الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
وفي هذه السنة مات المغيرة بن المهلب بخراسان وكان قد استخلفه أبوه المهلب على عمله بخراسان فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين فأتى الخبر يزيد بن المهلب وأهل العسكر فلم يخبروا المهلب فأمر يزيد النساء فصرخن فقال المهلب: ما هذا فقيل: مات المغيرة. فاسترجع وجزع حتى ظهر جزعه فلامه بعض خاصته ثم دعا يزيد ووجهه إلى مرو ووصاه بما يعمل وإن دموعه لتحدر على لحيته. فكان المهلب مقيمًا بكش بما وراء النهر يحارب أهلها فسار يزيد في تين فارسًا ويقال سبعين فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة بست فقالوا: ما أنتم قالوا: تجار قالوا: فأعطونا شيئًا. فأبى يزيد فأعطاهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي ثوبًا وكرابيس وقوسًا فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم فقاتلوهم فاشتد القتال بينهم ومع يزيد رجل من الخوارج كان قد أخذه فقال: استبقني فاستبقاه. فحمل الخارجي عليهم حتى خالطهم وصار من ورائهم وقتل رجلًا ثم كر حتى خالطهم وقتل رجلًا ورجع إلى يزيد وقتل يزيد عظيمًا من عظمائهم ورمي يزيد في ساقه فاشتدت شوكتهم وصبر يزيد حتى جاوزهم فقالوا: قد غدرنا ولا ننصرف حتى نموت أو تموتوا أو تعطونا شيئًا فلم يعطهم يزيد شيئًا. فقال مجاعة: أذكر الله قد هلك المغيرة فأنشدك الله أن تهلك فتجتمع على المهلب المصيبة. فقال: إن المغيرة لم يعد أجله ولست أعدو أجلي. فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا.
وفي هذه السنة صالح المهلب أهل كش. وكان سبب ذلك أنه اتهم قومًا من مضر فحبسهم وصالح وقفل وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن. وسار المهلب فلما صار ببلخ كتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك فإذا قبضت الفدية فلا تخل الرهن حتى تقدم أرض بلخ. فقال حريث لملك كش: إن المهلب كتب إلي كذا وكذا فغن عجلت الفدية سلمت إليك الرهن وسرت وأخبرته أن كتابه ورد وقد استوفيتها منكم ورددت عليكم الرهن. فعجل ملك كش الفدية وأخذ الرهن ورجع حريث فعرض لهم الترك فقالوا له: افد نفسك ومن معك فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه. فقال حريث: ولدتني إذًا أم يزيد. وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم أسرى ففدوهم فأطلقهم ورد عليهم الفداء. وبلغ المهلب قوله فقال: يأنف العبد أن تلده أم يزيد فغضب فلما قدم عليه بلخ قال: أين الرهن قال: خليتهم قبل وصول كتابك وقد كفيت ما خفت. قال: كذبت ولكنك تقربت إليهم. وأمر بتجريده فجزع من ذلك حتى ظن المهلب أن به مرضًا فجرده وضربه ثلاثين سوطًا. فقال حريث: وددت أنه ضربني ثلاثمائة ولم يجردني أنفة وحياء وحلف ليقتلن المهلب. فركب يومًا مع المهلب فأمر غلامين له أن يضربا المهلب فلم يفعلا وقالا: نخاف عليك أن تقتل. وترك حريث إتيان المهلب فأرسل إليه أخاه ثابت بن قطبة ليأتيه به وقال له: إنك كبعض ولدي أدبه كبعضهم فأتى ثابت أخاه وسأله أن يركب إلى المهلب فلم يفعل وحلف ليقتله فقال ثابت: إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم. وخاف ثابت أن يقتل حريث المهلب فيقتلون جميعًا فخرجا في ثلاثة من أصحابهما المنقطعين إليهما.
