الحال من الضمير في {ينفقون} والعامل {ينفقون} ويكون قوله: {ولا يؤمنون} في الصلة، لأن الحال لا تفرق إذا كانت مما هو في الصلة، وحكى المهدوي: أن الحال تصح أن تكون من {الذين} فعلى هذا يكون {ولا يؤمنون} مقطوعاً ليس من الصلة، والأول أصح، وما حكى المهدوي ضعيف، ويحتمل أن يكون {ولا يؤمنون} في موضع الحال، أي: غير مؤمنين، فتكون الواو واو الحال. و «القرين»: فعيل بمعنى فاعل، من المقارنة وهي الملازمة والاصطحاب، وهي هاهنا مقارنة مع خلطة وتواد، والإنسان كله يقارنه الشيطان، لكن الموفق عاص له، ومنه قيل لما يلزمان الإبل والبقر قرينان، وقيل للحبل الذي يشدان به: قرن، قال الشاعر: [البسيط] كَمُدْخِلٍ رأَسَهُ لَمْ يُدْنِهِ أَحَدٌ *** بَيْنَ القَرِينَيْنِ حَتّى لزَّهُ الْقَرَنُ فالمعنى: ومن يكن الشيطان له مصاحباً وملازماً، أو شك أن يطيعه فتسوء عاقبته، و{قريناً} نصب على التمييز، والفاعل ل «ساء» مضمر، تقديره ساء القرين قريناً، على حد بئس، وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: {بئس للظالمين بدلاً} [الكهف: 50] وذلك مردود، لأن {بدلاً} حال، وفي هذا نظر. وقوله تعالى: {وماذا عليهم} «ما» رفع بالابتداء، «ذا» صلة، و{عليهم} خبر الابتداء، التقدير: وأي شيء عليهم؟ ويصح أن تكون «ما» اسماً بانفرادها، و«ذا» بمعى «الذي» ابتداء وخبر، وجواب «لو» في قوله: ماذا فهو جواب مقدم. قال القاضي أبو محمد: وكأن هذا الكلام يقتضي أن الإيمان متعلق بقدرتهم ومن فعلهم، ولا يقال لأحد: ما عليك لو فعلت إلا فيما هو مقدور له، وهذه شبهة للمعتزلة، والانفصال عنها أن المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به، وفي هذا الكلام تفجع ما عليهم، واستدعاء جميل يقتضي حيطة وإشفاقاً {وكان الله بهم عليماً} إخبار يتضمن وعيداً، وينبه على سوء تواطئهم، أي: لا ينفعهم كتم مع علم الله تعالى بهم.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} {مثقال} مفعال من الثقل، و«الذرة»: الصغيرة الحمراء من النمل، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول، لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى، تقول العرب: أفعى جارية، وهي أشدها، وقال امرؤ القيس: [الطويل] من الْقَاصِرات الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحِولٌ *** مِنَ الذَّرِّ فَوقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرا فالمحول الذي أتى عليه حول. وقال حسان: [الخفيف] لو يَدبُّ الحوليُّ من ولد الذ *** ر عليها لأنْدَبَتْها الكلومُ وعبر عن الذرة يزيد بن هارون «بأنها دودة حمراء» وهي عبارة فاسدة، وروي عن ابن عباس: «الذرة» رأس النملة، وقرأ ابن عباس «إن الله لا يظلم مثقال نملة» و{مثقال} مفعول ثان ل {يظلم}، والأول مضمر التقدير، أن الله لا يظلم أحداً مثقال و{يظلم} لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وإنما عدي هنا إلى مفعولين بأن يقدر في معنى ما يتعدى إلى مفعولين، كأنه قال: إن الله لا ينقص أو لا يبخس أو لا يغصب، ويصح أن يكون نصب {مثقال} على أنه بيان وصفة لمقدار الظلم المنفي، فيجيء على هذا نعتاً لمصدر محذوف، التقدير: إن الله لا يظلم ظلماً مثقال ذرة، كما تقول: إن الأمير لا يظلم قليلاً ولا كثيراً، أي لا يظلم ظلماً قليلاً ولا كثيراً، فعلى هذا وقف {يظلم} على مفعول واحد، وقال قتادة عن نفسه، ورواه عن بعض العلماء، لأن تفضل حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليَّ من الدنيا جميعاً، وحذفت النون من {تكن} لكثرة الاستعمال، وشبهها خفة بحروف المد واللين، وقرأ جمهور السبعة «حسنةً» بالرفع على نقصان «كان» واسمها مضمر تقديره وإن تك زنة الذرة حسنة، وقرأ نافع وابن كثير «حسنةٌ» بالرفع على تمام «كان» التقدير: وإن تقع حسنة أو توجد حسنة، و{يضاعفها} جواب الشرط، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعفها» مشددة العين بغير ألف، قال ابو علي: المعنى فيهما واحد، وهما لغتان، وقرأ الحسن «يضْعفها» بسكون الضاد وتخفيف العين، ومضاعفة الشيء في كلام العرب: زيادة مثله إليه، فإذا قلت: ضعفت فقد أتيت ببنية التكثير، وإذا كانت صيغة الفعل دون التكثير تقتضي الطي مرتين فبناء التكثير يقتضي أكثر من المرتين إلى أقصى ما تريد من العدد، وإذا قلت ضاعفت فليس ببنية تكثير، ولكنه فعل صيغته دالة على الطي مرتين فما زاد، هذه أصول هذا الباب على مذهب الخليل وسيبويه، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب المجاز: أن «ضاعفت» يقتضي مراراً كثيرة، وضعفت يقتضي مرتين، وقال مثله الطبري ومنه نقل، ويدلك على تقارب الأمر في المعنى ما قرئ به في قوله {فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} [البقرة: 245] فإنه قرئ «يضاعفه ويضعفه» وما قرئ به في قوله تعالى: {يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] فإنها قرئ «يضعف لها العذاب ضعفين» وقال بعض المتأولين: هذه الآية خص بها المهاجرون، لأن الله أعلم في كتابه: أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار، وأعلم في هذه: أنها مضاعفة مراراً كثيرة جداً حسب ما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرة، وروى غيره من أنها تضاعف ألف ألف مرة، ولا يستقيم أن يتضاد الخبران، فهذه مخصوصة للمهاجرين السابقين، حسبما روى عبد الله بن عمر: أنها لما نزلت {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] في الناس كافة قال رجل: فما للمهاجرين؟ فقال ما هو أعظم من هذا {إن الله لا يظلم} الآية فخصوا كما خصت نفقة سبيل الله بتضعيف سبعمائة مرة، ولا يقع تضاد في الخبر، وقال بعضهم: بل وعد بذلك جميع المؤمنين، وروي في ذلك أحاديث، وهي: أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فينادي هذا فلان بن فلان، فمن كان له عنده حق فليقم قال: فيحب الإنسان لو كان له يؤمئذ الحق على أبيه وابنه، فيأتي كل من له حق فيأخذ من حسناته حتى يقع الانتصاف، ولا يبقى له إلا وزن الذرة، فيقول الله تعالى: أضعفوها لعبدي واذهبوا به إلى الجنة، وهذا يجمع معاني ما روي مما لم نذكره، والآية تعم المؤمنين والكافرين فأما المؤمنون فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد وأما الكافرون فما يفعلون من خير فتقع المكافأة عليه بنعم الدنيا ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم، و{لدنه} معناه من عنده، قال سيبويه: ولدن: هي لابتداء الغاية، فهي تناسب أحد مواضع من، ولذلك التأما ودخلت {من} عليها، والأجر العظيم: الجنة، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن زيد، والله إذا منَّ بتفضله بلغ بعبده الغاية.
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} تقدم في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة، فحسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم، ومعنى الآية: أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ومعنى «الأمة» في هذه الآية: غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى الأنبياء، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه السلام جميع من آمن به وكذلك في كل نبي، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر، وكذلك قال المتأولون: إن الإشارة «بهؤلاء» إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم و{كيف} في موضع نصب مفعول مقدم بفعل تقديره في آخر الآية: ترى حالهم، أو يكونون، أو نحوه، وقال مكي في الهداية: {جئنا} عامل في «كيف»، وذلك خطأ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه، وكذلك ذرفت عيناه عليه السلام حين قرأها عليه عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور وما ذكره الطبري من شهادة أمة محمد بتبليغ الرسل، وما جرى في معنى ذلك من القصص الذي ذكر مكي، كسؤال اللوح المحفوظ، ثم إسرافيل ثم جبريل، ثم الأنبياء، فليست هذه آيته، وإنما آيته {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143] و{يومئذ} ظرف ويصح أن يكون نصب «يوم» في هذا الموضع على الظرف، على أنه معرب مع الأسماء غير المتمكنة، ويصح أن يكون نصبه على أنه مبني على النصب مع الأسماء غير المتمكنة، و«الود» إنما هو في ذلك اليوم، وقرأ نافع وابن عامر «تسّوّى» بتشديد السين والواو، على إدغام التاء الثانية من تتسوى، وقرأ حمزة والكسائي «تسَوّى» بتخفيف السين وتشديد الواو، على حذف التاء الثانية المذكورة، وهما بمعنى واحد، واختلف فيه، فقالت فرقة: تنشق الأرض فيحصلون فيها، ثم تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم، وقالت فرقة: معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا تراباً كآبائهم، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المستوية