الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
في سنة اثنتين وثلاثين قتل وهسوذان بن مهلان جمعًا كثيرًا من الغز بمدينة تبريز. وكان سبب ذلك أنه دعا جمعًا كثيرًا منهم إلى طعام صنعه لهم فلما طعموا وشربوا قبض على ثلاثين رجلًا منهم من مقدميهم فضعف الباقون فأكثر فيهم القتل فاجتمع الغز المقيمون بأرمية وساروا نحو بلاد الهكارية من أعمال الموصل فقاتلهم أكرادها وقاتلوهم قتالًا عظيمًا فانهزم الأكراد وملك الغز حللهم وأموالهم ونساءهم وأولادهم وتعلق الأكراد بالجبال والمضايق وسار الغز في أثرهم فواقعوهم فظفر بهم الأكراد فقتلوا منهم ألفًا وخمسمائة رجل وأسروا جمعًا فيه سبعة من أمرائهم ومائة نفس من وجوههم وغنموا سلاحهم ودوابهم وما معهم من غنيمة استردوها وسلك الغز طريق الجبال فتمزقوا وتفرقوا. وسمع ابن ربيب الدولة الخبر فسير في آثراهم من يفني باقيهم ثم توفي أمير الغز المقيم بالري وخرج إبراهيم ينال أخو السلطان طغرلبك إلى الري فلما سمع به الغز المقيمون بها أجفلوا من بين يديه وفارقوا بلاد الجبل خوفًا منه وقصدوا ديار بكر والموصل في سنة ثلاث وثلاثين.
وسبب ذلك أن إبراهيم ينال وهو أخو طغرلبك سار إلى الري فلما سمع الغز الذين بها خبره أجفلوا من بين يديه وفارقوا بلاد الجبل خوفًا وقصدوا أذربيجان ولم يمكنهم المقام بها لما فعلوا بأهلها ولأن إبراهيم ينال وراءهم وكانوا يخافونه لأنهم كانوا له ولأخويه طغرلبك وداود رعية فأخذوا بعض الأكراد وعرفهم الطريق فأخذ بهم في جبال وعرة على الزوزان وخرجوا إلى جزيرة ابن عمر فسار بوقا وناصغلي وغيرهما إلى ديار بكر ونهبوا قردى وبازبدى والحسنية وفيشابور وبقي منصور ابن غرغلي بالجزيرة من الجانب الشرقي. فراسله سليمان بن نصر الدولة بن مروان المقيم بالجزيرة في المصالحة والمقام بأعمال الجزيرة إلى أن ينكشف الشتاء ويسير مع باقي الغز إلى الشام فتصالحا وتحالفا وأضمر سليمان الغدر به فعمل له طعامًا احتفل فيه ودعاه فلما دخل الجزيرة قبض عليه وحبسه وانصرف أصحابه متفرقين في كل جهة. فلما علم بذلك قرواش سير جيشًا كثيفًا إليهم واجتمع معهم الأكراد البشنوية أصحاب فنك وعسكر نصر الدولة فتبعوا الغز فلحقوهم وقاتلوهم فبذل الغز جميع ما غنموه على أن يؤمنوهم فلم يفعلوا فقاتلوا قتال من لا يخاف الموت فجرحوا من العرب كثيرًا وافترقوا. وكان بعض الغز قد قصد نصيبين وسنجار للغارة فعادوا إلى الجزيرة وحصروها وتوجهت العرب إلى العراق ليشتوا به فأخربت الغز ديار بكر ونهبوا وقتلوا فأخذ نصر الدولة منصورًا أمير الغز من ابنه سليمان وراسل الغز وبذل لهم مالًا وإطلاق منصور ليفارقوا عمله فأجابوه فأطلق منصورًا وأرسل بعض المال فغدروا وزادوا في الشر وسار بعضهم إلى نصيبين وسنجار والخابور فنهبوا وعادوا وسار بعضهم إلى جهينة وأعمال الفرج فنهبوها فدخل قرواش الموصل خوفًا منهم.