لما صالح المهلب أهل كش رجع يريد مرو فلما كان بمرو الروذ أخذته الشوصة وقيل الشوكة فمات منها وأوصى إلى ابنه حبيب فصلى عليه وقال لهم: قد استخلف عليكم يزيد فلا تخالفوه. فقال له ابنه المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه. واحضر ولده فوصاهم وأحضر سهامًا فحزمت فقال: أتكسرونها مجتمعة قالوا: لا قال: أفتكسرونها متفرقة قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والقلة والذلة وعليكم بالطاعة والجماعة وليكن فعالكم أفضل من مقالكم واتقوا الجواب وزلة اللسان فإن الرجل تزل قدمه فينتعش منها ويزل لسانه فيهلك اعرفوا لمن يغشاكم حقه فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له وآثروا الجود على البخل وأحيوا العرف واصنعوا المعروف فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف بالصنيعة عنده عليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة فإنها أنفع من الشجاعة وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر فحمد وإن لم يظفر قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم. ثم مات رحمه الله فقال نهار بن توسعة التميمي يرثيه: ألا ذهب المعروف والعز والغنى ومات الندى والجود بعد المهلب أقام بمرو الروذ رهن ضريحه وقد غاب عنه كل شرقٍ ومغرب إذا قيل أي الناس أولى بنعمةٍ على الناس قلنا هو ولم نتهيب فلما توفي كتب ابنه إلى الحجاج يعلمه بوفاته فاقر يزيد على خراسان.
وفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة في جمادى الآخرة واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي فعزل هشام نوفل بن مساحق عن قضاء المدينة وولى على القضاء عمرو بن خالد الزرقي وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فهزمهم ثم سألوه الصلح فصالحهم وولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروا به فتقلوه وقيل: بل قتلوه سنة ثلاث وثمانين. وفيها قتل عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي بدجيل. وفيها مات أو الجوزار أوس بن عبد الله الربعي وعطاء بن عبد الله السليمي العابد. السليمي بفتح السين المهملة وكسر اللام. وفيها مات زاذان وأبو وائل وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي وعمره ستون سنة. وفيها مات أبو أمامة الباهلي وقيل: سنة إحدى وتسعين.
فلما حملت كتائب الحجاج الثلاث على القراء من أصحاب عبد الرحمن وعليهم جبلة بن زحر نادى جبلة: يا عبد الرحمن بن أبي ليلى! يا معشر القراء! إن الفرار ليس بأحد بأقبح منه منكم غني سمعت علي بن أبي طالب رفع الله درجته في الصالحين وآتاه ثواب الصاديقين والشهداء يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانًا يعمل به ومنكرًا يدعة إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ومن أنكره بلسانه فقد أجسر وهو أفضل من صاحبه ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونور في قلبه باليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحق فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه. وقال أبو البختري: أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم. فقال الشعبي: أيها الناس قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور في حكم منهم. وقال سعيد بن جبير نحو ذلك وقال جبلة: احملوا عليهم حملةً صادقةً ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى توقعوا صفهم. فحملوا عليهم حملةً صادقةً فضربوا الكتائب حتى أزالوها وفرقوها وتقدموا حتى واقعوا صفهم فأزالوه عن مكانه ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلًا لا يدرون كيف قتل. وكان سبب قتله أن أصحابه لما حملوا على أهل الشام ففرقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه فافترقت فرقة من أهل الشام فوقفت ناحية فلما رأوا أصحاب جبلة قد تقدموا قال بعضهم لبعض: هذا جبلة احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال. فحملوا