معهم، والمعنى إنما هو أنهم يستوون مع الأرض، ففي اللفظ قلب يخرج على نحو اللغة التي حكاها سيبويه، أدخلت القلنسوة في رأسي وأدخلت فمي في الحجر، وما جرى مجراه، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «تُسوى» على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، فيكون الله تعالى يفعل ذلك على حسب المعنيين المتقدمين، قال أبو علي: إمالة الفتحة إلى الكسرة والألف إلى الياء في «تسوى» حسنة، قالت طائفة: معنى الآية أن الكفار لما يرونه من الهول وشدة المخاوف يودون أن تسوى بهم الأرض فلا ينالهم ذلك الخوف، ثم استأنف الكلام فأخبر أنهم {لا يكتمون حديثاً} لنطق جوارحهم بذلك كله، حين يقول بعضهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] فيقول الله: كذبتم، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً، وهذا قول ابن عباس، وقال فيه: إن الله إذا جمع الأولين والآخرين ظن بعض الكفار أن الإنكار ينجي، فقالوا: {والله ربنا ما كنا مشركين}، فيقول الله: كذبتم، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً، وهكذا فتح ابن عباس على سائل أشكل عليه الأمر، وقالت طائفة: مثل القول الأول، إلا أنها قالت: إنما استأنف الكلام بقوله: {ولا يكتمون الله حديثاً} ليخبر عن أن الكتم لا ينفع، وإن كتموا، لأن الله تعالى يعلم جميع أسرارهم وأحاديثهم، فمعنى ذلك: وليس ذلك المقام الهائل مقاماً ينفع فيه الكتم. قال القاضي أبو محمد: الفرق بين هذين القولين أن الأول يقتضي أن الكتم لا ينفع بوجه، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع، كما تقول: هذا مجلس لا يقال فيه باطل، وأنت تريد لا ينتفع به ولا يستمتع إليه، وقالت طائفة: الكلام كله متصل، ومعناه: يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض، ويودون أن لا يكتموا الله حديثاً، وودهم لذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا: {والله ربنا ما كنا مشركين}، وقالت طائفة: هي مواطن وفرق، وقالت طائفة: معنى الآية: يود الذين كفروا أن تسوى بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً، وهذا على جهة الندم على الكذب أيضاً، كما تقول: وودت أن أعزم كذا، ولا يكون كذا على جهة الفداء، أي يفدون كتمانهم بأن تسوى بهم الأرض، و{الرسول} في هذه الآية: للجنس، شرف بالذكر وهو مفرد دل على الجمع، وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر: «وعصِوا الرسول» بكسر الواو من {عصوا}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} سبب النهي عن قرب الصلاة في حال سكر: أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربت الخمر عند أحدهم قبل التحريم، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف، فحضرت الصلاة، فتقدمهم علي بن أبي طالب، فقرأ {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] فخلط فيها، بأن قال: «أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد»، فنزلت الآية، وروي أن المصلي عبد الرحمن بن عوف، وجمهور المفسرين على أن المراد سكر الخمر، إلا الضحاك، فإنه قال: إنما المراد سكر النوم. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، والخطاب لجميع الأمة الصاحين، وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت، وإنما هو مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما ضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق، على ما ذهب إليه بعض الناس، وقرأت فرقة {سكارى} جمع سكران، وقرأت فرقة «سَكرى» بفتح السين على مثال فعلى وقرأ الأعمش: «سُكرى» بضم السين وسكون الكاف على مثال فعلى، وقرأ النخعي «سَكرى» بفتح السين. قال أبو الفتح: هو تكسير سكران على سكارى، كما قالوا: روبى نياماً وكقولهم: هلكى وميدى في جمع هالك ومائد، ويحتمل أن يكون صفة لمؤنثة واحدة، كأن المعنى وأنتم جماعة سكرى، وأما «سُكرى» بضم السين فصفة لواحدة، كحبلى، والسكر انسداد الفهم، ومنه سكرت الماء إذا سددت طريقه، وقالت طائفة: {الصلاة} هنا العبادة المعروفة، حسب السبب في نزول الآية، وقالت طائفة: {الصلاة} هنا المراد بها موضع الصلاة والصلاة معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة، ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين. قال القاضي أبو محمد: وإنما احتيج إلى هذا الخلاف بحسب ما يأتي في تفسير عابري السبيل، ويظهر من قوله: {حتى تعلموا} أن السكران لا يعلم ما يقول ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره: إن السكران لا يلزمه طلاقه، فأسقط عنه أحكام القول، لهذا ولقول النبي عليه السلام للذي أقر بالزنى أسكران أنت؟ فمعناه: أنه لو كان سكران لم يلزمه الإقرار. قال القاضي أبو محمد: وبين طلاق السكران وإقراره بالزنى فرق، وذلك أن الطلاق والإقرار بالمال والقذف وما أشبهه هذا يتعلق به حقوق الغير من الآدمين، فيتهم السكران إن ادعى أنه لم يعلم، ويحكم عليه حكم العالم، والإقرار بالزنا إنما هو حق لله تعالى، فإذا ادعى فيه بعد الصحو أنه كان غير عالم دين، وأما أحكام الجنايات، فهي كلها لازمة للسكران {وأنتم سكارى} ابتداء وخبر، جملة في موضع الحال، وحكي عن ابن فورك أنه قال: معنى الآية النهي عن السكر، أي لا يكن منكم سكر، فيقع قرب الصلاة، إذ المرء مدعو إلى الصلاة دأباً، والظاهر أن الأمر ليس كذلك، وقد روي: أن الصحابة بعد هذه الآية كانوا يشربون ويقللون أثر الصبح وأثر العتمة، ولا تدخل عليهم صلاة إلا وهم صاحون، وقوله: {ولا جنباً} عطف على موضع هذه الجملة المنصوبة، والجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان، هذا قول جمهور الأمة، وروي عن بعض الصحابة: لا غسل إلا على من أنزل، وهو من الجنابة، وهي: البعد، كأنه جانب الطهر أو من الجنب، كأنه ضاجع ومس بجنبه جنباً، وقرأت فرقة «جنْباً» بإسكان النون، و{عابري سبيل} هو من العبور أي: الخطور والجواز، ومنه: عبر السفينة النهر، ومنه: ناقة عبر السير والفلاة والمهاجرة أي تعبرها بسرعة السير، قال الشاعر: وهي امرأة: [الكامل] عَيْرَانَةٌ سَرْحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ *** عَبْرَ الهَوَاجِرِ كَالْهُزُفِّ الخَاضِبِ وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم: عابر السبيل هو المسافر، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم، وقال ابن عباس أيضاً وابن مسعود وعكرمة والنخعي وغيرهم: عابر السبيل الخاطر في المسجد، وهو المقصود في الآية، وهذا يحتاج إلى ما تقدم من أن القول بأن الصلاة هي المسجد والمصلى، وروى بعضهم: أن سبب الآية: أن في المسجد، فنزلت الآية في ذلك، ثم نزلت {وإن كنتم مرضى} إلى آخر الآية، بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع حين أقام على التماس العقد، هكذا قال الجمهور، وقال النخعي: نزلت في قوم أصابتهم جراح ثم أجنبوا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية، ذكر النقاش: أن ذلك نزل بعبد الرحمن بن عوف، والمريض المقصود في هذه الآية هو الحضري، والذي يصح له التيمم هو الذي يخاف الموت لبرد الماء وللعلة به، وهذا يتيمم بإجماع، إلا ما روي عن عطاء: أنه يتطهر وإن مات، والذي يخاف حدوث علة على علة أو زيادة علة والذي يخاف بطء برء فهؤلاء يتممون بإجماع من المذهب فيما حفظت، والأسباب التي لا يجد المريض بها الماء هي إما عدم المناول، وإما خوف ما ذكرناه، وقال داود: كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم، وهذا قول خلف، وإنما هو عند علماء الأمة المجدور، والمحصوب، والعلل المخوفة عليها من الماء، والمسافر في هذه الآية: هو الغائب عن الحضر، كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر، هذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء، وقال الشافعي في كتاب الأشراف، وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر يجوز فيه التقصير، وهذا ضعيف. قال القاضي أبو محمد: وكذلك قالت فرقة: لا يتيمم في سفر معصية، وهذا أيضاً ضعيف، والأسباب التي لا يجد بها المسافر الماء هي إما عدمه جملة، وإما خوف فوات الرفيق بسبب طلبه، وإما خوف على الرجل بسبب طلبه، وإما خوف سباع أو إذاية عليه، واختلف في وقت إيقاعه التيمم، فقال الشافعي: في أول الوقت، وقال أبو حنيفة وغيره: في آخر الوقت، وفرق مالك بين اليائس والعالم الطامع بإدراكه في الوقت، والجاهل بأمره جملة، وقال إسحق بن راهويه: لا يلزم المسافر طلب الماء إلا بين يديه وحوله، وقالت طائفة: يخرج من طلبه الغلوتين ونحوهما، وفي مذهب مالك يمشي في طلبه ثلاثة أميال، وقال الشافعي: يمشي في طلبه ما لم يخف فوات رفيق أو فوات الوقت. