الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
لما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به بنى القليس بصنعاء وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حاج العرب. فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة من بني فقيم فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوط ثم لحق بأهله فأخبر بذلك أبرهة وقيل له: إنه فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة غضب لما سمع أنك تريد صرف الحجاج عنه ففعل هذا. فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه وأمر الحبشة فتجهزت وخرج معه بالفيل واسمه محمود وقيل: كان معه ثلاثة عشر فيلًا وهي تتبع محمودًا وإنما وحد الله سبحانه الفيل لأنه عنى كبيرها محمودًا وقيل في عددهم غير ذلك. فلما سار سمعت العرب به فأعظموه ورأوا جهاده حقًا عليهم فخرج عليه رجل من أشراف اليمن يقال له ذو نفر وقاتله فهزم ذو نفر وأخذ أسيرًا فأراد قتله ثم تركه محبوسًا عنده ثم مضى على وجهه فخرج عليه نفيل ابن حبيب الجثعمي فقاتله فانهزم نفيل وأخذ أسيرًا فضمن لأبرهة أن يدله على الطريق فتركه وسار حتى إذا مر على الطائف بعثت معه ثقيف أبا رغالٍ يدله على الطريق حتى أنزله بالمغمس فلما نزله مات أبو رغالٍ فرجمت العرب قبره فهو القبر الذي يرجم. وبعث أبرهة الأسود بن مقصود إلى مكة فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ثم أرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة فقال: سل عن سيد قريش وقل له إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تمنعوا عنه فلا حاجة لي بقتالكم. فلما بلغ عبد المطلب ما أمره قال له: والله ما نريد حربه هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم فإن يمنعه فهو يمنع بيته وحرمه وإن يخل بيته وبينه فوالله ما عندنا من دفع فقال له: انطلق معي إلى الملك. فانطلق معه عبد المطلب حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقًا فدل عليه وهو في محبسه فقال له: هل عندك غناء فيما نزل بنا فقال: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله ولكن أنيس سائس الفيل صديق لي فأوصيه بك وأعظم حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد ويشفع لك عنده إن قدر. قال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فحضره وأوصاه بعبد المطلب وأعلمه أنه سيد قريش. فكلم أنيس أبرهة وقال: هذا سيد قريش يستأذن فأذن له. وكان عبد المطلب رجلًا عظيمًا وسيمًا فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه ونزل عن سريره إليه وجلس معه على بساط وأجلسه إلى جنبه وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك فقال له الترجمان ذلك فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في إبلك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. وأمر برد إبله فلما أخذها قلدها وجعلها هديًا وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب الله. وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج معه من مكة والتحرز في رؤوس الجبال خوفًا من معرة الجيش ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقه باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة يا ربّ لا أرجو لهم سواكا يا ربّ فامنع منهم حماكا إنّ عدوّ البيت من عاداكا إمنعهم أن يخربوا فناكا وقال أيضًا: لا همّ إنّ العبد يم نع رحله فامنع حلالك لا يغلبنّ صليبهم ومحالهم غدرًا محالك ولئن فعلت فإنّه أمرٌ تتمّ به فعالك أنت الذي إن جاء با غٍ نرتجيك له كذلك ولّوا ولم يحووا سوى خزيٍ وتهلكهم هنالك لم أستمع يومًا بأر جس منهم يبغوا قتالك جرّوا جموع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم جهلًا وما رقبوا جلالك ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف والجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.والعود إلى اليمن فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي فمسك بأذنه وقال: ارجع محمود ارجع راشدًا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام! ثم أرسل أذنه فألقى الفيل نفسه إلى الأرض واشتد نفيل فصعد الجبل فضربوا الفيل فأبى فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك ووجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض. وأرسل الله عليهم طيرًا أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحدًا منهم إلا هلك ليس كلهم أصابت وأرسل الله سيلًا ألقاهم في البحر وخرج من سلم مع أبرهة هاربًا يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفير حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أين المفرّ والإله الطّالب والأشرم المغلوب غير الغالب وقال أيضًا: ألا حيّيت عنّا يا ردينا نعمناكم مع الإصباح عينا أتانا قابسٌ منكم عشاء فلم يقدر لقابسكم لدينا إذا لعذرتني وحمدت رأيي ولم تأسي لما قد فات بينا حمدت الله إذ عاينت طيرًا وخفت حجارةً تلقى علينا وكلّ القوم يسأل عن نفيلٍ كأنّ عليّ للحبشان دينا وأصيب أبرهة في جسده فسقطت أعضاؤه عضوًا عضوًا حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. فلما هلك ملك ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى وذلت حمير واليمن له ونكحت الحبشة نساءهم وقتلوا رجالهم واتخذوا أبناءهم تراجمة بينهم وبين العرب. ولما أهلك الله الحبشة وعاد ملكهم ومعه من سلم منهم ونزل عبد المطلب من الغد إليهم لينظر ما يصنعون ومعه أبو مسعود الثقفي لم يسمعا حسًا فدخلا معسكرهم فرأيا القوم هلكى فاحتفر عبد المطلب حفرتين ملأهما ذهبًا وجوهرًا له ولأبي مسعود ونادى في الناس فتراجعوا فأصابوا من فضلهما شيئًا كثيرًا فبقي عبد المطلب في غنىً من ذلك المال حتى مات. ويبعث الله السيل فألقى الحبشة في البحر وقال كثير من أهل السير إن الحصبة والجدري أول ما رؤيا في العرب بعد الفيل وكذلك قالوا إن العشر والحرمل والشجر لم تعرف بأرض العرب إلا بعد الفيل. وهذا مما لا ينبغي أن يعرض عليه فإن هذه الأمراض والأشجار قبل الفيل مذ خلق الله العالم. ولما رد الله الحبشة عن الكعبة وأصابهم ما أصابهم عظمت العرب قريشًا وقالوا: أهل الله قاتل عنهم. ثم مات يكسوم وملك بعده أخوه مسروق.