لما خرجوا من أذربيجان إلى جزيرة ابن عمر وهي من أعمال نصر الدولة ابن مروان سار بعضهم إلى ديار بكر مع أمرائهم المذكورين وسار الباقون إلى البقعاء ونزلوا برقعيد فأرسل إليهم قرواش صاحب الموصل من ينظر فيهم ويغير عليهم. فلما رأوا ذلك تقدموا إلى الموصل فأرسل إليهم يستعطفهم ويلين لهم وبذلك لهم ثلاثة آلاف دينار فلم يقبلوا فأعاد مراسلتهم ثانية فطلبوا خمسة عشر ألف دينار فالتزمها وأحضر أهل البلد وأعلمهم الحال. فبينما هو بجمع المال وصل الغز إلى الموصل ونزلوا بالحصباء فخرج إليهم قرواش وأجناده والعامة فقاتلوهم عامة نهارهم وأدركهم الليل فافترقوا فلما كان الغد عادوا إلى القتال فانهزمت العرب وأهل البلد وهرب قرواش في سفينة نزلها من داره وخرج من جميع ماله إلا الشيء اليسير ودخل الغز البلد فنهبوا كثيرًا منه ونهبوا جميع ما لقرواش من مال وجوهر وحلي وثياب وأثاث ونجا قرواش في السفينة ومعه نفر فوصل إلى السن وأقام بها وأرسل إلى الملك جلال الدولة يعرفه الحال ويطلب النجدة وأرسل إلى دبيس بن مزيد وغيره من أمراء العرب والأكراد يستمدهم ويشكو ما نزل به. وعمل الغز بأهل الموصل الأعمال الشنيعة من الفتك وهتك الحريم ونهب المال وسلم عدة محال منها سكة أبي نجيح والجصاصة وجارسوك وشاطيء نهر وباب القصابين على مال ضمنوه فكفوا عنهم.
قد ذكرنا ملك الغز الموصل فلما استقروا فيها قسطوا على أهلها عشرين ألف دينار وأخذوها ثم تتبعوا الناس وأخذوا كثيرًا من أموالهم بحجة أموال العرب ثم قسطوا أربعة آلاف دينار أخرى فحضر جماعة من الغر عند ابن فرغان الموصلي وطالبوا إنسانًا بحضرته وأساءوا الأدب والقول. وجرى بين بعض الغز وبعض المواصلة مشاجرة فجرحه الغزي وقطع شعره وكان للموصلي والدة سليطة فلطخت وجهها بالدم وأخذت الشعر بيدها وصاحت: المستغاث بالله وبالمسلمين قد قتل لي ابن وهذا دمه وابنة وهذا شعرها! وطافت في الأسواق فثار الناس وجاؤوا إلى ابن فرغان فقتلوا من عنده من الغز وقتلوا من ظفروا به منهم ثم حصروهم في دار فقاتلوا من بسطحها فنقب الناس عليهم الدار وقتلوهم جميعهم غير سبعة أنفس منهم أبو علي ومنصور فخرج منصور إلى الحصباء ولحق به من سلم منهم. وكان كوكتاش قد فارق الموصل في جمع كثير فأرسلوا إليه يعلمونه الحال فعاد إليهم ودخل البلد عنوة في الخامس والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين ووضعوا السيف في أهله وأسروا كثيرًا ونهبوا الأموال وأقاموا على ذلك اثني عشر يومًا يقتلون وينهبون وسلمت سكة أبي نجيح فإن أهلها أحسنوا إلى الأمير منصور فرعى لهم ذلك والتجأ من سلم إليها وبقي القتلى في الطريق فأنتنوا لعدم من يواريهم ثم طرحوا بعد ذلك كل جماعة في حفيرة. وكانوا يخطبون للخليفة ثم لطغرلبك. ولما طال مقامهم بهذه البلاد وجرى منهم ما ذكرناه كتب الملك جلال الدولة بن بويه إلى طغرلبك يعرفه ما يجري منهم وكتب إلى نصر الدولة بن مروان يشكو منهم فكتب إلى نصر الدولة يقول له: بلغني أن عبيدنا قصدوا بلادك وأنك صانعتهم بمال بذلته لهم وأنت صاحب ثغر ينبغي أن تعطي