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن، وأصل {الغائط} ما انخفض من الأرض، وكانت العرب تقصد بقضاء حاجتها ذلك الصنف من المواضع، حتى كثر استعماله في قضاء الحاجة وصار عرفه، وقرأ قتادة الزهري «من الغيْط» ساكنة الياء من غير ألف، قال ابن جني: هو محذوف من فيعل، عين هذه الكلمة واو، وهذا اللفظ يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى، واختلف الناس في حصرها، وأنبل ما اعتقد في ذلك: أن أنواع الأحداث ثلاثة، ما خرج من السبيلين معتاداً، وما أذهب العقل، واللمس، هذا على مذهب مالك، وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من النجاسات من الجسد، ولا يراعى المخرج ولا غيره، ولا يعد اللمس فيها، وعلى مذهب الشافعي ما خرج من السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، والإجماع من الأحداث على تسعة، أربعة من الذكر، وهي البول والمني والودي والمذي، وواحد من فرج المرأة وهو دم الحيض، واثنان من الدبر، وهما الريح والغائط، وذهاب العقل كالجنون والإغماء والنوم الثقيل، فهذه تنقض الطهارة الصغرى إجماعاً، وغير ذلك كاللمس والدود يخرج من الدبر وما أشبهه مختلف فيه، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم {لامستم} وقرأ حمزة والكسائي «لمستم» وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه، إذ في جميع ذلك لمس، واختلف أهل العلم في موقعها هنا: فمالك رحمه الله يقول: اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين، فالملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم، لأن اللمس نقض وضوءه، وقالت طائفة: هي هنا مخصصة للمس اليد، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء، ولا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود وغيرهما، وقال أبو حنيفة: هي هنا مخصصة للمس الذي هو الجماع، فالجنب يتيمم، واللامس باليد لم يجر له ذكر فليس بحدث، ولا هو ناقض لوضوء، فإذا قبّل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه، ومالك رحمه الله يرى: أن اللمس ينقض إذا كان للذة، ولا ينقض إذا لم يقصد به اللذة، ولا إذا كان لابنة أو لأم، والشافعي رحمه الله يعمم لفظة {النساء}، فإذا لمس الرجل عنده أمه أو ابنته على أي وجه كان انتقض وضوءه، وعدم وجود الماء يترتب للمريض وللمسافر حسبما ذكرناه، ويترتب للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف، واختلف فيه، فقال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديماً، وهذا قول ضعيف، لأن دين الله يسر كما قال صلى الله عليه وسلم، ويريد بنا اليسر ولم يجعل علينا في الدين من حرج، وقالت طائفة: يشتري ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعداً، وقالت طائفة: يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاثة، ونحو هذا، وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله، وقيل لأشهب: أيشتري القربة بعشرة دراهم؟ فقال ما أرى ذلك على الناس. قال القاضي أبو محمد: وقدر هذه المسألة إنما هو بحسب غنى المشتري وحاجته، والوجه عندي أن يشتري ما لم يؤذ غلاؤه، ويترتب أيضاً عدم الماء للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط، وهذا هو الذي يقال فيه: إنه لم يجد ماء ولا تراباً، كما ترجم البخاري، ففيه أربعة أقوال، فقال مالك وابن نافع: لا يصلي ولا يعيد، وقال ابن القاسم: يصلي ويعيد، وقال أشهب: يصلي ولا يعيد وقال اصبغ: لا يصلي ويقضي، إذا خاف الحضري فوات الوقت إن تناول الماء، فلمالك رحمه الله قولان في المدونة: إنه يتيمم ولا يعيد، وقال: إنه يعيد، وفي الواضحة وغيرها عنه: أنه يتناول الماء ويغتسل وإن طلعت الشمس. وعلى القول بأنه يتيمم ولا يعيد إذا بقي من الوقت شيء بقدر ما كان يتوضأ ويصلي ركعة، فقيل: يعيد، وقيل: لا يعيد، ومعنى قوله {فتيمموا} في اللغة: اقصدوا، ومنه قول امرئ القيس [الطويل] تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ *** يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عُرْمُضُها طَامي ومنه قول أعشى بني ثعلبة: [المتقارب] تَيَمَّمْت قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ *** مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ ثم غلب هذا الاسم في الشرع على العبادة المعروفة، والصعيد في اللغة: وجه الأرض، قاله الخليل وغيره، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط] كأَنَّه بالضُّحى تَرمي الصَّعيدَ بِهِ *** دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ واختلف الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب، فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض، تراباً كان أو رملاً أو حجارة أو معدناً أو سبخة، وجعلت «الطيب» بمعنى الطاهر، وهذا مذهب مالك، وقالت طائفة منهم: «الطيب» بمعنى الحلال، وهذا في هذا الموضع قلق، وقال الشافعي وطائفة: «الطيب» بمعنى المنبت، كما قال جل ذكره {والبلد الطيب يخرج نباته} [الأعراف: 58] فيجيء الصعيد على هذا التراب، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغير ذلك مما ذكرناه، فمكان الإجماع: أن يتيمم الرجل في تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغضوب، ومكان الإجماع في المنع: أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف، أو الفضة والياقوت الزمرد، أو الأطعمة، كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات- واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجيز، وهو مذهب مالك، ومنع، وهو مذهب الشافعي، وأشار أبو الحسن اللخمي إلى أن الخلاف فيه موجود في المذهب، وأما الملح فأجيز في المذهب المعدني والجامد، ومنعا، وأجيز المعدني ومنع الجامد، والثلج في المدونة جوازه، ولمالك في غيرها منعه، وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان: أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران. قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ بحت من جهات، وأما التراب المنقول في طبق وغيره، فجمهور المذهب جواز التيمم به، وفي المذهب المنع، وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طبخ كالآجر والجص ففيه في المذهب قولان، الإجازة والمنع، وفي التيمم على الجدار الخلاف، وأما التيمم على النبات والعود فاختلف فيه في مذهب مالك، فالجمهور على منع التيمم على العود، وفي مختصر الوقار: أنه جائز، وحكى الطبري في لفظة «الصعيد» اختلافاً: أنها الأرض الملساء وأنها الأرض المستوية، وأن «الصعيد» التراب، وأنه وجه الأرض. وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين، وبه قال الجمهور، ووقع في حديث عمار في البخاري في بعض الطرق تقديم اليدين، وقاله بعض أهل العلم: قياساً على تنكيس الوضوء، وتراعى في الوجه حدوده المعلومة في الوضوء، فالجمهور على أن استيعابه بالمسح في التيمم واجب، ويتتبعه كما يصنع بالماء، وأن لا يقصد ترك شيء منه، وأجاز بعضهم أن لا يتتبع كالغضون في الخفين، وما بين الأصابع في اليدين، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة، ومذهب مالك في المدونة: أن التيمم بضربتين، وقال ابن الجهم: التيمم واحدة، وقال مالك في كتاب محمد: إن تيمم بضربة أجزاه، وقال غيره في المذهب: يعيد في الوقت، وقال ابن نافع: يعيد أبداً، وقال مالك في المدونة: يبدأ بأصابع اليسرى على أصابع اليمنى، ثم يمر كذلك إلى المرفق، ثم يلوي بالكف اليسرى على باطن الذراع الأيمن، حتى يصل إلى الكوع، ثم يفعل باليمنى على اليسرى كذلك، فظاهر هذا الكلام أنه يستغنى عن مسح الكف بالأخرى، ووجهه أنهما في الإمرار على الذراع ماسحة ممسوحة، قال ابن حبيب: يمر بعد ذلك كفيه، فهذا مع تحكيم ظاهر المدونة خلاف، قال اللخمي: في كلام المدونة يريد ثم يمسح كفه بالأخرى فيجيء على تأويل أبي الحسن كلام ابن حبيب تفسيراً، وقالت طائفة: يبدأ بالشمال كما في المدونة، فإذا وصل على باطن الذراع إلى الرسغ، مشى على الكف، ثم كذلك باليمنى في اليسرى، ووجه هذا القول أن لا يترك من عضو بعد التلبس به موضعاً، ثم يحتاج إلى العودة إليه بعد غيره، وقالت طائفة: يتناول بالتراب كما يتناول بالماء في صورة الإمرار دون رتبة، وقال مالك في المدونة: في المذهب بمسح يديه إلى المرفقين، فإن مسح إلى الكوعين أعاد في الوقت، وقال ابن نافع: يعيد أبداً، قال غيرهما: في المذهب يمسح إلى الكوعين وهذا قول مكحول وجماعة من العلماء، وفي غير المذهب يمسح الكفين فقط، وفي ذلك حديث عن عمار بن ياسر، وهو قول الشعبي، وقال ابن شهاب: يمسح إلى الأباط، وذكره الطبري عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة حين نزلت آية التيمم: إنك لمباركة، نزلت فيه رخصة، فضربنا ضربة لوجوهنا، وضربة بأيدينا إلى المناكب والأباط، وفي مصنف أبي داود عن الأعمش: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسح إلى أنصاف ذراعيه، ولم تقل بهذا الحديث أحد من العلماء فيما حفظت، وما حكي الداودي من أن الكوعين فرض والمرافق سنة والآباط فضيلة، فكلام لا يعضده قياس ولا دليل، وإنما عمم قوم لفظة اليد فأوجبوه من المنكب، وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق، وعمم جمهور الأمة، ووقف قوم قوم مع الحديث في الكوعين، وقيس أيضاً على القطع، إذ هو حكم شرعي وتطهير، كما هذا تطهير، ووقف آخرون مع حديث عمار في الكفين، واختلف المذهب في تحريك الخاتم وتخليل الأصابع على قولين، يجب ولا يجب.