الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
.سورة التين: .تفسير الآيات (1- 8): {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}اختلف الناس في معنى {التين والزيتون} اللذين أقسم الله تعالى بهما، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل: هو {التين} الذي يؤكل {والزيتون} الذي يعصر، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه تيناً أهدي إليه، فقال: «لو قلت إن فاكهة أنزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوا فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس»، وقال عليه السلام: «نعم السواك سواك الزيتون ومن الشجرة المباركة هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي»، وقال كعب وعكرمة: القسم بمنابتها، وذلك أن {التين} ينبت بدمشق، {والزيتون} ينبت بإيلياء فأقسم الله تعالى بالأرضين، وقال قتادة: هما جبلان بالشام، على أحدهما دمشق، وعلى الآخر بيت المقدس، وقال ابن زيد: {التين} مسجد دمشق، {والزيتون} مسجد إلياء، وقال ابن عباس وغيره: {التين} مسجد نوح {والزيتون} مسجد إبراهيم، وقيل {التين والزيتون وطور سينين}، ثلاثة مساجد بالشام، وقال محمد بن كعب القرظي: {التين} مسجد أصحاب الكهف، و{الزيتون} مسجد إيلياء، وأما {طور سينين}، فلم يختلف أنه جبل بالشام كلم الله عليه موسى، ومنه نودي، وفيه مسجد موسى فهو الطور، واختلف في قوله: {سينين}، فقال مجاهد وعكرمة: معناه حسن مبارك، وقيل معناه ذو الشجر، وقرأ الجمهور بكسر السين {سِينين}، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو رجاء بفتح السين وهي لغة بكر وتميم {سَينين}، وقرأ عمربن الخطاب وطلحة والحسن وابن مسعود: {سِيناء} بكسر السين، وقرأ أيضاً عمر بن الخطاب: {سَيناء} بالفتح، و{البلد الأمين} مكة بلا خلاف، وقيل معنى {سينين}: المبارك، وقيل معنى {سينين}: شجر واحدتها سينية، قاله الأخفش سعيد بن مسعدة وأمين: فعيل من الأمن بمعنى آمن أي آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، والقسم واقع على قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} ينبغي له، ولا يدفع هذا أن يكون غيره من المخلوقات كالشمس وغيرها أحسن تقويماً منه بالمناسبة، وقال بعض العلماء بالعموم أي {الإنسان} أحسن المخلوقات تقويماً، ولم ير قوم الحنث على من حلف بالطلاق أن زوجته أحسن من الشمس، واحتجوا بهذه الآية، واختلف الناس في تقويم الإنسان ما هو؟ فقال النخعي ومجاهد وقتادة: حسن صورته وحواسه، وقال بعضهم: هو انتصاب قامته، وقال أبو بكر بن طاهر في كتاب الثعلبي: هو عقله وإدراكه اللذان زيناه بالتمييز، وقال عكرمة: هو الشباب والقوة، والصواب أن جميع هذا هو حسن التقويم إلا قول عكرمة، إذا قوله يفضل فيه بعض الحيوان، و{الإنسان} هنا اسم الجنس، وتقدير الكلام في تقويم {أحسن تقويم}، لأن {أحسن} صفة لابد أن تجري على موصوف، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين}، فقال عكرمة وقتادة والضحاك والنخعي: معناه بالهرم وذهول العقل وتفلت الفكر حتى يصير لا يعلم شيئاً، أنا إن المؤمن مرفوع عنه القلم، والاستثناء على هذا منقطع وهذا قول حسن وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا بل في الجنس من يعتريه ذلك وهذه عبرة منصوبة، وقرأ ابن مسعود: {السافلين} بالألف واللام، ثم أخبر أن {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وإن نال بعضهم هذا في الدنيا {فلهم} في الآخرة {أجر غير ممنون}، وقال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وأبو العالية: المعنى {رددناه أسفل سافلين} في