الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلِّمْ قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيَاضٍ الْيَحْصُبِيُّ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِاسْمِهِ الْأَسْمَى، الْمُخْتَصِّ بِالْمُلْكِ الْأَعَزِّ الْأَحْمَى، الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ مُنْتَهًى، وَلَا وَرَاءَهُ مَرْمًى، الظَّاهِرِ لَا تَخَيُّلًا وَوَهْمًا، الْبَاطِنِ تَقَدُّسًا لَا عُدْمًا، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَسْبَغَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ نِعَمًا عُمًّا، وَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ عُرْبًا وَعُجْمًا، وَأَزْكَاهُمْ مَحْتِدًا وَمَنْمًى، وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلًا وَحِلْمًا، وَأَوْفَرَهُمْ عِلْمًا وَفَهْمًا، وَأَقْوَاهُمْ يَقِينًا وَعَزْمًا، وَأَشَدَّهُمْ بِهِمْ رَأْفَةً وَرُحْمًا، زَكَّاهُ رُوحًا وَجِسْمًا، وَحَاشَاهُ عَيْبًا وَوَصْمًا، وَآتَاهُ حِكْمَةً وَحُكْمًا، وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَآذَانًا صُمًّا، فَآمَنَ بِهِ وَعَزَّرَهُ، وَنَصَرَهُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي مَغْنَمِ السَّعَادَةِ قِسْمًا، وَكَذَّبَ بِهِ وَصَدَفَ عَنْ آيَاتِهِ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاءَ حَتْمًا، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الْإِسْرَاءِ: 72]. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً تَسْمُو وَتُنْمَى، وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. أَمَّا بَعْدُ: أَشْرَقَ اللَّهُ قَلْبِي وَقَلَبَكَ بِأَنْوَارِ الْيَقِينِ، وَلَطَفَ لِي وَلَكَ بِمَا لَطَفَ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِنُزُلِ قُدْسِهِ، وَأَوْحَشَهُمْ مِنَ الْخَلِيقَةِ بِأُنْسِهِ، وَخَصَّهُمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمُشَاهَدَةِ عَجَائِبِ مَلَكُوتِهِ وَآثَارِ قُدْرَتِهِ بِمَا مَلَأَ قُلُوبَهُمْ حَبْرَةً، وَوَلَّهَ عُقُولَهُمْ فِي عَظَمَتِهِ حَيْرَةً، فَجَعَلُوا هَمَّهُمْ بِهِ وَاحِدًا، وَلَمْ يَرَوْا فِي الدَّارَيْنِ غَيْرَهُ مُشَاهَدًا، فَهُمْ بِمُشَاهَدَةِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ يَتَنَعَّمُونَ، وَبَيْنَ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَعَجَائِبِ عَظَمَتِهِ يَتَرَدَّدُونَ، وَبِالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ يَتَعَزَّزُونَ، لَهِجِينَ بِصَادِقِ قَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 92]. فَإِنَّكَ كَرَّرْتَ عَلَيَّ السُّؤَالَ فِي مَجْمُوعٍ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ بِقَدْرِ الْمُصْطَفَى- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تَوْقِيرٍ وَإِكْرَامٍ، وَمَا حُكْمُ مَنْ لَمْ يُوَفِّ وَاجِبَ عَظِيمِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، أَوْ قَصَّرَ فِي حَقِّ مَنْصِبِهِ الْجَلِيلِ قُلَامَةَ ظُفْرٍ، وَأَنْ أَجْمَعَ لَكَ مَا لِأَسْلَافِنَا وَأَئِمَّتِنَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَقَالٍ، وَأُبَيِّنَهُ بِتَنْزِيلِ صُوَرٍ وَأَمْثَالٍ.. فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّكَ حَمَّلْتَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا إِمْرًا، وَأَرْهَقْتَنِي فِيمَا نَدَبْتَنِي إِلَيْهِ عُسْرًا، وَأَرْقَيْتَنِي بِمَا كَلَّفْتَنِي مُرْتَقًى صَعْبًا، مَلَأَ قَلْبِي رُعْبًا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ يَسْتَدْعِي تَقْرِيرَ أُصُولٍ وَتَحْرِيرَ فُصُولٍ، وَالْكَشْفَ عَنْ غَوَامِضَ وَدَقَائِقَ مِنْ عِلْمِ الْحَقَائِقِ، مِمَّا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُضَافُ إِلَيْهِ، أَوْ يَمْتَنِعُ أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةَ النَّبِيِّ، وَالرَّسُولِ، وَالرِّسَالَةِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخِلَّةِ، وَخَصَائِصِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَلِيَّةِ، وَهَاهُنَا مَهَامَهُ فِيحٌ تَحَارُ فِيهَا الْقَطَا، وَتَقْصُرُ بِهَا الْخُطَى، وَمَجَاهِلُ تَضِلُّ فِيهَا الْأَحْلَامُ إِنْ لَمْ تَهْتَدِ بِعَلَمِ عِلْمٍ وَنَظَرِ سَدِيدٍ، وَمَدَاحِضُ تَزِلُّ بِهَا الْأَقْدَامُ، إِنْ لَمْ تَعْتَمِدْ عَلَى تَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ وَتَأْيِيدٍ. لَكِنِّي لِمَا رَجَوْتُهُ لِي وَلَكَ فِي هَذَا السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ مِنْ نَوَالٍ وَثَوَابٍ، بِتَعْرِيفِ قَدْرِهِ الْجَسِيمِ، وَخُلُقِهِ الْعَظِيمِ، وَبَيَانِ خَصَائِصِهِ الَّتِي لَمْ تَجْتَمِعْ قَبْلُ فِي مَخْلُوقٍ، وَمَا يُدَانُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ أَرْفَعُ الْحُقُوقِ، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [الْمُدَّثِّرِ: 31]. وَلِمَا أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ. وَلِمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فَبَادَرْتُ إِلَى نُكَتٍ مُسْفِرَةٍ عَنْ وَجْهِ الْغَرَضِ، مُؤَدِّيًا مِنْ ذَلِكَ الْحَقَّ الْمُفْتَرَضَ، اخْتَلَسْتُهَا عَلَى اسْتِعْجَالٍ، لِمَا الْمَرْءُ بِصَدَدِهِ مِنْ شُغْلِ الْبَدَنِ، وَالْبَالِ، بِمَا طَوَّقَهُ مِنْ مَقَالِيدِ الْمِحْنَةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا، فَكَادَتْ تَشْغَلُ عَنْ كُلِّ فَرْضٍ وَنَفْلٍ، وَتَرُدُّ بَعْدَ حُسْنِ التَّقْوِيمِ إِلَى أَسْفَلِ سُفْلٍ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ بِالْإِنْسَانِ خَيْرًا لَجَعَلَ شُغْلَهُ وَهَمَّهُ كُلَّهُ فِيمَا يُحْمَدُ غَدًا وَلَا يُذَمُّ مَحَلُّهُ، فَلَيْسَ ثَمَّ سِوَى نَضْرَةِ النَّعِيمِ، أَوْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَلَكَانَ عَلَيْهِ بِخُوَيْصَّتِهِ، وَاسْتِنْقَاذِ مُهْجَتِهِ وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَسْتَزِيدُهُ، وَعِلْمٍ نَافِعٍ يُفِيدُهُ أَوْ يَسْتَفِيدُهُ. جَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى صَدْعَ قُلُوبِنَا، وَغَفَرَ عَظِيمَ ذُنُوبِنَا، وَجَعَلَ جَمِيعَ اسْتِعْدَادِنَا لِمَعَادِنَا، وَتَوَفُّرَ دَوَاعِينَا فِيمَا يُنْجِينَا وَيُقَرِّبُنَا إِلَيْهِ زُلْفَةً، وَيُحْظِينَا بِمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلَمَّا نَوَيْتُ تَقْرِيبَهُ، وَدَرَّجْتُ تَبْوِيبَهُ، وَمَهَّدْتُ تَأْصِيلَهُ، وَخَلَّصْتُ تَفْصِيلَهُ، وَانْتَحَيْتُ حَصْرَهُ وَتَحْصِيلَهُ، تَرْجَمْتُهُ: بِـ«الشِّفَاءِ بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ الْمُصْطَفَى». وَحَصَرْتُ الْكَلَامَ فِيهِ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: 1- الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي تَعْظِيمِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى لِقَدْرِ هَذَا النَّبِيِّ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَتَوَجَّهَ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: الباب الْأَوَّلُ: فِي ثَنَائِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَإِظْهَارِهِ عَظِيمَ قَدْرِهِ لَدَيْهِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ: الباب الثَّانِي: فِي تَكْمِيلِهِ تَعَالَى لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا، وَقِرَانِهِ جَمِيعَ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ فِيهِ نَسَقًا، وَفِيهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَصْلًا. الباب الثَّالِثُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ، وَمَشْهُورِهَا بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَمَنْزِلَتِهِ، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَفِيهِ اثْنَا عَشَرَ فَصْلًا. الباب الرَّابِعُ: فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْمُعْجِزَاتِ، وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَالْكَرَامَاتِ، وَفِيهِ ثَلَاثُونَ فَصْلًا. 2- الْقِسْمُ الثَّانِي: فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ مِنْ حُقُوقِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَتَرَتَّبُ الْقَوْلُ فِيهِ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: الباب الْأَوَّلُ: فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَفِيهِ خَمْسَةُ فُصُولٍ. الباب الثَّانِي: فِي لُزُومِ مَحَبَّتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَفِيهِ سِتَّةُ فُصُولٍ. الباب الثَّالِثُ: فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَلُزُومِ تَوْقِيرِهِ، وَبِرِّهِ، وَفِيهِ سَبْعَةُ فُصُولٍ. الباب الرَّابِعُ: فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَفَرْضِ ذَلِكَ وَفَضِيلَتِهِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ. 3- الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فِيمَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا يَمْتَنِعُ، وَيَصِحُّ مِنَ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ. وَهَذَا الْقِسْمُ أَكْرَمَكَ اللَّهُ تَعَالَى- هُوَ سِرُّ الْكِتَابِ، وَلُبَابُ ثَمَرَةِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ، وَمَا قَبْلَهُ لَهُ كَالْقَوَاعِدِ، وَالتَّمْهِيدَاتِ، وَالدَّلَائِلِ عَلَى مَا نُورِدُهُ فِيهِ مِنَ النُّكَتِ الْبَيِّنَاتِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَالْمُنْجِزُ مِنْ غَرَضِ هَذَا التَّأْلِيفِ وَعْدَهُ، وَعِنْدَ التَّقَصِّي لِمَوْعِدَتِهِ، وَالتَّقَصِّي عَنْ عُهْدَتِهِ، يَشْرَقُ صَدْرُ الْعَدُوِّ اللَّعِينِ، وَيُشْرِقُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بِالْيَقِينِ، وَتَمْلَأُ أَنْوَارُهُ حَوَائِجَ صَدْرِهِ وَيَقْدُرُ الْعَاقِلُ النَّبِيَّ حَقَّ قَدْرِهِ. وَيَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي بَابَيْنِ: الباب الْأَوَّلُ: فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَيَتَثَبَّثُ بِهِ الْقَوْلُ فِي الْعِصْمَةِ وَفِيهِ سِتَّةَ عَشَرَ فَصْلًا. الباب الثَّانِي: فِي أَحْوَالِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَمَا يَجُوزُ طُرُوُّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ، وَفِيهِ تِسْعَةُ فُصُولٍ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فِي تَصَرُّفِ وُجُوهِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَنْ تَنَقَّصَهُ أَوْ سَبَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْقَسِمُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي بَابَيْنِ: الباب الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ مَا هُوَ فِي حَقِّهِ سَبٌّ وَنَقْصٌ، مِنْ تَعْرِيضٍ، أَوْ نَصٍّ، وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ. الباب الثَّانِي: فِي حُكْمِ شَانِئِهِ وَمُؤْذِيهِ وَمُنْتَقِصِهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَذِكْرِ اسْتِتَابَتِهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَوِرَاثَتِهِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ. وَخَتَمْنَاهُ بِبَابٍ ثَالِثٍ: جَعَلْنَاهُ تَكْمِلَةً لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَوَصْلَةً لِلْبَابَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرُسُلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَكُتُبَهُ، وَآلَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَصَحْبَهُ. وَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي خَمْسَةِ فُصُولٍ، وَبِتَمَامِهَا يَنْتَجِزُ الْكِتَابُ، وَتَتِمُّ الْأَقْسَامُ، وَالْأَبْوَابُ، وَيَلُوحُ فِي غُرَّةِ الْإِيمَانِ لُمْعَةٌ مُنِيرَةٌ، وَفِي تَاجِ التَّرَاجِمِ دُرَّةٌ خَطِيرَةٌ، تُزِيحُ كُلَّ لَبْسٍ، وَتُوَضِّحُ كُلَّ تَخْمِينٍ وَحَدْسٍ، وَتَشْفِي صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَتَصْدَعُ بِالْحَقِّ، وَتُعْرِضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَهَ سِوَاهُ أَسْتَعِينُ.