ذكر عود اليمن إلى حمير وإخراج الحبشة عنه لما هلك يكسوم ملك اليمن أخوه مسروق بن أبرهة وهو الذي قتله وهرز فلما تشد البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن وكنيته أبو مرة وقيل: كنية ذي يزن أبو مرة حتى قدم على قيصر وتنكب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه فإنه كان قصد كسرى أنوشروان لما أخذت زوجته يستنصره على الحبشة فوعده فأقام ذو يزن عنده فمات على بابه. وكان ابنه سيف مع أمه في حجر أبرهة وهو يحسب أنه ابنه فسبه ولد لأبرهة وسب أباه فسأل أمه عن أبيه فأعلمته خبره بعد مراجعة بينهما فأقام حتى مات أبرهة وابنه يكسوم ثم سار إلى الروم فلم يجد عند ملكهم ما يحب لموافقته الحبشة في الدين فعاد إلى كسرى فاعترضه يومًا وقد ركب فقال له: إن لي عندك ميراثًا فدعا به كسرى لما نزل فقال له: من أنت وما ميراثك قال: أنا ابن الشيخ اليماني الذي وعدته النصرة فمات ببابك فتلك العدة حق لي وميراث. فرق كسرى له وقال له: بعدت بلادك عنا وقل خيرها والمسلك إليها وعرٌ ولست أغرر بجيشي. وأمر له بمال فخرج وجعل ينثر الدراهم فانتهبها الناس فسمع كسرى فسأله ما حمله على ذلك فقال: لم آتك للمال وإنما جئتك للرجال ولتمنعني من الذل والهوان وإن جبال بلادنا ذهب وفضة. فأعجب كسرى بقوله وقال: يظن المسكين أنه أعرف ببلاده مني واستشار وزراءه في توجيه الجند معه فقال له موبذان موبذ: أيها الملك إن لهذا الغلام حقًا بنزوعه إليك وموت أبيه ببابك وما تقدم من عدته بالنصرة وفي سجونك رجال ذوو نجدة وبأس فلو أن الملك وجههم معه فإن أصابوا ظفرًا كان للملك وإن هلكوا فقد استراح وأراح أهل مملكته منهم. فقال كسرى: هذا الرأي. فأمر بمن في السجون فأحضروا فكانوا ثمانمائة فقود عليهم قائدًا من أساورته يقال له وهرز وقيل: بل كان من أهل السجون سخط عليه كسرى لحدث فحبسه وكان يعدله بألف أسوار وأمر بحملهم في ثماني سفن فركبوا البحر فغرق سفينتان وخرجوا بساحل حضرموت ولحق بابن ذي يزن بشرٌ كثير وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب وجعل وهرز البحر وراء ظهره وأحرق السفن لئلا يطمع أصحابه في النجاة وأحرق كل ما معهم من زاد وكسوة إلا ما أكلوا وما على أبدانهم وقال لأصحابه: إنما أحرقت ذلك لئلا يأخذه الحبشة إن ظفروا بكم وإن نحن ظفرنا بهم فسنأخذ أضعافه فإن كنتم تقاتلون معي وتصبروني أعلمتموني ذلك وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي حتى يخرج من ظهري فانظروا ما حالكم إذا فعل رئيسكم هذا بنفسه. قالوا: بل نقاتل معك حتى نموت أو نظفر. وقال لسيف بن ذي يزن: ما عندك قال: ما شئت من رجل عربي وسيف عربي ثم اجعل رجلي مع رجلك حتى نموت جميعًا أو نظفر جميعًا. قال: أنصفت. فجمع إليه سيف من استطاع من قومه فكان أول من لحقه السكاسك من كندة. وسمع بهم مسروق بن أبرهة فجمع إليه جنده فعبأ وهرز أصحابه وأمرهم أن يوتروا قسيهم وقال: إذا أمرتكم بالرمي فارموا رشقًا. وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه وهو على فيل وعلى رأسه تاج وبين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة لا يرى دون الظفر شيئًا. وكان وهرز كل بصره فقال: أروني عظيمهم. فقالوا: هذا صاحب الفيل ثم ركب فرسًا فقالوا: ركب فرسًا ثم انتقل إلى بلغة فقالوا: ركب بغلة. فقال وهرز: ذل وذل ملكه! وقال وهرز: ارفعوا لي حاجبي وكانا قد سقطا على عينيه من الكبر فرفعوهما له بعصابة ثم جعل نشابة في كبد قوسه وقال: أشيروا إلى مسروق فأشاروا إليه فقال لهم: سأرميه فإن رأيتم أصحابه وقوفًا لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوؤذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتموهم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبته فاحملوا عليهم. ثم رماه فأصاب السهم بين عينيه ورمى أصحابه فقتل مسروق وجماعة من اصحابه فاستدارت الحبشة بمسروق وقد سقط عن دابته وحملت الفرس عليهم فلم يكن دون الهزيمة شيء وغنم الفرس من عسكرهم ما لا يحد ولا يحصى. وقال وهرز: كفوا عن العرب واقتلوا السودان ولا تبقوا منهم أحدًا. وهرب رجل من الأعراب يومًا وليلة ثم التفت فرأى في جعبته نشابة فقال: لأمك الويل! أبعدٌ أم طول مسير! وسار وهرز حتى دخل صنعاء وغلب على بلاد اليمن وأرسل عماله في المخاليف. وكان مدة ملك الحبشة اليمن اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم مسروق بن أبرهة وقيل: كان ملكهم نحوًا من مائتي سنة وقيل غير ذلك والأول أصح. فلما ملك وهرز اليمن أرسل إلى كسرى يعلمه بذلك وبعث إليه بأموال وكتب إليه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن وبعضهم يقول معدي كرب بن سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها وفرض عليه كسرى جزية وخراجًا معلومًا في كل عام فملكه وهرز وانصرف إلى كسرى وأقام سيف على اليمن ملكًا يقتل الحبشة ويبقر بطون الحبال عن الحمل ولم يترك منهم إلا القليل جعلهم خولًا فاتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بالحراب فمكث غير كثير ثم إنه خرج يومًا والحبشة يسعون بين يديه بحرابهم فضربوه بالحراب حتى قتلوه فكان ملكه خمس عشرة سنة ووثب بهم رجل من الحبشة فقتل باليمن وأفسد فلما بلغ ذاك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف فارس وأمره أن لا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله صغيرًا أو كبيرًا ولا يدع رجلًا جعدًا قططًا قد شرك فيه السودان إلا قتله وأقبل حتى دخل اليمن ففعل ما أمره وكتب إلى كسرى يخبره فأقره على ملك اليمن فكان يجيبها لكسرى حتى هلك وأمر بعده كسرى ابنه المرزبان بن وهرز حتى هلك ثم أمر بعده كسرى التينجان بن المرزبان ثم أمر بعده خر خسرة بن التينجان بن المرزبان. ثم إن كسرى أبرويز غضب عليه فأحضره من اليمن فلما قدم تلقاه رجل من عظماء الفرس فألقى عليه سيفًا كان لأبي كسرى فأجاره كسرى بذلك من القتل وعزله عن اليمن وبعث باذان إلى اليمن فلم يزل ليها حتى بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن أنوشروان استعمل بعد وهرز زرين وكان مسرفًا إذا أراد أن يركب قتل قتيلًا ثم سار بين أصواله فمات أنوشروان وهو على اليمن فعزله ابنه هرمز. وقد اختلفوا في ولاة اليمن للأكسارة اختلافًا كثيرًا لم أر لذكره فائدة.
لما كان من أمر أصحاب الفيل ما ذكرناه عظمت قريش عند العرب فقالوا لهم أهل الله وقطنه يحامي عنهم فاجتمعت قريش بينها وقالوا: نحن بنو إبراهيم عليه السلام وأهل الحرم وولاة البيت وقاطنوا مكة فليس لأحد من العرب مثل منزلتنا ولا يعرف العرب لأحد مثل ما يعرف لنا فهلموا فلنتفق على ائتلاف أننا لا نعظم شيئًا من الحل كما يعظم الحرم فإننا إذا فعلنا ذلك استخفت العرب بنا وبحرمنا وقالوا: قد عظمت قريش من الحل مثل ما عظمت من الحرم فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ويروى سائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها وقالوا: نحن أهل الحرم فلا نعظم غيره ونحن الحمس وأصل الحماسة الشدة أنهم تشددوا في دينهم وجعلوا لمن ولد واحدة من نسائهم من العرب ساكني الحل مثل ما لهم بولادتهم ودخل معهم في ذلك كنانة وخزاعة وعامر لولادة لهم ثم ابتدعوا فقالوا: لا ينبغي للحمس أن يعملوا الأقط ولا يسلأوا السمن وهم حرم ولا يدخلوا بيتًا من شعر ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا. وقالوا: ولا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحل في الحرم إذا جاؤوا حجاجًا أو عمارًا. ولا يطوفون بالبيت طوافهم إذا قدموا إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا طافوا بالبيت عراة فإن أنف أحد من عظمائهم أن يطوف عريانًا إذا لم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه ألقاها إذا فرغ من الطواف ولا يمسها هو ولا أحد غيره وكانوا يسمونها اللقى. فدانت العرب لهم بذلك فكانوا يطوفون كما شرعوا لهم ويتركون أزوادهم التي جاؤوا بها من الحل ويشترون من طعام الحرم ويأكلونه. هذا في الرجال وأما النساء فكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعها مفرجًا ثم تطوف فيه وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منه فلا أحلّه فكانوا كذلك حتى بعث الله محمّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنسخه فأفاض من عرفاتٍ وطاف الحجاج بالثياب التي معهم من الحل وأكلوا من طعام الحل في الحرم أيام الحج وأنزل الله تعالى في ذلك: وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم من القبائل عند الكعبة على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضًا فسموا لأحلاف ثم تصافوا للقتال وأجمعوا على الحرب فبينما هم على ذلك إذ تداعوا للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار فاصطلحوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجزوا عن الحرب وثبت كل قوم مع من حالفوا حتى جاء الإسلام وهم على ذلك فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدةً ولا حلف في الإسلام. فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف لأن عبد شمس كان كثير الأسفار قليل المال كثير العيال وكان هاشم موسرًا جوادًا. وكان ينبغي أن نذكر هذا قبل الفيل وما أحدثه قريش وإنما أخرناه للزوم تلك حوادث بعضها ببعض.
ذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجند كان ملوك الفرس يأخذون من غلات كورهم قبل ملك كسرى أنوشروان في خراجها من بعضها الثلث ومن بعضها الربع وكذلك الخمس والسدس على قدر شربها وعمارتها ومن الجزية شيئًا معلومًا فأمر الملك قباذ بمسح الأرضين ليصح الخراج عليها فمات قبل الفراغ من ذلك فلما ملك أنوشروان أمر باستتمام ذلك ووضع الخراج على الحنطة والشعير ون والكرم والرطب والنخل والزيتون والأرز على كل نوع من هذه الأنواع شيئًا معلومًا ويؤخذ في السنة في ثلاثة أنجم وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب وكتب كسرى إلى القضاة في البلاد نسخة بالخراج ليمتنع العمال من الزيادة عليه وأمر أن يوضع عمن أصابت غلته جائحة بقدر جائحته وألزموا الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والهرابذة والكتاب ومن في خدمة الملك كل إنسان على قدره من اثني عشر درهمًا وثمانية دراهم وستة دراهم وأربعة دراهم وأسقطها عمر عمن لم يبلغ عشرين سنة أو جاوز خمسين سنة. ثم إن كسرى ولى رجلًا من الكتاب من الكفاة والنبلاء اسمه بابك عرض جيشه فطلب من كسرى التمكن من شغله إلى ذلك فتقدم ببناء مصطبة موضع عرض الجيش وفرشها ثم نادى أن يحضر الجند بسلاحهم وكراعهم للعرض فحضروا فحيث لم ير معهم كسرى أمرهم بالانصراف فعل ذلك يومين ثم أمر فنودي في اليوم الثالث أن لا يتخلف أحد ولا من أكرم بتاج فسمع كسرى فحضر وقد لبس التاج والسلاح ثم أتى بابك ليعرض عليه فرأى سلاحه تامًا ما عدا وترين للقوس كان عادتهم أن يستظهروا بهما فلم يرهما بابك معه فلم يجز على اسمه وقال له: هلم كل ما يلزمك. فذكر كسرى الوترين فتعلقهما ثم نادى منادي بابك وقال: للكمي السيد سيد الكماة أربعة آلاف درهم وأجاز على اسمه. فلما قام عن مجلسه حضر عند كسرى يعتذر إليه من غلظته عليه وذكر له أن أمره لا يتم إلا بما فعل. فقال كسرى: ما غلظ علينا أمرٌ نريد به إصلاح دولتنا. ومن كلام كسرى: الشكر والنعمة كفتان ككفتي الميزان أيهما رجح بصاحبه احتاج الأخف إلى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه فإذا كانت النعم كثيرة والشكر قليلًا انقطع الحمد فكثير النعم يحتاج إلى كثير من الشكر وكلما زيد في الشكر ازدادت النعم وجاوزته ونظرت في الشكر فوجدت بعضه بالقول وبعضه بالفعل ونظرت أحب الأعمال إلى الله فوجدته الشيء الذي أقام به السموات والأرض وأرسى به الجبال وأجرى به الأنهار وبرأ به البرية وهو الحق والعدل فلزمته ورأيت ثمرة لحق والعدل عمارة البلدان التي بها قوام الحياة للناس والدواب والطير وجميع الحيوانات. ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة وأهل العمارة أجراء للمقاتلة فأما المقاتلة فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم من ورائهم فحق على أهل العمارة أن يوفرهم أجورهم فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج والعمارة فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤونتهم وعمارتهم ولم أجحف بواحد من الجانبين ورأيت المقاتلة وأهل الخراج كالعينين المبصرتين واليدين المتساعدتين والرجلين على أيهما دخل الضرر تعدى إلى الأخرى. ونظرنا في سير آبائنا فلم نترك منها شيئًا يقترن بالثواب من الله والذكر الجميل بين الناس والمصلحة الشاملة للجند والرعية إلا اعتمدناه ولا فسادًا إلا أعرضنا عنه ولم يدعنا إلى حب ما لا خير فيه حب الآبا. ونظرت في سير أهل الهند والروم وأخذنا محمودها ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا وكتبنا بذلك إلى جميع أصحابنا ونوابنا في سائر البلدان. فانظر إلى هذا الكلام الذي يدل على زيادة العلم وتوفر العقل والقدرة على منع النفس ومن كان هذا حاله استحق أن يضرب به المثل في العدل إلى أن تقوم الساعة. وكان لكسرى أولاد متأدبون فجعل الملك من بعده لابنه هرمز. وكان مولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام الفيل وذلك لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملكه وفي هذا العام كان يوم ذي جبلة وهو يوم من أيام العرب المذكورة.
