الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
في هذه السنة عصى عمران بن مجالد الربيعي وقريش بن التونسي بتونس على إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية واجتمع فيها خلق كثير وحصر إبراهيم بن الأغلب بالقصر وجمع من أطاعه وخالف عليه أيضًا أهل القيروان في جمادى الآخرة فكانت بينهم وقعة وحرب قتل فيها جماعة من رجال ابن الأغلب. وقدم عمران بن مجالد فيمن معه فدخل القيروان عاشر رجب وقدم قريش من تونس غليه فكانت بينهم وبين ابن الأغلب وقعة في رجب فانهزم أصحاب ابن الأغلب ثم التقوا في العشرين منه فانهزموا ثانية أيضا ثم التقوا ثالثة فيه أيضا فكان الظفر بن الأغلب وأرسل عمران بن مجالد إلى أسد بن الفرات الفقيه ليخرج معهم فامتنع فاعاد الرسول يقول له: تخرج معنا وإلا أرسلت إليك من يجر برجلك فقال أسد للرسول: قل له: واله إن خرجت لأقولن لناس إن القاتل والمقتول في النار. فتركه.
في هذه السنة عاود أهل ماردة الخلاف على الحكم بن هشام أمير الأندلس وعصوا عليه فسار بنفسه إليهم وقاتلهم ولم تزل سراياه وجيوشه تتردد وتقاتلهم هذه السنة وسنة خمس وسنة ست وتسعين ومائة. وطمع الفرنج في ثغور المسلمين وقصدوها بالغارة والقتل والنهب والسبي وكان الحكم مشغولًا بأهل ماردة فلم يتفرغ للفرنج فأتاه الخبر بشدة الأمر على أهل الثغر وما بلغ العدومنهم وسمع أن امرأة مسلمة أخذت سبية فنادت: واغوثاه يا حكم! فعظم الأمر عليه وجمع عسكره واستعد وحشد وسار إلى بلد الفرنج سنة ست وتسعين ومائة وأثخن في بلادهم وافتتح عدة حصون وخرب البلاد ونهبها وقتل الرجال وسبى الحريم ونهب الأموال وقصد الناحية التي كانت بها تلك المرأة فأمر لهم من الأسرى بما يفادون به أسراهم وبالغ في الوصية في تخليص تلك المرأة فتخلصت من الأسر وقتل باقي الأسرى فلما فرغ من غزاته قال لأهل الثغور: هل أغاثكم الحكم فقالوا: نعم ودعوا له واثنوا عليه خيرا وعاد إلى قرطبة مظفرًا.
وفيها وثبت الروم على ملكهم ميخائيل فهرب وترهب وكان ملك نحوسنتين وملك بعده أليون القائد. وكان على الموصل إبراهيم بن العباس استعمله الأمين. وفي هذه السنة قتل شقيق اللخي في غزاة كولان من بلاد الترك. وفيها مات الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي وقيل سنة خمس وتسعين ومائة وكان مولده سنة عشر ومائة. وفيها مات حفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة وكان مولده سنة سبع عشرة ومائة. غياث بالغين المعجمة. وفيها توفي عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وكان مولده سنة ست عشرة ومائة وكان قد وفيها توفي سيبويه النحوي واسمه عمروبن عثمان بن قنبر أبوبشير وقيل: كان توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة وقيل: كان عمره قد زاد على أربعين سنة وقيل كان عمره اثنتين وثلاثين سنة. وفيها توفي يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص وعمره أربع وسبعون سنة.
في هذه السنة أمر الأمين بإسقاط ما كان ضرب لأخيه المأمون من الدراهم والدنانير بخراسان في سنة أربع وتسعين ومائة لأنها لم يكن عليها اسم الأمين وأمر فدعي لموسى بن أمين على المنابر ولقبه الناطق بالحق وقطع ذكر المأمون لقول بعضهم وكان موسى طفلًا صغيرا ولابنه الآخر عبد الله ولقبه القائم بالحق.