فِي تَعْظِيمِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى لِقَدْرِ هَذَا النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَفِعْلًا
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ- وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لَا خَفَاءَ عَلَى مَنْ مَارَسَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ خُصَّ بِأَدْنَى لَمْحَةٍ مِنَ الْفَهْمِ، بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْرَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخُصُوصِهِ إِيَّاهُ بِفَضَائِلَ وَمَحَاسِنَ وَمَنَاقِبَ لَا تَنْضَبِطُ لِزِمَامٍ، وَتَنْوِيهِهِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ بِمَا تَكِلُّ عَنْهُ الْأَلْسِنَةُ، وَالْأَقْلَامُ. فَمِنْهَا مَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى جَلِيلِ نِصَابِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، وَحَضَّ الْعِبَادَ عَلَى الْتِزَامِهِ، وَتَقَلُّدِ إِلْجَابِهِ: فَكَانَ- جَلَّ جَلَالُهُ- هُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ وَأَوْلَى، ثُمَّ طَهَّرَ وَزَكَّى، ثُمَّ مَدَحَ بِذَلِكَ وَأَثْنَى، ثُمَّ أَثَابَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فَلَهُ الْفَضْلُ بَدْءًا وَعَوْدًا، وَالْحَمْدُ أُولَى وَأُخْرَى. وَمِنْهَا مَا أَبْرَزَهُ لِلْعِيَانِ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْكَمَالِ، وَالْجَلَالِ، وَتَخْصِيصِهِ بِالْمَحَاسِنِ الْجَمِيلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالْمَذَامِي الْكَرِيمَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْعَدِيدَةِ، وَتَأْيِيدِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ، وَالْكَرَامَاتِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي شَاهَدَهَا مَنْ عَاصَرَهُ وَرَآهَا مَنْ أَدْرَكَهُ، وَعَلِمَهَا عِلْمَ يَقِينٍ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ، حَتَّى انْتَهَى عِلْمُ ذَلِكَ إِلَيْنَا، وَفَاضَتْ أَنْوَارُهُ عَلَيْنَا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا. حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ خَيْرُونَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى بْنُ سَوْرَةَ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. قَالَ: فَارْفَضَّ عَرَقًا. الباب الْأَوَّلُ: فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِظْهَارِهِ عَظِيمَ قَدْرِهِ لَدَيْهِ. الفصل الْأَوَّلُ: فِيمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَجِيءَ الْمَدْحِ. الفصل الثَّانِي: فِي وَصْفِهِ تَعَالَى لَهُ بِالشَّهَادَةِ. الفصل الثَّالِثُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ خِطَابِهِ إِيَّاهُ مَوْرِدَ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمَبَرَّةِ. الفصل الرَّابِعُ: فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ. الفصل الْخَامِسُ: فِي قَسْمِهِ تَعَالَى جَدَّهُ لَهُ لِيُحَقِّقَ مَكَانَتَهُ عِنْدَهُ. الفصل السَّادِسُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي جِهَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْرِدَ الشَّفَاعَةِ وَالْإِكْرَامِ. الفصل السَّابِعُ: فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ وَشَرِيفِ مَنْزِلَتِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَخُطْوَةِ رَقَبَتِهِ. الفصل الثَّامِنُ: فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بِصَلَوَاتِهِ عَلَيْهِ وَوِلَايَتِهِ لَهُ وَرَفْعِهِ الْعَذَابَ بِسَبَبِهِ. الفصل التَّاسِعُ: فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كَرَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الفصل الْعَاشِرُ: فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ كَرَامَاتِهِ عَلَيْهِ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَهُ.
اعْلَمْ أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ آيَاتٍ كَثِيرَةً مُفْصِحَةً بِجَمِيلِ ذِكْرِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَدِّ مَحَاسِنِهِ، وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ، وَتَنْوِيهِ قَدْرِهِ، اعْتَمَدْنَا مِنْهَا عَلَى مَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ، وَبَانَ فَحْوَاهُ، وَجَمَعْنَا ذَلِكَ فِي عَشَرَةِ فُصُولٍ:
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التَّوْبَةِ: 128] الْآيَةَ. قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: " مِنْ أَنْفَسِكُمْ " [التَّوْبَةِ: 128] بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالضَّمِّ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ، أَوِ الْعَرَبَ، أَوْ أَهْلَ مَكَّةَ، أَوْ جَمِيعَ النَّاسِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُوَاجَهِ بِهَذَا الْخِطَابِ: أَنَّهُ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ، وَيَتَحَقَّقُونَ مَكَانَهُ وَيَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَلَا يَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ وَتَرْكِ النَّصِيحَةِ لَهُمْ، لِكَوْنِهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَلَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِلَادَةٌ أَوْ قَرَابَةٌ، [وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشُّورَى: 23] وَكَوْنِهِ مَنْ أَشْرَفِهِمْ، وَأَرْفَعِهِمْ، وَأَفْضَلِهِمْ، عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ، هَذِهِ نِهَايَةُ الْمَدْحِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بَعْدُ بِأَوْصَافٍ حَمِيدَةٍ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَحَامِدَ كَثِيرَةٍ، مِنْ حِرْصِهِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَرُشْدِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ، وَشِدَّةِ مَا يُعْنِتُهُمْ وَيَضُرُّ بِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَعِزَّتِهِ عَلَيْهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِمُؤْمِنِهِمْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَعْطَاهُ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ: رَءُوفٌ، رَحِيمٌ. وَمِثْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 164] الْآيَةَ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الْجُمْعَةِ: 2] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 151] الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التَّوْبَةِ: 129] قَالَ: «نَسَبًا وَصِهْرًا وَحَسَبًا، لَيْسَ فِي آبَائِي مِنْ لَدُنْ آدَمَ سِفَاحٌ، كُلُّهَا نِكَاحٌ». قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَمِائَةٍ أُمٍّ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهِنَّ سِفَاحًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قَالَ: مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ، حَتَّى أَخْرَجَكَ نَبِيًّا. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: عَلِمَ اللَّهُ عَجْزَ خَلْقِهِ عَنْ طَاعَتِهِ، فَعَرَّفَهُمْ ذَلِكَ، لِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ الصَّفْوَ مِنْ خِدْمَتِهِ، فَأَقَامَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَخْلُوقًا مِنْ جِنْسِهِمْ فِي الصُّورَةِ، أَلْبَسَهُ مِنْ نَعْتِهِ الرَّأْفَةَ، وَالرَّحْمَةَ، وَأَخْرَجَهُ إِلَى الْخَلْقِ سَفِيرًا صَادِقًا، وَجَعَلَ طَاعَتَهُ طَاعَتَهُ، وَمُوَافَقَتَهُ مُوَافَقَتَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّسَاءِ: 80]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 107] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ: زَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزِينَةِ الرَّحْمَةِ، فَكَانَ كَوْنُهُ رَحْمَةً، وَجَمِيعُ شَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ رَحْمَةً عَلَى الْخَلْقِ، فَمَنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ رَحْمَتِهِ فَهُوَ النَّاجِي فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَالْوَاصِلُ فِيهِمَا إِلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 107]، فَكَانَتْ حَيَاتُهُ رَحْمَةً، وَمَمَاتُهُ رَحْمَةً، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَوْتِي خَيْرٌ لَكُمْ» وَكَمَا قَالَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةً بِأُمَّةٍ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا، فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا». وَقَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}: يَعْنِي لِلْجِنِّ، وَالْإِنْسِ. قِيلَ: لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، لِلْمُؤْمِنِ رَحْمَةً بِالْهِدَايَةِ، وَرَحْمَةً لِلْمُنَافِقِ بِالْأَمَانِ مِنَ الْقَتْلِ، وَرَحْمَةً لِلْكَافِرِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: هُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، إِذْ عُوفُوا مِمَّا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ. وَحُكِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هَلْ أَصَابَكَ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ؟» قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَخْشَى الْعَاقِبَةَ فَأَمِنْتُ لِثَنَاءِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيَّ بِقَوْلِهِ: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التَّكْوِيرِ: 20 21] الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}. أَيْ بِكَ، إِنَّمَا وَقَعَتْ سَلَامَتُهُمْ مِنْ أَجْلِ كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النُّورِ: 35] الْآيَةَ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ بِالنُّورِ الثَّانِي هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ- تَعَالَى – {مَثَلُ نُورِهِ} [النُّورِ: 35] أَيْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْمَعْنَى: اللَّهُ هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ إِذْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا فِي الْأَصْلَابِ كَمِشْكَاةٍ صِفَتُهَا كَذَا، وَأَرَادَ بِالْمِصْبَاحِ قَلْبَهُ، وَالزُّجَاجَةِ صَدْرَهُ، أَيْ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ أَيْ مِنْ نُورِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ. وَقَوْلُهُ: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النُّورِ: 35] أَيْ تَكَادُ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِينُ لِلنَّاسِ قَبْلَ كَلَامِهِ كَهَذَا الزَّيْتِ. وَقِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ نُورًا وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [الْمَائِدَةِ: 15] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 45 46] الْآيَةَ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْحِ: 1]. شَرَحَ: وَسَّعَ. وَالْمُرَادُ بِالصَّدْرِ هُنَا: الْقَلْبُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: شَرَحَهُ بِنُورِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ سَهْلٌ: بِنُورِ الرِّسَالَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَلَأَهُ حُكْمًا وَعِلْمًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَمْ يُطَهِّرْ قَلْبَكَ حَتَّى لَا يَقْبَلَ الْوَسْوَاسَ. {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشَّرْحِ: 8- 9] قِيلَ: مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِكَ يَعْنِي قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ ثِقَلَ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ حَتَّى بَلَّغَهَا. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالسُّلَمِيُّ. وَقِيلَ: عَصَمْنَاكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَثْقَلَتِ الذُّنُوبُ ظَهْرَكَ، حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ. {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشَّرْحِ: 4]. قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: بِالنُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي فِي قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِي الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: هَذَا تَقْرِيرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَظِيمِ نِعَمِهِ لَدَيْهِ، وَشَرِيفِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، بِأَنْ شَرَحَ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ، وَوَسَّعَهُ لِوَعْيِ الْعِلْمِ، وَحَمْلِ الْحِكْمَةِ، وَرَفَعَ عَنْهُ ثِقَلَ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ، وَبَغَّضَهُ لِسِيَرِهَا، وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِظُهُورِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَحَطَّ عَنْهُ عُهْدَةَ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالنُّبُوَّةِ لِتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ، وَتَنْوِيهِهِ بِعَظِيمِ مَكَانِهِ وَجَلِيلِ رُتْبَتِهِ، وَرِفْعَةِ ذِكْرِهِ، وَقِرَانِهِ مَعَ اسْمِهِ اسْمَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَلَيْسَ خَطِيبٌ، وَلَا مُتَشَهِّدٌ، وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: تَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي». قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: جَعَلْتُ تَمَامَ الْإِيمَانِ بِذِكْرِكَ مَعِي. وَقَالَ أَيْضًا: جَعَلْتُكَ ذِكْرًا مِنْ ذِكْرِي، فَمَنْ ذَكَرَكَ ذَكَرَنِي. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: لَا يَذْكُرُكَ أَحَدٌ بِالرِّسَالَةِ إِلَّا ذَكَرَنِي بِالرُّبُوبِيَّةِ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى مَقَامِ الشَّفَاعَةِ. وَمِنْ ذِكْرِهِ مَعَهُ تَعَالَى أَنْ قَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ، وَاسْمَهُ بِاسْمِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آلُ عِمْرَانَ: 132]. وَ {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الْحَدِيدِ: 7]، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِوَاوِ الْعَطْفِ الْمُشْرِكَةِ. وَلَا يَجُوزُ جَمْعُ هَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: [حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَيَّانِيُّ الْحَافِظُ فِيمَا أَجَازَنِيهِ، وَقَرَأْتُهُ عَلَى الثِّقَةِ عَنْهُ]. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ النَّمِرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَّةَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجْزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ». قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرْشَدَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَدَبِ فِي تَقْدِيمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَشِيئَةِ مَنْ سِوَاهُ، وَاخْتَارَهَا بِثُمَّ الَّتِي هِيَ لِلنَّسَقِ، وَالتَّرَاخِي، بِخِلَافِ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ لِلِاشْتِرَاكِ. وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ! قُمْ. أَوْ قَالَ: اذْهَبْ». قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: كَرِهَ مِنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ. وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ كَرِهَ لَهُ الْوُقُوفَ عَلَى " يَعْصِهِمَا ". وَقَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ أَصَحُّ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، وَلَمْ يَذْكُرِ الْوُقُوفَ عَلَى يَعْصِهِمَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَصْحَابُ الْمَعَانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الْأَحْزَابِ: 56]، هَلْ [يُصَلُّونَ] رَاجِعَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، لِعِلَّةِ التَّشْرِيكِ، وَخَصُّوا الضَّمِيرَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَقَدَّرُوا الْآيَةَ: إِنَّ اللَّهَ يُصَلِّي، وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طَاعَتَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّسَاءِ: 80]. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلُ عِمْرَانَ: 31] الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ حَنَانًا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آلُ عِمْرَانَ: 32] فَقَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ رَغْمًا لَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أُمِّ الْكِتَابِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الْفَاتِحَةِ: 6- 7]، فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِيَارُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ، حَكَاهُ عَنْهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَحَكَى مَكِّيٌّ عَنْهُمَا نَحْوَهُ، وَقَالَ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-. وَحَكَى أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ مِثْلَهُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الْفَاتِحَةِ: 7] قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ، فَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ وَنَصَحَ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الْفَاتِحَةِ: 6]. عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، عَنْ بَعْضِهِمْ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لُقْمَانَ: 22] إِنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: شَهَادَةُ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ سَهْلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إِبْرَاهِيمَ: 34] قَالَ: نِعْمَتُهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزُّمَرِ: 33] الْآيَةَ. أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الَّذِي صَدَّقَ بِهِ. وَقُرِئَ: صَدَقَ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الَّذِي صَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ. وَقِيلَ: عَلِيٌّ. وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرَّعْدِ: 28] قَالَ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 45] الْآيَةَ. جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضُرُوبًا مِنْ رُتَبِ الْأَثَرَةِ، وَجُمْلَةِ أَوْصَافٍ مِنَ الْمِدْحَةِ فَجَعَلَهُ شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِهِ لِنَفْسِهِ بِإِبْلَاغِهِمُ الرِّسَالَةَ، وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُبَشِّرًا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَنَذِيرًا لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ، وَدَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَعِبَادَتِهِ، وَسِرَاجًا مُنِيرًا يُهْتَدَى بِهِ لِلْحَقِّ. [حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ] عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 45]، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا. وَذَكَرَ مِثْلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَلَا صَخِبٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا مُتَزَيِّنٍ بِالْفُحْشِ، وَلَا قَوَّالٍ لِلْخَنَا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ جَمِيلٍ، وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالْبِرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالصِّدْقَ، وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأُسَمِّي بِهِ بَعْدَ النُّكْرَةِ، وَأُكَثِّرُ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعِلَّةِ، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ قُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَشَتِّتَةٍ، وَأُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَاجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ: " عَبْدِي أَحْمَدُ الْمُخْتَارُ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجَرُهُ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ قَالَ: طَيْبَةُ أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ- تَعَالَى – {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الْأَعْرَافِ: 157] الْآيَةَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آلُ عِمْرَانَ: 159] الْآيَةَ. قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَّتَهُ أَنَّهُ جَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا بِالْمُؤْمِنِينَ، رَءُوفًا لَيِّنَ الْجَانِبِ، وَلَوْ كَانَ فَظًّا خَشِنًا فِي الْقَوْلِ لَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِهِ، وَلَكِنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَمْحًا، سَهْلًا طَلْقًا بَرًّا لَطِيفًا. هَكَذَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَضْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَضْلَ أُمَّتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الْحَجِّ: 78] الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النِّسَاءِ: 41] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَطًا}: أَيْ عَدْلًا خِيَارًا. وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: وَكَمَا هَدَيْنَاكُمْ فَكَذَلِكَ خَصَصْنَاكُمْ وَفَضَّلْنَاكُمْ بِأَنْ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً خِيَارًا عُدُولًا، لِتَشْهَدُوا لِلْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- عَلَى أُمَمِهِمْ، وَيَشْهَدُ لَكُمُ الرَّسُولُ بِالصِّدْقِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ- جَلَّ جَلَالُهُ- إِذَا سَأَلَ الْأَنْبِيَاءَ: هَلْ بَلَّغْتُمْ؟. فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَتَقُولُ أُمَمُهُمْ: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ، وَلَا