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} الرؤية في قوله {ألم تر} من رؤية القلب، وهي علم بالشيء، وقال قوم: معناه «الم تعلم» وقال آخرون: «ألم تخبر» وهذا كله يتقارب، والرؤية بالقلب تصل بحرف الجر وبغير حرف الجر، والمراد ب {الذين}: اليهود، قاله قتادة وغيره، ثم اللفظ يتناول معهم النصارى، وقال ابن عباس: نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي، و{أوتوا} إعطوا، و«النصيب» الحظ، و{الكتاب}: التوراة والإنجيل، وإنما جعل المعطى نصيباً في حق كل واحد منفرد، لأنه لا يحصر علم الكتاب واحد بوجه، و{يشترون} عبارة عن إيثارهم الكفر وتركهم الإيمان، فكأنه أخذ وإعطاء، هذا قول جماعة، وقالت فرقة: أراد الذين كانوا يعطون أموالهم للأحبار على إقامة شرعهم فهذا شراء على وجهه على هذا التأويل، {ويريدون أن تضلوا السبيل}، معناه أن تكفروا، وقرأ النخعي، «وتريدون أن تضلوا» بالتاء منقوطة من فوق في تريدون. قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية وما بعدها، تقتضي توبيخاً للمؤمنين على استنامة قوم منهم إلى أحبار اليهود، في سؤال عن دين، أو في موالاة أو ما أشبه ذلك، وهذا بيّن في ألفاظها، فمن ذلك، {ويريدزن أن تضلوا}، أي تدعوا الصواب في اجتنابهم، وتحسبوهم غير أعداء، والله أعلم بهم، وقوله: {والله أعلم بأعدائكم} خبر في ضمنه التحذير منهم، وبالله، قي قوله: {وكفى بالله} في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في لفظ الخبر، أي اكتفوا بالله، فالباء تدل على المراد من ذلك، {ولياً} فعيلاً، و{نصيراً} كذلك، من الولاية والنصر. وقوله تعالى: {من الذين هادوا} قال بعض المتأولين {من} راجعة على {الذين} الأولى، فهي على هذا متعلقة ب {تر}، وقالت طائفة، هي متعلقة ب {نصيراً} والمعنى ينصركم من الذين هادوا، فعلى هذين التاويلين لا يوقف في قوله: {نصيراً} وقالت فرقة: هي لابتداء الكلام، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون، هذا مذهب أبي علي، ونظيره قول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الوافر] كأنك مِنْ جِمَالِ أَبي أَقَيْشٍْ *** يُقَعْقِعُ خَلْفَ رِجْليهِ بِشَنِّ وقال الفراء وغيره: تقديره من، ومثله قول ذي الرمة: [الطويل] فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعَهُ سَابِقٌ لَهُ *** وَآخَرُ يَثْني دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْيَدِ فعلى هذا التأويل يوقف في قوله: {نصيراً} وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل، وإضمار الموصوف أسهل، و{هادوا} مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول، ذكر هذه كلها الخليل، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة، و«تحريف الكلم» على وجهين، إما بتغيير اللفظ، وقد فعلوا ذلك في الأقل، وإما بتغيير التأويل، وقد فعلوا ذلك في الأكثر، وإليه ذهب الطبري، وهذا كله في التوراة على بول الجمهور، وقالت طائفة: هو كلم القرآن، وقال مكي: كلام النبي محمد عليه السلام، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل، وقرأ النخعي وأبو رجاء: يحرفون الكلام بالألف، ومن جعل «من» متعلقة «بنصيراً» جعل «يحرفون» في موضع الحال، ومن جعلها منقطعة جعل «يحرفون» صفة، وقوله تعالى عنهم {سمعنا وعصينا} عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه، و{مسمع} لا يتصرف إلا من أسمع، و{غير مسمع} يتخرج فيه معنيان: أحدهما غير مأمور صاغر، كأنه قال: غير أن تسمع مأموراً بذلك، والآخر على جهة الدعاء، أي لا سمعت، كما تقول: امض غير مصيب، وغير ذلك، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع، أرادت في الباطن الدعاء عليه، وأرت ظاهراً أنها تريد تعظيمه، قال نحوه ابن عباس وغيره، وكذلك {راعنا} كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة، وحكى مكي معنى رعاية الماشية، ويظهرون منه معنى المراعاة، فهذا معنى «ليّ اللسان» فقال الزجّاج: كانوا يريدون: اجعل سمعك لكلامنا مرعى. قال القاضي أبو محمد: وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا» ومن قال: {غير مسمع} غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد، و{ليّاً} أصله لوياً، قلبت الواو ياء وأدغمت {وطعناً في الدين} أي توهينا له وإظهاراً للاستخفاف به. قال القاضي أبو محمد: وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب، وقوله تعالى: {ولو أنهم} الآية: المعنى: لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا، واختلف المتأولون في قوله، {وانظرنا} فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما: معناه انتظرنا، بمعنى: افهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك، وهذا كما قال الحطيئة: وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ إيناءَ صادِرَةٍ *** لِلْخَمْسِ طَالَ بِهَا مَسْحي وَتَنَّاسي وقالت فرقة: انظر- معناه: انظر إلينا، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف، ومنه قول ابن الرقيات [الخفيف]: ظاهراتُ الجمالِ والْحُسْنِ يَنْظُرْ *** نَ كَمَا تَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّباءُ {وأقوم} معناه: أعدل وأصوب، «واللعنة»: الإبعاد، فمعناه، أبعدهم من المهدي، و{قليلاً}: نعت، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم، والمعنى مختلف، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال: إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قل ما تنب كذا وهي لا تنبته جملة، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعه ونواهيها، ومن عبر بالقلة عن النفر قال: لا يؤمن منهم إلا قليل، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما، وإذا قدرت الكلام نفراً قليلاً، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} هذا خطاب لليهود والنصارى، و{لما معكم} معناه من شرع وملة، لا لما كان معهم من مبدل ومغير، و«الطامس»: الدائر المغير الاعلام، كما قال ذو الرمة: [البسيط] من كل نضّاخَةِ الذّفرى إذا عَرِقَتْ *** عُرْضَتُها طامسُ الاعلامِ مجهولُ ومن ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه: أعمى مطموس، وقالت طائفة: «طمس الوجوه» هنا: أن تعفى أثر الحواس فيها، وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس، فيكون أرد على «الأدبار» في هذا الموضع بالمعنى، أي خلوه من الحواس دبراً لكونه عامراً بها، وقال ابن عباس وعطية العوفي: «طمس الوجوه» أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشى القهقرى، وحكى الطبري عن فرقة: أن طمس الوجوه أن تتغير أعلامها وتصير منابت للشعر، فذلك هو الرد على الدبر، ورد على هذا القول الطبري، وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من أليل وهو يقرأ هذه الآية: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم} فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته، فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي، وقال مجاهد والحسن والسدي والضحاك: ذلك تجوز، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر، وهو الرد على الأدبار، وقال ابن زيد: الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها، وطمسها: إخراجهم منها، والرد على الأدبار: هو رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولاً، و{أصحاب السبت}: هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد، حسبما تقدم، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة، قاله قتادة والحسن والسدي: وأمر الله في هذا الموضع واحد الأمور، دال على جنسها، لا واحد الأوامر، فهي عبارة عن المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به. وقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية، هذه مسألة الوعد والوعيد، وتلخيص الكلام فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف، كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار بإجماع، ومؤمن محسن لم يذنب قطّ ومات على ذلك، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع، وتائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة، ومذنب