ثم إن الامين أمر علي بن عيسى بن ماهان بالمسير لحرب المأمون. وكان سبب مسيره دون غيره أن ذا الرياستين كان له عين عند الفضل بن الربيع يرجع إلى قوله ورأيه فكتب ذوالرياستين إلى ذلك الرجل يأمره أن يشير بإنفاذ ابن ماهان لحربهم وكان مقصوده أن ابن ماهان لما ولي خراسان أيام الرشيد أساء السيرة في أهلها فظلمهم فعزله الرشيد لذلك ونفر أهل خراسان عنه وأبغضوه فأراد ذوالرياستين أن يزداد أهل خراسان جدًا في محاربة الأمين وأصحابه. ففعل ذلك الرجل ما أمر به ذوالرياستين فأمر الأمين ابن ماهان بالمسير. وقيل: كان سببه أن عليًا قال للأمين إن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن قصدهم هوأطاعوه وانقادوا له وإن كان غيره فلا! فأمره بالمسير وأقطعه كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصبهان وغير ذلك وولاه حربها وخراجها وأعطاه الاموال وحكمه في الخزائن وجهز معه خمسين ألف فارس وكتب إلى أبي دلف القاسم بن إدريس بن عيسى العجلي وهلال بن عبد الله الحضرمي بالانضمام إليه وأمده بالأموال والرجال شيئًا بعد شيء. فلما عزم على المسير من بغداد ركب إلى باب زبيدة أم الأمين ليودعها فقالت له: يا علي! إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى وإمنا ابني ملك نافس أخاه في سلطانه وغاره على ما في يده والكريم يأكل لحمه ويميقه غيره فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته ولا تجبهه بالكلام فإنك لست به بنظير ولاتقتسره اقتسار العبيد ولا توهنه بقيد ولاغل ولا تمنع عنه جارية ولا خادما ولا تعنف عليه في السير ولا تساوه في المسير ولاتركب قبله وخذ بركابه وإن شتملك فاحتمل منه. ثم دفعت إليه قيدًا من فضة وقالت: إن صار إليك فقيده بهذا القيد! فقال لها: سأفعل مثل ما أمرت. ثم خرج علي بن عيسى في شعبان وركب الأمين يشيعه ومعه القواد والجنود وذكرمشايخ بغداد أنهم لم يروا عسكرًا أكثر رجالا وأفره كراعًا. وأتم عدة وسلاحًا من عسكره ووصاه الأمين وأمره إن قاتله المأمون أن يحرص على أسره. ثم سار فلقيه القوافل عند حلولاء فسألهم فقالوا له: إن طاهرًا مقيم بالري يعرض أصحابه ويرم آلته والأمداد تأتيه من خراسان ووهويستعد للقتال فيقول: إمنا طاهر شوكة من أغصاني وما مثل طاهر يتولى الجيوش ثم قال لأصحابه: ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان فإن السخال لا تقوى على النطاح والبغال لا صبر لها على لقاء الأسد وإن أقام تعرض لحد السيف وأسنة الرماح وإذا قاربنا الري ودنونا منهم فت ذلك على أعضادهم. ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وطبرستان وما ولاها من الملوك يعدهم الصلات وأهدى لهم التيجان والأسورة وغيرها وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان فأجابوه إلى ذلك وسار حتى أتى أول أعمال الري وهوقليل الاحتيال فقال له جماعة من أصحابه: لوأركبت العيون وعملت خندقًا لأصحابك وبعثت الطلائع لأمنت البيات وفعلت الرأي فقال: مثل طاهر لا يستعد له وإن حاله يؤول إلى أمرين: إما أن يتحصن بالري فيبيته أهلها فيكفونا أمره وغما أن يرجع ويتركها إذا قربت خيلنا منه فقالوا له: لوكان عزمه تركها والرجوع لفعل فإننا قد قربنا منه فلم يفعل. ولما صار بينه وبين الري عشرة فراسخ استشار طاهر أصحابه وأشاروا عليه ان يقيم بالري ويدافع القتال إلى أن يأتيه من خراسان المدد وقائد يتولى الأمور دونه وقالوا له: إن مقامك بمدينة الري أرفق بأصحابك وأقدر لهم على الميرة وأكن من البرد وتعتصم