الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
وفيها قدم عبد الله بن طاهر بن الحسين بغداد من الرقة وكان أبوه استخلفه بها وأمره بقتال نصر بن شبث فلما قدم إلى بغداد جعله المأمون على الشرطة بعد مسير أبيه وولى المأمون يحيى بن معاذ الجزيرة وولى عيسى بن محمد بن أبي خالد أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك. وفيها مات السري بن الحكم بمصر وكان واليها. وفيها مات داود بن يزيد عامل السند فولاها المأمون بشير بن داود على أن يحمل كل سنة ألف ألف درهم. وفيها مات ولي المأمون عيسى بن يزيد الجلوذي محاربة الزط وحج بالناس عبيد الله بن الحسن أمير مكة والمدينة. وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة فتهدمت المنازل ببغداد وكثر الخراب بها. وفي هذه السنة توفي يزيد بن هارون الواسطي ومولده سنة تسع عشرة ومائة والحجاج بن محمد الأعور الفقيه وشبابة بن سوار الفزاري الفقيه وعبد الله بن نافع الصائغ ومحاضر بن الموزع وأبويحيى إبراهيم بن موسى الزيات الموصلي سمع هشام بن عروة وغيره.
وفي هذه السنة ولى المأمون عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر وأمره بحرب نصر بن شبث. وكان سبب ذلك أن يحيى بن معاذ الذي كان المأمون ولاة الجزيرة مات في هذه السنة واستخلف ابنه أحمد فاستعمل المأمون عبد الله مكانه فلما أراد توليته أحضره وقال له: يا عبد الله أستخير الله تعالى منذ شهر وأكثر وأرجو أن يكون قد خار لي ورأيت الرجل يصف ابنه لرأيه فيه ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك وقد مات يحيى واستخلف ابنه وليس بشيء وقد رأيت توليتك مصر ومحاربة نصر بن شبث. فقال: السمع والطاعة وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين فعقد له وقيل كانت ولايته سنة خمس ومائتين وقيل سبع ومائتين. ولما سار استخلف على الشرطة إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب وهوابن عمه ولما استعمله المأمون كتب إليه أبوه طاهر كتابًا فيه كل ما يحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة وغير ذلك وقد اثبت منه أحسنه لما فيه من الآداب والحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم لأنه لا يستغني عنه أحد من ملك وسوقة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك في الليل والنهار والزم ما ألبسك من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسؤول عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه فإن الله سبحانه وتعالى قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل عليهم والقيام بحقه وحدوده فيهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم وبيضتهم والحقن لدمائهم والأمن لسبيلهم وإدخال الراحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه ومسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت ففرغ لذلك فهمك وعقلك ونظرك ولا يشغلك عنه شاغل وإنه رأس أمرك وملاك شأنك وأول ما يوفقك الله عز وجل به لرشدك. وليكن أول ما تلزم نفسك وتنسب إليه أفعالك المواظبة على ما افترض الله عز وجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس فأت بها في مواقيتها على سننها وفي إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عز وجل فيها وترتل في قراءتك وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك وليصدق فيه رأيك ونيتك واحضض عليها جماعة من معك وتحت يد وادأب عليها فإنها كما قال الله عز وجل: وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين نفعا ولا أخص أمنا ولا أجمع فضلًا منه والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد وأثره في دنياك كلها ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد ولا غاية للاستكثار في البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته. واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويحصن من الذنوب وأنه لن تحوط لنفسك ومن يليك ولا تستصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح خاصتك وعامتك. وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم ولا تتهمن أحدًا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن إيقاع التهم بالبداء والظنون السيئة بهم مأثم فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يغنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم ولا يجدن عدوالله الشيطان في أمرك مغمزا فإنه إمنا يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعوبه الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك ولتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحهأن والنظر في حوائجهم وحمل مؤوناتهم آثر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة. واخلص نيتك في جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن ومأخوذ بما أساء فإن الله عز وجل جعل الدين حرزًا وعزا ورفع من اتبعه وعززه فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى. وأقم حدود الله عز وجل في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ولا تعطل ذلك ولا تهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتقم لك مروءتك. وإذا عاهدت عهدًا فف به وإذا وعدت خيرًا فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وأبغض أهله وأقص أهل المنيمة فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب لأن الكذب رأس المآثم والزور والمنيمة خاتمتها لأن المنيمة لا يسلم صاحبها وقائلها ولا يسلم له صاحب ولا يستتم لمطيعها أمر. وأحب أهل الصلاح والصدق وأعن الإشراف بالحق وآس الضعفاء وصل الرحم وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك في ذلك رعيتك وأنعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. واملك نفسك عند الغضب وآثر الوقار والحلم وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله وإياك أن تقول: أنا مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي وقلة اليقين وأخلص لله وحده لا شريك له النية فيه واليقين به واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله عز وجل وإحسانه واستطاعوا بما آتاهم الله عز وجل من فضله. ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تذخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية وعمارة بلدهم والتفقد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم واعلم أن الأموال إذا كنزت وذخرت في الخزائن لا تمنو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف مؤونة عنهم سمت وزكت ومنت وصلحت به العامة وتزينت به الولاية وطاب به الزمان واعتقد فيه العز والمنعة فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين فتلك حقوقهم وأوف رعيتك من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنك إن فعلت ذلك قرت النعمة عليك واستوبت المزيد من الله عز وجل وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب نفسًا بكل ما أردت واجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب ولتعظم حسنتك فيه وإمنا يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتهاون بما يحق عليك فإن التهاون بورث التفريط والتفريط يورث البوار وليكن عملك له عز وجل وارج الثواب فيه فإن الله سبحانه قد أسبغ عليك نعمته وأسبغ لديك فضله واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيرًا وإحسانا فغن الله عز وجل يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين. ولا تحقرن دينا ولا تمالئن حاسدا ولا ترحمن فاجرا ولا تصلن كفورا ولا تدهنن عدوًا. ولا تصدقن مناما ولا تأمنن غدارا ولا توالين فاسقا ولا تبتغين عاديًا ولا تحمدن مرائيا ولا تحقرن إنسانا ولا تردن سائلًا فقيرا ولا تحبن باطلا ولا تلاحظن مضحكا ولا تخلفن وعدا ولا ترهقن فاجرًا فجر ولا تركبن سفها ولاتظهرن غضبا ولا تمشين مرحا ولا تفرطن في طلب الآخرة ولا تدفع الأيام عتابًا ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أومحاباة ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة ولاتدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل ولاتسمعن لهم قولا فإن ضررهم أكثر من منفعتهم وليس شيء أسرع فسادًا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح واعلم أنك إذا كنت حريصًا كنت كثير الأخذ قليل العطية وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا فإن رعيتك إمنا تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم ويدوم صفاء أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم واجتنب الشح والعم أنه أول ما عصى الإنسان به ربه وأن العاصي بمنزلة خزي وهوقول الله عز وجل: وحسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسيعه فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار فضيلة الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله ـ تعالى ـ نجاحًا وفلاحًا. واعلم أن القضاء بالعدل من الله تعالى بالمكان الذي ليس يعدل به شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي يعدل عليه أحوال الناس في الأرض وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتأمن السبل وينتصف المظلوم ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدي حق واشتد في أمر الله عز وجل وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود وأقلل العجلة وابعد عن الضجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك من رعيتك محاباة ولا محاماة ولا لوم لائم وتثبت وتأن وراقب وانظر الحق على نفسك فتدبر وتفكر واعتبر وتواضع لربك وارؤف بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك. ولا تسرعن إلى سفك دم فإن الدماء من الله عز وجل بمكان عظيم انتهاكًا لها بغير حقها وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية وجعله الله للإسلام عزًا ورفعةً ولأهله توسعةً ومنعةً ولعدوه وعدوهم كبتًا وغيظا ولأهل الكفر من معانديهم ذلًا وصغارا فوزعه بين أصحابك بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه ولا ترفعن منه شيئًا عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له ولا تكلف أمرًا فيه شطط واحمل الناس كلهم على مر الحق فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضاء العامة. واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا وإمنا سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم فاستعمل عليهم ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك ولا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك وأحرزت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح ودرت الخيرات في بلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتباط جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة فنافس في ذلك ولا تقدم عليه شيئًا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله تعالى. واجعل في كل كورة من عملك أمينًا يخبرك أخبار عمالك ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأموره كلها فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أموره قدره وأتاه على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك واكثر مباشرته بنفسك فإن لغد أمورًا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمور يومين فيشغلك ذلك حتى تعرض عنه وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك وأحكمت أمور سلطانك. وانظر أحرار الناس وذوي السن منهم ممن تستيقن صفاء طويتهم وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم. وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة فاحتمل مؤونتهم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فسل عنه أحفى مسألة ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم. وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم وأجعل لهم أرزاقًا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة وأجر للأضراب من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجرائد على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دورًا تؤويهم وقوامًا يرفقن بهم وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطل أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعًا في نيل الزيادة وفضل الرفق منهم وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به من مؤونة ومشقة وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذي يستثقل بما يقربه إلى اله تعالى ويلتمس رحمته. وأكثر الإذن للناس عليك وابرز لهم وجهك وسكن لهم حواسك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك. وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى. واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرئاسة في القرون الخالية والأمم البائدة ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسننه وإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالف ما دعا إلى سخط الله عز وجل. وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك أتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأمور ومعاليها وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبًا لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سرك وإعلامك ما فيه من النقص فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتًا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرر النظر فيه والتدبر له فما كان موافقًا للحق والحزم فأمضه واستخر الله عز وجل فيه وما كان مخالفًا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه. ولا تمتن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تأتيه إليهم ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين ولا تضعن المعروف إلا على ذلك وتفهم كتابي إليك وأكثر النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك وأسخره فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله وليكن أعظم سيرتك وأفضل عيشك ما كان لله عز وجل رضىً ولدينه نظاما ولأهله عزًا وتمكينا ولذمة وللملة عدلًا وصلاحًا وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام. فلما رأى الناس هذا الكتاب تنازعوه وكتبوه وشاع أمره وبلغ المأمون خبره فدعا به فقرئ عليه فقال: ما بقى أبوالطيب يعني طاهرًا شيئًا من أمر الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به. وأمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي فسار عبد الله إلى عمله فاتبع ما أمر به وعهد إليه وسار بسيرته.
وفي هذه السنة مات الحكم بن هشام بن عبد الرحمن صاحب الأندلس لأربع بقين من ذي الحجة وكانت بيعته في صفر سنة ثمانين ومائة وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وكنيته أبوالعاص وهولأم ولد وكان طويلًا أسمر نحيفا وكان له تسعة عشر ذكرا وله شعر جيد وهوأول من جند بالأندلس الأجناد المرتزقين وجمع الأسلحة والعدد واستكثر من الحشم والحواشي وارتبط الخيول على بابه وشابه الجبابرة في أحواله واتخذ المماليك وجعلهم في المرتزقة فبلغت عدتهم خمسة آلاف مملوك وكانوا يسمون الخرس لعجمة ألسنتهم وكانوا يومًا على باب قصره. وكان يطلع على الأمور بنفسه ما قرب منها وبعد وكان له نفر من ثقات أصحابه بطالعونه بأحوال الناس فيرد عنهم المظالم وينصف المظلوم وكان شجاعا مقداما مهيبًا وهوالذي وطأ لعقبه الملك بالأندلس وكان يقرب الفقهاء وأهل العلم.
لما مات الحكم بن هشام قام بالملك بعده ابنه عبد الرحمن ويكنى أبا المطرف واسم أمه حلاوة وكان بكن والده ولد بطليطلة أيام كان أبوه الحكم يتولاها لأبيه هشام ولد لسبعة أشهر وجد ذلك بخط أبيه. وكان جسيما وسيما حسن الوجه فلما ولي خرج عليه عم أبيه عبد الله البلنسي وطمع بموت الحكم وخرج من بلنسية يريد قرطبة فتجهز له عبد الرحمن فلما بلغ ذلك عبد الله خاف وضعفت نفسه فرجع إلى بلنسية ثم مات في أثناء ذلك سريعًا ووقى الله ذلك الطرف شره. فلما مات نقل عبد الرحمن أولاده وأهله إليه بقرطبة وخلصت الإمارة بالأندلس لولد هشام بن عبد الرحمن. وفيها عزل الحسن بن موسى الأشيب عن قضاء الموصل فانحدر إلى بغداد وتولى القضاء بها علي بن أبي طالب الموصلي. وفيها ولى المأمون داود بن ماسحور محاربة الزط وأعمال البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين. وفيها كان المد عظيمًا غرق فيه السواد وكسكر وقطيعة أم جعفر وهلك فيه من الغلات كثير. وفيها نكب بابك الخرمي عيسى بن محمد بن أبي خالد وحج بالناس هذه السنة عبيد الله بن الحسن العلوي وهوأمير الحرمين. وفيها غزا المسلمون من إفريقية جزيرة سردانية فغمنوا وأصابوا من الكفار وأصيب منهم ثم عادوا. وفيها توفي الهيثم بن عدي الطائي الإخباري وكان عابدا ضعيفًا في الحديث وعبد الله بن عمروبن عثمان بن أمية الموصلي وهومن أصحاب سفيان الثوري. وفيها توفي محمد بن المستنير والمعروف بقطرب النحوي أخذ النحومن سيبويه. وفيها توفي أبوعمروإسحاق بن مرار الشيباني اللغوي.