مات قبل توبته، فهذا موضع الخلاف، فقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار، وآيات الوعد عامة في المؤمنين، تقيّهم وعاصيهم. وقالت المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد، وقالت الخوارج: إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له، لأنهم يرون كل الذنوب كبائر، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط، والمؤمن التائب، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفاراً أو مؤمنين، وقال أهل السنة وأحق: آيات الوعد ظاهرة العموم، وآيات الوعيد ظاهرة العموم، ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها، كقوله تعالى: {لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى} [الليل 15-16] وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد وقوله: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} [الجن: 23] فلا بد أن نقول: إن آيات الوعد لفظها لفظ عموم، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن، وفي التائب، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة، وأن آيات الوعيد لفظها عموم، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة، وتحكم بقولنا: هذه الآية النص في موضع النزاع، وهي قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فإنها جلت الشك وردت على الطائفتين، المرجئة والمعتزلة، وذلك أن قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به} فصل مجمع عليه، وقوله: {ويغفر ما دون ذلك} فصل قاطع بالمعتزلة راد على قولهم رداً لا محيد عنه، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام لصح قول المرجئة، فجاء قوله {لمن يشاء} راداً عليهم، موجباً أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن. قال القاضي ابو محمد: ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلى قولها، بأن قالوا: «من يشاء» هو التائب، وما أرادوه فاسد، لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل، إذ التائب من الشرك يغفر له. قال القاضي أبو محمد: ورامت المرجئة أن ترد الآية إلى قولها، بأن قالوا: {لمن يشاء} معناه: يشاء أن يؤمن، لا يشاء أن يغفر له، فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن، لا بغفران الله لمن يغفر له، ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله: {ويغفر ما دون ذلك} عام في كافر ومؤمن، فإذا خصص المؤمنون بقوله {لمن يشاء} وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك، ويجازون به. قال القاضي أبو محمد: وذلك وإن كان مما قد قيل- فهو مما لم يقصد بالآية على تأويل أحد من العلماء، ويرد على هذا المنزع بطول التقسيم، لأن الشرك مغفور أيضاً لمن شاء الله أن يؤمن. قال القاضي أبو محمد: ومن آيات الوعيد التي احتج بها المعتزلة، قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} [النساء: 93] والآية مخرجة عنهم لوجوه، منها: أن الأصح في تأويل قوله تعالى {متعمداً} ما قال ابن عباس: إنه أراد مستحلاً، وإذا استحل أحد ما حرم الله عليه فقد كفر، ويدل على ما قال ابن عباس: إنّا نجد الله تعالى في أمر القتل إذا ذكر القصاص لم يذكر الوعيد، وإذا ذكر الوعيد بالنار لم يذكر القصاص، فيظهر أن القصاص للقاتل المؤمن العاصي، والوعيد للمستحل الذي في حكم الكافر، ومنها من جهة أخرى أن الخلود إذا لم يقرن بقوله «أبداً» فجائز أن يراد به الزمن المتطاول، إذ ذلك معهود في كلام العرب، ألا ترى أنهم يحيّون الملوك بخلد الله ملكك، ومن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل] وَهَلْ يَعِمَنْ إلاّ سعيدٌ مُخَلَّدٌ *** قَليلُ الهمومِ ما يَبِيتُ بِأَوْجَالِ وقال عبد الله بن عمرو لما نزلت {قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر: 53] قال بعض أصحاب النبي عليه السلام: والشرك يا رسول الله، فنزلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ولما حتم على أنه لا يغفر الشرك ذكر قبح موضعه وقدره في الذنوب، والفرية: أشد مراتب الكذب قبحاً، وهو الاختلاق للعصبية.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} هذا لفظ عام في ظاهره، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود، واختلف في المعنى الذي به «زكوا أنفسهم»، فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] وقولهم: {لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً} [البقرة: 111] وقال الضحاك والسدي: ذلك قولهم: لا ذنوب لنا وما فعلناه نهاراً غفر ليلاً، وما فعلناه ليلاً غفر نهاراً، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب، وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة: تقديمهم أولادهم الصغار للصلاة لأنهم لا ذنوب لهم. قال المؤلف: وهذا يبعد من مقصد الآية وقال ابن عباس: ذلك قولهم أبناؤها الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا، وقال عبد الله بن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض، ومدحهم لهم وتزكيتهم لهم. قال القاضي أبو محمد: فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل، والضمير في {يزكون} عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية، وقرأت طائفة «ولا تظلمون» بالتاء على الخطاب، «والفتيل»: هو ما فتل، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم: «الفتيل»: الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي: هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه، ولا شيء دونه في الصغر، فكيف بما فوقه، ونصبه على مفعول ثان ب {يظلمون}. وقوله تعالى: {انظر كيف يفترون} الآية، يبين أن تزكيتهم أنفسهم كانت بالباطل والكذب، ويقوي أن التزكية كانت بقولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] إذ الافتراء في هذه المقالة أمكن و{كيف} يصح أن يكون في موضع نصب ب {يفترون}، ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: {يفترون} و{وكفى به إثماً مبيناً} خبر في مضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب، وأن يكتفى لهم بهذا الكذب إثماً ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك و{إثماً} نصب على التمييز. وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين} الآية، ظاهرها يعم اليهود والنصارى، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود، والقصص يبين ذلك، واختلف في {الجبت والطاغوت}، فقال عكرمة وغيره: هما في هذا الموضع صنمان كانا لقريش، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لهم قريش: إنكم أهل الكتاب، ومحمد صاحب كتاب، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا، ففعلوا، ففي ذلك نزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: {الجبت} هنا: حيي بن أخطب {والطاغوت}: كعب بن الأشرف. فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما واتباعهم لهما، وقال ابن عباس: {الجبت} الأصنام، {والطاغوت} القوم المترجمون عن الأصنام، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: {الجبت} السحر، {والطاغوت}: الشيطان، وقاله مجاهد والشعبي، وقال زيد بن أسلم: {الجبت}: الساحر، {والطاغوت}: الشيطان، وقال سعيد بن جبير ورفيع: {الجبت}: الساحر، و{الطاغوت}: الكاهن، وقال قتادة: {الجبت}: الشيطان، والطاغوت: الكاهن، وقال سعيد بن جبير أيضاً: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان، وقال ابن سيرين: {الجبت}: الكاهن، {والطاغوت}: الساحر، وقال مجاهد في كتاب الطبري: {الجتب}: كعب ابن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان. قال ابن عطية: فمجموع هذا يقتضي أن {الجبت والطاغوت} هو كل ما عبد وأُطيع من دون الله تعالى، وكذلك قال مالك رحمه الله: الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى، وذكر بعض الناس أن الجبت: هو من لغة الحبشة، وقال قطرب: {الجبت} أصله الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير عنده، وأما {الطاغوت} فهو من طغى، أصله طغووت وزنه فعلوت، وتاؤه زائدة، قلب فرد فلعوت، أصله طوغوت، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، وقوله تعالى: {ويقولون للذين كفروا} الآية سببها، أن قريشاً قالت لكعب بن الأشرف حين ورد مكة: أنت سيدنا وسيد قومك، إنّا قوم ننحر الكوماء، ونقري الضيف، ونصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونعبد آلهتنا الذين وجدنا أباءنا يعبدون، وهذا الصنبور المنبتر من قومه قد قطع الرحم، فمن أهدى نحن أو هو؟ فقال كعب: أنتم أهدى منه وأقوم ديناً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس: وحكى السدي: أن أبا سفيان خاطب كعباً بهذه المقالة، فالضمير في {يقولون} عائد على كعب على ما تقدم- أو على الجماعة من بني إسرائيل التي كانت مع كعب، لأنها قالت بقوله في جميع ذلك على ما ذكر بعض المتأولين، و{الذين كفروا} في هذه الآية هم قريش، والإشارة ب {هؤلاء} إليهم، و{أهدى}: وزنه أفعل وهو للتفضيل، و{الذين آمنوا}: هم النبي عليه السلام وأمته، و{سبيلاً} نصب على التمييز، وقالت فرقة: بل المراد في الآية من بني إسرائيل هو حيي بن أخطب وهو المقصود من أول الآيات، والمشار إليه بقوله {أولئك} هم المراد من بني إسرائيل، فمن قال: كانوا جماعة فذلك مستقيم لفظاً ومعنى، ومن قال: هو كعب أو حيي، فعبر عنه بلفظ الجمع، لأنه كان متبوعاً، وكان قوله مقترناً بقول جماعة. و {لعنهم} معناه: أبعدهم من خيره ومقتهم، ومن يفعل الله ذلك به ويخذله فلا ناصر له من المخلوقين، وإن نصرته طائفة، فنصرتها كلا نصرة، إذ لا تغني عنه شيئاً.