ما تستعين به على قتال الكفار ويعده أنه يرسل إليهم يرحلهم من بلده. وكانوا يقصدون بلاد الأرمن وينهبون ويسبون حتى إن الجارية الحسناء بلغت قيمتها خمسة دنانير وأما الغلمان فلا يرادون. فأما كتاب طغرلبك إلى جلال الدولة فيعتذر بأن هؤلاء التركمان كانوا لنا عبيدًا وخدمًا ورعايا وتبعًا يمتثلون الأمر ويخدمون الباب ولما نهضنا لتدبير خطب آل محمود بن سبكتكين وانتدبنا لكفاية أمر خوارزم انحازوا إلى الري فعاثوا فيها وأفسدوا فزحفنا بجنودنا من خراسان إليهم مقدرين أنهم يلجأون إلى الأمان ويلوذون بالعفو والغفران فملكتهم الهيبة وزحزحتهم الحشمة ولا بد من أن نردهم إلى راياتنا خاضعين ونذيقهم من بأسنا جزاء المتمردين قربوا أم بعدوا أغاروا أم أنجدوا.
قد ذكرنا انحدار قرواش إلى السن ومراسلته سائر أصحاب الأطراف في طلب النجدة منهم فأما الملك جلال الدولة فلم ينجده لزوال طاعته عن جنده االأتراك وأما دبيس بن مزيد فسار إليه واجتمعت عليه عقيل كافة وأتته أمداد أبي الشوك وابن ورام وغيرهما فلم يدركوا الوقعة فإن قرواشًا لما اجتمعت عقيل ودبيس عنده سار إلى الموصل. وبلغ الخبر إلى الغز فتأخروا إلى تلعفر وبومارية وتلك النواحي وراسلوا الغز الذين كانوا بديار بكر ومقدمهم ناصغلي وبوقا وطلبوا منهم المساعدة على العرب فساروا إليهم. وسمع قرواش بوصولهم فلم يعلم أصحابه لئلا يفشلوا ويجبنوا وسار حتى نزل على العجاج وسارت الغز فنزلوا برأس الأيل من الفرج وبينهما نحو فرسخين وقد طمع الغز في العرب فتقدموا حتى شارفوا حلل العرب ووقعت الحرب في العشرين من شهر رمضان من أول النهار فاستظهرت الغز وانهزمت العرب حتى صار القتال عند حللهم ونساؤهم يشاهدون القتال فلم يزل الظفر للغز إلى الظهر ثم أنزل الله نصره على العرب وانهزمت الغز وأخذهم السيف وتفرقوا وكثر القتل فيهم فقتل ثلاثة من مقدميهم وملك العرب حلل الغز وخركاهاتهم وغنموا أموالهم فعمتهم الغنيمة وأدركهم الليل فحجز بينهم. وسير قرواش رؤوس كثير من القتلى في سفينة إلى بغداد فلما قاربتها أخذها الأتراك ودفنوها ولم يتركوها تصل أنفة وحمية للجنس وكفى الله أهل الموصل شرهم وتبعهم قرواش إلى نصيبين وعاد عنهم فقصدوا ديار بكر فنهبوها ثم مالوا على الأرمن والروم فنهبوهم ثم قصدوا بلاد أذربيجان وكتب قرواش إلى الأطراف يبشر بالظفر بهم وكتب إلى ابن ربيب الدولة صاحب أرمية يذكر له أنه قتل منهم ثلاثة آلاف رجل فقال للرسول: هذا عجيب! فإن القوم لما اجتازوا ببلادي أقمت على قنطرة لا بد لهم من عبورها من عدهم فكانوا نيفًا وثلاثين ألفًا مع لفيفهم فلما عادوا بعد هزيمتهم لم يبلغوا خمسة آلاف رجل فإما أن يكونوا قتلوا أو هلكوا.ومدح الشعراء قرواشًا بهذا الفتح وممن مدحه ابن شبل بقصيدة منها: بأبي الذي أرست نزار بيتها في شامخ من عزه المتخير وهي طويلة. هذه أخبار الغز العراقيين وإنما أوردناها لأن دولتهم لم تطل حتى نذكر حوادثها في السنين وإنما كانت سحابة صيف تقشعت عن قريب. وأما السلجوقية فنحن ونذكر ابتداء أمرهم سنة اثنتين وثلاثين إن شاء الله تعالى.
