الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***
وَأَمَّا أَفْعَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّنْيَوِيَّةُ فَحُكْمُهُ فِيهَا مِنْ تَوَقِّي الْمَعَاصِي وَالْمَكْرُوهَاتِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَمِنْ جَوَازِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ فِي بَعْضِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَكُلُّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي النُّبُوَّةِ، بَلْ إِنَّ هَذَا فِيهَا عَلَى النُّدُورِ، إِذْ عَامَّةُ أَفْعَالِهِ عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ، بَلْ أَكْثَرُهَا أَوْ كُلُّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْعِبَادَاتِ، وَالْقُرَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إِذْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا لِنَفْسِهِ إِلَّا ضَرُورَتَهُ، وَمَا يُقِيمُ رَمَقَ جِسْمِهِ، وَفِيهِ مَصْلَحَةُ ذَاتِهِ الَّتِي بِهَا يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيُقِيمُ شَرِيعَتَهُ، وَيَسُوسُ أُمَّتَهُ، وَمَا كَانَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ فَبَيْنَ مَعْرُوفٍ يَصْنَعُهُ، أَوْ بِرٍّ يُوَسِّعُهُ، أَوْ كَلَامٍ حَسَنٍ يَقُولُهُ أَوْ يُسْمِعُهُ، أَوْ تَأَلُّفِ شَارِدٍ، أَوْ قَهْرِ مُعَانِدٍ، أَوْ مُدَارَاةِ حَاسِدٍ، وَكُلُّ هَذَا لَاحِقٌ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِ، مُنْتَظِمٌ فِي زَاكِي وَظَائِفِ عِبَادَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ يُخَالِفُ فِي أَفْعَالِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَيُعِدُّ لِلْأُمُورِ أَشْبَاهَهَا، فَيَرْكَبُ فِي تَصَرُّفِهِ لِمَا قَرُبَ الْحِمَارَ، وَفِي أَسْفَارِهِ الرَّاحِلَةَ، وَيَرْكَبُ الْبَغْلَةَ فِي مَعَارِكَ الْحَرْبِ دَلِيلًا عَلَى الثَّبَاتِ، وَيَرْكَبُ الْخَيْلَ، وَيُعِدُّهَا لِيَوْمِ الْفَزَعِ، وَإِجَابَةِ الصَّارِخِ. وَكَذَلِكَ فِي لِبَاسِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ مَصَالِحِهِ، وَمَصَالِحِ أُمَّتِهِ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْفِعْلَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مُسَاعَدَةً لِأُمَّتِهِ، وَسِيَاسَةً وَكَرَاهِيَةً لِخِلَافِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَرَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ، كَمَا يَتْرُكُ الْفِعْلَ لِهَذَا، وَقَدْ يَرَى فِعْلَهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَقَدْ يَفْعَلُ هَذَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِمَّا لَهُ الْخِيَرَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ، كَخُرُوجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِأُحُدٍ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ التَّحَصُّنَ بِهَا، وَتَرْكِهِ قَتْلَ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ مُؤَالَفَةً لِغَيْرِهِمْ، وَرِعَايَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ، وَكَرَاهَةً لِأَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَتَرْكِهِ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ مُرَاعَاةً لِقُلُوبِ قُرَيْشٍ، وَتَعْظِيمِهِمْ لِتَغْيِيرِهَا، وَحَذَرًا مِنْ نِفَارِ قُلُوبِهِمْ لِذَلِكَ، وَتَحْرِيكِ مُتَقَدِّمِ عَدَاوَتِهِمْ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ، فَقَالَ لِعَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَأَتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ». وَيَفْعَلُ الْفِعْلَ ثُمَّ يَتْرُكُهُ، لِكَوْنِ غَيْرِهِ خَيْرًا مِنْهُ، كَانْتِقَالِهِ مِنْ أَدْنَى مِيَاهِ بِدْرٍ إِلَى أَقْرَبِهَا لِلْعَدُوِّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَقَوْلِهِ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتَ الْهَدْيَ». وَيَبْسُطُ وَجْهَهُ لِلْكَافِرِ وَالْعَدُوِّ؛ رَجَاءَ اسْتِئْلَافِهِ. وَيَصْبِرُ لِلْجَاهِلِ، وَيَقُولُ: «إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ». وَيَبْذُلُ لَهُ الرَّغَائِبَ لِيُحَبِّبَ إِلَيْهِ شَرِيعَتَهُ، وَدِينَ رَبِّهِ. وَيَتَوَلَّى فِي مَنْزِلِهِ مَا يَتَوَلَّى الْخَادِمُ مِنْ مِهْنَتِهِ، وَيَتَسَمَّتُ فِي مُلَاءَتِهِ، حَتَّى لَا يَبْدُوَ شَيْءٌ مِنْ أَطْرَافِهِ، وَحَتَّى كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِ جُلَسَائِهِ الطَّيْرَ، وَيَتَحَدَّثُ مَعَ جُلَسَائِهِ بِحَدِيثِ أَوَّلِهِمْ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَيَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ، وَقَدْ وَسِعَ النَّاسَ بِشْرُهُ، وَعَدْلُهُ، لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ، وَلَا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ، وَلَا يُبْطِنُ عَلَى جُلَسَائِهِ، يَقُولُ: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ». فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِعَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي الدَّاخِلِ عَلَيْهِ: «بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ». فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، وَضَحِكَ مَعَهُ، فَلَمَّا سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ». وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ، وَيَقُولُ فِي ظَهْرِهِ مَا قَالَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْتِئْلَافًا لِمِثْلِهِ، وَتَطْيِيبًا لِنَفْسِهِ، لِيَتَمَكَّنَ إِيمَانُهُ وَيَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ بِسَبَبِهِ أَتْبَاعُهُ، وَيَرَاهُ مِثْلُهُ فَيَنْجَذِبَ بِذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَمِثْلُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ حَدِّ مُدَارَاةِ الدُّنْيَا إِلَى السِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ يَسْتَأْلِفُهُمْ بِأَمْوَالِ اللَّهِ الْعَرِيضَةِ فَكَيْفَ بِالْكَلِمَةِ اللَّيِّنَةِ؟. قَالَ صَفْوَانُ: لَقَدْ أَعْطَانِي، وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى صَارَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيَّ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ هُوَ غَيْرُ غِيبَةٍ، بَلْ هُوَ تَعْرِيفُ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لِيَحْذَرَ حَالَهُ، وَيُحْتَرَزَ مِنْهُ، وَلَا يُوثَقَ بِجَانِبِهِ كُلَّ الثِّقَةِ، وَلَا سِيَّمَا، وَكَانَ مُطَاعًا مَتْبُوعًا. وَمِثْلُ هَذَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ، وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ بِغِيبَةٍ، بَلْ كَانَ جَائِزًا، بَلْ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَعَادَةِ الْمُحَدِّثِينَ فِي تَجْرِيحِ الرُّوَاةِ، وَالْمُزَكِّينَ فِي الشُّهُودِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى الْمُعْضِلِ الْوَارِدِ فِي حَدِيثِ بِريرَةَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ، وَقَدْ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ مَوَالِيَ بَرِيرَةَ أَبَوْا بَيْعَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلَاءُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَرِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ». فَفَعَلَتْ، ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَهَا بِالشَّرْطِ لَهُمْ، وَعَلَيْهِ بَاعُوا، وَلَوْلَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمَا بَاعُوهَا مِنْ عَائِشَةَ، كَمَا لَمْ يَبِيعُوهَا قَبْلُ حَتَّى شَرَطُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَبْطَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَدْ حَرَّمَ الْغِشَّ، وَالْخَدِيعَةَ. فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَقَعُ فِي بَالِ الْجَاهِلِ مِنْ هَذَا وَلِتَنْزِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ مَا قَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ: قَوْلَهُ: «اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ»، إِذْ لَيْسَتْ فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَمَعَ ثَبَاتِهَا فَلَا اعْتِرَاضَ بِهَا، إِذْ يَقَعُ لَهُمْ بِمَعْنَى عَلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرَّعْدِ: 25]. وَقَالَ: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الْإِسْرَاءِ: 7]. فَعَلَى هَذَا اشْتَرِطِي عَلَيْهِمُ الْوَلَاءَ لَكِ، وَيَكُونُ قِيَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَعْظُهُ لِمَا سَلَفَ مِنْ شَرْطِ الْوَلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ، لَكِنْ عَلَى مَعْنَى التَّسْوِيَةِ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ شَرْطَهُ لَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ بَعْدَ بَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ قَبْلُ أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اشْتَرِطِي أَوْ لَا تَشْتَرِطِي، فَإِنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ نَافِعٍ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الدَّاوُدِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَتَوْبِيخُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، وَتَقْرِيعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِمْ بِهِ قَبْلَ هَذَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: «اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ»، أَيْ أَظْهِرِي لَهُمْ حُكْمَهُ، وَبَيِّنِي سُنَّتَهُ بِأَنَّ الْوَلَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَعْتَقَ. ثُمَّ بَعُدَ هَذَا قَامَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا ذَلِكَ، وَمُوَبِّخًا عَلَى مُخَالَفَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى فِعْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَخِيهِ، إِذْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِهِ، وَأَخَذَهُ بِاسْمِ سَرِقَتِهَا، وَمَا جَرَى عَلَى إِخْوَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يُوسُفَ: 70]، وَلَمْ يَسْرِقُوا. فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ يُوسُفَ كَانَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يُوسُفَ: 76] الْآيَةَ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ، كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ يُوسُفَ كَانَ أَعْلَمَ أَخَاهُ بِأَنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ، فَكَانَ مَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا مِنْ وَفْقِهِ، وَرَغْبَتِهِ، وَعَلَى يَقِينٍ مِنْ عُقْبَى الْخَيْرِ لَهُ بِهِ، وَإِزَاحَةِ السُّوءِ، وَالْمَضَرَّةِ عَنْهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يُوسُفَ: 70]، فَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ. فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ جَوَابٌ يَحِلُّ شُبَهَهُ. وَلَعَلَّ قَائِلَهُ إِنْ حُسِّنَ لَهُ التَّأْوِيلُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ظَنَّ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: قَالَ ذَلِكَ لِفِعْلِهِمْ قَبْلُ بِيُوسُفَ، وَبَيْعِهِمْ لَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ نُقَوِّلَ الْأَنْبِيَاءَ مَا لَمْ يَأْتِ أَنَّهُمْ قَالُوهُ، حَتَّى يُطْلَبَ الْخَلَاصُ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ الِاعْتِذَارُ عَنْ زَلَّاتِ غَيْرِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِجْرَاءِ الْأَمْرَاضِ، وَشِدَّتِهَا عَلَيْهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى جَمِيعِهِمُ السَّلَامُ؟ وَمَا الْوَجْهُ فِيمَا ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَامْتِحَانِهِمْ بِمَا امْتُحِنُوا بِهِ كَأَيُّوبَ، وَيَعْقُوبَ، وَدَانْيَالَ، وَيَحْيَى، وَزَكَرِيَّا، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، وَيُوسُفَ، وَغَيْرِهِمْ،- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-، وَهُمْ خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَصْفِيَاؤُهُ. فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا عَدْلٌ، وَكَلِمَاتِهِ جَمِيعَهَا صِدْقٌ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، يَبْتَلِي عِبَادَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وَ{عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ} [هُودٍ: 7]. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 140]. {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 142]. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31]. فَامْتِحَانُهُ إِيَّاهُمْ بِضُرُوبِ الْمِحَنِ زِيَادَةٌ فِي مَكَانَتِهِمْ، وَرِفْعَةٌ فِي دَرَجَاتِهِمْ، وَأَسْبَابٌ لِاسْتِخْرَاجِ حَالَاتِ الصَّبْرِ، وَالرِّضَى، وَالشُّكْرِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالتَّفْوِيضِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ مِنْهُمْ، وَتَأْكِيدٌ لِبَصَائِرِهِمْ فِي رَحْمَةِ الْمُمْتَحَنِينَ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْمُبْتَلِينَ، وَتَذْكِرَةٌ لِغَيْرِهِمْ، وَمَوْعِظَةٌ لِسِوَاهُمْ لِيَتَأَسَّوْا فِي الْبَلَاءِ بِهِمْ، وَيَتَسَلَّوْا فِي الْمِحَنِ بِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ، وَيَقْتَدُوا بِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَمَحْوٌ لِهِنَاتٍ فَرَطَتْ مِنْهُمْ، أَوْ غَفَلَاتٍ سَلَفَتْ لَهُمْ، لِيَلْقَوُا اللَّهَ طَيِّبِينَ مُهَذَّبِينَ، وَلِيَكُونَ أَجْرُهُمْ أَكْمَلَ، وَثَوَابُهُمْ أَوْفَرَ، وَأَجْزَلَ. [حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ]، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنٍ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 146] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ فِي نَفْسِهِ، وَوَلَدِهِ، وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. وَعَنْ أَنَسٍ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا ابْتَلَاهُ لِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ». وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ بَلَاؤُهُ أَشَدَّ كَيْ يَتَبَيَّنَ فَضْلُهُ، وَيَسْتَوْجِبَ الثَّوَابَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ لُقْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ، الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ يُخْتَبَرَانِ بِالنَّارِ، وَالْمُؤْمِنُ يُخْتَبَرُ بِالْبَلَاءِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ ابْتِلَاءَ يَعْقُوبَ بِيُوسُفَ كَانَ سَبَبُهُ الْتِفَاتَهُ فِي صَلَوَاتِهِ إِلَيْهِ، وَيُوسُفُ نَائِمٌ مَحَبَّةً لَهُ. وَقِيلَ: بَلِ اجْتَمَعَ يَوْمًا هُوَ وَابْنُهُ يُوسُفُ عَلَى أَكْلِ حَمَلٍ مَشْوِيٍّ، وَهُمَا يَضْحَكَانِ وَكَانَ لَهُمْ جَارٌ يَتِيمٌ، فَشَمَّ رِيحَهُ، وَاشْتَهَاهُ، وَبَكَى، وَبَكَتْ لَهُ جَدَّةٌ لَهُ عَجُوزٌ لِبُكَائِهِ، وَبَيْنَهُمَا جِدَارٌ، وَلَا عِلْمَ عِنْدَ يَعْقُوبَ، وَابْنِهِ، فَعُوقِبَ يَعْقُوبُ بِالْبُكَاءِ أَسَفًا عَلَى يُوسُفَ إِلَى أَنْ سَالَتْ حَدَقَتَاهُ، وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ. فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ كَانَ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى سَطْحِهِ: أَلَا مَنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَتَغَذَّ عِنْدَ آلِ يَعْقُوبَ. وَعُوقِبَ يُوسُفُ بِالْمِحْنَةِ الَّتِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّ سَبَبَ بَلَاءِ أَيُّوبَ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ أَهْلِ قَرْيَتِهِ عَلَى مَلِكِهِمْ فَكَلَّمُوهُ فِي ظُلْمِهِ، وَأَغْلَظُوا لَهُ إِلَّا أَيُّوبَ، فَإِنَّهُ رَفَقَ بِهِ مَخَافَةً عَلَى زَرْعِهِ، فَعَاقَبَهُ اللَّهُ بِبَلَائِهِ. وَمِحْنَةُ سُلَيْمَانَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نِيَّتِهِ فِي كَوْنِ الْحَقِّ فِي جَنْبَةِ أَصْهَارِهِ، أَوْ لِلْعَمَلِ بِالْمَعْصِيَةِ فِي دَارِهِ، وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُ. وَهَذِهِ فَائِدَةُ شِدَّةِ الْمَرَضِ وَالْوَجَعِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ، يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ. قُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: أَجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ». وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُطِيقُ أَضَعُ يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيُبْتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ، وَإِنْ كَانُوا لَيَفْرَحُونَ بِالْبَلَاءِ كَمَا تَفْرَحُونَ بِالرَّخَاءِ». وَعَنْ أَنَسٍ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ». وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النِّسَاءِ: 123]، إِنَّ الْمُسْلِمَ يُجْزَى بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا فَتَكُونُ لَهُ كَفَّارَةً. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ، وَأُبَيٍّ، وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ». وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا». وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَقِيلَ: وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ». وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يُحَتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ». وَحِكْمَةٌ أُخْرَى أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْأَمْرَاضِ لِأَجْسَامِهِمْ، وَتَعَاقُبِ الْأَوْجَاعِ، وَشِدَّتِهَا عِنْدَ مَمَاتِهِمْ، لِتَضْعُفَ قُوَى نُفُوسِهِمْ، فَيَسْهُلَ خُرُوجُهَا عِنْدَ قَبْضِهِمْ، وَتَخِفَّ عَلَيْهِمْ مَوْنَةُ النَّزْعِ، وَشِدَّةُ السَّكَرَاتِ بِتَقَدُّمِ الْمَرَضِ، وَضَعْفِ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ لِذَلِكَ. خِلَافُ مَوْتِ الْفُجْأَةِ، وَأَخْذِهِ، كَمَا يُشَاهَدُ مِنَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَوْتَى فِي الشِّدَّةِ، وَاللِّينِ، وَالصُّعُوبَةِ، وَالسُّهُولَةِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ خَامَةِ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ هَكَذَا وَهَكَذَا». وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ: «مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تَكْفِؤُهَا، فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكْفَأُ بِالْبَلَاءِ. وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهُ اللَّهُ». مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مُرَزَّءٌ مُصَابٌ بِالْبَلَاءِ وَالْأَمْرَاضِ، رَاضٍ بِتَصْرِيفِهِ بَيْنَ أَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى، مُنْطَاعٌ لِذَلِكَ، لَيِّنُ الْجَانِبِ بِرِضَاهُ، وَقِلَّةِ سَخَطِهِ، كَطَاعَةِ خَامَةِ الزَّرْعِ، وَانْقِيَادِهَا لِلرِّيَاحِ، وَتَمَايُلِهَا لِهُبُوبِهَا، وَتَرَنُّحِهَا مِنْ حَيْثُ مَا أَتَتْهَا، فَإِذَا أَزَاحَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِ رِيَاحَ الْبَلَايَا، وَاعْتَدَلَ صَحِيحًا كَمَا اعْتَدَلَتْ خَامَةُ الزَّرْعِ عِنْدَ سُكُونِ رِيَاحِ الْجَوِّ رَجَعَ إِلَى شُكْرِ رَبِّهِ وَمَعْرِفَةِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ بِرَفْعِ بَلَائِهِ، مُنْتَظِرًا رَحْمَتَهُ، وَثَوَابَهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ السَّبِيلِ لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِ مَرَضُ الْمَوْتِ، وَلَا نُزُولُهُ، وَلَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ سَكَرَاتُهُ وَنَزْعُهُ لِعَادَتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآلَامِ، وَمَعْرِفَةِ مَا لَهُ فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ، وَتَوْطِينِهِ نَفْسَهُ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَرِقَّتِهَا، وَضَعْفِهَا بِتَوَالِي الْمَرَضِ أَوْ شِدَّتِهِ، وَالْكَافِرُ بِخِلَافِ هَذَا، مُعَافًى فِي غَالِبِ حَالِهِ، مُمَتَّعٌ بِصِحَّةِ جِسْمِهِ، كَالْأَرْزَةِ الصَّمَّاءِ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَهُ قَصَمَهُ لِحِينِهِ عَلَى غِرَّةٍ، وَأَخَذَهُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ لُطْفٍ وَلَا رِفْقٍ، فَكَانَ مَوْتُهُ أَشُدَّ عَلَيْهِ حَسْرَةً، وَمُقَاسَاةُ نَزْعِهِ مَعَ قُوَّةِ نَفْسِهِ، وَصِحَّةِ جِسْمِهِ أَشَدَّ أَلَمًا وَعَذَابًا، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ، كَانْجِعَافِ الْأَرْزَةِ. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 95]. وَكَذَلِكَ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَعْدَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 40] الْآيَةَ. فَفَجَأَ جَمِيعَهُمْ بِالْمَوْتِ عَلَى حَالِ عُتُوٍّ وَغَفْلَةٍ، وَصَبَّحَهُمْ بِهِ عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ بَغْتَةً، وَلِهَذَا ذُكِرَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَوْتَ الْفُجْأَةِ. وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَخْذَةً كَأَخْذَةِ الْأَسَفِ: أَيِ الْغَضَبِ، يُرِيدُ مَوْتَ الْفُجْأَةِ. وَحِكْمَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّ الْأَمْرَاضَ نَذِيرُ الْمَمَاتِ، وَبِقَدْرِ شِدَّتِهَا شِدَّةُ الْخَوْفِ مِنْ نُزُولِ الْمَوْتِ، فَيَسْتَعِدُّ مَنْ أَصَابَتْهُ، وَعَلِمَ تَعَاهُدَهَا لَهُ، لِلِقَاءِ رَبِّهِ، وَيُعْرِضُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا الْكَثِيرَةِ الْأَنْكَادِ، وَيَكُونُ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا بِالْمَعَادِ، فَيَتَنَصَّلُ مِنْ كُلِّ مَا يَخْشَى تِبَاعَتَهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَقِبَلِ الْعِبَادِ، وَيُؤَدِّي الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، وَيَنْظُرُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ وَصِيَّةٍ فِيمَنْ يَخْلُفُهُ أَوْ أَمْرٍ يَعْهَدُهُ. وَهَذَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَدْ طَلَبَ التَّنَصُّلَ فِي مَرَضِهِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ أَوْ حَقٌّ فِي بَدَنٍ، وَأَقَادَ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، وَأَمْكَنَ مِنَ الْقِصَاصِ مِنْهُ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْفَضْلِ، وَحَدِيثِ الْوَفَاةِ، وَأَوْصَى بِالثَّقَلَيْنِ بَعْدَهُ: كِتَابِ اللَّهِ، وَعِتْرَتِهِ، وَبِالْأَنْصَارِ عَيْبَتِهِ، وَدَعَا إِلَى كَتْبِ كِتَابٍ لِئَلَّا تَضِلَّ أُمَّتُهُ بَعْدَهُ، إِمَّا فِي النَّصِّ عَلَى الْخِلَافَةِ، أَوِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. ثُمَّ رَأَى الْإِمْسَاكَ عَنْهُ أَفْضَلَ وَخَيْرًا. وَهَكَذَا سِيرَةُ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ. وَهَذَا كُلُّهُ يُحْرَمُهُ غَالِبًا الْكُفَّارُ، لِإِمْلَاءِ اللَّهِ لَهُمْ، لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، وَلِيَسْتَدْرِجَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 49- 50]. وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجُلٍ مَاتَ فُجْأَةً: «سُبْحَانَ اللَّهِ! كَأَنَّهُ عَلَى غَضَبٍ، الْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ وَصِيَّتُهُ». وَقَالَ: «مَوْتُ الْفُجْأَةِ رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي الْمُؤْمِنَ وَهُوَ غَالِبًا مُسْتَعِدٌّ لَهُ مُنْتَظِرٌ لِحُلُولِهِ، فَهَانَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ كَيْفَمَا جَاءَ، وَأَفْضَى إِلَى رَاحَتِهِ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ». وَتَأْتِي الْكَافِرَ وَالْفَاجِرَ مَنِيَّتُهُ عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ وَلَا أُهْبَةٍ وَلَا مُقَدِّمَاتٍ مُنْذِرَةٍ مُزْعِجَةٍ، {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 40] فَكَانَ الْمَوْتُ أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ. وَفِرَاقُ الدُّنْيَا أَفْظَعَ أَمْرٍ صَدَمَهُ، وَأَكْرَهَ شَيْءٍ لَهُ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ».
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ-: قَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَا يَجِبُ مِنَ الْحُقُوقِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مِنْ بِرٍّ وَتَوْقِيرٍ وَتَعْظِيمٍ وَإِكْرَامٍ، وَبِحَسَبِ هَذَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَذَاهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَتْلِ مُتَنَقِّصِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَابِّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الْأَحْزَابِ: 57]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 61]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: } وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 53]. وَقَالَ تَعَالَى: فِي تَحْرِيمِ التَّعْرِيضِ بِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [الْبَقَرَةِ: 104] الْآيَةَ.. وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: رَاعِنَا يَا مُحَمَّدُ، أَيْ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، وَاسْمَعْ مِنَّا، وَيُعَرِّضُونَ بِالْكَلِمَةِ، يُرِيدُونَ الرُّعُونَةَ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَقَطَعَ الذَّرِيعَةَ بِنَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهَا، لِئَلَّا يَتَوَصَّلَ بِهَا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ إِلَى سَبِّهِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ. وَقِيلَ: بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ مُشَارَكَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهَا عِنْدَ الْيَهُودِ بِمَعْنَى اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ. وَقِيلَ: بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ، وَعَدَمِ تَوْقِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْظِيمِهِ، لِأَنَّهَا فِي لُغَةِ الْأَنْصَارِ بِمَعْنَى ارْعُنَا نَرْعَكَ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، إِذْ مُضَمَّنُهُ أَنَّهُمْ لَا يَرْعَوْنَهُ إِلَّا بِرِعَايَتِهِ لَهُمْ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاجِبُ الرِّعَايَةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنِ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ، فَقَالَ: «تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنُّوا بِكُنْيَتِي» صِيَانَةً لِنَفْسِهِ، وَحِمَايَةً عَنْ أَذَاهُ، إِذْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَجَابَ لِرَجُلٍ نَادَى: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ: لَمْ أَعْنِكَ، إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، فَنَهَى حِينَئِذٍ عَنِ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ غَيْرِهِ لِمَنْ لَمْ يَدْعُهُ، وَيَجِدُ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُسْتَهْزِئُونَ ذَرِيعَةً إِلَى أَذَاهُ وَالْإِزْرَاءِ بِهِ فَيُنَادُونَهُ، فَإِذَا الْتَفَتَ قَالُوا: إِنَّمَا أَرَدْنَا هَذَا لِسِوَاهُ تَعْنِيتًا لَهُ وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ عَلَى عَادَةِ الْمُجَّانِ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ، فَحَمَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَى أَذَاهُ بِكُلِّ وَجْهٍ، فَحَمَلَ مُحَقِّقُو الْعُلَمَاءِ نَهْيَهُ عَنْ هَذَا عَلَى مُدَّةِ حَيَّاتِهِ، وَأَجَازُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِارْتِفَاعِ الْعِلَّةِ. وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَذَاهِبُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. أَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، وَعَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْهَ عَنِ اسْمِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ اللَّهُ مَنَعَ مِنْ نِدَائِهِ بِهِ بِقَوْلِهِ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النُّورِ: 63]، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَبِنَبِيِّ اللَّهِ، وَقَدْ يَدْعُونَهُ بِكُنْيَتِهِ أَبَا الْقَاسِمِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّسَمِّي بِاسْمِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يُوَقَّرْ، فَقَالَ: «تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ». وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ: لَا يُسَمَّى أَحَدٌ بِاسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ . وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَرَجُلٌ يَسُبُّهُ، وَيَقُولُ لَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَصَنَعَ. فَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ: لَا أَرَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبُّ بِكَ، وَاللَّهِ لَا تُدْعَى مُحَمَّدًا مَا دُمْتَ حَيًّا، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَأَرَادَ أَنْ يَمْنَعَ لِهَذَا أَنْ يُسَمَّى أَحَدٌ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِكْرَامًا لَهُمْ بِذَلِكَ، وَغَيَّرَ أَسْمَاءَهُمْ وَقَالَ: لَا تُسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ أَمْسَكَ. وَالصَّوَابُ جَوَازُ هَذَا كُلِّهِ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَلِيلِ إِطْبَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ سَمَّى جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وَكَنَّاهُ بِأَبِي الْقَاسِمِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لِعَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ اسْمُ الْمَهْدِيِّ، وَكُنْيَتُهُ. وَقَدْ سَمَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَغَيْرَ وَاحِدٍ، وَقَالَ: «مَا ضَرَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ مُحَمَّدٌ، وَمُحَمَّدَانِ وَثَلَاثَةٌ». وَقَدْ فَصَّلْتُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى بَابَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَابَهُ، أَوْ أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِهِ أَوْ دِينِهِ، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ، أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ لَهُ، أَوِ الْإِزْرَاءِ عَلَيْهِ، أَوِ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ، وَالْعَيْبِ لَهُ، فَهُوَ سَابٌّ لَهُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ السَّابِّ، يُقْتَلُ كَمَا نُبَيِّنُهُ، وَلَا نَسْتَثْنِي فَصْلًا مِنْ فُصُولِ هَذَا الْبَابِ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ، وَلَا نَمْتَرِي فِيهِ تَصْرِيحًا كَانَ أَوْ تَلْوِيحًا. وَكَذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، أَوْ تَمَنَّى مَضَرَّةً لَهُ، أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ، أَوْ عَبَثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَجْرٍ وَمُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٍ، أَوْ عَيَّرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنَ الْبَلَاءِ، وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ، أَوْ غَمَصَهُ بِبَعْضِ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ، وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ. وَهَذَا كُلُّهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِلَى هَلُمَّ جَرَّا. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتُلُ، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَاللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ : وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ. وَبِمِثْلِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمُسْلِمِينَ ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ رِدَّةٌ. رَوَى مِثْلَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ . وَحَكَى الطَّبَرِيُّ مِثْلَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابِهِ فِيمَنْ تَنَقَّصَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بَرِئَ مِنْهُ أَوْ كَذَّبَهُ. وَقَالَ سُحْنُونٌ فِيمَنْ سَبَّهُ: ذَلِكَ رِدَّةٌ كَالزَّنْدَقَةِ. وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي اسْتِتَابَتِهِ، وَتَكْفِيرِهِ، وَهَلْ قَتْلُهُ حَدٌّ أَوْ كُفْرٌ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي اسْتِبَاحَةِ دَمِهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَسَلَفِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى قَتْلِهِ، وَتَكْفِيرِهِ، وَأَشَارَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ إِلَى الْخِلَافِ فِي تَكْفِيرِ الْمُسْتَخِفِّ بِهِ. وَالْمَعْرُوفُ مَا قَدَّمْنَاهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ شَاتِمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَنَقِّصَ لَهُ كَافِرٌ. وَالْوَعِيدُ جَارٍ عَلَيْهِ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَحُكْمُهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ الْقَتْلُ، وَمَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ، وَعَذَابِهِ كَفَرَ. وَاحْتَجَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ الْفَقِيهُ فِي مِثْلِ هَذَا بِقَتْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ لِقَوْلِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبُكُمْ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ سُحْنُونٍ ، وَالْمَبْسُوطِ ، وَالْعُتْبِيَّةِ ، وَحَكَاهُ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ : مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُتِلَ، وَلَمْ يُسْتَتَبْ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: مَنْ سَبَّهُ أَوْ شَتَمَهُ أَوْ عَابَهُ أَوْ تَنَقَّصَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَحُكْمُهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ الْقَتْلُ كَالزِّنْدِيقِ. وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى تَوْقِيرَهُ، وَبِرَّهُ. وَفِي الْمَبْسُوطِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ كِنَانَةَ: مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُتِلَ أَوْ صُلِبَ حَيًّا، وَلَمْ يُسْتَتَبْ، وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي صَلْبِهِ حَيًّا أَوْ قَتْلِهِ. وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْمُصْعَبِ، وَابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ: سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ شَتَمَهُ، أَوْ عَابَهُ، أَوْ تَنَقَّصَهُ قُتِلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَلَا يُسْتَتَابُ. وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: أَخْبَرَنَا أَصْحَابُ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ قُتِلَ، وَلَمْ يُسْتَتَبْ. وَقَالَ أَصْبَغ ُ : يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَسَرَّ ذَلِكَ أَوْ أَظْهَرَهُ، وَلَا يُسْتَتَابُ، لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ : مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ قُتِلَ، وَلَمْ يُسْتَتَبْ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ مِثْلَهُ عَنْ أَشْهَبَ ، عَنْ مَالِكٍ . وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ : مَنْ قَالَ: إِنَّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُرْوَى زِرَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسِخٌ، أَرَادَ عَيْبَهُ قُتِلَ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا عَلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَيْلِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَكْرُوهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ. وَأَفْتَى أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِيمَنْ قَالَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمَّالُ يَتِيمُ أَبِي طَالِبٍ بِالْقَتْلِ. وَأَفْتَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ بِقَتْلِ رَجُلٍ سَمِعَ قَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ وَاللِّحْيَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: تُرِيدُونَ تَعْرِفُونَ صِفَتَهُ، هِيَ فِي صِفَةِ هَذَا الْمَارِّ فِي خَلْقِهِ وَلِحْيَتِهِ. قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. وَقَدْ كَذَبَ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ مِنْ قَلْبٍ سَلِيمِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ صَاحِبُ سُحْنُونٍ : مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَسْوَدَ يُقْتَلُ. وَقَالَ فِي رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: لَا وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ فَعَلَ اللَّهُ بِرَسُولِ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَ كَلَامًا قَبِيحًا، فَقِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ أَشَدَّ مِنْ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ الْعَقْرَبَ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ لِلَّذِي سَأَلَهُ: اشْهَدْ عَلَيْهِ، وَأَنَا شَرِيكُكَ يُرِيدُ فِي قَتْلِهِ، وَثَوَابِ ذَلِكَ. قَالَ حَبِيبُ بْنُ الرَّبِيعِ : لِأَنَّ ادِّعَاءَ التَّأْوِيلِ فِي لَفْظٍ صُرَاحٍ لَا يُقْبَلُ، لِأَنَّهُ امْتِهَانٌ وَهُوَ غَيْرُ مُعَزِّرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مُوَقِّرٍ لَهُ، فَوَجَبَ إِبَاحَةُ دَمِهِ. وَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ فِي عَشَّارٍ، قَالَ لِرَجُلٍ: أَدِّ، وَاشْكُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنْ سَأَلْتُ أَوْ جَهِلْتُ فَقَدْ جَهِلَ، وَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَتْلِ. وَأَفْتَى فُقَهَاءُ الْأَنْدَلُسِ بِقَتْلِ ابْنِ حَاتِمٍ الْمُتَفَقِّهِ الطُّلَيْطِلِيِّ، وَصَلْبِهِ بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ مِنَ اسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ أَثْنَاءَ مُنَاظَرَتِهِ بِالْيَتِيمِ، وَخَتَنِ حَيْدَرَةَ، وَزَعْمِهِ أَنَّ زُهْدَهُ لَمْ يَكُنْ قَصْدًا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الطَّيِّبَاتِ أَكَلَهَا، إِلَى أَشْبَاهٍ لِهَذَا. وَأَفْتَى فُقَهَاءُ الْقَيْرَوَانِ وَأَصْحَابُ سُحْنُونٍ بِقَتْلِ إِبْرَاهِيمَ الْفَزَارِيِّ، وَكَانَ شَاعِرًا مُتَفَنِّنًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْقَاضِي أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ طَالِبٍ لِلْمُنَاظَرَةِ، فَرُفِعَتْ عَلَيْهِ أُمُورٌ مُنْكَرَةٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِاللَّهِ، وَأَنْبِيَائِهِ، وَنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْضَرَ لَهُ الْقَاضِي يَحْيَى بْنَ عُمَرَ ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَصَلْبِهِ، فَطُعِنَ بِالسِّكِّينِ، وَصُلِبَ مُنَكَّسًا، ثُمَّ أُنْزِلَ، وَأُحْرِقَ بِالنَّارِ. وَحَكَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّهُ لَمَّا رُفِعَتْ خَشَبَتُهُ، وَزَالَتْ عَنْهَا الْأَيْدِي اسْتَدَارَتْ، وَحَوَّلَتْهُ عَنِ الْقِبْلَةِ، فَكَانَ آيَةً لِلْجَمِيعِ، وَكَبَّرَ النَّاسُ، وَجَاءَ كَلْبٌ فَوَلَغَ فِي دَمِهِ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ : صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ حَدِيثًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَلِغُ الْكَلْبُ فِي دَمِ مُسْلِمٍ». وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ : مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُزِمَ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ، لِأَنَّهُ تَنَقُّصٌ، إِذْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي خَاصَّتِهِ، إِذْ هُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَقِينٍ مِنْ عِصْمَتِهِ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ رَبِيعٍ الْقَرَوِيُّ : مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَصْحَابِهِ أَنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فِيهِ نَقْصٌ قُتِلَ دُونَ اسْتِتَابَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَتَّابٍ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُوجِبَانِ أَنَّ مَنْ قَصَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَذًى أَوْ نَقْصٍ، مُعَرِّضًا أَوْ مُصَرِّحًا، وَإِنْ قَلَّ فَقَتْلُهُ وَاجِبٌ، فَهَذَا الْبَابُ كُلُّهُ مِمَّا عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ سَبًّا أَوْ تَنَقُّصًا يَجِبُ قَتْلُ قَائِلِهِ، لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ مُتَقَدِّمُهُمْ وَلَا مُتَأَخِّرُهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَتْلِهِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ. وَكَذَلِكَ أَقُولُ حُكْمُ مَنْ غَمَصَهُ أَوْ عَيَّرَهُ بِرِعَايَةِ الْغَنَمِ أَوِ السَّهْوِ أَوِ النِّسْيَانِ أَوِ السِّحْرِ، أَوْ مَا أَصَابَهُ مِنْ جُرْحٍ أَوْ هَزِيمَةٍ لِبَعْضِ جُيُوشِهِ، أَوْ أَذًى مِنْ عَدُوِّهِ، أَوْ شِدَّةٍ مِنْ زَمَنِهِ، أَوْ بِالْمَيْلِ إِلَى نِسَائِهِ، فَحُكْمُ هَذَا كُلِّهِ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ نَقْصَهُ الْقَتْلُ. وَقَدْ مَضَى مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
فَمِنَ الْقُرْآنِ لَعْنُهُ تَعَالَى لِمُؤْذِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقِرَانُهُ تَعَالَى أَذَاهُ بِأَذَاهُ، وَلَا خِلَافَ فِي قَتْلِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ، وَأَنَّ اللَّعْنَ إِنَّمَا يَسْتَوْجِبُهُ مَنْ هُوَ كَافِرٌ، وَحُكْمُ الْكَافِرِ الْقَتْلُ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الْأَحْزَابِ: 57] الْآيَةَ.. وَقَالَ فِي قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَمِنْ لَعْنَتِهِ فِي الدُّنْيَا الْقَتْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الْأَحْزَابِ: 61]. وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ، وَذَكَرَ عُقُوبَتَهُمْ {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [الْمَائِدَةِ: 33]. وَقَدْ يَقَعُ الْقَتْلُ بِمَعْنَى اللَّعْنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 10]. وَ{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 4]، أَيْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَلِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَذَاهُمَا، وَأَذَى الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي أَذَى الْمُؤْمِنِينَ مَا دُونُ الْقَتْلِ، مِنَ الضَّرْبِ، وَالنَّكَالِ، فَكَانَ حُكْمُ مُؤْذِي اللَّهِ وَنَبِيِّهِ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْقَتْلُ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النِّسَاءِ: 65] الْآيَةَ.. فَسَلَبَ اسْمَ الْإِيمَانِ عَمَّنْ وُجِدَ فِي صَدْرِهِ حَرَجًا مِنْ قَضَائِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ، وَمَنْ تَنَقَّصَهُ فَقَدْ نَاقَضَ هَذَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 2]. وَلَا يُحْبِطُ الْعَمَلَ إِلَّا الْكُفْرُ، وَالْكَافِرُ يُقْتَلُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [الْمُجَادَلَةِ: 8] ثُمَّ قَالَ: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الْمُجَادَلَةِ: 8]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التَّوْبَةِ: 61]. ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 61]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التَّوْبَةِ: 65]- إِلَى قَوْلِهِ-: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التَّوْبَةِ: 66]. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَفَرْتُمْ بِقَوْلِكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الْآثَارُ فَحَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ غَلْبُونَ، عَنِ الشَّيْخِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ إِجَازَةً، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو عُمَرَ بْنُ حَيَّوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَبَالَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فَاقْتُلُوهُ، وَمَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَاضْرِبُوهُ». وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. وَقَوْلِهِ: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ! فَإِنَّهُ يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ». وَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ غِيلَةً دُونَ دَعْوَةٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَّلَ قَتْلَهُ بِأَذَاهُ لَهُ، فَدَلَّ أَنَّ قَتْلَهُ إِيَّاهُ لِغَيْرِ الْإِشْرَاكِ، بَلْ لِلْأَذَى. وَكَذَلِكَ قَتَلَ أَبَا رَافِعٍ، قَالَ الْبَرَاءُ : وَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ، وَجَارِيَتَيْهِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِسَبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسُبُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي؟» فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا. فَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِقَتْلِ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَسُبُّهُ، كَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. وَعَهِدَ بِقَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَبَعْدَهُ، فَقُتِلُوا إِلَّا مَنْ بَادَرَ بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ نَادَى: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، مَا لِي أُقْتَلُ مِنْ بَيْنِكُمْ صَبْرًا! فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِكُفْرِكَ، وَافْتِرَائِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: «مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي؟» فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَبَارَزَهُ فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ. وَرَوَى أَيْضًا أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسُبُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَنْ يَكْفِينِي عَدُوَّتِي؟» فَخَرَجَ إِلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَتَلَهَا. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ عَلِيًّا، وَالزُّبَيْرَ إِلَيْهِ لِيَقْتُلَاهُ. وَرَوَى ابْنُ قَانِعٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِيكَ قَوْلًا قَبِيحًا فَقَتَلْتُهُ! فَلَمْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَلَغَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ أَمِيرَ الْيَمَنِ لِأَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ امْرَأَةً هُنَاكَ فِي الرِّدَّةِ غَنَّتْ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطَعَ يَدَهَا، وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهَا، فَبَلَغَ أَبَا بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: لَوْلَا مَا فَعَلْتَ لَأَمَرْتُكَ بِقَتْلِهَا، لِأَنَّ حَدَّ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ يُشْبِهُ الْحُدُودَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : هَجَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَطْمَةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَنْ لِي بِهَا؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهَا: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَنَهَضَ فَقَتَلَهَا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَشْتُمُهُ، فَقَتَلَهَا، وَأَعْلَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَأَهْدَرَ دَمَهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَغَضِبَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَكَى الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ : أَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَقَدْ أَغْلَظَ لِرَجُلٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ. فَقَالَ: اجْلِسْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ نَصْرٍ : وَلَمْ يُخَالِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَاسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَتْلِ مَنْ أَغْضَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا أَغْضَبَهُ أَوْ أَذَاهُ أَوْ سَبَّهُ. وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَامِلِهِ بِالْكُوفَةِ، وَقَدِ اسْتَشَارَهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ سَبَّ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِسَبِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا رَجُلًا سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ سَبَّهُ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ. وَسَأَلَ الرَّشِيدُ مَالِكًا فِي رَجُلٍ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ فُقَهَاءَ الْعِرَاقِ أَفْتَوْهُ بِجِلْدِهِ، فَغَضِبَ مَالِكٌ ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا بَقَاءُ الْأُمَّةِ بَعْدَ شَتْمِ نَبِيِّهَا! مَنْ شَتَمَ الْأَنْبِيَاءَ قُتِلَ، وَمَنْ شَتَمَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلِدَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ : كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ، رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَنَاقِبِ مَالِكٍ ، وَمُؤَلِّفِي أَخْبَارِهِ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَا أَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ بِالْعِرَاقِ الَّذِينَ أَفْتَوُا الرَّشِيدَ بِمَا ذُكِرَ!، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَ الْعِرَاقِيِّينَ بِقَتْلِهِ، وَلَعَلَّهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُشْهَرْ بِعِلْمٍ، أَوْ مَنْ لَا يُوثَقُ بِفَتْوَاهُ، أَوْ يَمِيلُ بِهِ هَوَاهُ، أَوْ يَكُونُ مَا قَالَهُ يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ السَّبِّ، فَيَكُونُ الْخِلَافُ: هَلْ هُوَ سَبٌّ أَوْ غَيْرُ سَبٍّ؟ أَوْ يَكُونُ رَجَعَ، وَتَابَ مِنْ سَبِّهِ، فَلَمْ يَقُلْهُ لِمَالِكٍ عَلَى أَصْلِهِ، وَإِلَّا فَالْإِجْمَاعُ عَلَى قَتْلِ مَنْ سَبَّهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَيَدُلُّ عَلَى قَتْلِهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، وَالِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ سَبَّهُ أَوْ تَنَقَّصَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ظَهَرَتْ عَلَامَةُ مَرَضِ قَلْبِهِ، وَبُرْهَانُ سِرِّ طَوِيَّتِهِ وَكُفْرِهِ، وَلِهَذَا مَا حَكَمَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالرِّدَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الشَّامِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَقَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْكُوفِيِّينَ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْكُفْرِ فَيُقْتَلُ حَدًّا، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَادِيًا عَلَى قَوْلِهِ، غَيْرَ مُنْكِرٍ لَهُ، وَلَا مُقْلِعٍ عَنْهُ، فَهَذَا كَافِرٌ، وَقَوْلُهُ: إِمَّا صَرِيحُ كُفْرٍ كَالتَّكْذِيبِ، وَنَحْوِهِ، أَوْ مِنْ كَلِمَاتِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالذَّمِّ، فَاعْتِرَافُهُ بِهَا، وَتَرْكُ تَوْبَتِهِ عَنْهَا دَلِيلُ اسْتِحْلَالِهِ لِذَلِكَ، وَهُوَ كُفْرٌ أَيْضًا، فَهَذَا كَافِرٌ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مِثْلِهِ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التَّوْبَةِ: 74]. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هِيَ قَوْلُهُمْ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ. وَقِيلَ: بَلْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: مَا مِثْلُنَا وَمِثْلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وَ{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [الْمُنَافِقُونَ: 8]. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَائِلَ مِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِهِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ يُقْتَلُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ غَيَّرَ دِينَهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» وَلِأَنَّ لِحُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُرْمَةِ مَزِيَّةً عَلَى أُمَّتِهِ، وَسَابُّ الْحُرِّ مِنْ أُمَّتِهِ يُحَدُّ، فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ لِمَنْ سَبَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَتْلَ، لِعَظِيمِ قَدْرِهِ، وَشُفُوفِ مَنْزِلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ لَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّ الَّذِي قَالَ لَهُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَلَا قَتَلَ الْآخَرَ الَّذِي قَالَ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَقَدْ تَأَذَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ، وَلَا قَتَلَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْيَانِ. فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ يَسْتَأْلِفُ عَلَيْهِ النَّاسَ، وَيُمِيلُ قُلُوبَهُمْ، وَيُحَبِّبُ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ وَيُزَيِّنُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُدَارِيهِمْ، وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُبَشِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُنَفِّرِينَ». وَيَقُولُ: «يَسِّرُوا، وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا، وَلَا تُنَفِّرُوا». وَيَقُولُ: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ». وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَارِي الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُجْمِلُ صُحْبَتَهُمْ، وَيُغْضِي عَنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ مِنْ أَذَاهُمْ، وَيَصْبِرُ عَلَى جَفَائِهِمْ مَا لَا يَجُوزُ لَنَا الْيَوْمَ الصَّبْرُ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُرْفِقُهُمْ بِالْعَطَاءِ وَالْإِحْسَانِ وَبِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [الْمَائِدَةِ: 13]. وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فَصَلَّتْ: 34]. وَذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ لِلتَّأَلُّفِ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ، وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ، كَفِعْلِهِ بِابْنِ خَطَلٍ، وَمَنْ عَهِدَ بِقَتْلِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ قَتْلُهُ غِيلَةً مِنْ يَهُودَ، وَغَيْرِهِمْ، أَوْ غَلَبَةً مِمَّنْ لَمْ يُنْظِمْهُ قَبْلُ سِلْكَ صُحْبَتَهِ، وَالِانْخِرَاطَ فِي جُمْلَةِ مُظْهِرِي الْإِيمَانِ بِهِ مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ، كَابْنِ الْأَشْرَفِ وَأَبِي رَافِعٍ وَالنَّضْرِ وَعُقْبَةَ. وَكَذَلِكَ نَدَرَ دَمَ جَمَاعَةٍ سِوَاهُمْ، كَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَابْنِ الزَّبَعْرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ آذَاهُ حَتَّى أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَلَقُوهُ مُسْلِمِينَ. وَبَوَاطِنُ الْمُنَافِقِينَ مُسْتَتِرَةٌ، وَحُكْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَكْثَرُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُهَا الْقَائِلُ مِنْهُمْ خُفْيَةً، وَمَعَ أَمْثَالِهِ، وَيَحْلِفُونَ عَلَيْهَا إِذَا نُمِيَتْ، وَيُنْكِرُونَهَا، وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا، وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا يَطْمَعُ فِي فَيْأَتِهِمْ، وَرُجُوعِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَوْبَتِهِمْ، فَيَصْبِرُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَنَاتِهِمْ، وَجَفْوَتِهِمْ، كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ حَتَّى فَاءَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَاطِنًا، كَمَا فَاءَ ظَاهِرًا، وَأَخْلَصَ سِرًّا كَمَا أَظْهَرَ جَهْرًا، وَنَفَعَ اللَّهُ بَعْدُ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَقَامَ مِنْهُمْ لِلدِّينِ وُزَرَاءُ وَأَعْوَانٌ وَحُمَاةٌ وَأَنْصَارٌ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ. وَبِهَذَا أَجَابَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ. وَقَالَ: لَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا رُفِعَ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ الْوَاحِدُ، وَمَنْ لَمْ يَصِلْ رُتْبَةَ الشَّهَادَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَالدِّمَاءُ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِعَدْلَيْنِ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ أَمْرُ الْيَهُودِيِّ مِنَ السَّلَامِ، وَأَنَّهُمْ لَوَّوْا أَلْسِنَتَهُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنُوهُ، أَلَا تَرَى كَيْفَ نَبَّهَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ، وَلَوْ كَانَ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ تَنْفَرِدْ بِعِلْمِهِ، وَلِهَذَا نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَقِلَّةِ صِدْقِهِمْ فِي سَلَامِهِمْ، وَخِيَانَتِهِمْ فِي ذَلِكَ لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَطَعْنًا فِي الدِّينِ، فَقَالَ: «إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يَقُولُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقُولُوا: عَلَيْكُمْ». وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلِ الْمُنَافِقِينَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ أَنَّهُ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى نِفَاقِهِمْ، فَلِذَلِكَ تَرَكَهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ كَانَ سِرًّا وَبَاطِنًا، وَظَاهِرُهُمُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْعَهْدِ وَالْجِوَارِ، وَالنَّاسُ قَرِيبٌ عَهْدُهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ بَعْدُ الْخَبِيثُ مِنَ الطِّيبِ. وَقَدْ شَاعَ عَنِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْعَرَبِ كَوْنُ مَنْ يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَحَابَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْصَارِ الدِّينِ بِحُكْمِ ظَاهِرِهِمْ، فَلَوْ قَتَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِفَاقِهِمْ، وَمَا يَبْدُرُ مِنْهُمْ، وَعِلْمِهِ بِمَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ لَوَجَدَ الْمُنَفِّرُ مَا يَقُولُ، وَلَا ارْتَابَ الشَّارِدُ، وَأَرْجَفَ الْمُعَانِدُ، وَارْتَاعَ مِنْ صُحْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَزَعَمَ الزَّاعِمُ، وَظَنَّ الْعَدُوُّ الظَّالِمُ أَنَّ الْقَتْلَ إِنَّمَا كَانَ لِلْعَدَاوَةِ، وَطَلَبِ أَخْذِ التِّرَةِ. وَقَدْ رَأَيْتُ مَعْنَى مَا حَرَّرْتُهُ مَنْسُوبًا إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَلِهَذَا قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مْحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ». وَقَالَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ». وَهَذَا بِخِلَافِ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ حُدُودِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ وَشِبْهِهِ، لِظُهُورِهَا، وَاسْتِوَاءِ النَّاسِ فِي عِلْمِهَا. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : لَوْ أَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ نِفَاقَهُمْ لَقَتَلَهَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لِنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الْأَحْزَابِ: 60- 62] الْآيَةَ.. قَالَ: مَعْنَاهُ إِذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِي الْمَبْسُوطِ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التَّوْبَةِ: 73]، نَسَخَهَا مَا كَانَ قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَعَلَّ الْقَائِلَ: هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. وَقَوْلَهُ: اعْدِلْ لَمْ يَفْهَمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الطَّعْنَ عَلَيْهِ وَالتُّهْمَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا رَآهَا مِنْ وَجْهِ الْغَلَطِ فِي الرَّأْيِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا وَالِاجْتِهَادِ فِي مَصَالِحِ أَهْلِهَا، فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ سَبًّا، وَرَأَى أَنَّهُ مِنَ الْأَذَى الَّذِي لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَاقِبْهِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْيَهُودِ إِذَا قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ لَيْسَ فِيهِ صَرِيحُ سَبٍّ وَلَا دُعَاءٍ إِلَّا بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ لَحَاقِهِ جَمِيعَ الْبَشَرِ. وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ. وَالسَّأْمُ وَالسَّآمَةُ: الْمَلَالُ. وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَى سَآمَةِ الدِّينِ لَيْسَ بِصَرِيحِ سَبٍّ، وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، بَابٌ إِذَا عَرَّضَ الذِّمِّيُّ أَوْ غَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَلَيْسَ هَذَا بِتَعْرِيضٍ بِالسَّبِّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْرِيضٌ بِالْأَذَى. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَذَى وَالسَّبَّ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ نَصْرٍ مُجِيبًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ: هَلْ كَانَ هَذَا الْيَهُودِيُّ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ أَوِ الْحَرْبِ، وَلَا يُتْرَكُ مُوجِبُ الْأَدِلَّةِ لِأَمْرِ الْمُحْتَمَلِ. وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَقْصِدُ الِاسْتِئْلَافِ، وَالْمُدَارَةِ عَلَى الدِّينِ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ. وَلِذَلِكَ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَدِيثِ الْقِسْمَةِ، وَالْخَوَارِجِ: بَابٌ مِنْ تَرْكِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ لِلتَّأَلُّفِ. وَلِئَلَّا يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ ، وَقَرَّرْنَاهُ قَبْلُ. وَقَدْ صَبَرَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سِحْرِهِ وَسَمِّهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ سَبِّهِ إِلَى أَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِ مَنْ حَيَّنَهُ مِنْهُمْ، وَإِنْزَالِهِمْ مِنْ صَيَاصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَكَتَبَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمُ الْجَلَاءَ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَخَرَّبَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَكَاشَفَهُمْ بِالسَّبِّ، فَقَالَ: «يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ»، وَحَكَّمَ فِيهِمْ سُيُوفَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَجْلَاهُمْ مِنْ جِوَارِهِمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى. فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ. فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِمْ مِمَّنْ سَبَّهُ أَوْ آذَاهُ أَوْ كَذَّبَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ الَّتِي انْتَقَمَ لَهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا لَا يَنْتَقِمُ لَهُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِسُوءِ أَدَبٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْ فَاعِلُهُ بِهِ أَذَاهُ، لَكِنْ مِمَّا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الْأَعْرَابُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَهْلِ أَوْ جُبِلَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ الْغَفْلَةِ، كَجَبْذِ الْأَعْرَابِيِّ بِإِزَارِهِ حَتَّى أَثَّرَ فِي عُنُقِهِ، وَكَرَفْعِ صَوْتِ الْآخَرِ عِنْدَهُ، وَكَجَحْدِ الْأَعْرَابِيِّ شِرَاءَهُ مِنْهُ فَرَسَهُ الَّتِي شَهِدَ فِيهَا خُزَيْمَةُ، وَكَمَا كَانَ مِنْ تَظَاهُرِ زَوْجَيْهِ عَلَيْهِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا يَحْسُنُ الصَّفْحُ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ، وَلَا غَيْرِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيَجُوزُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ مَا لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ فِعْلُهُ، وَإِنْ تَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ. وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الْأَحْزَابِ: 57]، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ: «إِنَّهَا بِضْعَةٌ مِنِّي، يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا، أَلَا وَإِنِّي لَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلَكِنْ لَا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنَةُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَبَدًا» أَوْ يَكُونُ هَذَا مِمَّا آذَاهُ بِهِ كَافِرٌ، وَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ إِسْلَامُهُ، كَعَفْوِهِ عَنِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَهُ، وَعَنِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي أَرَادَ قَتْلَهُ، وَعَنِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ، وَقَدْ قِيلَ: قَتَلَهَا. وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يَبْلُغُهُ مِنْ أَذَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ، فَصَفَحَ عَنْهُمْ رَجَاءَ اسْتِئْلَافِهِمْ وَاسْتِئْلَافِ غَيْرِهِمْ كَمَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ الْقَاضِي: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَتْلِ الْقَاصِدِ لِسَبِّهِ، وَالْإِزْرَاءِ بِهِ وَغَمْصِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ مُمْكِنٍ أَوْ مُحَالٍ، فَهَذَا وَجْهٌ بَيِّنٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: لَاحِقٌ بِهِ فِي الْبَيَانِ وَالْجَلَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ لِمَا قَالَ فِي جِهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلسَّبِّ وَالْإِزْرَاءِ، وَلَا مُعْتَقَدٍ لَهُ، وَلَكِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي جِهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، مِنْ لَعْنِهِ أَوْ سَبِّهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ أَوْ إِضَافَةِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، أَوْ نَفْيِ مَا يَجِبُ لَهُ مِمَّا هُوَ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقِيصَةٌ، مِثْلُ أَنْ يَنْسُبَ إِلَيْهِ إِتْيَانَ كَبِيرَةٍ، أَوْ مُدَاهَنَةً فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، أَوْ فِي حُكْمٍ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ يَغُضَّ مِنْ مَرْتَبَتِهِ، أَوْ شَرَفِ نَسَبِهِ، أَوْ وُفُوِرِ عِلْمِهِ أَوْ زُهْدِهِ، أَوْ يُكَذِّبَ بِمَا اشْتَهَرَ مِنْ أُمُورٍ أَخْبَرَ بِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهَا عَنْهُ عَنْ قَصْدٍ لِرَدِّ خَبَرِهِ، أَوْ يَأْتِي بِسَفَهٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَبِيحٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَنَوْعٍ مِنَ السَّبِّ فِي جِهَتِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ بِدَلِيلِ حَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَمَّهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ سَبَّهُ، إِمَّا لِجَهَالَةٍ حَمَلَتْهُ عَلَى مَا قَالَهُ، أَوْ لِضَجَرٍ أَوْ سُكْرٍ اضْطَرَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ قِلَّةِ مُرَاقَبَةٍ وَضَبْطٍ لِلِسَانِهِ وَعَجْرَفَةٍ وَتَهَوُّرٍ فِي كَلَامِهِ، فَحُكْمُ هَذَا الْوَجْهِ حُكْمُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْقَتْلُ دُونَ تَلَعْثُمٍ، إِذْ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي الْكُفْرِ بِالْجَهَالَةِ، وَلَا بِدَعْوَى زَلَلِ اللِّسَانِ وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، إِذْ كَانَ عَقْلُهُ فِي فِطْرَتِهِ سَلِيمًا، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. وَبِهَذَا أَفْتَى الْأَنْدَلُسِيُّونَ عَلَى ابْنِ حَاتِمٍ فِي نَفْيِهِ الزُّهْدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ فِي الْمَأْسُورِ يَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ: يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ تَبَصُّرُهُ أَوْ إِكْرَاهُهُ. وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ: لَا يُعْذُرُ بِدَعْوَى زَلَلِ اللِّسَانِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَأَفْتَى أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِيمَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُكْرِهِ: يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ هَذَا وَيَفْعَلُ فِي صَحْوِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حَدٌّ لَا يُسْقِطُهُ السُّكْرُ، كَالْقَذْفِ، وَالْقَتْلِ، وَسَائِرِ الْحُدُودِ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ زَوَالِ عَقْلِهِ بِهَا، وَإِتْيَانِ مَا يُنْكَرُ مِنْهُ، فَهُوَ كَالْعَامِدِ لِمَا يَكُونُ بِسَبَبِهِ. وَعَلَى هَذَا أَلْزَمْنَاهُ الطَّلَاقَ وَالْعِتَاقَ وَالْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ. وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ حَمْزَةَ وَقَوْلِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي!. قَالَ: فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ثَمِلٌ فَانْصَرَفَ، لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ حِينَئِذٍ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِي جِنَايَاتِهَا إِثْمٌ، وَكَانَ حُكْمُ مَا يَحْدُثُ عَنْهَا مَعْفُوًّا عَنْهُ كَمَا يَحْدُثُ مِنَ النَّوْمِ، وَشُرْبِ الدَّوَاءِ الْمَأْمُونِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ إِلَى تَكْذِيبِهِ فِيمَا قَالَهُ أَوْ أَتَى بِهِ وُجُودَهُ أَوْ يَكْفُرَ أَوْ يَنْفِيَ نَبُوَّتَهُ أَوْ رِسَالَتَهُ , بِهِ انْتَقَلَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى دِينٍ آخَرَ غَيْرِ مِلَّتِهِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا كَافِرٌ بِإِجْمَاعٍ، يَجِبُ قَتْلُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مُصَرِّحًا بِذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ أَشْبَهَ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ، وَقَوِيَ الْخِلَافُ فِي اسْتِتَابَتِهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا تُسْقِطُ الْقَتْلَ عَنْهُ تَوْبَتُهُ لِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنْ كَانَ ذَكَرَهُ بِنَقِيصَةٍ فِيمَا قَالَهُ مِنْ كَذِبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَسَتِّرًا بِذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ لَا تُسْقِطُ قَتْلَهُ التَّوْبَةُ عِنْدَنَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ: مَنْ بَرِئَ مِنْ مُحَمَّدٍ أَوْ كَذَّبَ بِهِ، فَهُوَ مُرْتَدٌّ حَلَالُ الدَّمِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِنَبِيٍّ، أَوْ لَمْ يُرْسَلْ، أَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ تَقَوَّلَهُ: يُقْتَلُ. قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْكَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْلَنَ بِتَكْذِيبِهِ أَنَّهُ كَالْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ تَنَبَّأَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَالَهُ سُحْنُونٌ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : دَعَا إِلَى ذَلِكَ سِرًّا أَوْ جَهْرًا. وَقَالَ أَصْبَغُ : وَهُوَ كَالْمُرْتَدِّ، لِأَنَّهُ قَدْ كَفَرَ بِكِتَابِ اللَّهِ مَعَ الْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ فِي يَهُودِيٍّ تَنَبَّأَ أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ، أَوْ قَالَ: بَعْدَ نَبِيِّكُمْ نَبِيٌّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ إِنْ كَانَ مُعْلِنًا بِذَلِكَ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ فِي دَعْوَاهُ عَلَيْهِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ : مَنْ شَكَّ فِي حَرْفٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ جَاحِدٌ. وَقَالَ: مَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حُكْمُهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ الْقَتْلَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ صَاحِبُ سُحْنُونٍ: مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ قُتِلَ، لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسْوَدَ. وَقَالَ نَحْوَهُ أَبُو عُثْمَانَ الْحَدَّادُ، قَالَ: لَوْ قَالَ: إِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِيَ، أَوْ إِنَّهُ كَانَ بِتَاهَرْتَ، وَلَمْ يَكُنْ بِتِهَامَةَ قُتِلَ، لِأَنَّ هَذَا نَفْيٌ. قَالَ حَبِيبُ بْنُ رَبِيعٍ تَبْدِيلُ صِفَتِهِ وَمَوَاضِعِهِ كُفْرٌ، وَالْمُظْهِرُ لَهُ كَافِرٌ، وَفِيهِ الِاسْتِتَابَةُ، وَالْمُسِرُّ لَهُ زِنْدِيقٌ، يُقْتَلُ دُونَ اسْتِتَابَةٍ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْكَلَامِ بِمُجْمَلٍ، وَيَلْفِظُ مِنَ الْقَوْلِ بِمُشْكِلٍ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَرَدَّدُ فِي الْمُرَادِ بِهِ مِنْ سَلَامَتِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ أَوْ شَرِّهِ، فَهَاهُنَا مُتَرَدِّدُ النَّظَرِ، وَحَيْرَةُ الْعِبَرِ، وَمَظِنَّةُ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَوَقْفَةِ اسْتِبْرَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ حُرْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَمَى حِمَى عِرْضِهِ، فَجَسَرَ عَلَى الْقَتْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَظَّمَ حُرْمَةَ الدَّمِ، وَدَرَأَ الْحَدَّ بِالشُّبْهَةِ لِاحْتِمَالِ الْقَوْلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي رَجُلٍ أَغْضَبَهُ غَرِيمُهُ، فَقَالَ لَهُ: صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ الطَّالِبُ: لَا صَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِسُحْنُونٍ: هَلْ هُوَ كَمَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ شَتَمَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، قَالَ: لَا، إِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتَ مِنَ الْغَضَبِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُضْمِرًا الشَّتْمَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْقِيُّ ، وَأَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ : لَا يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا شَتَمَ النَّاسَ، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ سُحْنُونٍ : لِأَنَّهُ لَمْ يَعْذُرْهُ بِالْغَضَبِ فِي شَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ الْكَلَامَ عِنْدَهُ، وَلَمْ تَكُنْ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى شَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ شَتْمِ الْمَلَائِكَةِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-، وَلَا مُقَدِّمَةٌ يُحْمَلُ عَلَيْهَا كَلَامُهُ، بَلِ الْقَرِينَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ النَّاسُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، لِأَجْلِ قَوْلِ الْآخَرِ لَهُ: صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، فَحُمِلَ قَوْلُهُ وَسَبُّهُ لِمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ الْآنَ لِأَجْلِ أَمْرِ الْآخَرِ لَهُ بِهَذَا عِنْدَ غَضَبِهِ. هَذَا مَعْنَى قَوْلِ سُحْنُونٍ ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِعِلَّةِ صَاحِبَيْهِ. وَذَهَبَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ الْقَاضِي، وَغَيْرُهُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى الْقَتْلِ. وَتَوَقَّفَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِي قَتْلِ رَجُلٍ قَالَ: كُلُّ صَاحِبِ فُنْدُقٍ قَرْنَانُ وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا، فَأَمَرَ بِشَدِّهِ بِالْقُيُودِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ حَتَّى يُسْتَفْهَمَ الْبَيِّنَةُ عَنْ جُمْلَةِ أَلْفَاظِهِ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصِدِهِ، هَلْ أَرَادَ أَصْحَابَ الْفَنَادِقِ الْآنَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ أَخَفَّ. قَالَ: وَلَكِنْ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْعُمُومُ لِكُلِّ صَاحِبِ فُنْدُقٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَدْ كَانَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَنِ اكْتَسَبَ الْمَالَ. قَالَ: وَدَمُ الْمُسْلِمِ لَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَمْرٍ بَيِّنٍ. وَمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ التَّأْوِيلَاتُ لَا بُدَّ مِنْ إِمْعَانِ النَّظَرِ فِيهِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِيمَنْ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَرَبَ، وَلَعَنَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَعَنَ اللَّهُ بَنِي آدَمَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْأَنْبِيَاءَ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِ الْأَدَبَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِ السُّلْطَانِ. وَكَذَلِكَ أَفْتَى فِيمَنْ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ حَرَّمَ الْمُسْكِرَ، وَقَالَ: لَمْ أَعْلَمْ مَنْ حَرَّمَهُ. وَفِيمَنْ لَعَنَ حَدِيثَ: لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَلَعَنَ مَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَعَدَمِ مَعْرِفَةِ السُّنَنِ فَعَلَيْهِ الْأَدَبُ الْوَجِيعُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقْصِدْ بِظَاهِرِ حَالِهِ سَبَّ اللَّهِ وَلَا سَبَّ رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا لَعَنَ مَنْ حَرَّمَهُ مِنَ النَّاسِ عَلَى نَحْوِ فَتْوَى سُحْنُونٍ وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَمِثْلُ هَذَا مَا يَجْرِي فِي كَلَامِ سُفَهَاءِ النَّاسِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: يَا ابْنَ أَلْفِ خِنْزِيرٍ، وَيَا ابْنَ مِائَةِ كَلْبٍ، وَشِبْهِهِ مِنْ هُجْرِ الْقَوْلِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ آبَائِهِ، وَأَجْدَادِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ هَذَا الْعَدَدِ مُنْقَطِعٌ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَنْبَغِي الزَّجْرُ عَنْهُ، وَتَبْيِينُ مَا جَهِلَهُ قَائِلُهُ مِنْهُ، وَشِدَّةُ الْأَدَبِ فِيهِ. وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ سَبَّ مَنْ فِي آبَائِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى عِلْمٍ لَقُتِلَ. وَقَدْ يَضِيقُ الْقَوْلُ فِي نَحْوِ هَذَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ هَاشِمِيٍّ: لَعَنَ اللَّهُ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ: أَرَدْتُ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا قَبِيحًا فِي آبَائِهِ أَوْ مِنْ نَسْلِهِ أَوْ وَلَدِهِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ بَعْضِ آبَائِهِ وَإِخْرَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ سَبَّهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ رَأَيْتُ لِأَبِي مُوسَى عِيسَى بْنِ مَنَاسَ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: لَعَنَكَ اللَّهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قُتِلَ. وَقَدْ كَانَ اخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِيمَنْ قَالَ لِشَاهِدٍ شَهِدَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ: تَتَّهِمُنِي؟ قَالَ لَهُ الْآخَرُ: الْأَنْبِيَاءُ يُتَّهَمُونَ، فَكَيْفَ أَنْتَ؟ فَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ جَعْفَرٍ يَرَى قَتْلَهُ لِبَشَاعَةِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَنْصُورٍ يَتَوَقَّفُ عَنِ الْقَتْلِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّنِ اتَّهَمَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ. وَأَفْتَى فِيهَا قَاضِي قُرْطُبَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا. وَشَدَّدَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ تَصْفِيدَهُ، وَأَطَالَ سِجْنَهُ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدُ عَلَى تَكْذِيبِ مَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، إِنْ دَخَلَ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ مِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَهَنٌ ثُمَّ أَطْلَقَهُ. وَشَاهَدْتُ شَيْخَنَا الْقَاضِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عِيسَى أَيَّامَ قَضَائِهِ أُتِيَ بِرَجُلٍ هَاتَرَ رَجُلًا اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ قَصَدَ إِلَى كَلْبٍ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ، فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ لَفِيفٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ، وَتَقَصَّى عَنْ حَالِهِ، وَهَلْ يَصْحَبُ مَنْ يُسْتَرَابُ بِدِينِهِ؟ فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَا يُقَوِّي الرِّيبَةَ بِاعْتِقَادِهِ ضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ، وَأَطْلَقَهُ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا، وَلَا يَذْكُرَ عَيْبًا وَلَا سَبًّا، لَكِنَّهُ يَنْزِعُ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِ، أَوْ يَسْتَشْهِدُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَائِزَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِ، أَوْ عِنْدَ هَضِيمَةٍ نَالَتْهُ، أَوْ غَضَاضَةٍ لَحِقَتْهُ، لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَسِّي، وَطَرِيقِ التَّحْقِيقِ، بَلْ عَلَى مَقْصِدِ التَّرْفِيعِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَعَدَمِ التَّوْقِيرِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلَى قَصْدِ الْهَزْلِ وَالتَّنْذِيرِ بِقَوْلِهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ قِيلَ فِي السُّوءِ فَقَدْ قِيلَ فِي النَّبِيِّ، وَإِنْ كُذِّبْتُ فَقَدْ كُذِّبَ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ إِنْ أَذْنَبْتُ فَقَدْ أَذْنَبُوا، أَوْ أَنَا أَسْلَمُ مِنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ، أَوْ قَدْ صَبَرْتُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ، أَوْ كَصَبْرِ أَيُّوبَ، أَوْ قَدْ صَبَرَ نَبِيُّ اللَّهِ عَنْ عِدَاهُ، وَحَلُمَ عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا صَبَرْتُ، وَكَقَوْلِ الْمُتَنَبِّي: أَنَا فِي أُمَّةٍ تَدَارَكَهَا اللَّهُ *** غَرِيبٌ كَصَالِحٍ فِي ثَمُودِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَشْعَارِ الْمُتَعَجْرِفِينَ فِي الْقَوْلِ، الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ: كَنْتُ مُوسَى وَافَتْهُ بِنْتُ شُعَيْبٍ *** غَيْرَ أَنْ لَيْسَ فِيكُمَا مِنْ فَقِيرِ عَلَى أَنَّ آخِرَ الْبَيْتِ شَدِيدٌ وَدَاخِلٌ فِي بَابِ الْإِزْرَاءِ وَالتَّحْقِيرِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفْضِيلُ حَالِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَوْلَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ *** قُلْنَا مُحَمَّدُ عَنْ أَبِيهِ بَدِيلُ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْفَضْلِ إِلَّا أَنَّهُ *** لَمْ يَأْتِهِ بِرِسَالَةٍ جِبْرِيلُ فَصَدْرُ الْبَيْتِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ شَدِيدٌ، لِتَشْبِيهِهِ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِهِ بِالنَّبِيِّ، وَالْعَجْزُ مُحْتَمِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ نَقَصَتِ الْمَمْدُوحَ، وَالْآخَرُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهَا. وَهَذَا أَشَدُّ. وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: وَإِذَا مَا رُفِعَتْ رَايَاتُهُ *** صَفَّقَتْ بَيْنَ جَنَاحَيْ جَبْرِينْ وَقَوْلُ الْآخَرِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ: فَرَّ مِنَ الْخُلْدِ وَاسْتَجَارَ بِنَا *** فَصَبَّرَ اللَّهُ قَلْبَ رَضْوَانِ وَكَقَوْلِ حَسَّانَ الْمِصِيصِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْأَنْدَلُسِ فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمَعْرُوفِ بِالْمُعْتَمِدِ، وَوَزِيرِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ زَيْدُونٍ: كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَبُو بَكْرِ الرِّضَا ***، وَحَسَّانَ حَسَّانٌ وَأَنْتَ مُحَمَّدُ إِلَى أَمْثَالِ هَذَا وَإِنَّمَا أَكْثَرْنَا بِشَاهِدِهَا مَعَ اسْتِثْقَالِنَا حِكَايَتَهَا لِتَعْرِيفِ أَمْثِلَتِهَا، وَلِتَسَاهُلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي وُلُوجِ هَذَا الْبَابِ الضَّنْكِ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ فَادِحَ هَذَا الْعِبْءِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ، وَكَلَامِهِمْ مِنْهُ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَيَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، لَاسِيَّمَا الشُّعَرَاءُ. وَأَشَدُّهُمْ فِيهِ تَصْرِيحًا، وَلِلِسَانِهِ تَسْرِيحًا، ابْنُ هَانِئٍ الْأَنْدَلُسِيُّ، وَابْنُ سُلَيْمَانَ الْمَعَرِّيُّ، بَلْ قَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِمَا إِلَى حَدِّ الِاسْتِخْفَافِ وَالنَّقْصِ وَصَرِيحِ الْكُفْرِ. وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ، وَغَرَضُنَا الْآنَ الْكَلَامُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي سُقْنَا أَمْثِلَتَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْ سَبًّا، وَلَا أَضَافَتْ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ نَقْصًا، وَلَسْتُ أَعْنِي عَجُزَيْ بَيْتَيِ الْمَعَرِّيِّ، وَلَا قَصَدَ قَائِلُهَا إِزْرَاءً وَغَضًّا، فَمَا وَقَّرَ النُّبُوَّةَ، وَلَا عَظَّمَ الرِّسَالَةَ، وَلَا عَزَّزَ حُرْمَةَ الِاصْطِفَاءِ، وَلَا عَزَّزَ حُظْوَةَ الْكَرَامَةِ حَتَّى شَبَّهَ مَنْ شَبَّهَ فِي كَرَامَةٍ نَالَهَا، أَوْ مَعَرَّةٍ قَصَدَ الِانْتِقَاءَ مِنْهَا، أَوْ ضَرْبِ مَثَلٍ لِتَطْيِيبِ مَجْلِسِهِ، أَوْ إِغْلَاءٍ فِي وَصْفٍ لِتَحْسِينِ كَلَامِهِ بِمَنْ عَظَّمَ اللَّهُ خَطَرَهُ، وَشَرَّفَ قَدْرَهُ، وَأَلْزَمَ تَوْقِيرَهُ وَبِرَّهُ، وَنَهَى عَنْ جَهْرِ الْقَوْلِ لَهُ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ. فَحَقُّ هَذَا إِنْ دُرِئَ عَنْهُ الْقَتْلُ: الْأَدَبُ وَالسِّجْنُ، وَقُوَّةُ تَعْزِيرِهِ بِحَسَبِ شُنْعَةِ مَقَالِهِ، وَمُقْتَضَى قُبْحِ مَا نَطَقَ بِهِ، وَمَأْلُوفِ عَادَتِهِ لِمِثْلِهِ، أَوْ نُدُورِهِ وَقَرِينَةِ كَلَامِهِ، أَوْ نَدَمِهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُتَقَدِّمُونَ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا مِمَّنْ جَاءَ بِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الرَّشِيدُ عَلَى أَبِي نُوَاسٍ قَوْلَهُ: فَإِنُ يَكُ بَاقِي سِحْرِ فِرْعَوْنَ فِيكُمُ *** فَإِنَّ عَصَا مُوسَى بِكَفٍّ خَصِيبِ وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ اللَّخْنَاءِ، أَنْتَ الْمُسْتَهْزِئُ بِعَصَا مُوسَى!، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ عَسْكَرِهِ مِنْ لَيْلَتِهِ. وَذَكَرَ الْيُقْتَبِيُّ أَنَّ مِمَّا أُخِذَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَكُفِّرَ فِيهِ، أَوْ قَارَبَ قَوْلُهُ فِي مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ، وَتَشْبِيهِهِ إِيَّاهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ: تَنَازَعَ الْأَحْمَدَانِ الشَّبَهَ فَاشْتَبَهَا *** خَلْقًا وَخُلُقًا كَمَا قُدَّ الشِّرَاكَانِ وَقَدْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلَهُ: كَيْفَ لَا يُدْنِيكَ مِنْ أَمَلٍ *** مَنْ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ نَفَرِهِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّسُولِ، وَمُوجَبَ تَعْظِيمِهِ وَإِنَاقَةَ مَنْزِلَتِهِ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، وَلَا يُضَافُ. فَالْحُكْمُ فِي أَمْثَالِ هَذَا مَا بَسَطْنَاهُ فِي طَرِيقِ الْفُتْيَا عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ جَاءَتْ فُتْيَا إِمَامِ مَذْهَبِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَأَصْحَابِهِ: فَفِي النَّوَادِرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْهُ فِي رَجُلٍ عَيَّرَ رَجُلًا بِالْفَقْرِ، فَقَالَ: تُعَيِّرُونِي بِالْفَقْرِ، وَقَدْ رَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَمَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ : قَدْ عَرَّضَ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَرَى أَنْ يُؤَدَّبَ، قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الذُّنُوبِ إِذَا عُوتِبُوا أَنْ يَقُولُوا: قَدْ أَخْطَأَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ: انْظُرْ لَنَا كَاتِبًا يَكُونُ أَبُوهُ عَرَبِيًّا. فَقَالَ كَاتِبٌ لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ كَافِرًا، فَقَالَ: " جَعَلْتَ هَذَا مَثَلًا! " فَعَزَلَهُ، وَقَالَ: لَا تَكْتُبْ لِي أَبَدًا. وَقَدْ كَرِهَ سُحْنُونٌ أَنْ يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الثَّوَابِ، وَالِاحْتِسَابِ، تَوْقِيرًا لَهُ، وَتَعْظِيمًا، كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ. وَسُئِلَ الْقَابِسِيُّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ قَبِيحٍ كَأَنَّهُ وَجْهُ نَكِيرٍ، وَلِرَجُلٍ عَبُوسٍ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَالِكٍ الْغَضْبَانِ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ بِهَذَا، وَنَكِيرٌ أَحَدُ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ، وَهُمَا مَلَكَانِ فَمَا الَّذِي أَرَادَ! أَرَوْعٌ دَخَلَ عَلَيْهِ حِينَ رَآهُ مِنْ وَجْهِهِ؟ أَمْ عَافَ النَّظَرَ إِلَيْهِ لِدَمَامَةِ خَلْقِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا فَهُوَ شَدِيدٌ، لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى التَّحْقِيرِ وَالتَّهْوِينِ، فَهُوَ أَشَدُّ عُقُوبَةً، وَلَيْسَ تَصْرِيحٌ بِالسَّبِّ لِلْمَلَكِ، وَإِنَّمَا السَّبُّ وَاقِعٌ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَفِي الْأَدَبِ بِالسَّوْطِ وَالسِّجْنِ نَكَالٌ لِلسُّفَهَاءِ، قَالَ: وَأَمَّا ذَاكِرُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ فَقَدْ جَفَا الَّذِي ذَكَرَهُ عِنْدَمَا أَنْكَرَ حَالَهُ مِنْ عُبُوسِ الْآخَرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعَبَّسُ لَهُ يَدٌ فَيَرْهَبُ بِعُبْسَتِهِ، فَيُشَبِّهُهُ الْقَائِلُ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ لِهَذَا فِي فِعْلِهِ، وَلُزُومِهِ فِي ظُلْمِهِ صِفَةَ مَالِكٍ الْمَلَكِ الْمُطِيعِ لِرَبِّهِ فِي فِعْلِهِ، فَيَقُولُ كَأَنَّهُ لِلَّهِ يَغْضَبُ غَضَبَ مَالِكٍ، فَيَكُونُ أَخَفَّ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ التَّعَرُّضُ لِمِثْلِ هَذَا وَلَوْ كَانَ أَثْنَى عَلَى الْعَبُوسِ بِعُبْسَتِهِ، وَاحْتَجَّ بِصِفَةِ مَالِكٍ كَانَ أَشَدَّ، وَيُعَاقَبُ الْمُعَاقَبَةَ الشَّدِيدَةَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا ذَمٌّ لِلْمَلَكِ، وَلَوْ قَصَدَ ذَمَّهُ لَقُتِلَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ أَيْضًا فِي شَابٍّ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ قَالَ لِرَجُلٍ شَيْئًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: اسْكُتْ، فَإِنَّكَ أُمِّيٌّ. فَقَالَ الشَّابُّ: أَلَيْسَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا! فَشُنِّعَ عَلَيْهِ مَقَالُهُ، وَكَفَّرَهُ النَّاسُ، وَأَشْفَقَ الشَّابُّ مِمَّا قَالَ، وَأَظْهَرَ النَّدَمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَمَّا إِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ فَخَطَأٌ فِي اسْتِشْهَادِهِ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَوْنُ النَّبِيِّ أُمِّيًّا آيَةٌ لَهُ، وَكَوْنُ هَذَا أُمِّيًّا نَقِيصَةٌ فِيهِ وَجَهَالَةٌ. وَمِنْ جَهَالَتِهِ احْتِجَاجُهُ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّهُ إِذَا اسْتَغْفَرَ وَتَابَ وَاعْتَرَفَ وَلَجَأَ إِلَى اللَّهِ فَيُتْرَكُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْقَتْلِ، وَمَا طَرِيقُهُ الْأَدَبُ فَطَوْعُ فَاعِلِهِ بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُ. وَنَزَلَتْ أَيْضًا مَسْأَلَةٌ اسْتَفْتَى فِيهَا بَعْضُ قُضَاةِ الْأَنْدَلُسِ شَيْخَنَا الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مَنْصُورٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي رَجُلٍ تَنَقَّصَهُ آخَرُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا تُرِيدُ نَقْصِي بِقَوْلِكَ، وَأَنَا بَشَرٌ، وَجَمِيعُ الْبَشَرِ يَلْحَقُهُمُ النَّقْصُ حَتَّى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَفْتَاهُ بِإِطَالَةِ سِجْنِهِ، وَإِيجَاعِ أَدَبِهِ، إِذْ لَمْ يَقْصِدِ السَّبَّ، وَكَانَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْأَنْدَلُسِ أَفْتَى بِقَتْلِهِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ ذَلِكَ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ، وَآثِرًا لَهُ عَنْ سِوَاهُ، فَهَذَا يُنْظَرُ فِي صُورَةِ حِكَايَتِهِ، وَقَرِينَةِ مَقَالَتِهِ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَالتَّحْرِيمِ، فَإِنْ كَانَ أَخْبَرَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّهَادَةِ وَالتَّعْرِيفِ بِقَائِلِهِ، وَالْإِنْكَارِ وَالْإِعْلَامِ بِقَوْلِهِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْهُ وَالتَّجْرِيحِ لَهُ , فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي امْتِثَالُهُ وَيُحْمَدُ فَاعِلُهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ حَكَاهُ فِي كِتَابٍ أَوْ فِي مَجْلِسٍ عَلَى طَرِيقِ الرَّدِّ لَهُ، وَالنَّقْضِ عَلَى قَائِلِهِ، وَلَلْفُتْيَا بِمَا يَلْزَمُهُ. وَهَذَا مِنْهُ مَا يَجِبُ، وَمِنْهُ مَا يُسْتَحَبُّ بِحَسَبِ حَالَاتِ الْحَاكِي لِذَلِكَ، وَالْمَحْكِيِّ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ مِمَّنْ تَصَدَّى لِأَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ الْعِلْمُ أَوْ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ، أَوْ يُقْطَعَ بِحُكْمِهِ أَوْ شَهَادَتِهِ، أَوْ فُتْيَاهُ فِي الْحُقُوقِ، وَجَبَ عَلَى سَامِعِهِ الْإِشَادَةُ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ، وَالتَّنْفِيرُ لِلنَّاسِ عَنْهُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا قَالَهُ، وَوَجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِنْكَارُهُ، وَبَيَانُ كُفْرِهِ وَفَسَادِ قَوْلِهِ، لِقَطْعِ ضَرَرِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيَامًا بِحَقِّ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعِظُ الْعَامَّةَ، أَوْ يُؤَدِّبُ الصِّبْيَانَ فَإِنَّ مَنْ هَذِهِ سَرِيرَتُهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى إِلْقَاءِ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَيَتَأَكَّدُ فِي هَؤُلَاءِ الْإِيجَابُ لِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِحَقِّ شَرِيعَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَائِلَ بِهَذِهِ السَّبِيلِ فَالْقِيَامُ بِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاجِبٌ، وَحِمَايَةُ عِرْضِهِ مُتَعَيَّنٌ، وَنُصْرَتُهُ عَنِ الْأَذَى حَيًّا وَمَيِّتًا مُسْتَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ لَكِنَّهُ إِذَا قَامَ بِهَذَا مَنْ ظَهَرَ بِهِ الْحَقُّ، وَفُصِلَتْ بِهِ الْقَضِيَّةُ، وَبَانَ بِهِ الْأَمْرُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِي الْفَرْضُ، وَبَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ فِي تَكْثِيرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَعَضْدِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ. وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى بَيَانِ حَالِ الْمُتَّهَمِ فِي الْحَدِيثِ، فَكَيْفَ بِمِثْلِ هَذَا؟. وَقَدْ سُئِلَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنِ الشَّاهِدِ يَسْمَعُ مِثْلَ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: أَيَسَعُهُ أَلَّا يُؤَدِّيَ شَهَادَتَهُ؟ قَالَ: إِنْ رَجَا نَفَاذَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ فَلْيَشْهَدْ. وَكَذَلِكَ إِنْ عَلِمَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَرَى الْقَتْلَ بِمَا شَهِدَ بِهِ، وَيَرَى الِاسْتِتَابَةَ، وَالْأَدَبَ فَلْيَشْهَدْ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ لِحِكَايَةِ قَوْلِهِ لِغَيْرِ هَذَيْنِ الْمَقْصِدَيْنِ، فَلَا أَرَى لَهَا مَدْخَلًا فِي هَذَا الْبَابِ، فَلَيْسَ التَّفَكُّهُ بِعِرْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّمَضْمُضُ بِسُوءِ ذِكْرِهِ لِأَحَدٍ، لَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ بِمُبَاحٍ. وَأَمَّا لِلْأَغْرَاضِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَمُتَرَدَّدٌ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِحْبَابِ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مَقَالَاتِ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ وَعَلَى رُسُلِهِ فِي كِتَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِقَوْلِهِمْ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِمَا تَلَاهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ. وَكَذَلِكَ وَقَعَ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحَةِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَجْمَعَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى عَلَى حِكَايَاتِ مَقَالَاتِ الْكَفَرَةِ وَالْمُلْحِدِينَ فِي كُتُبِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ لِيُبَيِّنُوهَا لِلنَّاسِ، وَيَنْقُضُوا شُبَهَهَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ وَرَدَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِنْكَارٌ لِبَعْضِ هَذَا عَلَى الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، فَقَدْ صَنَعَ أَحْمَدُ مِثْلَهُ فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَالْقَائِلِينَ بِالْمَخْلُوقِ. هَذِهِ الْوُجُوهُ السَّائِغَةُ الْحِكَايَةُ عَنْهَا، فَأَمَّا ذِكْرُهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا مِنْ حِكَايَةِ سَبِّهِ وَالْإِزْرَاءِ بِمَنْصِبِهِ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَاتِ وَالْأَسْمَارِ وَالطُّرَفِ وَأَحَادِيثِ النَّاسِ، وَمَقَالَاتِهِمْ فِي الْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَمَضَاحِكِ الْمُجَّانِ وَنَوَادِرِ السُّخَفَاءِ وَالْخَوْضِ فِي قِيلَ وَقَالَ، وَمَا لَا يَعْنِي فَكُلُّ هَذَا مَمْنُوعٌ، وَبَعْضُهُ أَشَدُّ فِي الْمَنْعِ وَالْعُقُوبَةِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَا كَانَ مِنْ قَائِلِهِ الْحَاكِي لَهُ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ مَعْرِفَةٍ بِمِقْدَارِ مَا حَكَاهُ، أَوْ لَمْ تَكُنْ. عَادَتُهُ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مِنَ الْبَشَاعَةِ حَيْثُ هُوَ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى حَاكِيهِ اسْتِحْسَانُهُ وَاسْتِصْوَابُهُ زُجِرَ عَنْ ذَلِكَ، وَنُهِيَ عَنِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ قُوِّمَ بِبَعْضِ الْأَدَبِ فَهُوَ مُسْتَوْجِبٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مِنَ الْبَشَاعَةِ حَيْثُ هُوَ كَانَ الْأَدَبُ أَشَدَّ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ مَالِكًا عَمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. فَقَالَ مَالِكٌ : كَافِرٌ فَاقْتُلُوهُ. فَقَالَ: إِنَّمَا حَكَيْتُهُ عَنْ غَيْرِي. فَقَالَ مَالِكٌ : إِنَّمَا سَمِعْنَاهُ مِنْكَ. وَهَذَا مِنْ مَالِكٍ عَلَى طَرِيقِ الزَّجْرِ، وَالتَّغْلِيظِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُنَفِّذْ قَتْلَهُ. وَإِنِ اتُّهِمَ هَذَا الْحَاكِي فِيمَا حَكَاهُ أَنَّهُ اخْتَلَقَهُ، وَنَسَبَهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ كَانَتْ تِلْكَ عَادَةً لَهُ، أَوْ ظَهَرَ اسْتِحْسَانُهُ لِذَلِكَ، أَوْ كَانَ مُولَعًا بِمِثْلِهِ، وَالِاسْتِخْفَافِ لَهُ، أَوِ التَّحَفُّظِ لِمِثْلِهِ، وَطَلَبِهِ، وَرِوَايَةِ أَشْعَارِ هَجْوِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَبِّهِ، فَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ السَّابِّ نَفْسِهِ، يُؤَاخَذُ بِقَوْلِهِ، وَلَا تَنْفَعُهُ نِسْبَتُهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَيُبَادَرُ بِقَتْلِهِ، وَيُعَجِّلُ إِلَى الْهَاوِيَةِ أُمِّهِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبِيدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِيمَنْ حَفِظَ شَطْرَ بَيْتٍ مِمَّا هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كُفْرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ أَلَّفَ فِي الْإِجْمَاعِ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِ رِوَايَةِ مَا هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِتَابَتِهِ وَقِرَاءَتِهِ وَتَرْكِهِ مَتَى وُجِدَ دُونَ مَحْوٍ، وَرَحِمَ اللَّهُ أَسْلَافَنَا الْمُتَّقِينَ الْمُتَحَرِّزِينَ لِدِينِهِمْ، فَقَدْ أَسْقَطُوا مِنْ أَحَادِيثِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ، وَتَرَكُوا رِوَايَتَهُ إِلَّا أَشْيَاءَ ذَكَرُوهَا يَسِيرَةً وَغَيْرَ مُسْتَبْشَعَةٍ عَلَى نَحْوِ الْوُجُوهِ الْأُوَلِ، لِيُرُوا نِقْمَةَ اللَّهِ مِنْ قَائِلِهَا، وَأَخْذَهُ الْمُفْتَرِيَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ. وَهَذَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَدْ تَحَرَّى فِيمَا اضْطُرَّ إِلَى الِاسْتِشْهَادِ بِهِ مِنْ أَهَاجِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ فِي كُتُبِهِ، فَكَنَّى عَنِ اسْمِ الْمَهْجُوِّ بِوَزْنِ اسْمِهِ، اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ، وَتَحَفُّظًا مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي ذَمِّ أَحَدٍ أَوْ نَشْرِهِ، فَكَيْفَ بِمَا يَتَطَرَّقُ إِلَى عِرْضِ سَيِّدِ الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يُخْتَلَفُ فِي جَوَازِهِ عَلَيْهِ، وَمَا يَطْرَأُ مِنَ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ بِهِ، وَيُمْكِنُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ، أَوْ يَذْكُرَ مَا امْتُحِنَ بِهِ، وَصَبَرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَلَى شِدَّتِهِ مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْدَائِهِ، وَأَذَاهُمْ لَهُ وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ حَالِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَمَا لَقِيَهُ مِنْ بُؤْسِ زَمَنِهِ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مِنْ مُعَانَاةِ عَيْشِهِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الرِّوَايَةِ، وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، وَمَعْرِفَةِ مَا صَحَّتْ مِنْهُ الْعِصْمَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فَهَذَا فَنٌّ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْفُنُونِ السِّتَّةِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ غَمْصٌ وَلَا نَقْصٌ وَلَا إِزْرَاءٌ وَلَا اسْتِخْفَافٌ، لَا فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَلَا فِي مَقْصِدِ اللَّافِظِ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفُهَمَاءِ طَلَبَةِ الدِّينِ مِمَّنْ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُ. وَيُحَقِّقُونَ فَوَائِدَهُ، وَيُجَنِّبُ ذَلِكَ مَنْ عَسَاهُ لَا يَفْقَهُ، أَوْ يُخْشَى بِهِ فِتْنَتُهُ، فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ تَعْلِيمَ النِّسَاءِ يُوسُفَ، لِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقَصَصِ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِنَّ، وَنَقْصِ عُقُولِهِنَّ وَإِدْرَاكِهِنَّ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ بِاسْتِيجَارِهِ لِرِعَايَةِ الْغَنَمِ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ، وَقَالَ: مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ. وَأَخْبَرْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا لَا غَضَاضَةَ فِيهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِمَنْ ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِهِ، بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَ بِهِ الْغَضَاضَةَ وَالتَّحْقِيرَ، بَلْ كَانَتْ عَادَةُ جَمِيعِ الْعَرَبِ، نَعَمْ فِي ذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَتَدْرِيجٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُمْ إِلَى كَرَامَتِهِ، وَتَدْرِيبٌ بِرِعَايَتِهَا لِسِيَاسَةِ أُمَمِهِمْ مِنْ خَلِيقَتِهِ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ فِي الْأَزَلِ، وَمُتَقَدِّمِ الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ يُتْمَهُ، وَعَيْلَتَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ، وَالتَّعْرِيفِ بِكَرَامَتِهِ لَهُ، فَذِكْرُ الذَّاكِرِ لَهَا عَلَى وَجْهِ تَعْرِيفِ حَالِهِ، وَالْخَبَرِ عَنْ مُبْتَدَئِهِ، وَالتَّعَجُّبِ مِنْ مِنَحِ اللَّهِ قِبَلَهُ، وَعَظِيمِ مِنَّتِهِ عِنْدَهُ لَيْسَ فِيهِ غَضَاضَةٌ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَصِحَّةِ دَعْوَتِهِ إِذْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا عَلَى صَنَادِيدِ الْعَرَبِ، وَمَنْ نَاوَأَهُ مِنْ أَشْرَافِهِمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَنَمَى أَمْرُهُ حَتَّى قَهَرَهُمْ، وَتَمَكَّنَ مِنْ مِلْكِ مَقَالِيدِهِمْ، وَاسْتِبَاحَةِ مَمَالِكِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرِهِمْ بِإِظْهَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَتَأْيِيدِهِ بِنَصْرِهِ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَإِمْدَادِهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُسَوِّمِينَ، وَلَوْ كَانَ ابْنَ مَلِكٍ، أَوْ ذَا أَشْيَاعٍ مُتَقَدِّمِينَ لِحَسِبَ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ ظُهُورِهِ، وَمُقْتَضَى عُلُوِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ هِرَقْلُ حِينَ سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَنْهُ: هَلْ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَقَالَ: لَا. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ لَقُلْنَا: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَإِذَا الْيُتْمُ مِنْ صِفَتِهِ، وَإِحْدَى عَلَامَاتِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَكَذَا وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ أَرْمِيَاءَ، وَبِهَذَا وَصَفَهُ ابْنُ ذِي يَزَنٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبَحِيرَا لِأَبِي طَالِبٍ. وَكَذَلِكَ إِذَا وُصِفَ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِهِ فَهِيَ مِدْحَةٌ لَهُ وَفَضِيلَةٌ ثَابِتَةٌ فِيهِ، وَقَاعِدَةُ مُعْجِزَتِهِ، إِذْ مُعْجِزَتُهُ الْعُظْمَى فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِطَرِيقِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، مَعَ مَا مُنِحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفُضِّلَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَوُجُودُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يُدَارِسْ وَلَا لُقِّنَ مُقْتَضَى الْعَجَبِ، وَمُنْتَهَى الْعِبَرِ، وَمُعْجِزَةُ الْبَشَرِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَقِيصَةٌ، إِذِ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْمَعْرِفَةُ، وَإِنَّمَا هِيَ آلَةٌ لَهَا وَوَاسِطَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَيْهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ فِي نَفْسِهَا، فَإِذَا حَصَلَتِ الثَّمَرَةُ، وَالْمَطْلُوبُ اسْتُغْنِيَ عَنِ الْوَاسِطَةِ، وَالسَّبَبِ. وَالْأُمِّيَّةُ فِي غَيْرِهِ نَقِيصَةٌ، لِأَنَّهَا سَبَبُ الْجَهَالَةِ، وَعُنْوَانُ الْغَبَاوَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ بَايَنَ أَمْرَهُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ، وَجَعَلَ شَرَفَهُ فِيمَا فِيهِ مَحَطَّةُ سِوَاهُ، وَجَعَلَ حَيَاتَهُ فِيمَا فِيهِ هَلَاكُ مَنْ عَدَاهُ، هَذَا شَقُّ قَلْبِهِ وَإِخْرَاجُ حُشْوَتِهِ، كَانَ تَمَامَ حَيَاتِهِ وَغَايَةَ قُوَّةِ نَفْسِهِ، وَثَبَاتَ رَوْعِهِ، وَهُوَ فِيمَنْ سِوَاهُ مُنْتَهَى هَلَاكِهِ وَحَتْمُ مَوْتِهِ وَفَنَائِهِ، وَهَلُمَّ جَرَّا إِلَى سَائِرِ مَا رُوِيَ مِنْ أَخْبَارِهِ وَسِيَرِهِ وَتَقَلُّلِهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمِنَ الْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ وَالْمَرْكَبِ , وَتَوَاضُعِهِ وَمِهْنَتِهِ نَفْسَهُ فِي أُمُورِهِ، وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ زُهْدًا، وَرَغْبَةً عَنِ الدُّنْيَا، وَتَسْوِيَةً بَيْنَ حَقِيرِهَا وَخَطِيرِهَا، لِسُرْعَةِ فَنَاءِ أُمُورِهَا، وَتَقَلُّبِ أَحْوَالِهَا، كُلُّ هَذَا مِنْ فَضَائِلِهِ، وَمَآثِرِهِ، وَشَرَفِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَمَنْ أَوْرَدَ شَيْئًا مِنْهَا مَوْرِدَهُ، وَقَصَدَ بِهَا مَقْصِدَهُ كَانَ حَسَنًا، وَمَنْ أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَعُلِمَ مِنْهُ بِذَلِكَ سُوءُ قَصْدِهِ لَحِقَ بِالْفُصُولِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا. وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِ وَأَخْبَارِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي الْأَحَادِيثِ مِمَّا فِي ظَاهِرِهِ إِشْكَالٌ يَقْتَضِي أُمُورًا لَا تَلِيقُ بِهِمْ بِحَالٍ، وَتَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَتَرَدُّدِ احْتِمَالٍ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَتَحَدَّثَ مِنْهَا إِلَّا بِالصَّحِيحِ، وَلَا يُرْوَى مِنْهَا إِلَّا الْمَعْلُومُ الثَّابِتُ. وَرَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا، فَلَقَدْ كَرِهَ التَّحَدُّثَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ وَالْمُشْكِلَةِ الْمَعْنَى، وَقَالَ: مَا يَدْعُو إِلَى التَّحَدُّثِ بِمِثْلِ هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَجْلَانَ يُحَدِّثُ بِهَا، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَيْتَ النَّاسَ وَافَقُوهُ عَلَى تَرْكِ الْحَدِيثِ بِهَا، وَسَاعَدُوهُ عَلَى طَيِّهَا، فَأَكْثَرُهَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، بَلْ عَنْهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْرَدَهَا عَلَى قَوْمٍ عَرَبٍ يَفْهَمُونَ كَلَامَ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهِهِ، وَتَصَرُّفَاتِهِمْ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَاسْتِعَارَتِهِ وَبَلِيغِهِ وَإِيجَازِهِ، فَلَمْ تَكُنْ فِي حَقِّهِمْ مُشْكِلَةً، ثُمَّ جَاءَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْعُجْمَةُ، وَدَاخَلَتْهُ الْأُمِّيَّةُ، فَلَا يَكَادُ يَفْهَمُ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَرَبِ إِلَّا نَصَّهَا وَصَرِيحَهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ بِإِشَارَاتِهَا إِلَى غَرَضِ الْإِيجَازِ وَوَحْيِهَا وَتَبْلِيغِهَا وَتَلْوِيحِهَا، فَتَفَرَّقُوا مِنْ تَأْوِيلِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا شَذَرَ مَذَرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. فَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَوَاجِبٌ أَلَّا يُذْكَرَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَلَا فِي حَقِّ أَنْبِيَائِهِ، وَلَا يُتَحَدَّثُ بِهَا، وَلَا يُتَكَلَّفُ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِيهَا. وَالصَّوَابُ طَرْحُهَا، وَتَرْكُ الشُّغْلِ بِهَا إِلَّا أَنْ تُذْكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيفِ بِأَنَّهَا ضَعِيفَةُ الْمَقَادِ وَاهِيَةُ الْإِسْنَادِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْأَشْيَاخُ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ تَكَلُّفَهُ فِي مُشْكِلِهِ الْكَلَامَ عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ مَوْضُوعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا، أَوْ مَنْقُولَةٍ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُلَبِّسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. كَانَ يَكْفِيهِ طَرْحُهَا، وَيُغْنِيهِ عَنِ الْكَلَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى ضَعْفِهَا، إِذِ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ عَلَى مُشْكِلِ مَا فِيهَا إِزَالَةُ اللَّبْسِ، وَاجْتِثَاثُهَا مِنْ أَصْلِهَا، وَطَرْحُهَا أَكْشَفُ لِلَّبْسِ، وَأَشْفَى لِلنَّفْسِ.
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا لَا يَجُوزُ، وَالذَّاكِرُ مِنْ حَالَاتِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُذَاكَرَةِ وَالتَّعْلِيمِ أَنْ يَلْتَزِمَ فِي كَلَامِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْوَاجِبِ مِنْ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَيُرَاقِبُ حَالَ لِسَانِهِ وَلَا يُهْمِلُهُ، وَتَظْهَرُ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْأَدَبِ عِنْدَ ذِكْرِهِ، فَإِذَا ذَكَرَ مَا قَاسَاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْإِشْفَاقُ وَالِارْتِمَاضُ وَالْغَيْظُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَمَوَدَّةُ الْفِدَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالنُّصْرَةُ لَهُ لَوْ أَمْكَنَتْهُ. وَإِذَا أَخَذَ فِي أَبْوَابِ الْعِصْمَةِ، وَتَكَلَّمَ عَلَى مَجَارِي أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَرَّى أَحْسَنَ اللَّفْظِ وَأَدَبَ الْعِبَارَةِ مَا أَمْكَنَهُ، وَاجْتَنَبَ بَشِيعَ ذَلِكَ، وَهَجَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ مَا يَقْبُحُ، كَلَفْظَةِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأَقْوَالِ قَالَ: هَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ فِي الْقَوْلِ، وَالْإِخْبَارُ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ سَهْوًا أَوْ غَلَطًا، وَنَحْوَهُ مِنَ الْعِبَارَةِ، وَيَتَجَنَّبُ لَفْظَةَ الْكَذِبِ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَإِذَا تَكَلَّمَ عَلَى الْعِلْمِ قَالَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمَ إِلَّا مَا عُلِّمَ؟، وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَا يَقُولَ بِجْهَلٍ؛ لِقُبْحِ اللَّفْظِ وَبَشَاعَتِهِ. وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأَفْعَالِ قَالَ: هَلْ يَجُوزُ مِنْهُ الْمُخَالِفَةُ فِي بَعْضِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمُوَاقَعَةُ الصَّغَائِرِ؟ فَهُوَ أَوْلَى وَآدَبُ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْصِيَ أَوْ يُذْنِبَ أَوْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي؟ فَهَذَا مِنْ حَقِّ تَوْقِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تَعْزِيزٍ وَإِعْظَامٍ. وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا، فَقُبِّحَ مِنْهُ، وَلَمْ أَسْتَصْوِبْ عِبَارَتَهُ فِيهِ. وَوَجَدْتُ بَعْضَ الْجَائِرِينَ قَوَّلَهُ لِأَجْلِ تَرْكِ تَحَفُّظِهِ فِي الْعِبَارَةِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَشَنَّعَ عَلَيْهِ بِمَا يَأْبَاهُ، وَيَكْفُرُ قَائِلُهُ. وَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَعْمَلًا فِي آدَابِهِمْ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَخِطَابِهِمْ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبُ، وَالْتِزَامُهُ آكَدُ. فَجَوْدَةُ الْعِبَارَةِ تُقَبِّحُ الشَّيْءَ أَوْ تُحَسِّنُهُ، وَتَحْرِيرُهَا وَتَهْذِيبُهَا تُعَظِّمُ الْأَمْرَ أَوْ تُهَوِّنُهُ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا». فَأَمَّا مَا أَوْرَدَهُ عَلَى جِهَةِ النَّفْيِ عَنْهُ، وَالتَّنْزِيهِ فَلَا حَرَجَ فِي تَسْرِيحِ الْعِبَارَةِ وَتَصْرِيحِهَا فِيهِ، كَقَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ جُمْلَةً، وَلَا إِتْيَانُ الْكَبَائِرِ بِوَجْهٍ، وَلَا الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ عَلَى حَالٍ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يَجِبُ ظُهُورُ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ مُجَرَّدًا، فَكَيْفَ عِنْدَ ذِكْرِ مِثْلِ هَذَا. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ حَالَاتٌ شَدِيدَةٌ عِنْدَ مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَلْتَزِمُ مِثْلَ ذَلِكَ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيٍ مِنَ الْقُرْآنِ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مَقَالَ عِدَاهُ، وَمَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ، وَافْتَرَى عَلَيْهِ الْكَذِبَ، فَكَانَ يَخْفِضُ بِهَا صَوْتَهُ إِعْظَامًا لِرَبِّهِ، وَإِجْلَالًا لَهُ، وَإِشْفَاقًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ.
|