{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} عرف {أم} أن تعطف بعد استفهام متقدم، كقولك: أقام زيد أم عمرو، فإذا وردت ولم يتقدمها استفهام، فمذهب سيبويه: أنها مضمنة معنى الإضراب عن الكلام الأول والقطع منه، وهي مضمنة مع ذلك معنى الاستفهام، فهي بمعنى «بل» مع ألف الاستفهام، كقول العرب: إنها لإبل أم شاء، فالتقدير عند سيبويه، أنها لإبل بل أهي شاء. وكذلك هذا الموضع، تقديره: بل ألهم نصيب من الملك؟ وقد حكي عن بعض النحويين، أن {أم} يستفهم بها ابتداء دون تقدم استفهام، حكاه ابن قتيبة في المشكل، وهذا غير مشهور للعرب، وقال بعض المفسرين: {أم} بمعنى بل، ولم يذكروا الألف اللازمة، فأوجبوا على هذا حصول الملك للمذكور ينفي الآية، والتزموا ذلك وفسروا عليه، فالمعنى عندهم: بل هم ملوك أهل دنيا وعتو وتنعم، لا يبغون غيره، فهم بخلاء به، حريصون على أن لا يكون ظهور لسواهم. قال القاضي أبو محمد: والمعنى على الأرجح الذي هو مذهب سيبويه والحذاق، أنه استفهام على معنى الإنكار، أي ألهم ملك؟ فإذاً لوكان لبخلوا، وقرأ ابن مسعود «فإذا لا يؤتوا» بغير نون على إعمال «إذاً» والمصحف على إلغائها، والوجهان جائزان، وإن كانت صدراً من أجل دخول الفاء عليها، والنقير، أعرف ما فيه أنها النكتة التي في ظهر النواة من التمرة، ومن هنالك تنبت، وهو قول الجمهور، وقالت فرقة: هي النقطة التي في بطن النواة، وروي عن ابن عباس أنه قال: هو نقر الإنسان بأصبعه، وهذا كله يجمعه أنه كناية عن الغاية في الحقارة والقلة على مجاز العرب واستعارتها، و{إذاً} في هذه الآية ملغاة لدخول فاء العطف عليها، ويجوز إعمالها، والإلغاء أفصح، وذلك أنها إذا تقدمت أعملت قولاً واحداً، وإذا توسطت ألغيت قولاً واحداً، فإذا دخل عليها وهي متقدمة فاء أو واو جاز إعمالها والإلغاء أفصح وهي لغة القرآن وتكتب «إذاً» بالنون وبالألف، فالنون هو الأصل، كعن ومن، وجاز كتبها بالألف لصحة الوقوف عليها فأشبهت نون التنوين، ولا يصح الوقوف على «عن ومن». وقوله تعالى: {أم يحسدون الناس} الآية، {أم} هذه على بابها، لأن الاستفهام الذي في تقديرنا، بل ألهم قد تقدمها، واختلف المتأولون في المراد ب {الناس} في هذا الموضع، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك، هو النبي عليه السلام، والفضل النبوة فقط، والمعنى فلمَ يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم في جميع ما آتيناهم من هذا وغيره من الملك؟ وقال ابن عباس والسدي أيضاً: هو النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل ما أبيح له من النساء فقط، وسبب الآية عندهم، أن اليهود قالت لكفار العرب: انظروا إلى هذا الذي يقول: إنه بعث بالتواضع، وإنه لا يملأ بطنه طعاماً، ليس همه إلا في النساء، ونحو هذا، فنزلت الآية، والمعنى فلمَ يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم؟ صلى الله عليه وسلم يعني سليمان وداود عليهما السلام في أنهما أعطيا النبوة والكتاب، وأعطيا مع ذلك ملكاً عظيماً، في أمر النساء، وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية، ولداود مائة امرأة، ونحو هذا من الأخبارالواردة في ذلك، فالملك في القول إباحة النساء، كأنه المقصود أولاً بالذكر، وقال قتادة: {الناس} في هذا الموضع: العرب، حسدتها بنو إسرائيل في أن كان النبي عليه السلام منها، «والفضل» على هذا التأويل: هو محمد عليه السلام، فالمعنى: لم يحسدون العرب على هذا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوتي آل إبراهيم صلى الله عليه وسلم- وهم أسلافهم- أنبياء وكتباً، كالتوراة والزبور، {وحكمة} وفي الفهم في الدين وما يكون من الهدى مما لم ينص عليه الكتاب، وروي عن ابن عباس أنه قال: «نحن الناس» يريد قرشاً، {وملكاً عظيماً}: أي ملك سليمان، قاله ابن عباس: وقال مجاهد: الملك العظيم في الآية هو النبوة، وقال همام بن الحارث وأبو مسلمة: هو التأييد بالملائكة. قال القاضي أبو محمد: والأصوب أنه ملك سليمان أو أمر النساء في التأويل المتقدم، وقوله تعالى: {فمنهم من آمن به} الآية، اختلف المتأولون في عود الضمير من {به} فقال الجمهور: هو عائد على القرآن الذي في قوله تعالى: {آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً} [النساء: 47] فأعلم الله أن منهم من آمن كما أمر، فلذلك ارتفع الوعيد بالطمس ولم يقع، وصد قوم ثبت الوعيد عليهم في الآخرة بقوله: {وكفى بجهنم سعيراً} وقالت فرقة: الضمير عائد على إبراهيم عليه السلام، وحكى مكي في ذلك قصصاً ليست بالثابتة، وقالت فرقة: هو عائد على الفضل الذي آتاه الله النبي عليه السلام، أو العرب على ما تقدم. قال القاضي أبو محمد: قرأت فرقة: «صُد» عنه بضم الصاد على بناء الفعل للمفعول، و{سعيراً} معناه: احتراقاً وتلهباً، والسعير: شدة توقد النار، فهذا كناية عن شدة العذاب والعقوبة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} تقدم في الآيات وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم، ثم جاء بالوعيد النص لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم ممن فعل فعلهم من الكفر، والقراءة المشهورة {نُصليهم} بضم النون من أصليت ومعناه قربت من النار وألقيت فيها، وهو معنى صليت بتشديد اللام، وقرأ حميد «نَصليهم» بفتح النون من صليت، ومعناه شويت، ومنه الحديث، أتي رسول الله لشاة مصلية، أي مشوية، وكذا وقع تصريف الفعل في العين وغيره، وقرأ سلام ويعقوب «نصليهُم» بضم الهاء، واختلف المتأولون في معنى تبديل الجلود، فقالت فرقة: تبدل عليهم جلود غيرها، إذ نفوسهم هي المعذبة والجلود لا تألم في ذاتها، فإنها تبدل ليذوقوا تجديد العذاب، وقالت فرقة: «تبديل الجلود» هو إعادة ذلك الجلد بعينه الذي كان في الدنيا، تأكله النار ويعيده الله دأباً لتجدد العذاب، وإنما سماه «تبديلاً»، لأن أوصافه تتغير ثم يعاد، كما تقول: بدل من خاتمي هذا خاتماً وهي فضته بعينها، فالبدل إنما وقع في تغيير الصفات، وقال ابن عمر، كلما احترقت جلودهم بدلوا جلوداً بيضاء كالقراطيس، وقال الحسن بن أبي الحسن، تبدل عليهم في اليوم سبعين ألف مرة، وقالت فرقة: الجلود في هذا الموضع سرابيل القطران، سماها جلوداً للزومها فصارت كالجلود، وهي تبدل دأباً عافانا الله من عذابه برحمته، حكاه الطبري، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالعزة والإحكام، لأن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله، ولا يفعل شيئاً إلا بحكمة وإصابة، لا إله إلا هو تبارك وتعالى. ولما ذكر الله وعيد الكفار، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال الصالحة، وقرأ ابن وثاب والنخعي، «سيدخلهم» بالياء وكذلك «يدخلهم» بعد ذلك وقد تقدم القول في معنى {من تحتها} في سورة البقرة و{مطهرة} معناه: من الريب والأقذار التي هي معهودات في الدنيا و{ظليلاً} معناه: عند بعضهم يقي الحر والبرد، ويصح أن يريد أنه ظل لا يتسحيل ولا ينتقل، كما يفعل ظل الدنيا، فأكده بقوله {ظليلاً} لذلك، ويصح أن يصفه بظليل لامتداده، فقد قال عليه السلام: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها».