عليه فلم يول لكنه حمل عليهم فقتلوه وكان الذي قتله الوليد بن تحيت الكلبي وجيء برأسه إلى الحجاج فبشر أصحابه بذلك. فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلًا سقط في أيديهم وتنازعوه بينهم فقال لهم أبو البختري: لا يظهرن عليكم قتل جلة إنما كان كرجل منكم أتته منيته فلم يكن ليتقدم ولا ليتأخر. وظهر الفشل في القراء وناداهم أهل الشام: يا أعداء الله قد هلكتم وقد قتل طاغيتكم! وقدم عليهم بسطام من مصقلة بن هبيرة السيباني ففرحوا به وقالوا: تقدم مقام جبلة. وكان قدومه من الري فلما أتى عبد الرحمن جعله على ربيعة وكان شجاعًا فقاتل يومًا فدخل عسكر الحجاج فأخذ أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن. فقال الحجاج: منعوا نساءهم لو لم يردوهن لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم. وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المابرزة فخرج إليه رجل من أهل الشام فتضاربا فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت وإذا هما ابنا عم فتحاجزا. وخرج عبد الله بن رازم الحارثي فطلب المبارزة فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله ثم فعل ذلك ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الرابع خرج فقالوا: جاء لا جاء الله به! فطلب المبارزة فقال الحجاج للجراح: أخرج إليه. فخرج إليه. فقال له عبد الله وكان له صديقًا: ويحك يا جراح ما أخرجك قال: ابتليت بك. قال: فهل لك في خير قال الجراح: ما هو قال عبد الله: أنهزم لك وترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حبًا لسلامتك فإني لا أحب قتل مثلك من قومي. قال: افعل. فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله وحمل عليه الجراح بجد يريد قتله فصاح بعيد الله غلامه وكان ناحية معه ماء ليشربه وقال له: يا سيدي إن الرجل يريد قتلك! فعطف عبد الله على الجراح فضربه بعمود على رأسه فصرعه وقال له: يا جراح بئس ما جزيتني! أردت بك العافية وأردت تقلي! انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. وكان سعيد بن جبير وأبو البختري الطائي يحملان على أهل الشام بعد قتل جبلة بن زحر حتى يخالطاهم وكانت مدة الحرب مائة يوم وثلاثة أيام لأنه كان نزولهم بالجماجم لثلاث مضين من ربيع الأول وكانت الهزيمة لأربع عشرة مضين من جمادى الآخرة. فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشد قتال واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج واستعلوا عليهم وهم آمنون أن يهزموا. فبينا هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد وهو في ميمنة الحجاج على الأبرد بن قرة التميمي وهو على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرة من غي قتال يذكر فظن الناس أنه قد كان صولح على أن ينهزم بالناس فلما انهزم تقوضت الصفوف من نحوه وركب الناس بعضهم بعضًا وصعد عبد الرحمن المنبر ينادي الناس: إلي عباد الله. فاجتمع إليه جماعة فثبت حتى دنا منه أهل الشام فقاتل من معه ودخل أهل الشام العسكر فأواه عبد الله بن يزيد بن المفضل الأزدي فقال له: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعًا يهلكهم الله به. فنزل هو ومن معه لا يلوون على شيء ثم رجع الحجاج إلى الكوفة وعاد محمد بن مروان إلى الموصل وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام وأخذ الحجاج يبايع الناس وكان لا يبايع أحدًا إلا قال له: اشهد أنك كفرت فإن قال: نعم بايعه وإلا قتله فأتاه رجل من خثعم كان معتزلًا للناس جميعًا فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله فقال له: أنت متربص أتشهد أنك كافر قال: بئس الرجل! أنا أعبد الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر! قال: إذًا أقتلك. قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار. فقتله ولمي بق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه. ثم