و في هذه السنة سير الظاهر جيشًا من مصر مقدمهم أنوشتكين الزبري فقتل صالح بن مرداس وفيها سقط في البلاد برد عظيم وكان أكثره بالعراق وارتفعت بعده ريح شديدة سوداء فقلعت كثيرًا من الأشجار بالعراق فقلعت شجرًا كبارًا من الزيتون من شرقي النهراون وألقته على بعد من غربيها وقلعت نخلة من أصلها وحملتها إلى دار بينها وبين موضع هذه الشجرة ثلاث دور وقلعت سقف مسجد الجامع ببعض القرى. وفيها في ذي القعدة تولى عبد الله بن ماكولا قضاء القضاة. وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي عن نيف وتسعين سنة وأخذ النحو عن أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي وكان فكهًا كثير الدعابة فمن ذلك أنه كان يومًا على شاطيء دجلة ببغداد والملك جلال الدولة والمرتضى والرضي كلاهما في سميرية ومعهما عثمان بن جني النحوي فناداه الربعي: أيها الملك ما أنت صادق في تشيعك لعلي بن أبي طالب يكون عثمان إلى جانبك وعلي يعني نفسه هاهنا! فأمر بالسميرية فقربت إلى الشاطيء وحمله معه. وقيل إن هذا القول كان للشريف الرضي وأخيه المرتضى ومعهما عثمان ابن جني فقال: ما أعجب أحوال الشريفين! يكون عثمان معهما وعلي يمشي على الشط. وفيها أيضًا توفي أبو المسك عنبر الملقب بالأثير وكان قد أصعد إلى الموصل مغاضبًا لجلال الدولة فلقيه قرواش وأهله وقبلوا الأرض بين يديه فأقام عندهم وكان خصيًا لبهاء الدولة بن بويه وكان قد بلغ مبلغًا عظيمًا لم يخل أمير ولا وزير في دولة بني بويه من تقبيل يده والأرض بين يديه وكان قد استقر بينه وبين قرواش وأبي كاليجار قاعدة أن يصعد أبو كاليجار من واسط وينحدر الأثير وقرواش من الموصل لقصد جلال الدولة وكان الأثير قد انحدر من الموصل فلما وصل مشهد الكحيل توفي فيه. وفيها انقطع كوكب عظيم في رجب أضاءت منه الأرض وسمع له صوت عظيم كالرعد وتقطع أربع قطع وانقض بعده بليلتين كوكب آخر دونه وانقض بعدهما كوكب أكبر منهما وأكثر ضوءًا. وفيها كانت ببغداد فتنًا قوي فيها أمر العيارين واللصوص فكانوا يأخذون العملات ظاهرًا. وفيها قطعت الجمعة من جامع براثا وسببها أنه كان يخطب فيها إنسان يقول في خطبته: بعد الصلاة على النبي وعلى أخيه أمير المؤمنين على بن أبي طالب مكلم الجمجمة ومحييها البشري الإلهي مكلم الفتية أهل الكهف إلى غير ذلك من الغلو المبتدع فأقام الخليفة خطيبًا فرجمه العامة فانقطعت الصلاة فيه فاجتمع جماعة من أعيان الكرخ مع المرتضى واعتذروا إلى الخليفة بأن سفهاء لا يعرفون فعلوا ذلك وسألوا إعادة الخطبة فأجيبوا إلى ما طلبوا وأعيدت وفيها توفي ابن أبي الهبيش الزاهد المقيم بالكوفة وهو من أرباب الطبقات الغالية في الزهد وقبره يزار إلى الآن وقد زرته. وفيها توفي منوجهر بن قابوس بن وشمكير وملك ابنه أنوشروان.