بالبيوت وتقدر على المماطلة فقال طاهر: إن الرأي ليس ما رأيتم إن أهل الري لعلي هائبون ومن سطوته مشفقون ومعه من أعراب البوادي وصعاليك الجبال والقرايا كثير ولست آمن إن أقمت بالري أن يثب أهلها بنا خوفًا من علي وما الرأي إلا نسير إليه فإن ظفرناوإلا عولنا عليها فقاتلناه فيها إلى أن يأتينا مدد. فنادى طاهر في أصحابه فخرج من الري في أقل من أربعة آلاف فارس وعسكر على خمسة فراسخ فأتاه أحمد بن هشام وكان على شرطة طاهر فقال له: إن أتانا علي بن عيسى فقال أنا عامل امير المؤمنين وأقررنا له بذلك فليس لنا أن نحاربه فقال طاهر: لم يأتيني في ذلك شيء. فقال: دعني وما أريد فقال: افعل! فصعد المنبر فخلع محمدا ودعا للمأمون بالخلافة وساروا عنها وقال له بعض أصحابه: إن جندك قد هابوا هذا الجيش فلوأخرت القتال إلى أن يشامهم أصحابك ويأنسوا بهم ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم قال: إني لا أوتي من قلة تجربة وحزم إن أصحابي قليل والقوم عظيم سوادهم كثر عددهم فإن أخرت القتال اطلعوا على قلتنا واستمالوا من معي برهبة أورغبة فيخذلني أهل الصبر والحفاظ ولكن ألف الرجال بالرجال وأقحم الخيل على الخيل وأعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر صبر محتسب للخير حريص على الفوز بالشهادة فإن نصرنا الله فذلك الذي نريده ونرجوه وإن يكن الأخرى فلست بأول من قاتل وقتل وما عند الله أجزل وأفضل. وقال علي لأصحابه: بادروهم فإنهم قليلون ولووجدوا حرارة السيوف وطعن الرماح لم يصبروا عليها. وعبى جنده ميمنة وميسرة وقلبا وعبى عشر رايات مع كل راية مائة رجل وقدمها راية راية وجعل بين كل رايتين غلوة سهم وأرم أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى وطال قتالهم أن تتقدم التي تليها وتتأخر حتى تستريح وجعل أصحاب الجواشن أيام الريات ووقف في شجعان أصحابه. وعبى طاهر أصحابه كراديس وسار بهم يحرضهم ويوصيهم ويرجيهم وهرب من اصحاب طاهر نفر إلى علي فجلد بعضهم وأهان الباقي فكان ذلك مما ألب الباقين على قتاله وزحف الناس بعضهم إلى بعض فقال أحمد بن هشام لطاهر: ألا تذكرعلي بن عيسى البيعة التي أخذها هوعلينا للمأمون خاصة معاشر أهل خراسان قال: أفعل فأخذ البيعة فعلقها على رمح وقام بين الصفين وطلب الأمان فأمنه علي بن عيسى فقال له: ألا تتقي الله عز وجل أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة اتق الله فقد بلغت باب قبرك! فقال علي: من أتاني به فله ألف درهم فشتمه أصحاب أحمد وخرج من أصحاب علي رجل يقال له حاتم الطائي فحمل عليه طاهر وأخذ السيف بيديه وضربه فصرعه فلذلك سمي طاهر ذا اليمينين. ووثب أهل الري فاغلقوا باب المدينة فقال طاهر لأصحابه: اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق ثم اقتتلوا قتالًا شديدا وجملت ميمنة علي على ميسرة طاهر فانهزمت هزيمة منكرة وميسرته على ميمنة طاهر فأزالتها أيضًا من موضعها فقال طاهر: اجعلوا جدكم وبأسكم على القلب واحملوا حملة خارجية فإنكم متى فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها إلى أواخرها فصبر أصحابه صبرًا صادقًا وحملوا على اول رايات القلب فهزموهم وأكثروا فيهم القتل ورجعت الريات بعضها على بعض فانتفضت ميمنة علي. ورأى ميمنة طاهر وميسرته ما فعل أصحابهم فرجعوا على من بإزائهم فهزموهم وانتهت الهزيمة إلى علي فجعل ينادي أصحابه: أين أصحاب الخواص والجوائز والأسورة والأكاليل إلى الكرة بعد الفرة! فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم. فقتله