دعا بكميل بن زياد فقال له: أنت المقتص من أمير المؤمنين عثمان قد كنت أحب من أن أجد عليك سبيلًا. قال: على أينا أنت أشد غضبًا عليه حين أقاد من نفسه أم علي حين عفوت عنه قم قال: أيها الرجل من ثقيف لا تصرف علي أنيابك ولا تكشر على كالذئب والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار اقض ما أنت قاضٍ فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب. قال الحجاج: فإن الحجة عليك. قال: ذلك إذا كان القضاء إليك. فأمر به فقتل وكان خصيصًا بأمير المؤمنين. وأتي بآخر من بعده فقال له الحجاج: أرى رجلًا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر. فقال له الرجال: أتخادعني عن نفسي أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون. فضحك منه وخلي سبيله. وأقام بالكوفة شهرًا وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة أنزلهم الحجاج فيها مع أهلها وهو أول من انزل الجند في بيوت غيرهم وهو إلى الآن لا سيما في بلاد العجم ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ولما انهزم عبد الرحمن أتى البصرة واجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير وكان فيهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي وكان بالمدائن محمد بن سعد بن أبي وقاص فسار إليه الحجاج فلحق ابن سعد بعيد الرحمن وسار عبد الرحمن نحو الحجاج ومعه جمع كثير فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني وقد بايعه خلق كثير على الموت فاجتمعوا بمسكن وخندق عبد الرحمن على أصحابه وجعل القتال من وجه واحد. وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله من خراسان في ناس من بعث الكوفة فاقتتلوا خمسة عشر يومًا من شعبان أشد قتال فقتل زياد بن غيثم القيني وكان على مسالح الحجاج فهده ذلك وهد أصحابه. وبات الحجاج يحرض أصحابه ولما أصبحوا باكروا القتال فاقتتلوا أشد قتال كان بينهم فانكشفت خيل سفيان بن الأبرد فأمر الحجاج عبد الملك بن المهلب فحمل على أصحاب عبد الرحمن وحمل أصحاب الحجاج من كل جانب فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وأبو البختري الطائي ومشى بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف فارس من شجعان أهل الكوفة والبصرة فكسروا جفون سيوفهم وحث أصحابه على القتال فحملوا على أهل الشام فكشفوهم مرارًا فدعا الحجاج الرماة فرموهم وأحاط بهم الناس فقتلوا إلا قليلًا ومضى ابن الأشعث نحو سجستان. وقد قيل في هزيمة عبد الرحمن بمسكن غير هذا والذي قيل: إنه اجتمع هو والحجاج بمسكن وكان عسكر ابن الأشعث والحجاج بين دجلة والسيب والكرخ فاقتتلوا شهرًا ودونه فأتى شيخ فدل الحجاج على طريق من وراء الكرخ في أجمة وضحضاح من الماء فأرسل معه أربعة آلاف وقال لقائدهم: إن صدق فأعطه ألف درهم فإن كذب فاقتله. فسار بهم ثم إن الحجاج قاتل أصحاب عبد الرحمن فانهزم الحجاج فعبر السيب ورجع ابن الأشعث إلى عسكره آمنًا ونهب عسكر الحجاج فأمنوا وألقوا السلاح فلم يشعروا نصف الليل إلا والسيف يأخذهم من تلك السرية فغرق من أصحاب عبد الرحمن أكثر ممن قتل ورجع الحجاج في عسكره على الصوت فقتلوا من وجدوا فكان عدة من قتل أربعة آلاف منهم: عبد الله بن شداد بن الهاد وبسطام بن مصقلة وعمرو بن ضبيعة الرقاشي وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم.
ولما انهزم عبد الرحمن من مسكين سار إلى سجستان فأتبعه الحجاج ابنه محمدًا وعمارة بن تميم اللخمي وعمارة على الجيش فأدركه عمارة بالسوس فقاتله ساعةً فانهزم عبد الرحمن ومن معه وساروا حتى أتوا سابور واجتمع إليه الأكراد فقاتلهم عمارة قتالًا شديدًا على العقبة فجرح عمارة وكثير من أصحابه وانهزم عمارة وترك لهم العقبة. وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبع أثرهم فدخل بعض أهل الشام قصرًا في مفازة كرمان فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر ابن حلزة اليشكري وهي طويلة: تركنا الدين والدنيا جميعًا وأسلمنا الحلائل والبنينا فما كنا بناسٍ أهل دينٍ فنصبر في البلاء إذا ابتلينا فما كنا بناسٍ أهل دنيا فمنمنعها ولو لم نرج دينا نتركنا دورنا لطغام عكٍ وأنباط القرى والأشعرينا فلما وصل عبد الرحمن إلى كرمان أتاه عامله وقد هيأ له نزلًا فنزل ثم رحل إلى سجستان فأتى رزنج وفيها عامله فأغلق بابها ومنع عبد الرحمن من دخولها فأقام عليها أيامًا ليفتحها فلم يصل إليها فسار إلى بست وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن هشام الدوسي الشيباني فاستقبله وأنزله فلما غفل أصحابه قبض عليه عياض وأوثقه وأراد أن يأمن به عند الحجاج.وقد كان رتبيل ملك الترك سمع بمقدم عبد الرحمن فسار إليه ليستقبله فلما قبضه عياض نزل رتبيل على بست وبعث إلى عياض يقول: والله لئن آذيته بما يقذي عينه أو ضررته ببعض الضرر أو أخذت منه ولو حبلًا من شعر لا أبرح حتى أستذلك وأقتلك وجميع من معك وأسبي ذراريكم وأغنم أموالكم. فاستأمنه عياض فأطلق عبد الرحمن فأراد قتل عياض فمنعه رتبيل. ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده فأنزله وأكرمه وعظمه. وكان ناس كثير من المنهزمين من أصحاب عبد الرحمن من الرؤوس والقادة الذين لم يقبلوا أمان الحجاج ونصبوا له العداوة في كل موطن قد تبعوا عبد الرحمن فبلغوا سجستان في نحو ستين ألفًا ونزلوا على زرنج يحاصرون من بها وكتبوا إلى عبد الرحمن يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم فأتاهم وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإلى أن قدم عبد الرحمن. فلما أتت كتبهم عبد الرحمن سار إليهم ففتحوا زرنج وسار نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام فقال لعبد الرحمن أصحابه: اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان. فقال: إن بها يويد بن المهلب وهو رجل شجاع ولا يترك لكم سلطانه ولو دخلناها لقاتلنا وتبعنا أهل الشام فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام. قالوا: لو دخلنا خراسان لكان من يتبعنا أكثر ممن يقاتلنا. فشار معهم حتى بلغوا هراة فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن ابن سمرة القرشي في ألفين فقال لهم عبد الرحمن: إني كنت في مأمن وملجإٍ فجاءتني كتبكم أن أقبل فإن أمرنا واحد فلعلنا نقاتل عدونا فأتيتكم فرأيتم أن أمضي إلى خراسان وزعمتم إنكم تجتمعون إلي وأنكم لا تتفرقون وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم فاصنعوا ما بدا لكم أما أنا فمنصرف إلى صاحبي فتفرق منهم طائفة وبقي معه طائفة وبقي أعظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس فبايعوه ومضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل وسار عبد الرحمن بن العباس إلى هراة فلقوا بها الرقاد الأزدي فقتلوه فسار إليهم يزيد بن المهلب. وقيل: إن عبد الرحمن بن الأشعث لما انهزم من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة هراة وأتى عبد الرحمن بن العابس سجستان فاجتمع فل ابن الأشعث فسار إلى خراسان في عشرين أفًا فنزل هراة ولقوا الرقاد فقتلوه فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع ومن هو أهون مني شوكة فارتحل إلى بلد ليس لي فيه سلطان فإني أكره قتالك وأن أردت مالًا أرسلت إليك. فأعاد الجواب: إنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام ولكنا أردنا أن نريح ثم نرحل عنك وليست بنا إلى المال حاجة. وأقبل عبد الرحمن بن العباس على الجبابة وبلغ ذلك يزيد فقال: من أراد أن يريح ثم يرتحل لم يجب الخراج. فسار يزيد نحوه وأعاد مراسلته: إنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج فلك ما جبيت وزيادة فاخرج عني فإني أكره قتالك. فأبى إلا القتال وكاتب جند يزيد يستميلهم ويدعوهم إلى نفسه فعلم يزيد فقال: جل المر عن العتاب ثم تقدم إليه فقاتله فلم يكن بينهم كثير قتال حتى تفرق أصحاب عبد الرحمن عنه وصبر وصبرت معه طائفة ثم انهزموا وأمر يزيد أصحابه بالكف عن أتباعهم وأخذوا ما كان في عسكرهم وأسوا منهم أسرى وكان منهم: محمد بن سعد بن أبي وقاص وعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وعباس بن الأسود بن عوف الزهري والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة وفيروز حصين وأبو الفلج مولى عبيد الله بن معمر وسوار بن مروان وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي. ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسند واتى ابن سمرة مرو وانصرف يزيد إلى مرو وبعث الأسرى إلى الحجاج مع سبرة ونجدة فلما أراد تسييرهم قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت عبد الرحمن بن طلحة فال يزيد: غنه الحجاج ولا يتعرض له. قال: وطن نفسك على العزل ولا ترسل به فإن له عندنا يدًا. قال: وما هي قال: ألزم المهلب في مسجد الجماعة بمائة ألف فأداها طلحة عنه. فأطلقه يزيد ولم يرسل يزيد أيضًا عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد وأرسل الباقين. فلما قدموا على الحجاج قال لحاجبه: إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز وكان بواسط القصب قبل أن تبنى مدينة واسط. فقال لحاجبه: ائتني بسيدهم. فقال لفيروز: قم. فقام فأحضره عنده. فقال له الحجاج: أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء فوالله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس. قال: اكتب إلي أموالك. قال: اكتب يا غلام ألف ألف وألفي ألف فذكر مالًا كثيرًا. فقال الحجاج: أين هذه الأموال قال: عندي. قال: فأدها. قال: وأنا آمن على دمي قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك. قال: والله لا يجمع بين دمي ومالي. فأمر به فنحي. ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال له: يا ظل الشيطان! أعظم الناس تيهًا وكبرًا تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتتشبه بالحسين وبابن عمر ثم ضربت مؤذنًا وجعل يضرب رأسه بعود في يده حتى أدماه ثم أمر به فقتل. ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة! يقوم بالعمود على رأسك ابن الحائك يعني ابن الأشعث وتشرب معه في الحمام! فقال: أصلح الله الأمير كانت فتنة شملت البر والفاجر فدخلنا فيها فقد أمكنك الله منا فإن عفوت فبجمالك وبفضلك وغن عاقبت ظلمت مذنبين. فقال الحجاج: أما أنها شملت البر فكذبت ولكنها شملت الفاجر وعوفي منها الأبرار وأما اعترافك فعسى أن ينفعك ورجال له الناس السلامة ثم أمر به فقتل. ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: أحببت أن ابن الأشعث طلب ما طلب ما الذي أملت أنت معه قال: أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك إياه. فأمر به فقتل. ثم دعا عبد الله بن عامر فلما أتاه قال له الحجاج: لا رأت عينك الجنة إن أفلت! فقال: جزى الله ابن المهلب بما لأنه كاس في إطلاق أسرته وقاد نحوك في أغلالها مضرا وقى بقومك ورد الموت أسرته وكان قومك أدنى عنده خطرا فأطرق الحجاج ووقرت في قله وقال: وما أنت وذاك فأمر به فقتل. ولم تزل كلمته في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه. ثم أمر بفيروز فعذب وكان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق يجر عليه حتى يجرح به ثم ينضح عليه الخل فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أن قد قتلت ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدي إليكم أبدًا فأظهرني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال. فأعلم الحجاج فقال: أظهره. فأخرج إلى باب المدينة فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين إن لي عند أقوام مالًا فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤد أحد منهم درهمًا ليبلغ الشاهد الغائب. فأمر به الحجاج فقتل. وأمر بقتل عمر بن أبي قرة الكندي وكان شريفًا وأمر بإحضار أعشى همدان فقال: إيه عدو الله! أنشدني قولك بين الأشبح