نَذِيرٍ، فَتَشْهَدُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيُزَكِّيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّكُمْ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَكُمْ، وَالرَّسُولُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ. حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يُونُسَ: 2] الْآيَةَ. قَالَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: قَدَمَ صِدْقٍ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَشْفَعُ لَهُمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: هِيَ مُصِيبَتُهُمْ بِنَبِيِّهِمْ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: هِيَ شَفَاعَةُ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ شَفِيعُ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: هِيَ سَابِقَةُ رَحْمَةٍ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ إِمَامُ الصَّادِقِينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، الشَّفِيعُ الْمُطَاعُ، وَالسَّائِلُ الْمُجَابُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَاهُ عَنْهُ السُّلَمِيُّ.
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 43]. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ: قِيلَ هَذَا افْتِتَاحُ كَلَامٍ بِمَنْزِلَةِ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، وَأَعَزَّكَ اللَّهُ. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالذَّنْبِ. حَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ: عَافَاكَ اللَّهُ يَا سَلِيمَ الْقَلْبِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟. قَالَ: وَلَوْ بَدَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ، {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 43] لَخِيفَ عَلَيْهِ أَنَّ يَنْشَقَّ قَلْبُهُ مِنْ هَيْبَةِ هَذَا الْكَلَامِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ حَتَّى سَكَنَ قَلْبُهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} بِالتَّخَلُّفِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ مِنَ الْكَاذِبِ. وَفِي هَذَا مِنْ عَظِيمِ مُنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ. وَمِنْ إِكْرَامِهِ إِيَّاهُ وَبِرِّهِ بِهِ مَا يَنْقَطِعُ دُونَ مَعْرِفَةِ غَايَتِهِ نِيَاطُ الْقَلْبِ. قَالَ نِفْطَوَيْهِ: ذَهَبَ نَاسٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاتَبٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا لِنِفَاقِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي- وَفَّقَهُ اللَّهُ- يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُجَاهِدِ نَفْسَهُ، الرَّائِضِ بِزِمَامِ الشَّرِيعَةِ خُلُقَهُ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَمُعَاطَاتِهِ، وَمُحَاوَرَاتِهِ، فَهُوَ عُنْصُرُ الْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَرَوْضَةُ الْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلِيَتَأَمَّلَ هَذِهِ الْمُلَاطَفَةَ الْعَجِيبَةَ فِي السُّؤَالِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، الْمُنْعِمِ عَلَى الْكُلِّ، الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْجَمِيعِ، وَيَسْتَشِيرَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ، وَكَيْفَ ابْتَدَأَ بِالْإِكْرَامِ قَبْلَ الْعَتْبِ، وَآنَسَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ إِنْ كَانَ ثَمَّ ذَنْبٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 74] الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بَعْدَ الزَّلَّاتِ، وَعَاتَبَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، لِيَكُونَ بِذَلِكَ أَشَدَّ انْتِهَاءً، وَمُحَافَظَةً لِشَرَائِطِ الْمَحَبَّةِ، وَهَذِهِ غَايَةُ الْعِنَايَةِ. ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ بَدَأَ بِثَبَاتِهِ، وَسَلَامَتِهِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا عَتَبَهُ عَلَيْهِ، وَخِيفَ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ، فَفِي أَثْنَاءِ عَتْبِهِ بَرَاءَتُهُ، وَفِي طَيِّ تَخْوِيفِهِ تَأْمِينُهُ وَكَرَامَتُهُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} [الْأَنْعَامِ: 33] الْآيَةَ. قَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} [الْأَنْعَامِ: 33] الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمَّا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ حَزِنَ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا يُحْزِنُكَ؟ قَالَ: كَذَّبَنِي قَوْمِي! فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ لَطِيفُ الْمَأْخَذِ، مِنْ تَسْلِيَتِهِ تَعَالَى لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلْطَافِهِ فِي الْقَوْلِ، بِأَنْ قَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَذِّبِينَ لَهُ، مُعْتَرِفُونَ بِصِدْقِهِ قَوْلًا، وَاعْتِقَادًا، وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ الْأَمِينَ، فَدَفَعَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ ارْتِمَاضَ نَفْسِهِ بِسِمَةِ الْكَذِبِ، ثُمَّ جَعَلَ الذَّمَّ لَهُمْ بِتَسْمِيَتِهِمْ جَاحِدِينَ ظَالِمِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الْأَنْعَامِ: 33] الْآيَةَ. وَحَاشَاهُ مِنَ الْوَصْمِ، وَطُرُقُهُمْ بِالْمُعَانَدَةِ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ حَقِيقَةُ الظُّلْمِ، إِذِ الْجَحْدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ عَلِمَ الشَّيْءَ ثُمَّ أَنْكَرَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمْلِ: 14]. ثُمَّ عَزَّاهُ، وَآنَسَهُ بِمَا ذَكَرَهُ عَمَّنْ قَبْلَهُ، وَوَعَدَهُ النَّصْرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [الْأَنْعَامِ: 