النار على كفره ثم استثنى {الذين آمنوا} استثناء منفصلاً، فهم على هذا ليس فيهم من يرد أسفل سافلين في النار على كفره، وفي حديث عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفف الله تعالى حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفرت ذنوبه وشفع في أهل بيته وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ مائة ولم يعمل شيئاً كتب الله له ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة» وفي حديث «إن المؤمن إذا رد إلى أرذل العمر كتب الله له خير ما كان يعمله في قوته، وذلك أجر غير ممنون» و{ممنون} معناه: محسوب مصَرِّد يمن عليهم، قاله مجاهد وغيره، وقال كثير من المفسرين معناه مقطوع من قولهم حبل منين، أي ضعيف منقطع، واختلف في المخاطب بقوله تعالى: {فما يكذبك بعد بالدين} فقال قتادة والفراء والأخفش: هو محمد عليه السلام، قال الله له: فماذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبر التي ويجب النظر فيها صحة ما قلت، ويحتمل أن يكون الدين على هذا التأويل جميع دينه وشرعه، وقال جمهور من المتأولين: المخاطب الإنسان الكافر، أي ما الذي يجعلك كذاباً بالدين، تجعل له أنداداً، وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل، وقال منصور قلت لمجاهد: قوله تعالى: {فما يكذبك} يريد به النبي صلى الله عليه وسلم قال معاذ الله يعني به الشاك، ثم وقف تعالى جميع خلقه على أنه {أحكم الحاكمين} على جهة التقرير، وروي عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه السورة قال: «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين»..سورة العلق: .تفسير الآيات (1- 19): {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها، قال: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه التحنث في غار حراء، فكان يخلو فيه فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء، فقال له: {اقرأ}، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني ثم كذلك ثلاث مرات، فقال له في الثالثة: {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق} إلى قوله: {ما لم يعلم}، قال فرجع بها رسول ترجف بوادره الحديث بطوله، ومعنى هذه الآية، {اقرأ} هذا القرآن {باسم ربك}، أي ابدأ فعلك بذكر اسم ربك، كما قال: {اركبوا فيها بسم الله} [هود: 41] هذا وجه. ووجه آخر في كتاب الثعلبي أن المعنى: {اقرأ} في أول كل سورة، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ووجه آخر أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو {باسم ربك الذي خلق}، كأنه قال له: {اقرأ} هذا اللفظ، ولما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أرباباً جاءه بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها، وهي قوله تعالى: {الذي خلق}، ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه، وما يجده كل مفطور في نفسه، فقال: {خلق الإنسان من علق}، وخلقه الإنسان من أعظم العبر حتى أنه ليس في المخلوقات التي لدينا أكثر عبراً منه في عقله وإدراكه ورباطات بدنه وعظامه، والعلق جمع علقة، وهي القطعة اليسيرة من الدم، و{الإنسان} هنا: اسم الجنس، ويمشي الذهن معه إلى جميع الحيوان، وليست الإشارة إلى آدم، لأنه مخلوق من طين، ولم يكن ذلك متقرراً عند الكفار المخاطبين بهذه الآية، فلذلك ترك أصل الخلقة وسيق لهم الفرع الذي هم به مقرون تقريباً لأفهامهم، ثم قال تعالى: {اقرأ وربك الأكرم} على جهة التأنيس، كأنه يقول: امض لما أمرت به وربك ليس كهذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص، فهو ينصرك