وبين قيس. قال: بل أنشدك ما قلت لك. قال: بل أنشدني هذه. فأنشده: أبى الله إلا أن يتمم نوره ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا وينزل ذلًا بالعاق وأهله كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا وما أحدثوا من بدعةٍ وعظيمةٍ من القول لم تصعد إلى الله مصعدا وما نكثوا من بيعةٍ بعد بيعةٍ إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا وجبنًا حشاه ربهم في قلوبهم فما يقربون الناس إلا تهددا فلا صدق في قولٍ ولا صبر عندهم ولكن فخرًا فيهم وتزيدا فكيف رأيت الله فرق جمعهم ومزقهم عرض البلاد وشردا فقتلاهم قتلى ضلالٍ وفتنةٍ وجيشهم أمسى ذليلًا مطردا ولما زحفنا لابن يوسف غدوةً وأبرق منه العارضان وأرعدا قطعنا إليه الخندقين وإنما قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا فكافحنا الحجاج دون صفوفنا كفاحًا ولم يضرب لذلك موعدا بصفٍ كأن الموت في حجزاتهم إذا ما تجلى بيضه وتوقدا دلفنا إليه في صفوفٍ كأنها جبال شرورى أو نعافٍ فشهمدا وإن ابن عباسٍ لفي مرجحنةٍ أشبهها قطعًا من الليل أسودا فما شرعوا رمحًا ولا جردوا ظبىً ألا إنما لاقى الجبان مجردا وكرت علينا خيل سفيان كرةً بفرسانها والشمري مقصدا وسفيان يهديها كأن لواءها من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا كهول ومرد من قضاعة حوله مساعير أبطال إذا النكس عردا إذا قال شدوا شدةً حملوا معًا فأنهل خرصان الرماح وأوردا جنود أمير المؤمنين وخيله وسلطانه أمسى عزيزًا مؤيدا ليهن أمير المؤمنين ظهوره على أمةٍ كانوا سعاه وحسدا تروا يشتكون البغي من أمرئهم وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا وجدنا بني مروان خير أئمةٍ وأفضل هذا الناس حلمًا وسوددا وخير قريشٍ أرومةً وأكرمهم إلا النبي محمدا إذا ما تدبرنا عواقب أمره وجدنا أمير المؤمنين مسددا يناديهم مستعبراتٍ إليهم ويذرين دمعًا في الخدود وإثمدا أنكثًا وعصيانًا وغدرًا وذلةً أهان الإله من أهان وأبعدا لقد شأم المصرين فرخ محمدٍ بحقٍ وما لاقى من الطير أسعدا كما شأم الله النجير وأهله بجدٍ له قد كان أشقى وأنكدا فقال أهل الشام: أحسن أصلح الله الأمير. فقال الحجاج: لا لم يحسن إنكم لا تدرون ما أراد بها. ثم قال: يا عدو الله! والله لا نحمدك على هذا القول إنما قلت: تأسف أن لا يكون ظهر وظفر وتحريصًا لأصحابك علينا وليس عن هذا سألناك أنشدنا قولك بين الأشج وبين قيس باذخ فأنشده فلما قال: بخ بخ لوالده وللمولد قال الحجاج: والله لا تبخبخ بعدها أبدًا! فضربت عنقه. قوله في هذه الأبيات: ابن عباس هو عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وقد تقدم ذكره. وقوله: سفيان هو ابن الأبرد الكلبي من قواد العساكر الشامية. وقوله: فرخ محمد هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وقوله: الأشبح هو محمد بن الأشعث. وقوله: بين قيس هو معقل بن قيس الرياحي وهو جد عبد الرحمن بن محمد لأمه. وقوله: كما سأم الله النجير وأهله بجدٍ له يعني لما ارتد الأشعث بن قيس جد عبد الرحمن بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتبعه كندة فلما حاربهم المسلمون وحصروهم بالنجير أخذوهم وقتلوهم وقد تقدم ذكر ذلك في قتال أهل الردة. قيل: وأتي الحجاج بأسيرين فأمر بقتلهما فقال أحدهما: إن لي عند يدًا. قال: وما هي قال: ذكر عبد الرحمن يومًا أمك بسوء فنهيته. قال: ومن يعلم ذلك قال: هذا الأسير الآخر فسأله الحجاج فصدقه فقال له الحجاج: فلم لم تفعل كما فعل قال: وينفعني الصدق عندك قال: نعم. قال: منعني البغض لك ولقومك. قال: خلوا عن هذا لفعله وعن هذا لصدقه. قيل: جاء رجل من الأنصار إلى عمر بن عبد العزيز فقال: أنا فلان بن فلان قتل جدي يوم بدر وقتل جدي فلان يوم أحد وجعل يذكر مناقب سلفه فنظر عمر إلى عنبسة بن سعيد بن العاص فقال: هذه المناقب والله لا يوم مسكن ويم الجماجم ويم راهط! وأنشد: تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
|