في هذه السنة سير مسعود بن يمين الدولة محمود جيشًا إلى همذان فملكوها وأخرجوا نواب علاء الدولة بن كاكويه عنها وسار هو إلى أصبهان فلما قاربها فارقها علاء الدولة فغنم مسعود ما كان له بها من دواب وسلاح وذخائر فإن علاء الدولة أعجل عن أخذه فلم يأخذ إلا بعضه وسار إلى خوزستان فبلغ إلى تستر ليطلب من أبي كاليجار نجدة ومن الملك جلال الدولة ويعود إلى بلاده يستنقذها فبقي عند أبي كاليجار مدة وهو عقيب انهزامه من جلال الدولة ضعيف ومع هذا فهو يعده النصرة وتسيير العساكر إذا اصطلح هو وجلال الدولة. فبينما هو عنده إذ أتاه خبر وفاة يمين الدولة محمود ومسير مسعود إلى خراسان فسار علاء الدولة إلى بلاده على ما نذكره إن شاء الله تعالى. في هذه السنة غزا أحمد بن ينالتكين النائب عن محمود بن سبكتكين ببلاد الهند مدينة للهنود هي من أعظم مدنهم يقال لها نرسى ومع أحمد نحو مائة ألف فارس وراجل وشن الغارة على البلاد ونهب وسبى وخرب الأعمال وأكثر القتل والأسر فلما وصل إلى المدينة دخل من أحد جوانبها ونهب المسلمون في ذلك الجانب يومًا من بكرة إلى آخر النهار ولم يفرغوا من نهب سوق العطارين والجوهريين حسب وباقي أهل البلد لم يعلموا بذلك لأن طوله منزل من منازل الهنود وعرضه مثله فلما جاء المساء لم يجسر أحد على المبيت فيه لكثرة أهله فخرج منه ليأمن على نفسه وعسكره.وبلغ من كثرة ما نهب المسلمون أنهم اقتسموا الذهب والفضة كيلًا ولم يصل إلى هذه المدينة عسكر للمسلمين قبله ولا بعده فلما فارقه أراد العود إليه فلم يقدر على ذلك منعه أهله عنه.
قد ذكرنا محاصرة بدران نصيبين وأنه رحل عنها خوفًا من قرواش فلما رحل شرع في إصلاح الحال معه فاصطلحا. ثم جرى بين قرواش ونصر الدولة ابن مروان نفرة كان سببها أن نصرالدولة كان قد تزوج ابنة قرواش ونصر فآثر عليها غيرها فأرسلت إلى أبيها تشكو منه فأرسل يطلبها إليه فسيرها فأقامت بالموصل. ثم إن ولد مستحفظ جزيرة ابن عمر وهي لابن مروان هرب إلى قرواش وأطمعه في الجزيرة فأرسل إلى نصر الدولة يطلب منه صداق ابنته وهو عشرون ألف دينار ويطلب الجزيرة لنفقتها ويطلب نصيبين لأخيه بدران ويحتج بما أخرج بسببها عام أول وترددت الرسل بينهما في ذلك فلم يستقر حال فسير جيشًا لمحاصرة الجزيرة وجيشًا مع أخيه بدران إلى نصيبين فحصرها بدران وأتاه قرواش فحصرها معه فلم يملك واحد من البلدين وتفرق من كان معه من العرب والأكراد. فلما رأى بدران تفرق الناس عن أخيه سار إلى نصر الدولة بن مروان بميافارقين يطلب منه نصيبين فسلمها إليه وأرسل من صداق ابنة قرواش خمسة عشر ألف دينار واصطلحا.