قيل كان داود سياه وحمل رأسه إلى طاهر وشدت يداه على رجليه وحمل على خشبة إلى طاهر فأمر به فألقي في بئر فأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرًا لله تعالى وتمت الهزيمة ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف وتبعوهم فرسخين واقعوهم فيها اثنتي عشرة مرة في كل ذلك ينهزم عسكر الأمين وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال الليل بينهم وغمنوا غنيمة عظيمة. ونادى طاهر: من ألقى سلاحه فهوآمن. وطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم ورجع طاهر إلى الري وكتب إلى المأمون وذي الرياستين: بسم اله الرحمن الرحيم كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس علي بن عيسى بين يدي وخاتمه في إصبعي وجنده مصرفون تحت أمري والسلام فورد الكتاب مع البريد في ثلاث أيام وبينهما نحومن خمسين ومائتي فرسخ فدخل ذوالرياستين على المأمون فهنأه بالفتح وأمر الناس فدخلوا عليه فسلموا عليه بالخلافة ثم وصل رأس علي بعد الكتاب بيومين فطيف به في خراسان.ولما وصل الكتاب بالفتح كان المأمون قد جهز هرثمة في جيش كثير ليسيره نجدة لطاهر فأتاه الخبر بالفتح. وأما الأمين فإنه أتاه نعي علي بن عيسى وهويصطاد السمك فقال للذي أخبره: ويلك دعني فإن كوثرًا قد اصطاد سمكتين وأنا ما صدت شيئًا بعد. ثم بعث الفضل إلى نوفل الخادم وهووكيل المأمون على ملكه بالسواد والناظر في أمر أولاده ببغداد وكان للمأمون معه ألف ألف درهم كان قد وصله بها الرشيد فأخذ جميع ما عنده وقبض ضياعة وغلاته فقال بعض شعراء بغداد في ذلك: أضاع الخلافة غش الوزير وفسق الأمير وجهل المشير ففضل وزير وبكر مشير يريدان ما فيه حتف الأمير وما ذاك إلا طريق غرور وشر المستلك طرق الغرور في عدة أبيات تركتها لما فيها من القذف الفاحش ولقد عجبت لأبي جعفر حيث ذكرها مع ورعه وندم الأمين على نكثه وغدره ومشى القواد بعضهم إلى بعض في النصف من شوال فاتفقوا على طلب الأرزاق والشغب ففعلوا ذلك ففرق فيهم مالًا كثيرا بعد أن قاتلهم عبد الله بن خازم فمنعه الأمين.
لما اتصل بالأمين قتل علي بن عيسى وهزيمة عسكره وجه عبد الرحمن بن جبلة الأنباري في عشرين ألف رجل نحو همذان واستعمله عليها وعلى كل من يفتحه في أرض خراسان وأمره بالجد وأمده بالأموال فسار حتى نزل همذان وحصنها وروم سورها. وأتاه طاهر إلى همذان فخرج إليه عبد الرحمن على تعبئة فاقتتلوا قتالًا شديدا وصبر الفريقان وكثر القتل والجراح فيهم ثم انهزم عبد الرحمن ودخل همذان فأقام بها أياما حتى قوي أصحابه واندمل جراحهم ثم خرج إلى طاهر فلما رآهم قال لأصحابه: إن عبد الرحمن يريد أن يتراءى لكم فإذا قربتم منه قاتلكم فإن هزمتموه ودخل المدينة قاتلكم على خندقها وإن هزمكم الستع له المجال ولكن قفوا قريبًا من عسكرنا وخندقنا فإن قرب منا قاتلناه. فوقفوا فظن عبد الرحمن أن الهيبة منعتهم فتقدم إليهم فاقتتلوا قتالًا شديدا وصبر الفريقان وكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن وجعل يطوف عليهم ويحرضهم ويأمرهم بالصبر ثم إن رجلًا من أصحاب طاهر حمل على صاحب علم عبد الرحمن فقتله وزحمهم أصحاب طاهر فانهزموا ووضع فيهم أصحاب طاهر السيوف يقتلونهم حتى انتهوا إلى المدينة وأقام طاهر على بابها محاصرًا لها فاشتد بهم الحصار وضجر أهل المدينة فخاف عبد الرحمن أن يثب به أهل المدينة مع ما فيه من أصحابه من الجهد فأرسل إلى طاهر يطلب الأمان لنفسه ولمن معه فأمنه فخرج عن همذان.