قال قيس بن مخرمة وقباث بن أشيم وابن عباس وابن إسحاق: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولد عام الفيل. قال ابن الكلبي: ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأربع وعشرين مضت من سلطان كسرى أنوشروان وولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة اثنتين وأربعين من سلطانه وأرسله الله تعالى لمضي اثنتين وعشرين من ملك كسرى أبرويز بن كسرى هرمز بن كسرى أنوشروان فهاجر لاثنتين وثلاثين سنة مضت من ملك أبرويز. قال ابن إسحاق: ولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول وكان مولده بالدار التي تعرف بدار ابن يوسف. قيل: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهبها عقيل بن أبي طالب فلم تزل في يده حتى توفي فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج فبنى داره التي يقال لها دار ابن يوسف وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيزران فجعلته مسجدًا يصلي فيه. وقي: ولد لعشر خلون منه وقيل: لليلتين خلتا منه. قال ابن إسحاق: إن آمنة ابنة وهب أم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت تحدث أنها أتيت في منامها لما حملت برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع بالأرض قولي أعيده بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدًا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نورٌ رأت به قصور بصرى من أرض الشام. فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب: إنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فنظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه. وقال عثمان بن أبي العاص: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة ابنة وهب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما شيء أن أنظر إليه من البيت إلا نور وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي. وأول من أرضع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن له يقال له مسروح وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي فكانت ثويبة تأتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة قبل أن يهاجر فيكرمها وتكريمها خديجة فأرسلت إلى أبي لهب أن يبيعها إياها لتعتقها فأبى فلما هاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة أعقتها أبو لهب فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبعث إليها بالصلة إلى أن بلغه خبر وفاتها منصرفه من خيبر فسأل عن ابنها مسروح فقيل: توفي قبلها فسأل: هل لها من قرابة فقيل: لم يبق لها أحد.ثم أرضعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ثويبة حليمة بنت أي ذؤيب واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة من بني سعد بن بكر بن هوازن واسم زوجها الذي أرضعته بلبنه الحارث بن عبد العزى واسم إخوته من الرضاعة عبد الله وأنيسة وجذامة وهي الشيماء عرفت بذلك وكانت الشيماء تحضنه مع أمها حليمة. وقدمت حليمة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن تزوج خديجة فأكرمها ووصلها وتوفيت قبل فتح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة فلما فتح مكة قدمت عليه أختٌ لها فسألها عنها فأخبرته بموتها فذرفت عيناه فسألها عمن خلفت فأخبرته فسألته نحلةً وحاجةً فوصلها. وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: كانت حليمة السعدية تحدث أنها خرجت من بلدها مع نسوة يلتمسن الرضعاء وذلك في سنة شهباء لم تبق شيئًا. قالت: فخرجت على أتان لنا قمراء معنا شارفٌ لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معي من بكائه من الجوع وما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذوه ولكنا نرجو الغيث والفرج فلقد أذمت أتاني بالركب حتى شق عليهم ضعفًا وعجفًا حتى قدمنا مكة فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي. فكنا نقول: يتيم فما عسى أن تصنع أمه وجده! فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعًا غيري فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي وكان معي: إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعًا والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه! قال: افعلي فعسى أن الله يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت فأخذته فلما أخذته ووضعته في حجري أقبل عليه ثدياي مما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما وما كان ابني ينام قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا أنها حافل فحلب منها ثم شرب حتى روي ثم سقاني فشربت حتى شبعنا. قالت: يقول لي صاحبي: تعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمةً مباركة! قلت: والله لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا فركبت أتاني وحملته عليها فلم يلحقني شيء من حمرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب اربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول: بلى والله لهي هي فيقلن: إن لها شأنًا ثم قدمنا منازلنا من بني سعد وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا شباعًا لبنًا فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة ولا يجدها في ضرع حتى إن كان الحاضر من قومنا ليقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب! فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة من لبن وتروح غنمي شباعًا لبنًا.فلم نزل نتعرف البركة من الله والزيادة في الخير حتى مضت سنتان وفصلته وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه عندنا لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه في تركه عندنا فأجابت. قالت: فرجعنا به فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه: ذلك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه وهما يسوطانه! قالت: فخرجنا نشتد فوجدناه قائمًا منتقعًا وجهه. قالت: فالتزمته أنا وأبوه وقلنا له: مالك يا بني قال: جاءني رجلان فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا به شيئًا لا أدري ما هو. قالت: فرجعنا إلى خبائنا وقال لي أبوه: والله لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك. قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه. فقالت: ما أقدمك يا ظئر به وقد كنت حريصة على مكثه عندك قالت: قلت: قد بلغ الله بابن وقضيت الذي علي وتخوفت عليه الأحداث فأديته إليك كما تحبين. قالت: ما هذا بشأنك فاصدقيني! ولم تدعني حتى أخبرتها. قالت: فتخوفت عليه الشيطان قلت: نعم. قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وإن لابني لشأنًا أفلا أخبرك قلت: بلى. قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من الشام ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف منه ولا أيسر ثم وقع حين وضعته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك وانطلقي راشدة. وكانت مدة رضاع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنتين وردته حليمة إلى أمه وجده عبد المطلب وهو ابن خمس سنين في قول. وقال شداد بن أوس: بينما نحن عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ أقبل شيخ من بني عامر وهو ملك قومه وسيدهم شيخ كبير متوكئًا على عصًا فمثل قائمًا وقال: يا ابن عبد المطلب إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ألا وإنك فهت بعظيم ألا وقد كانت الأنبياء من بني إسرائيل وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان وما لك وللنبوة وإن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولك وبدء شأنك فأعجب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمساءلته ثم قال: يا أخا بني عامر اجلس. فجلس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن حقيقة قولي وبدء شأني أني دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى وكنت بكر أمي وحملتني كأثقل ما تحمل النساء ثم رأت في منامها أن الذي في بطنها نور قالت: فجعلت أتبع بصري النور وهو يسبق بصري حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها ثم إنها ولدتني فنشأت فلما نشأت بغضت إلي الأوثان والشعر فكنت مستضعفًا في بني سعد بن بكر فبينا أنا ذات يوم منتبذًا من أهلي مع أتراب من الصبيان إذ أتانا ثلاثة رهط معهم طست من ذهب مملوء ثلجًا فأخذوني من بين أصحابي فخرج أصحابي هرابًا حتى انتهوا إلى شفير الوادي ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام فإنه ليس له أب وما يرد عليكم قتله فلما رأى الصبيان الرهط لا يردون جوابًا انطلقوا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم بي ويستصرخونهم على القوم فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعًا لطيفًا ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسًا ثم أخرج أحشاء بطني فغسلها بالثلج فأنعم غسلها ثم أخرج قلبي فصدعه ثم أخرج منه مضغةً سوداء فرمى بها قال بيده يمنة منه وكأنه يتناول شيئًا فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه فختم به قلبي فامتلأ نورًا وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرًا ثم قال الثالث لصاحبه: تنح فتنحى عني فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى ثم أخذ بيدي فأنهضني إنهاضًا لطيفًا ثم قال للأول الذي شق بطني زنه عشرة من أمته. فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال: زنه مائة من أمته. فوزنوني بهم فرجحتهم. ثم قال زنه بألف من أمته. فوزنوني بهم فرجحتهم. فقال: دعوه فلو وزنته بأمته كلهم لرجح بهم. ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا: يا حبيب لم ترع إنك لو تدري ما يراد بكن من الخير لقرت عينك. قال: فبينا نحن كذلك إذ أنا بالحي قد جاؤوا بحذافيرهم وإذ ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وهي تقول: يا ضعيفاه! قال: فانكبوا علي وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا: حبذا أنت من ضعيف! ثم قالت ظئري: يا وحيداه! فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا ما بين عيني وقالوا: حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد! إن الله معك! ثم قالت ظئري: يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك! فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم وقبلوا ما بين عيني وقالوا: حبذا أنت من يتيم! ما أكرمك على الله! لو تعلم ما يراد بك من الخير! قال: فوصلوا بي إلى شفير الوادي. فلما بصرت بي ظئري قالت: يا بني ألا أراك حيًا بعد! فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها وإن بدي في يد بعضهم فجعلت ألتفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم يقول بعض القوم: إن هذا الغلام أصابه لممٌ أو طائف من الجن انطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: ما هذا! ليس بي شيء مما يذكر إن إرادتي سليمة وفؤادي صحيح ليس في قلبةٌ. فقال أبي من الرضاع: ألا ترون كلامه صحيحًا إني لأرجو أن لا يكون بابني بأس. فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن فذهبوا