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب، وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة. قال القاضي أبو محمد: فهو للنبي عليه السلام وأمرائه، ثم يتناول من بعدهم، وقال ابن جريج وغيره: ذلك خطاب للنبي عليه السلام في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية، فدخل رسول الله الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم، ونزل عليه جبريل بهذه الآية، قال عمر بن الخطاب: وخرج رسول الله وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه. فدعا عثمان وشيبة، فقال لهما: خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، وحكى مكي أن شيبة أراد أن لا يدفع المفتاح، ثم دفعه وقال للنبي عليه السلام: خذه بأمانة الله. قال القاضي أبو محمد: واختلف الرواة في بعض ألفاظ هذا الخبر، زيادة ونقصاناً، إلا أنه المعنى بعينه، وقال ابن عباس: الآية في الولاة بأن يعظوا النساء في النشوز ونحوه، ويردوهن إلى الأزواج، والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس، ومع أن سببها ما ذكرناه تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات وعدل الحكومات وغيره، وتتناولهم ومن دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لموسرٍ ولا معسر أن يمسك الأمانة، و{نعما} أصله نعم ما، سكنت الأولى وأدغمت في الثانية وحركت العين لالتقاء الساكنين، وخصت بالكسر اتباعاً للنون، و«ما» المردفة على «نعم» إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في «ربما ومما» في قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه، وكقول الشاعر: [الطويل] وإنّا لَمِمّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً *** عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ ونحوه، وفي هذا هي بمنزلة «ربما» وهي لها مخالفة في المعنى، لأن «ربما» معناها: التقليل، و«مما» معناها التكثير، ومع أن «ما» موطئة فهي بمعنى «الذي» وما وطأت إلا وهي اسم، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالسمع والبصر، لأنها في الشاهد محصلات ما يفعل المأمور فيما أمر به. وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله} لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة، تقدم في هذه إلى الرعية، فأمر بطاعته عز وجل، وهي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله، وطاعة الأمراء على قول الجمهور: أبي هريرة وابن عباس وابن زيد وغيرهم، فالأمر على هذا التأويل إشارة إلى القرآن والشريعة، أي: أولي هذا الأمر، وعن عبد الله ومجاهد وجماعة: أولو الأمر: أهل القرآن والعلم، فالأمرعلى هذا التأويل أشار إلى القرآن والشريعة، أي: أولي هذا الأمر وهذا الشأن وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: الإشارة هنا ب {أولي الأمر} إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر خاصة، وفي هذا التخصيص بعد، وحكى بعض من قال: إنهم الأمراء أنها نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عمار بن ياسر، وأميرها خالد بن الوليد، فقصدوا قوماً من العرب، فأتاهم نذير فهربوا تحت الليل. وجاء منهم رجل إلى عسكر خالد، فدخل إلى عمار فقال: يا أبا اليقظان، إن قومي قد فروا، وإني قد أسلمت، فإن كان ينفعني إسلامي بقيت، وإلا فررت، فقال له عمار: هو ينفعك، فأقم، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد سوى الرجل المذكور فأخده وأخذ ماله، فجاء عمار فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني، فقال خالد: وأنت تجير؟ فاستبّا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية عل أمير، واستبّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا خالد لا تسب عماراً، فإنه من سب عماراً سبه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله، ومن لعن عماراً لعنه الله،» فغضب عمار، فقام فذهب، فتبعه خالد حتى اعتذر إليه فتراضيا، فأنزل الله عز وجل قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وطاعة الرسول هي اتباع سنته، قاله عطاء وغيره، وقال ابن زيد: معنى الآية {وأطعيوا الرسول}. قال القاضي أبو محمد: يريد «وسنته» بعد موته، المعنى: {فإن تنازعتم} فيما بينكم أو أنتم وأمراؤكم، ومعنى التنازع أن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها، والرد إلى الله: هو النظر في كتابه العزيز، والرد إلى الرسول: هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته عليه السلام، هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة والسدي، وهو الصحيح، وقال قوم: معناه قولوا: الله ورسوله أعلم، فهذا هو الرد، وفي قوله: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} بعض وعيد، لأن فيه جزاء المسيء العاتي، وخاطبهم ب {إن كنتم تؤمنون} وهم قد كانوا آمنوا، على جهة التقرير، ليتأكد الإلزام، و{تأويلاً} معناه: مآلاً على قول جماعة، وقال مجاهد: أحسن جزاء، قال قتادة والسدي وابن زيد: المعنى أحسن عاقبة، وقالت فرقة: المعنى أن الله ورسوله أحسن نظراً وتأولاً منكم إذا انفردتم بتأولكم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} تقول العرب: زعم فلان كذا، في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق وتتقوى فيه شبه الإبطال، فغاية درجة الزعم إذا قوي أن يكون مظنوناً، يقال: «زَعم» بفتح الزاي وهو المصدر، «وزُعم» بضمها وهو الاسم وكذلك زعم المنافقين أنهم مؤمنون، هو مما قويت فيه شبهة الإبطال لسوء أفعالهم، حتى صححها الخبر من الله تعالى عنهم، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس مطية الرجل زعموا» وقد قال الأعشى: [المتقارب] ونُبّئْتُ قَيْساً وَلَمْ أبْلُهُ *** كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ فقال الممدوح: وما هو إلا الزعم وحرمه، وإذا قال سيبويه: زعم الخليل، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به، وكان أقوى رتب «زعم» أن تبقى معها عهدة الخبر على المخبر، و«أن» معمولة ل {يزعمون} وقال عامر الشعبي وغيره: نزلت الآية في منافق اسمه بشر، خاصم رجلاً من اليهود، فدعاه اليهودي إلى المسلمين لعلمه أنهم لا يرتشون، وكان هو يدعو اليهودي إلى اليهود لعلمه أنهم يرتشون، فاتفقا بعد ذلك على أن أتيا كاهناً كان بالمدينة فرضياه، فنزلت هذه الآية فيهما وفي صنفيهما، «فالذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل» على محمد هم المنافقون، «والذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل» من قبله هم اليهود، وكل قد أمر في كتابه بالكفر بالطاغوت، و{الطاغوت} هنا الكاهن المذكور، فهذا تأنيب للصنفين، وقال ابن عباس: {الطاغوت} هنا هو كعب بن الأشرف وهو الذي تراضيا به فعلى هذا إنما يؤنب صنف المنافقين وحده، وهم الذين آمنوا بما أنزل على محمد وبما أنزل من قبله بزعمهم، لأن اليهود لم يؤمروا في شرعهم بالكفر بالأحبار، وكعب منهم، وذكر النقاش: أن كعباً هذا أصله من طيئ وتهود، وقال مجاهد: نزلت في مؤمن ويهودي، وقالت فرقة: نزلت في يهوديين. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان بعيدان من الاستقامة على ألفاظ الآية، وقال السدي: نزلت في المنافقين من قريظة والنضير، وذلك أنهم تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت، وتستقيد إذا قتلت قريظة منهم، فأبت قريظة لما جاء الإسلام، وطلبوا المنافرة، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا المنافقون إلى أبي بردة الكاهن، فنزلت الآية فيهم، وحكى الزجّاج: أن المنافق المتقدم الذكر أو غيره اختصم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقضى في أمره، فخرج وقال لخصمه: لا أرضى بحكمه، فذهبا إلى أبي بكر فقضى بينهما، فقال المنافق: لا أرضى، فذهبا إلى عمر فوصفا له جميع ما فعلا، فقال لهما: اصبرا حتى أقضي حاجة في منزلي ثم أخرج فأحكم بينكما، فدخل وأخذ سيفه وخرج، فضرب المنافق حتى برد، وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، وقال الحسن: احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت الآية. و {يضلهم} معناه: يتلفهم، وجاء {ضلالاً} على غير المصدر تقديره: «فيضلون ضلالاً»، و{بعيداً} عبارة عن عظم الضلال وتمكنه حتى يبعد الرجوع عنه والاهتداء معه. وقرأ الجمهور «تَعالَوا» بفتح اللام، وقرأ الحسن فيما روى عنه قتادة «تعالُوا» بضمة، قال أبو الفتح: وجهها أن لام الفعل من «تعاليت» حذفت تخفيفاً، وضمت اللام التي هي عين الفعل، وذلك لوقوع واو الجمع بعدها، كقولك: تقدموا وتأخروا، وهي لفظة مأخوذة من العلو، لما استعملت في دعاء الإنسان وجلبه وأشخاصه، سيقت من العلو تحسيناً للأدب، كما تقول: ارتفع إلى الحق، ونحوه، و{رأيت} هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحاً، وهي رؤية قلب لمن صد منهم مكراً وتخابثاً ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه والقرائن الصادرة عنه، فإذا كانت رؤية عين ف {يصدون} في موضع نصب على الحال، وإذا كانت رؤية قلب ف {يصدون} نصب على المفعول الثاني، و{صدوداً} مصدر عند بعض النحاة من صد، وليس عند الخليل بمصدر منه، والمصدر عنده «صداً» وإنما ذلك لأن فعولاً إنما هو مصدر للأفعال غير المتعدية، كجلس جلوساً، وقعد قعوداً و«صد» فعل متعد بنفسه مرة كمان قال: {فصدهم عن السبيل} [النمل: 24- العنكبوت: 38]، ومرة بحرف الجر كقوله تعالى: {يصدون عنك صدوداً} وغيره، فمصدره: صد، و{صدوداً} اسم.