وفيها حصر أبو الشوك دقوقا وبها مالك بن بدران بن المقلد العقيلي فطال حصاره وكان قد أرسل إليه يقول له: إن هذه المدينة كانت لأبي ولا بد لي منها والصواب أن تنصرف عنها. فامتنع من تسليمها فحصره بها ثم استظهر وملك البلد فطلب منه مالك الأمان على نفسه وماله وأصحابه فأمنه على نفسه حسب فلما خرج إليه مالك قال له أبو الشوك: قد كنت سألتك أن تسلم البلد طوعًا وتحقن دماء المسلمين فلم تفعل. فقال: لو فعلت لعيرتني العرب وأما الآن فلا عار علي. فقال أبو الشوك: إن من إتمام الصنيعة تسليم مالك وأصحابك إليك فأعطاه ما كان له أجمع فأخذه وعاد سالمًا.
في هذه السنة في ربيع الآخر توفي يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين ومولده يوم عاشوراء سنة ستين وثلاثمائة وقيل إنه توفي أحد عشر صفر وكان مرضه سوء مزاج وإسهالًا وبقي كذلك نحو سنتين وكان قوي النفس لم يضع جنبه في مرضه بل كان يستند إلى مخدته فأشار عليه الأطباء بالراحة وكان يجلس للناس بكرة وعشية فقال: أتريدون أن أعتزل الإمارة فلم يزل كذلك حتى توفي قاعدًا.فلما حضره الموت أوصى بالملك لابنه محمد وهو ببلخ وكان أصغر من مسعود إلا أنه كان معرضًا عن مسعود لأن أمره لم يكن عنده نافذًا وسعى بينهما أصحاب الأغراض فزادوا أباه نفورًا عنه فلما وصى بالملك لولده محمد توفي فخطب لمحمد من أقاصي الهند إلى نيسابور وكان لقبه جلال الدولة وأرسل إليه أعيان دولة أبيه يخبرونه بموت أبيه ووصيته له بالملك ويستدعونه ويحثونه على السرعة ويخوفونه من أخيه مسعود فحين بلغه الخبر سار إلى غزنة فوصلها بعد موت أبيه بأربعين يومًا فاجتمعت العساكر على طاعته وفرق فيهم الأموال والخلع النفيسة فأسرف في ذلك.