لما نزل طاهر بباب همذان وحصر عبد الرحمن بهأن تخوف أن يأتيه كثير بن قادرة من ورائه وكان بقزوين فأمر أصحابه بالقيام وسار في ألف فارس نحوقزوين فلما سمع به كثير بن قادرة وكان في جيش كثيف هرب من بين يديه وأخلى قزوين وجعل طاهر فيها جندا واستعمل عليها رجلًا من أصحابه وأمره أن يمنع من أراد دخولها واستولى على سائر أعمال الجبل معها.
في هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأنباري وكان سبب قتله أنه لما خرج في أمان طاهر أقام يري طاهرًا وأصحابه أنه مسالم لهم راض بأمانهم ثم اغترهم وهم آمنون فركب في أصحابه وهجم على طاهر وأصحابه ولم يشعروا فثبت له رجالة طاهر وقاتلوه حتى أخذت الفرسان أهبتها أشد قتال رآه الناس حتى تقطعت السيوف وتكسرت الرماح وانهزم عبد الرحمن وبقي في نفر من أصحابه فقاتل وأصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب! فقال: لا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزمًا أبدًا! ولم يزل يقاتل حتى قتل. وانتهى من انهزم من أصحابه إلى عبد الله وأحمد ابني الحرشي وكانا في جيش عظيم بقصر اللصوص قد سيره الأمين معونة لعبد الرحمن فلما بلغ المنهزمون إليهما انهزما أيضًا في جندهما من غير قتال حتى دخلوا بغداد وخلت البلاد لطاهر فأقبل يحوزها بلدة بلدة وكورة كورة حتى انتهى إلى شلاشان من قرى خلوان فخندق بها وحصن عسكره وجمع أصحابه.
في هذه السنة خرج السفياني وهوعلي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية وأمه نفيسة بنت عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب وكان يقول: أنا من شيخي صفين يعني عليًا ومعاوية وكان يلقب بأبي المعيطر لأنه قال يومًا لجلسائه: أي شيء كنية الحرذون قالوا: لا ندري. قال: هوأبوالمعيطر فلقبوه به. ولما خرج دعا لنفسه بالخلافة في ذي الحجة وقوي على سليمان بن المنصور عامل دمشق فأخرجه عنها وأعانه الخطاب بن وجه الفلس مولى بني أمية وكان قد تغلب على صيدا ولما خرج سير إليه الأمين الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان فبلغ الرقة ولم يسر إلى دمشق. وكان عمر أبي المعيطر حين خرج تسعين سنة وكان الناس قد أخذوا عنه علمًا كثيرا وكان حسن السيرة فلما خرج ظلم وأساء السيرة فتركوا ما نقلوا عنه. وكان أكبر أصحابه من كلب وكتب إلى محمد بن صالح بن بيهس الكلابي يدعوه إلى طاعته ويتهدده إن لم يفعل فلم يجبه إلى ذلك فأقبل السفياني على قصد القيسية فكتبوا إلى محمد بن صالح فأقبل إليهم في ثلاثمائة فارس من الضباب ومواليه واتصل الخبر بالسفياني فوجه إليه يزيد بن هشام في اثني عشر ألفا فالتقوأن فانهزم يزيد ومن معه وقتل منهم إلى أن دخلوا أبواب دمشق زيادة على ألفي رجل وأسر ثلاثة آلاف فأطلقهم ابن بيهس وحلق رؤوسهم ولحاهم. وضعف السفياني وحصر بدمشق ثم جمع جمعا وجعل ابنه القاسم وخرجوا إلى ابن بيهس فالتقوا فقتل القاسم وانهزم أصحاب السفياني وبعث رأسه إلى الأمين ثم جمع جمعًا آخر وسيرهم مع مولاه المعتمر فلقيهم ابن بيهس فقتل المعتمر وانهزم اصحابه فوهن أمر أبي المعتمر وطمع فيه قيس. ثم مرض ابن بيهس فجمع رؤساء بني منير فقال لهم: ترون ما أصابني من علتي هذه فارفقوا ببني مروان وعليكم بمسلمة بن يعقوب بن علي بن محمد بن سعيد بن مسلمة بن عبد الملك فإنه ركيك وهوابن أختكم وأعلموه أنكم لا تتبعون بني أبي سفيان وبايعوه بالخلافة