ويظهرك، ثم عدد تعالى نعمة الكتاب {بالقلم} على الناس وهي موضع عبرة وأعظم منفعة في المخاطبات وتخليد المعارف، وقوله تعالى: {علم الإنسان ما لم يعلم} قيل: المراد محمد عليه السلام، وقيل: اسم الجنس وهو الأظهر، وعدد نعمته اكتساب المعارف بعد جهله بها، وقوله تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى} الآية نزلت بعد مدة من شأن أبي طهل بن هشام، وذلك أنه طغى لغناه ولكثرة من يغشى ناديه من الناس، فناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ونهاه عن الصلاة في المسجد، ويروى أنه قال: لئن رأيت محمداً يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه القول وانتهره وتوعده، فقال أبو جهل: أيتوعدني، وما والي بالوادي أعظم ندياً مني، ويروى أيضاً أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فهمَّ بأن يصل إليه ويمنعه من الصلاة، ثم كع عنه وانصرف، فقيل له: ما هذا؟ فقال: لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار، وهول وأجنحة، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو دنا مني لأخذته الملائكة عياناً» فهذه السورة من قوله: {كلا} إلى آخرها نزلت في أبي جهل، و{كلا}: هي رد على أقوال أبي جهل وأفعاله، ويتجه أن تكون بمعنى: حقاً، فهي تثبيت لما بعدها من القول والطغيان: تجاوز الحدود الجميلة، والغني: مطغ إلا من عصم الله والضمير في {رآه} للإنسان المذكور، كأنه قال: أن رأى نفسه غنياً، وهي رؤية قلب تقرب من العلم، ولذلك جاز أن يعمل فعل الفاعل في نفسه، كما تقول: وجدتني وطننتني ولا يجوز أن تقول: ضربتني، وقرأ الجمهور: {أن رآه}، بالمد على وزن رعاه، واختلفوا في الإمالة وتركها، وقرأ ابن كثير من طريق قنبل: {أن رأه}، على وزن رعه، على حذف لام الفعل وذلك تخفيف، ثم حقر غنى هذا الإنسان وما له بقوله: {إن إلى ربك الرجعى} أي الحشر والبعث يوم القيامة، و{الرجعى}: مصدر كالرجوع، وهو على وزن: العقبى ونحوه، وفي هذا الخبر: وعيد للطاغين من الناس، ثم صرح بذكر الناهي لمحمد عليه السلام، ولم يختلف أحد من المفسرين في أن الناهي: أبو جهل، وأن العبد المصلي محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {أرأيت} توقيف وهو فعل لا يتعدى إلى مفعولين على حد الرؤية من العلم بل يقتصر به، وقوله تعالى: {ألم يعلم بأن الله يرى} إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوقيفات الثلاث يصلح مع كل واحد منهما فجاء بها في نسق ثم جاء بالوعيد الكافي لجميعها اختصاراً واقتضاباً، ومع كل تقرير من الثلاثة تكمله مقدرة تتسع العبارات فيها، وقوله: {ألم يعلم} دال عليها مغن، وقوله تعالى: {إن كان} يعني العبد المصلي، وقوله: {إن كذب وتولى}، يعني الإنسان الذي ينهى، ونسب الرؤية إلى الله تعالى بمعنى يدرك أعمال الجميع بإدراك: سماه رؤية، والله منزه عن الجارحة وغير ذلك من المماثلات المحدثات، ثم توعد تعالى إن لم ينته بأن يؤخذ بناصيته فيجر إلى جهنم ذليلاً، تقول العرب: سفعت بيدي ناصية الفرس، والرجل إذا جذبتها مذللاً له، قال عمرو بن معد يكرب: [الكامل]فالآية على نحو قوله: {فيؤخذ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41] وقال بعض العلماء بالتفسير: {لنسفعاً} معناه: لنحرقن من قولهم سفعته النار إذا أحرقته، واكتفى بذكر الناصية لدلالتها على الوجه، وجاء {لنسفعاً} في خط المصحف بألف بدل النون، وقرأ أبو عمرو في رواية هارون: {لنسفعن} مثقلة النون، وفي مصحف ابن مسعود: {لأسفعن بالناصية ناصية كاذبة فاجرة}، وقرأ أبو حيوة: {ناصيةً كاذبةً خاطئةً} بالنصب في الثلاثة، وروي عن الكسائي أنه قرأ بالرفع فيها كلها، والناصية مقدم شعر الرأس، ثم أبدل النكرة من المعرفة في قوله: {ناصية كاذبة} ووصفها بالكذب والخطإ من حيث صفة لصاحبها، كما تقول: يد سارقة، وقوله: {فليدع نادية} إشارة إلى قول أبي جهل، وما بالوادي أكثر نادياً مني، والنادي والندى المجلس ومنه دار الندوة ومنه قول زهير: [الكامل] .سورة القدر: .تفسير الآيات (1- 5): {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}الضمير في {أنزلناه} للقرآن وإن لم يتقدم ذكره لدلالة المعنى عليه، فقال ابن عباس وغيره: أنزله الله تعالى {ليلة القدر} إلى السماء الدنيا جملة، ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وقال الشعبي وغيره: {إنا} ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك {في ليلة القدر}، وقد روي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان، فيستقيم هذا التأويل وقد روي أنه قد نزل في الرابع عشر من رمضان، فلا يستقيم هذا التأويل إلا على قول من يقول إن ليلة القدر تستدير الشهر كله ولا تختص بالعشر الأواخر، وهو قول ضعيف، حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرده في قوله: «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان»وقال جماعة من المتأولين معنى قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفي فضلها، وإذا كانت السورة من القرآن جاء الضمير للقرآن تفخيماً وتحسيناً، فقوله تعالى: {في ليلة} هو قول عمر بن الخطاب: لقد خشيت أن ينزل في قرآن ليلة نزول سورة الفتح، ونحو قول عائشة في حديث الإفك: لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن، و{ليلة القدر}: هي ليلة خصها الله تعالى بفضل عظيم وجعلها أفضل {من ألف شهر}، لا ليلة قدر فيها، وقاله مجاهد وغيره، وخصت هذه الأمة بهذه الفضيلة لما رأى محمد عليه السلام أعمال أمته فتقاصرها، وقوله تعالى: {وما أدراك ما ليلة القدر} ليلة القدر عبارة عن تفخيم لها، ثم أدراه تعالى بعد قوله: {ليلة القدر خير}، قال ابن عيينة في صحيح البخاري ما كان في القرآن: {وما أدراك} فقد أعلمه، وما قال: {وما يدريك} فإنه لم يعلم، وذكر ابن عباس وقتادة وغيره: أنها سميت ليلة القدر، لأن الله تعالى يقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله، وقد روي مثل هذا في ليلة النصف من شعبان، ولهذا ظواهر من كتاب الله عز وجل على نحو قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4]، وأما الصحة المقطوع بها فغير موجودة، وقال الزهري معناه: ليلة القدر العظيم والشرف الشأن، من قولك: رجل له قدر، وقال أبو بكر الوراق: سميت ليلة القدر لأنها تسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن من قبل، وترده عظيماً عند الله تعالى، وقيل سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر خطير، وليلة القدر مستديرة في أوتار العشر الأواخر من رمضان، هذا هو الصحيح المعول عليه، وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر، لأن الأوتار مع كمال الشهر، ليست الأوتار مع نقصانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الثالثة تبقى لخامسة تبقى، لسابعة تبقى»، وقال: «التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة»، وقال مالك: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، وقال ابن حبيب: يريد مالك إذا كان الشهر ناقصاً، فظاهر هذا أنه عليه السلام احتاط في كمال شهر ونقصانه، وهذا لا تتحصل معه الليلة إلا بعمارة العشر كله، وروي عن أبي حنيفة وقوم: أن ليلة القدر رفعت، وهذا قول مردود، وإنما رفع تعيينها، وقال ابن مسعود: من يقم السنة كلها