بي إليه. فلما قصوا عليه قصتي قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم. فقصصت عليه أمري من أوله إلى آخره فلما سمع قولي وثب إلي وضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: يا للعرب اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه! فواللات والعزى لئن تركتموه فأدرك ليبدلن دينكم وليخالفن أمركم وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله قط. فانتزعتني ظئري منه وقالت: لأنت أجن وأعته من ابني هذا فاطلب لنفسك من يقتلك فإنا غير قاتليه! ثم ردوني إلى أهلي فأصبحت مفزعًا مما فعل بي وأثر الشق مما بين صدري إلى عانتي كأنه الشراك فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر. فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن أمرك حق فأنبئني بأشياء أسألك عنها. قال: سل. قال: أخبرني ما يزيد في العلم قال: التعلم. قال: فما يدل على العلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: السؤال. قال: فأخبرني ماذا يزيد في الشيء قال: التمادي. قال: فأخبرني هل ينفع البر مع الفجور قال: نعم التوبة تغسل الحوبة والحسنات يذهبن السيئات وإذا ذكر العبد الله عند الرخاء أعانه عند البلاء. فقال العامري: فكيف ذلك قال: ذلك بأن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا أجمع له خوفين إن خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي في حظيرة القدس فيدوم له أمنه ولا أمحقه فيمن أمحق وإن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع عبادي لميقات يوم معلوم فيدوم له خوفه. قال: يا ابن عبد المطلب أخبرني إلى م تدعو قال: أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن تخلع الأنداد وتكفر بالات والعزى وتقر بما جاء من عند الله من كتاب ورسول وتصلي الصلوات الخمس بحقائقهن وتصوم شهرًا من السنة وتؤدي زكاة مالك يطهرك الله تعالى بها ويطيب لك مالك وتحج البيت إذا وجدت إليه سبيلًا وتغتسل من الجنابة وتؤمن بالموت والبعث بعد الموت وبالجنة والنار. قال: يا ابن عبد المطلب فإذا فعلت ذلك فما لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: هل مع هذا من الدنيا شيء فإنه يعجبني الوطأة من العيش. قال النبي: صلى الله عليه وسلم: نعم النصر والتمكين في البلاد. فأجاب وأناب. قال ابن إسحاق: هلك عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأم قال هشام بن محمد: توفي عبد الله أبو رسول الله بعدما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون يومًا. وقال الواقدي: الثبت عندنا أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشام في عير لقريش ونزل بالمدينة وهو مريض فأقام بها حتى توفي ودفن بدار النابغة الدار الصغرى. قال ابن إسحاق: وتوفيت أمه آمنة وله ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة كانت قدمت به المدينة على أخواله من بني النجار تزيره إياهم. فماتت وهي راجعة وقيل: إنها أتت المدينة تزور قبر زوجها عبد الله ومعها رسول الله وأم أيمن حاضنة رسول الله فلما عادت ماتت بالأبواء. وقيل: إن عبد المطلب زار أخواله من بني النجار وحمل معه آمنة ورسول الله فلما رجع توفيت بمكة ودفنت في شعب أبي ذر والأول أصح. ولما سارت قريش إلى أحد هموا باستخراجها من قبرها فقال بعضهم: إن النساء عورة وربما أصاب محمد من نسائكم فكفهم الله بهذا القوم إكرامًا لأم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: وتوفي عبد المطلب ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن ثماني سنين وقيل: ابن عشر سنين ولما مات عبد المطلب صار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجر عمه أبي طالب بوصية من عبد المطلب إليه بذلك لما كان يرى من بره به وشفقته وحنوه عليه ذكر قتل تميم بالمشقر قال هشام: أرسل وهرز بأموال وطرف من اليمن إلى كسرى فلما كانت ببلاد تميم دعا صعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق الشاعر بنى تميم إلى الوثوب عليها فأبوا فقال: كأني ببني بكر بن وائل وقد انتهبوا فاستعانوا بها على حربكم فلما سمعوا ذلك وثبوا عليها وأخذوها وأخذ رجل من بني سليط يقال له النطف خرجًا فيه جوهر فكان يقال: أصاب كنز النطف فصار مثلًا وصار أصحاب العي إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة فكساهم وحملهم وسار معهم حتى دخل على كسرى فأعجب به كسرى ودعا بعقد من در فعقد على رأسه فمن ثم سمي هوذة ذا التاج وسأله كسرى عن تميم هل من قومه أو بينه وبينهم سلم فقال: لا بيننا إلا الموت. قال: قد أدركت ثأرك وأراد إرسال الجنود إلى تيم فقيل له: إن ماءهم قليل وبلادهم بلاد سوء وأشير عليه أن يرسل إلى عامله بالبحرين وهو ازاد فيروز بن جشيش الذي سمته العرب المكعبر وإنما سمي بذلك لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل فأمره بقتل بني تميم ففعل ووجه إليه رسولًا ودعا هوذة وجدد له كرامة وصلة وأمره بالمسير مع رسوله فأقبلا إلى المكعبرة أيام اللقاط وكانت تيمم تصير إلى هجر للميرة واللقاط فأمر المكعبر مناديًا ينادي: ليحضر من كان ها هنا من بني تميم فإن الملك قد أمر لهم بميرة وطعام. فحضروا ودخلوا المشقر وهو حصن فلما دخلوا قتل المكعبر رجالهم واستبقى غلمانهم وقتل يومئذ قعنب الرياحي وكان فارس يربوع وجعل الغلمان في السفن وعبر بهم إلى فارس. قال هبيرة بن حدير العدوي: رجع إلينا بعدما فتحت إصطخر عدة منهم وشد رجل من بني تميم يقال له عبيد بن وهب على سلسلة الباب فقطعها وخرج واستوهب هوذة من المكعبر مائة أسير منهم فأطلقهم. حدير بضم الحاء المهملة وفتح الدال.