لما توفي يمين الدولة كان ابنه مسعود بأصبهان فلما بلغه الخبر سار إلى خراسان واستخلف بأصبهان بعض أصحابه في طائفة من العسكر فحين فارقها ثار أهلها بالوالي عليهم فقتلوه وقتلوا من معه من الجند. وأتى مسعودًا الخبر فعاد إليها وحصرها وفتحها عنوة وقتل فيها فأكثر ونهب الأموال واستخلف فيها رجلًا كافيًا وكتب إلى أخيه محمد يعلمه بذلك وأنه لا يريد من البلاد التي وصى له أبوه بها شيئًا وأنه يكتفي بما فتحه من بلاد طبرستان وبلد الجبل وأصبهان وغيرها ويطلب منه الموافقة وأن يقدمه في الخطبة على نفسه فأجابه محمد جواب مغالط. وكان مسعود قد وصل إلى الري فأحسن إلى أهلها وسار منها إلى نيسابور ففعل مثل ذلك وأما محمد فإنه أخذ على عسكره العهود والمواثيق على المناصحة له والشد منه وسار في عساكره إلى أخيه مسعود محاربًا له وكان بعض عساكره يميل إلى أخيه مسعود لكبره وشجاعته ولأنه قد اعتاد التقدم على الجيوش وفتح البلاد وبعضها يخافه لقوة نفسه. وكان محمد قد جعل مقدم جيشه عمه يوسف بن سبكتكين فلما هم بالركوب في داره بغزنة ليسير سقطت قلنسونه من رأسه فتطير الناس من ذلك وأرسل إليه التونتاش صاحب خوارزم وكان من أعيان أصحاب أبيه محمود يشير عليه بموافقة أخيه وترك مخالفته فلم يصغ إلى قوله وسار فوصل إلى تكناباذ أول يوم رمضان وأقام إلى العيد فعيد هناك فلما كان ليلة الثلاثاء ثالث شوال ثار به جنده فأخذوه وقيدوه وحبسوه وكان مشغولًا بالشراب واللعب عن تدبير المملكة والنظر في أحوال الجند والرعايا. وكان الذي سعى في خذلانه علي خويشاوند صاحب أبيه وأعانه على ذلك عمه يوسف بن سبكتكين. فلما قبضوا عليه نادوا بشعار أخيه مسعود ورفعوا محمدًا إلى قلعة تكناباذ وكتبوا إلى مسعود بالحال. فلما وصل إلى هراة لقيته العساكر مع الحاجب علي خويشاوند فلما لقيه الحاجب علي قبض عليه وقتله وقبض بعد ذلك أيضًا على عمه يوسف وهذه عاقبة الغدر وهما سعيا له في رد الملك إليه وقبض أيضًا على جماعة من أعيان القواد في أوقات متفرقة وكان اجتماع الملك له واتفاق الكلمة عليه في ذي القعدة وأخرج الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن الميمندي الذي كان وزير أبيه من محبسه واستوزره ورد الأمر إليه وكان أبوه قد قبض عليه سنة اثنتي عشرة وأربعمائة لأمور أنكرها وقيل شره في ماله وأخذ منه لما قبض عليه مالًا وأعراضًا بقيمة خمسة آلاف ألف دينار. وكان وصول مسعود إلى غزنة ثامن جمادى الآخرة من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة فلما وصل إليها وثبت ملكه بها أتته رسل الملوك من سائر الأقطار إلى بابه واجتمع له ملك خراسان وغزنة وبلاد الهند والسند وسجستان وكرمان ومكران والري وأصبهان وبلد الجبل وغير ذلك وعظم سلطانه وخيف جانبه.
كان يمين الدولة محمود بن سبكتكين عاقلًا دينًا خيرًا عنده علم ومعرفة وصنف له كثير من الكتب في فنون العلوم وقصده العلماء من أقطار البلاد وكان يكرمهم ويقبل عليهم ويعظمهم ويحسن إليهم وكان عادلًا كثير الإحسان إلى رعيته والرفق بهم كثير الغزوات ملازمًا للجهاد وفتوحه مشهورة مذكورة وقد ذكرنا منها ما وصل إلينا على بعد الدهر وفيه ما يستدل به على بذل نفسه لله تعالى واهتمامه بالجهاد. ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنه كان يتوصل إلى أخذ الأموال بكل طريق فمن ذلك أنه بلغه أن إنسانًا من نيسابور كثير المال عظيم الغنى فأحضره إلى غزنة وقال له: بلغنا أنك قرمطي فقال: لست بقرمطي ولي مال يؤخذ منه ما يراد وأعفى من هذا الاسم فأخذ منه مالًا وكتب معه كتابًا بصحة اعتقاده. وجدد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسى الرضا والرشيد وأحسن عمارته وكان أبوه سبكتكين أخربه وكان أهل طوس يؤذون من يزوره فمنعهم عن ذلك. وكان سبب فعله أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام وهو يقول له: إلى متى هذا فعلم أنه يريد أمر المشهد فأمر بعمارته. وكان ربعة مليح اللون حسن الوجه صغير العينين أحمر الشعر وكان ابنه محمد يشبهه وكان ابنه مسعود ممتليء البدن طويلًا.