يصبها، وقال أبو رزين هي أول ليلة من شهر رمضان، وقال الحسن: هي ليلة سبع عشرة، وهي التي كانت في صبيحتها وقعة بدر، وقال كثير من العلماء: هي ليلة ثلاثة وعشرين، وهي رواية عبد الله بن أنيس الجهني، وقاله ابن عباس، وقال أيضاً وهو وجماعة من الصحابة: هي ليلة سبع وعشرين، واستدل ابن عباس على قوله بأن الإنسان خلق من سبع وجعل رزقه في سبع، واستحسن ذلك عمر رضي الله عنه، وقال زيد بن ثابت وبلال: هي ليلة أربع عشرين، وقال بعض العلماء: أخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها، ثم عظم تعالى أمر ليلة القدر على نحو قوله: {وما أدراك ما الحاقة} [الحاقة: 2] وغير ذلك، ثم أخبر أنها أفضل لمن عمل فيها عملاً {من ألف شهر}، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام وثلث عام. وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال حين عوتب في تسليمه الأمر لمعاوية: إن الله تعالى أرى نبيه في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاهتم لذلك فأعطاه الله ليلة القدر، وهي خير من مدة ملك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون الناس هذا القدر من الزمان.قال القاضي أبو محمد: ثم كشف الغيب أن كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي هذا القدر من الزمان بعينه مع أن القول يعارضه أنه قد ملك بنو أمية في غرب الأرض مدة غير هذه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناًَ واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» و{الروح} هو جبريل وقيل: هم صنف حفظة الملائكة وقوله تعالى: {بإذن ربهم من كل أمر} اختلف الناس في معناه، فمن قال إن في هذه الليلة تقدر الأمور للملائكة قال: إن هذا التنزل لذلك، و{من} لابتداء الغاية أي نزولهم من أجل هذه الأمور المقدرة وسببها، ويحيء {سلام} خبراً بنداء مستأنفاً أي سلام هذه الليلة إلى أول يومها، وهذا قول نافع المقرئ والفراء وأبي العالية، وقال بعضهم {من} بمعنى الباء أي بكل أمر، ومن لم يقل بقدر الأمور في تلك الليلة قال معنى الآية {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم} بالرحمة والغفران والفواضل، ثم جعل قوله: {من كل أمر} متعلقاً بقوله: {سلام هي} أي من كل مخوف ينبغي أن يسلم منه فهي سلام، وقال مجاهد: لا يصيب أحداً فيها داء، وقال الشعبي ومنصور: {سلام} بمعنى التحية أي تسلم الملائكة على المؤمنين، وقرأ ابن عباس وعكرمة والكلبي: {من كل امرئ} أي يسلم فيها من كل امرئ سوء، فهذا على أن سلاماً بمعنى سلامة، وروي عنه أن سلاماً بمعنى تحية، {وكل امرئ} يراد بهم الملائكة أي من كل ملك تحية على المؤمنين، وهذا للعاملين فيها بالعبادة، وذهب من يقول بانتهاء الكلام في قوله: {سلام} إلى أن قوله: {هي} إنما هذا إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر، إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة، وذكر هذا الغرض ابن بكير وأبو بكر الوراق والنقاش عن ابن عباس، وقرأ جمهور السبعة: {حتى مطلَع الفجر} بفتح اللام، وقرأ الكسائي والأعمش وأبو رجاء وابن محيصن وطلحة: {حتى مطلِع} بكسر اللام، فقيل هما بمعنى مصدران في لغة بني تميم، وقيل الفتح المصدر والكسر موضع الطلوع عند أهل الحجاز، والقراءة بالتفح أوجه على هذا القول، والأخرى تتخرج على تجوز كان الوقت ينحصر في ذلك الموضع ويتم فيه، ويتجه الكسر على وجه آخر، وهو أنه قد شذ من هذه المصادر ما كسر كالمعجزة، وقولهم علاه المكبر بفتح الميم وكسر الباء، ومنه المحيض فيجري المطلع مصدراً مجرى ما شذ، وفي حرف أبيّ بن كعب رضي الله عنه: {سلام هي إلى مطلع الفجر}.
|