في هذه السنة خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ببلاد عك في اليمن يدعوإلى الرضي من آل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وكان سبب خروجه أن العمال باليمن أساؤوا السيرة فيهم فبايعوا عبد الرحمن هذا فلما بلغ المأمون ذلك وجه إليه دينار بن عبد الله في عسكر كثيف وكتب معه بأمانه فحضر دينار الموسم وحج. ثم سار إلى اليمن فبعث إلى عبد الرحمن بأمانه فقبله ودخل في طاعة المأمون ووضع يده في يد دينار فخرج به إلى المأمون عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه وأمرهم بلبس السواد وذلك لليلتين بقيتا من ذي العقدة.
وفي هذه السنة في جمادى الأولى مات طاهر بن الحسين من حمى أصابته وإنه وجد في فراشه ميتًا. وقال كلثوم بن ثابت بن أبي سعيد: كنت على بريد خراسان فلما كان سنة سبع ومائتين حضرت الجمعة فصعد طاهر المنبر فخطب فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له وقال: اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك واكفنا مؤونة من بغى علينا وحشد فيها بلم الشعث وحقن الدماء وإصلاح ذات البين. قال: فقلت في نفسي: أنا أول مقتول لأني لا أكتم الخبر. قال: فانصرفت فاغتسلت غسل الموتى وتكفنت وكتبت إلى المأمون فلما كان العصر دعاني وحدث به حادث في جفن عينه وسقط ميتا فخرج إلي ابنه طلحة قال: هل كتبت بما كان قلت: نعم! قال: فاكتب بوفاته! فكتبت بوفاته وبقيام طلحة بأمر الجيش فوردت الخريطة على المأمون بخلعه فدعا احمد بن أبي خالد فقال: سر فأت بطاهر كما زعمت وضمنت فقال: أبيت الليلة فقال: لأن فلم يزل حتى أذن له في المبيت. ووافت الخريطة الأخرى ليلًا بموته فدعاه فقال: قد مات طاهر فمن ترى قال: ابنه طلحة قال: اكتب بتوليته! فكتب بذلك فأقام طلحة واليًا على خراسان في أيام المأمون سبع سنين ثم توفي وولى عبد الله خراسان. ولما ورد موت طاهر على المأمون قال: لليدين وللفم الحمد لله الذي قدمه وأخرنا! وكان يا ذا اليمينين وعين واحدة نقصان عين ويمين زائدة يعني أن لقبه كان ذا اليمينين وكانت كنيته أبا الطيب وقد قيل إن طاهرًا لما مات انتهب الجند بعض خزائنه فقام بأمرهم سلام الأبرش الخصي وأعطاهم رزق ستة أشهر. وقيل استعمل المأمون على عمله جميعه ابنه عبد اله بن طاهر فسير إلى خراسان أخاه طلحة وكان عبد الله بالرقة على حرب نصر بن شبث فلما توجه طلحة إلى خراسان سير المأمون إليه أحمد بن أبي خالد ليقوم بأمره فعبر أحمد إلى ما وراء النهر وافتتح أشروسنة واسر كاوس بن صارخره وابنه الفضل وبعث بهما إلى المأمون وهب طلحة لأحمد ابن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضًا بألفي ألف درهم ووهب لإبراهيم بن العباس كاتب أحمد خمسمائة ألف درهم.
|