وكانت أمه ابنة خاقان الأكبر وكان هرمز بن كسرى أديبًا ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والحمل على الأشراف فعادوه وأبغضوه وكان في نفسه مثل ذلك وكان عادلًا بلغ من عدله أنه ركب ذات يوم إلى ساباط المدائن فاجتاز بكروم فاطلع أسوار من أساورته في كرم وأخذ منه عناقيد حصرم فلزمه حافظ الكروم وصنع فبلغ من خوف الأسوار من عقوبة كسرى هرمز أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب عوضًا من الحصرم فتركه.وقيل: كان مظفرًا منصورًا لا يمد يده إلى شيء إلا ناله وكان داهيًا ردي النية قد نزع إلى أخواله الترك وإنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل ولم يكن له رأي إلا في تالف السفلة. وحبس كثيرًا من العظماء وأسقهم وحط مراتبهم وحرم الجنود ففسد عليه كثير ممن كان حوله وخرج عليه شاية ملك الترك في ثلاثمائة ألف مقاتل في سنة ست عشرة من ملكه فوصل هراة وباذغيس وأرسل إلى هرمز والفرس يأمرهم بإصلاح الطرق ليجوز إلى بلاد الروم. ووصل ملك الروم في ثمانين ألفًا إلى الضواحي قاصدًا له ووصل ملك الخزر إلى الباب والأبواب في جمع عظيم فإن جمعًا من العرب شنوا الغارة على السواد. فأرسل هرمز بهرام خشنش ويعرف بجوبين في اثني عشر ألفًا من المقاتلة اختارهم من عسكره فسار مجدًا وواقع شايه ملك الترك فقتله برمية رماها واستباح عسكره ثم وافاه برموده بن شايه فهزمه أيضًا وحصره في بعض الحصون حتى استسلم فأرسله إلى هرمز أسيرًا وغنم ما في الحصن فكان عظيمًا. ثم خاف بهرام ومن معه هرمز فخلعوه وساروا نحو المدائن وأظهروا أن ابنه أبرويز أصلح للملك منه وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز وكان غرض بهرام أن يستوحش هرمز من ابنه أبرويز ويستوحش ابنه منه فيختلفا فإن ظفر أبرويز بأبيه كان أمره على بهرام سهلًا وإن ظفر أبوه نجا بهرام والكلمة مختلفة فينال من هرمز غرضه وكان يحدث نفسه بالاستقلال بالملك. فلما علم أبرويز ذلك خاف أباه فهرب إلى أذربيجان فاجتمع عليه عدة من المرازبة والأصبهبذين ووثب العظماء بالمدائن وفيهم بندويه وبسطام خالا أبرويز فخلعوا هرمز وسلموا عينيه وتركوه تحرجًا من قتله وبلغ أبرويز الخبر فأقبل من أذربيجان إلى دار الملك. وكان ملك هرمز إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر وقيل: اثنتي عشرة سنة ولم يسلم من ملوك الفرس غيره لا قبله ولا بعده. ومن محاسن السير ما حكي عنه أنه لما فرغ من بناء داره التي تشرف على دجلة مقابلة المدائن عمل وليمة عظيمة وأحضر الناس من الأطراف فأكلوا ثم قال لهم: هل رأيتم في هذه الدار عيبًا فكلهم قال: لا عيب فيها. فقام رجل وقال: فيها ثلاثة عيوب فاحشة أحدها: أن الناس يجعلون دورهم في الدنيا وأنت جعلت الدنيا في دارك فقد أفرطت في توسيع صحونها وبيوتها فتتمكن الشمس في الصيف والسموم فيؤذي ذلك أهلها ويكثر فيها في الشتاء البرد والثاني أن الملوك يتوصلون في البناء على الأنهار لتزول همومهم وأفكارهم بالنظر إلى المياه ويترطب الهواء وتضيء أبصارهم وأنت قد تركت دجلة وبنيتها في القفر والثالث أنك جعلت حجرة النساء مما يلي الشمال من مساكن الرجال وهو أدوم هبوبًا فلا يزال الهواء يجيء فقال هرمز: أما سعة الصحون والمجالس فخير المساكن ما سافر فيه البصر وشدة الحر والبرد يدفعان بالخيش والملابس والنيران وأما مجاورة الماء فكنت عند أبي وهو يشرف على دجلة فغرقت سفينة تحته فاستغاث من بها إليه وأبي يتأسف عليهم ويصيح بالسفن التي تحت داره ليلحقوهم فإلى أن لحقهم غرق جميعهم فجعلت في نفسي أنني لا أجاور سلطانًا هو أقوى مني وأما عمل حجرة النساء في جهة الشمال فقصدنا به أن الشمال أرق هواء وأقل وخامة والنساء يلازمن البيوت فعمل لذلك وأما الغيرة فإن الرجال لا يخلون بالنساء وكل من يدخل هذه الدار إنما هو مملوك وعبد لقيم وأما أنت فما أخرج هذا منك إلا بغض لي فأخبرني عن سببه. فقال الرجل: لي قرية ملك كنت أنفق حاصلها على عيالي فغلبني المرزبان فأخذها مني فقصدتك أتظلم منذ سنتين فلم أصل إليك فقصدت وزيرك وتظلمت إليه فلم ينصفني وأنا أؤدي خراج القرية حتى لا يزول اسمي عنها وهذا غاية الظلم أن يكون غيري يأخذ دخلها وأنا أؤدي خراجها. فسأل هرمز وزيره فصدقه وقال: خفت أعلمك فيؤذيني المرزبان. فأمر هرمز أن يؤخذ من المرزبان ضعف ما أخذ وأن يستخدمه صاحب القرية في أي شغل شاء سنتين وعزل وزيره وقال في نفسه: إذا كان الوزير يراقب الظالم فالأحرى أن غيره يراقبه فأمر باتخاذ صندوق وكان يقفله ويختمه بخاتم ويترك على باب داره وفيه خرقٌ يلقى فيه رقاع المتظلمين وكان يفتحه كل أسبوع ويكشف المظالم فأفكر وقال: أريد أعرف ظلم الرعية ساعة فساعة فاتخذ سلسلة طرفها في مجلسه في السقف والطرف الآخر خارج الدار في روزنة وفيها جرس وكان المتظلم يحرك السلسلة فيحرك الجرس فيحضره ويكشف ظلامته.
|