وكيدوا به السفياني. وعاد ابن بيهس إلى حوران واجتمعت منير على مسلمة وبذلوا له البيعة فقبل منهم وجمع مواليه ودخل على السفياني فقبض عليه وقيده وقبض على رؤساء بني أمية فبايعوه وأدنى قيسا وجعلهم خاصته فلما عوفي ابن بيهس عاد إلى دمشق فحصرها فسلمها إليه القيسية وهرب مسلمة والسفياني في ثياب النساء إلى المزة وكان ذلك في المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة ودخل ابن بيهس دمشق وغلب عليها وبقي بها إلى أنه قدم عبد الله بن طاهر دمشق ودخل إلى مصر وعاد إلى دمشق فأخذ ابن بيهس معه إلى العراق فمات بها.
وكان العامل على مكة والمدينة لمحمد الأمين داود بن عيسى بن موسى وهوالذي حج بالناس سنة ثلاث وتسعين أيضًا وكان على الكوفة العباس بن الهادي للأمين وعلى البصرة له أيضًا منصور بن المهدي. وفيها مات محمد بن خازم أبومعاوية الضرير وكان يتشيع وهوثقة في الحديث. وفيها توفي أبونواس الحسن بن هانئ الشاعر المشهور وكان عمره تسعًا وخمسين سنة ودفن بالشونيزي ببغداد ومحمد بن فضل بن غزوان بن جرير الضبي مولاهم ويوسف بن أسباط أبو يعقوب.
في هذه السنة سير الأمين أسد بن يزيد بن مزيد وسير معه عمه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر. وكان سبب ذلك ما ذكره أسد قال: إنه لما قتل عبد الرحمن أرسل إلي الفضل بن الربيع يستدعيني فجئته ودخلت عليه وهوقاعد بيده رقعة قد قرأها وقد احمرت عيناه فاشتد غضبه وهويقول: ينام نوم الظربان وينتبه انتباه الذئب همه بطنه يخاتل الرعاة والكلاب ترصده لا يفكر في زوال نعمة ولا يروي في إمضاء رأي قد ألهاه كأسه وشغله قدحه فهويجري في لهوه والأيام توضع في هلاكه قد شمر له عبد الله عن ساق وفوق له أصوب أسهمه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد وقد عبى له المنايا على ظهور الخيل وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف ثم استرجع وتمثل بشعر البعيث: ومجدولة جدل العنان خريدة لها شعر جعد ووجه مقسم وثغر نقي اللون عذب مذاقه يضيء له الظلماء ساعة تبسم وثديان كالحقين والبطن ضامر خميص وجهم ناره تتضرم لهوت بها ليل التمام ابن خالد أمية بهد المركلين عثمثم طواه طراد الخيل في كل غارة لها عارض فيه الأسنة ترزم يقارع تراك ابن خاقان ليله إلى أن يرى الإصباح ما يتلعثم فيصبح كم طول الطراد وجسمه نحيل وأضحي في النعيم أصمم أباكرها صهباء كالمسك ريحها لها أرج في دنها حين يرسم ثم التفت إلي فقال: أبا الحارث! أنا وإياك نجري إلى غارية إن قصرنا عنها ذممنا وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا وإمنا نحن شعب من أصل إن قوي قوينا وإن ضعف ضعفنا إن هذا الرجل قد ألقى بيده القاء الأموالوكعاء يشاور النساء ويعتزم على الرؤيا وقد أمكن ما معه من أهل اللهووالجسارة فهم يعدونه الظفر ويمنونه عقب الأيام والهلاك اسرع إليه من السيل إلى قيعان الوحل وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه ونعطب بعطبه وأنت فارس العرب وابن فارسها وقد فزع إليك في هذاالأمر ولقاء هذاالرجل وأطعمه فيما قبلك أمران: أحدهما صدق الطاعة وفضل النصيحة والثاني نقيبتك وشدة بأسك وقد أمرني بإزاحة علل ما عليك وبسط يدك فيما أحبت عنير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة فأنجز حوائجك وعجل المبادرة إلى عدوك فإني أرجو أن يوليك اله هذاالفتح ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة. فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين وطاعتك مقدم ولكل ما دخل فيه الوهن على عدوه وعدوك حريص غير أن المحارب لا يعمل بالغدر ولا يفتح أمره بالتقصير والخلل وإمنا ملاك المحارب الجنود وملاك الجنود المال والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة وتحمل معهم أرزاق سنة ويخص أهل الغناء والبلاء وأبدل من فيهم من الضعفى وأحمل ألف رجل من معي على الخيل ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. فقال: أشططت ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين. ثم ركب وركبت معه فدخل قبلي على الأمين وأذن لي فدخلت فما كان إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي. وقيل: إنه طلب أن يدفع ولدي المأمون فإن أطاعه وإلا قتلهما فقال الأمين: أنت أعرابي مجنون أدعوك إلى ولاية أعنة العرب والعجم وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان وأرفع منزلتك على نظرائك من أبناء القواد والملوك وتدعوني إلى قتل ولدي وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط. وكان ببغداد ابنان للمأمون مع أمهما أم عيسى ابنة الهادي وقد طلبهما المأمون من أخيه في حال السلام فمنعهما من المال الذي كان له فلما حبس أسدًا قال: هل في أهل بيته من يقوم مقامه فإني أكره أن أفسدهم مع نباهتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم. قالوا: نعم عمه أحمد بن مزيد وهوأحسنهم طريقة له بأس ونجدة وبصر بسياسة الحرب فأنفذ إليه أحضره فأتى الفضل فدخل عليه وعنده عبد الله بن حميد بن قحطبة وهويريده على المسير إلى طاهر وعبد الله يشط. قال أحمد: فلما رآني الفضل رحب بي ورفعني إلى إنا وجدنا لكم إذ رث حبلكم من آل شيبان أمًا دونكم وأبا الأكثرون إذا عد الحصى عددًا والأقربون إلينا منكم نسبا فقال عبد الله: أقسم لكذلك وفيهم سد الخلل ونكء العدو ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة. فقال له الفضل: إن أمير المؤمنين أجرى ذكرك فوصفتك له فأحب اصطناعك والتنويه باسمك وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك.ثم مضى ومضيت معه إلى الأمين فدخلنا عليه فقال لي في حبس أسد واعتذر إلي وأمرني بالمسير إلى حرب طاهر فقلت: سأبذل في طاعة أمير المؤمنين مهجتي وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي ورجاه من غنائي وكفايتي إن شاء الله تعالى. فأمر الفضل بأن يمكنه من العساكر بأخذ منهم من أراد وأمره بالجد في المسير والتجهز فأخذ من العسكر عشرين ألف فارس وسار معه عبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفًا وسار بهم إلى حلوان وشفع في أسد ابن أخيه فأطلقه وأقام أحمد وعبد الله بخانقين وأقام طاهر بموضعه ودس الجواسيس والعيون وكانوا يرجفون في عسكر أحمد وعبد الله أن الأمين قد وضع العطاء لأصحابه وأمر لهم بالأرزاق الوافرة ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف بينهم حتى اختلفوا وانتقض أمرهم وقاتل بعضهم بعضا ورجعوا عن خانقين من غير أن يلقوا طاهرا وتقدم طاهر فنزل حلوان فلما نزلها لم يلبث إلا يسيرًا حتى أتاه هرثمة في جيش من عند المأمون ومعه كتاب طاهر يأمره بتسليم ما حوى من المدن والكور إلى هرثمة ويتوجه هوإلى الأهواز ففعل ذلك وأقام هرثمة بحلوان وحصنه وسار طاهر إلى الأهواز.
|