{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} قالت فرقة: هي في المنافقين الذين احتكموا حسب ما تقدم، فالمعنى: فكيف بهم إذا عاقبهم الله بهذه الذنوب بنقمة منه؟ ثم حلفوا إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم وتقريبه، دون مر الحكم وتقصي الحق، وقالت فرقة: هي في المنافقين الذين طلبوا دم الذي قتله عمر، فالمعنى: {فكيف} بهم {إذا أصابتهم مصيبة} في قتل قريبهم ومثله من نقم الله تعالى، ثم إنهم حلفوا ما أرادوا بطلب دمه {إلا إحساناً} وحقاً، نحا إليه الزجّاج، وموضع {كيف} نصب بفعل تقديره: فكيف تراهم ونحوه، ويصح أن يكون موضعها رفعاً، تقديره: فكيف صنيعهم. وقوله تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} تكذيب المنافقين المتقدم ذكرهم وتوعدهم، أي فهو مجازيهم بما يعلم، و{أعرض عنهم} يعني عن معاقبتهم، وعن شغل البال بهم، وعن قبول أيمانهم الكاذبة في قوله {يحلفون} وليس بالإعراض الذي هو القطيعة والهجر، فإن قوله: {وعظهم} يمنع من ذلك، {وعظهم} معناه بالتخويف من عذاب الله، وغيره من المواعظ، والقول البليغ اختلف فيه، فقيل: هو الزجر والردع والكف بالبلاغة من القول، وقيل: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق، قاله الحسن، وهذا أبلغ ما يكون في نفوسهم، والبلاغة: مأخوذة من بلوغ المراد بالقول، وحكي عن مجاهد أن قوله: {في أنفسهم}، متعلق بقوله: {مصيبة} وهو مؤخر بمعنى التقديم، وهذا ضعيف وقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} تنبيه على جلالة الرسل، أي: فأنت يا محمد منهم، تجب طاعتك وتتعين إجابة الدعوة إليك، و{ليطاع}، نصب بلام كي، و{بإذن الله} معناه بأمر الله، وحسنت العبارة بالإذن، إذ بنفس الإرسال تجب طاعته وإن لم ينص أمر بذلك، ويصح تعلق الباء من قوله {بإذن} ب {أرسلنا}، والمعنى وما أرسلنا بأمر الله أي بشريعته وعبادته من رسول إلا ليطاع، والأظهر تعلقه ب «يطاع» والمعنى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأمر الله بطاعته. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأنا نقطع أن الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه ألا يطيعوا، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهذا تخريج حسن، لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن ووفقه لذلك فكأنه أذن له فيه، وحقيقة الإذن: التمكين مع العلم بقدر ما مكن منه، وقوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} الآية، معناه: بالمعصية والنفاق، ونقصها حظها من الإيمان و{استغفروا الله} معناه: طلبوا مغفرته، وتابوا إليه رجعوا، و{تواباً}: معناه راجعاً بعباده.
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} قال الطبري: قوله: {فلا} رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله، {وربك لا يؤمنون}. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال غيره: إنما قدم «لا» على القسم اهتماماً بالنفي، وإظهاراً لقوته، ثم كررها بعده تأكيداً للتهمم بالنفي، كان يصح إسقاط {لا} الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام، و{شجر} معناه: اختلط والتف من أمورهم، وهو من الشجر، شبيه بالتفاف الأغصان، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه، وقرأ أبو السمال «شجْر» بإسكان الجيم. قال القاضي أبو محمد: وأظنه فر من توالي الحركات، وليس بالقوي، لخفة الفتحة، و{يحكموك} نصب بحتى، لأنها هاهنا غاية مجردة. و{يجدوا} عطف عليه، والحرج: الشيق والتكلف والمشقة، قال مجاهد: {حرجاً}، شكاً، وقوله: {تسليماً} مصدر مؤكد، منبئ على التحقيق في التسليم، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة، كما قال تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} [النساء: 164] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع، ومنه: «وعجت عجيجاً من جدام المطارف». وقال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت، ورجح الطبري هذا، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة: نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب ذلك الرجل وقال إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوعب للزبير حقه، فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء،» فنزلت الآية، واختلفت أهل هذا القول في الرجل، فقال قوم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر، وقال مكي وغيره: هو حاطب بن أبي بلتعة. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار، وأن الزبير قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك، وقالت طائفة: لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، بلغ ذلك النبي وعظم عليه، وقال: ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل رجل مؤمن، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله. و {كتبنا} معناه فرضنا، و{اقتلوا أنفسكم} معناه ليقتل بعضكم بعضاً، وقد تقدم نظيره في البقرة، وضم النون من {أن} وكسرها جائز، وكذلك الواو من {أو أخرجوا} وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو، و{قليل} رفع على البدل من الضمير في {فعلوه}، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلاً»، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب. وسبب الآية على ما حكي: أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام: ما رأينا أسخف من هؤلاء، يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤون عقبة، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلناه، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون، كثابت وغيره، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل. وشركهم في ضمير {منهم} لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة، وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت {ولو أنا كتبنا عليهم} الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي،» وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق، وذكر النقاش: أنه عمر بن الخطاب، وذكر عن أبي بكر أنه قال: لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي وقوله تعالى: {ولو أنهم فعلوا} أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم، و{تثبيتاً} معناه: يقيناً وتصديقاً ونحوهذا، أي يثبتهم الله، ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم، و«الصراط المستقيم»: الإيمان المؤدي إلى الجنة، وجاء ترتيب هذه الآية كذا، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} لما ذكر الله الأمر الذي لو فعلوه لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله، وهذه الآية تفسير قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 5]، وقالت طائفة إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان، يا رسول الله إذا مت ومتنا كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك، فنزلت هذه الآية، وحكى مكي عن عبد الله هذا، أنه مات النبي عليه السلام، قال اللهم أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده، فعمي، وذكر أن جماعة من الأنصار قالت ذلك أو نحوه، حكاه الطبري عن ابن جبير وقتادة والسدي. قال القاضي أبو محمد: ومعنى- أنهم معهم- أنهم في دار واحدة، ومتنعم واحد، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من شاء، و«الصدّيق» فعيل من الصدق، وقيل من الصدقة، وروي عن النبي عليه السلام، الصديقون المتصدقون، والشهداء المقتولون في سبيل الله، هم المخصوصون بفضل الميتة، وهم الذي فرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم، وسمعوا بذلك لأن الله شهد لهم بالجنة، وقيل لأنهم شهدوا لله بالحق في موتهم ابتغاء مرضاته، ولكن لفظ، {الشهداء} في هذه الآية يعم أنواع الشهداء، و{رفيقاً} موحد في معنى الجمع، كما قال: {ثم يخرجكم طفلاً} [الحج: 5] ونصبه على التمييز، وقيل على الحال، والأول أصوب، وقرأ أبو السمال، «وحسْن» بسكون السين، وذلك مثل شجر بينهم. وقوله تعالى: {ذلك الفضل من الله} رد على تقدير معترض يقول، وما الذي يوجب استواء أهل الطاعة والنبيين في الآخرة، والفرق بينهم في الدنيا بيّن؟ فذكر الله أن ذلك بفضله لا بوجوب عليه، والإشارة ب {ذلك} إلى كون المطيعين مع المنعم عليهم، وأيضاً فلا نقرر الاستواء، بل هم معهم في دار والمنازل متبانية، ثم قال {وكفى بالله عليماً} وفيها معنى أن يقول، فسلموا فعل الله وتفضله من الأعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره، ولذلك أدخلت الباء على اسم الله، لتدل على الأمر الذي في قوله: {وكفى}.
|