لما مات محمود بن سبكتكين طمع فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه في الري وكان قد هرب منها لما ملكها عسكر يمين الدولة محمود فقصد قصران وهي حصينة فامتنع بها. فلما توفي يمين الدولة وعاد ابنه مسعود إلى خراسان جمع فناخسرو هذا جمعًا من الديلم والأكراد وغيرهم وقصدوا الريي فخرج إليه نائب مسعود بها ومن معه من العسكر فقاتلوه فانهزم منهم وعاد إلى بلده وقتل جماعة من عسكره. ثم إن علاء الدولة بن كاكويه لما بلغه وفاة يمين الدولة كان بخوستان عند الملك أبي كاليجار كما ذكرنا وقد أيس من نصره وتفرق بعض من عنده من عسكره وأصحابه والباقون على عزم مفارقته وخائف من مسعود أن يسير إليه من أصبهان فلا يقوى هو وأبو كاليجار به فأتاه من الفرج بموت يمين الدولة ما لم يكن في حسابه فلما سمع الخبر سار إلى أصبهان فملكها وملك همذان وغيرهما من البلاد وسار إلى الري فملكها وامتد إلى أعمال أنوشروان بن منوجهر بن قابوس فأخذ منه خوار الري ودنباوند. فكتب أنوشروان إلى مسعود يهنئه بالملك وسأله تقرير الذي عليه بمال يحمله فأجابه إلى ذلك وسير إليه عسكرًا من خراسان فساروا إلى دنباوند فاستعادوها وساروا نحو الري فأتاهم المدد والعسكر وممن أتاهم علي بن عمران فكثر جمعهم فحصروا الري وبها علاء الدولة فاشتد القتال في بعض الأيام فدخل العسكر الري قهرًا والفيلة معهم فقتل جماعة من أهل الري والديلم ونهب المدينة وانهزم علاء الدولة وتبعه بعض العسكر وجرحه في رأسه وكتفه فألقى لهم دنانير كانت معه فاشتغلوا بها عنه فنجا وسار إلى قلعة فردجان على خمسة عشر فرسخًا من همذان فأقام بها إلى أن برأ من جراحته وكان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى وخطب بالري وأعمال أنوشروان لمسعود فعظم شأنه.
في هذه السنة في شوال سير جلال الدولة عسكرًا إلى المذار وبها عسكر أبي كاليجار فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر أبي كاليجار واستولى أصحاب جلال الدولة على المذار وعملوا بأهلها كل محظور. فلما سمع أبو كاليجار الخبر سير إليهم عسكرًا كثيفًا فاقتتلوا بظاهر البلد فانهزم عسكر جلال الدولة وقتل أكثرهم وثار أهل البلد بغلمانهم فقتلوهم ونهبوا أموالهم لقبيح سيرتهم معهم وعاد من سلم من المعركة إلى واسط.
وكان سبب ذلك أن غريبًا جمع جمعًا كثيرًا من العرب والأكراد واستمد جلال الدولة فأمده بجملة صالحة من العسكر فسار إلى تكريت فحصرها وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين وكان قد توجه إلى الموصل وسأل قرواشًا النجدة فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما فبلغا الدكة وغريب يحاصر تكريت وقد ضيق على من بها وأهلها يطلبون منه الأمان فلم يؤمنهم فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشد قتال. فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم فالتقوا بالدكة واقتتلوا فغدر بغريب بعض من معه ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية فانهزم وتبعهم قرواش ورافع ثم كفوا عنه وعن أصحابه ولم يتعرضوا إلى حلته وما له فيها وحفظوا ذلك أجمع ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق.
|