34] الْآيَةَ. فَمَنْ قَرَأَ لَا يَكْذِبُونَكَ بِالتَّخْفِيفِ، فَمَعْنَاهُ: لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَالْكِسَائِيُّ: لَا يَقُولُونَ إِنَّكَ كَاذِبٌ، وَقِيلَ: لَا يَحْتَجُّونَ عَلَى كَذِبِكَ، وَلَا يُثْبِتُونَهُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَمَعْنَاهُ: لَا يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ، وَقِيلَ: لَا يَعْتَقِدُونَ كَذِبَكَ. وَمِمَّا ذُكِرَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَبِرِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْمَائِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: يَا آدَمُ، يَا نُوحُ، يَا إِبْرَاهِيمُ، يَا مُوسَى، يَا دَاوُدُ، يَا عِيسَى، يَا زَكَرِيَّا، يَا يَحْيَى. وَلَمْ يُخَاطِبْ هُوَ إِلَّا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْحِجْرِ: 72] الْآيَةَ. اتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ- جَلَّ جَلَالُهُ- بِمُدَّةِ حَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْلُهُ ضَمُّ الْعَيْنِ، مِنَ الْعُمْرِ، وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمَعْنَاهُ: وَبَقَائِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقِيلَ: وَعَيْشِكَ، وَقِيلَ: وَحَيَاتِكَ، وَهَذِهِ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ، وَغَايَةُ الْبِرِّ، وَالتَّشْرِيفِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذَرَأَ، وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: مَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْبَرِيَّةِ عِنْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1- 2] الْآيَتَيْنِ. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى يس عَلَى أَقْوَالٍ: فَحَكَى أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِي عِنْدَ رَبِّي عَشَرَةُ أَسْمَاءَ ذَكَرَ مِنْهَا: " طه "، وَ " يس " اسْمَانِ لَهُ». وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ أَرَادَ: يَا سَيِّدُ، مُخَاطَبَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يس يَا إِنْسَانُ أَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: هُوَ قَسَمٌ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ مَعْنَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، وَقِيلَ: يَا رَجُلُ، وَقِيلَ: يَا إِنْسَانُ. وَعَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: يس: يَا مُحَمَّدُ. وَعَنْ كَعْبٍ: يس: قَسَمٌ أَقَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ، وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. ثُمَّ قَالَ: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 2- 3]. فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَحَّ فِيهِ أَنَّهُ قَسَمٌ كَانَ فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا تَقَدَّمَ، وَيُؤَكِّدُ فِيهِ الْقَسَمَ عَطْفُ الْقَسَمِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى النِّدَاءِ فَقَدْ جَاءَ قَسَمٌ آخَرُ بَعْدَهُ لِتَحْقِيقِ رِسَالَتِهِ، وَالشَّهَادَةِ بِهِدَايَتِهِ: أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِهِ، وَكِتَابِهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ بِوَحْيِهِ إِلَى عِبَادِهِ، وَعَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مِنْ إِيمَانِهِ أَيْ طَرِيقٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلَا عُدُولَ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ تَعَالَى لِأَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ بِالرِّسَالَةِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا لَهُ، وَفِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ، وَتَمْجِيدِهِ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَا سَيِّدُ مَا فِيهِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [الْبَلَدُ 1: 2]. قِيلَ: لَا أُقْسِمُ بِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَعْدَ خُرُوجِكَ مِنْهُ، حَكَاهُ مَكِّيٌّ. وَقِيلَ: [لَا] زَائِدَةٌ، أَيْ أُقْسِمُ بِهِ، وَأَنْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ حَالٌّ. أَوْ حِلٌّ لَكَ مَا فَعَلْتَ فِيهِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِالْبَلَدِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَكَّةَ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: أَيْ نَحْلِفُ لَكَ بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي شَرَّفْتَهُ بِمَكَانِكَ فِيهِ حَيًّا، وَبِبَرَكَتِكَ مَيِّتًا يَعْنِي الْمَدِينَةَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَمَا بَعْدَهُ يُصَحِّحُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [الْبَلَدِ: 2]. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَطَاءٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التِّينِ: 3] قَالَ: أَمَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِمَقَامِهِ فِيهَا، وَكَوْنِهِ بِهَا، فَإِنَّ كَوْنَهُ أَمَانٌ حَيْثُ كَانَ. ثُمَّ قَالَ: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [الْبَلَدِ: 3]، وَمَنْ قَالَ: أَرَادَ آدَمَ فَهُوَ عَامٌّ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ، وَمَا وَلَدَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِشَارَةً إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَضَمَّنُ السُّورَةُ الْقَسَمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَةِ: 1 2]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْحُرُوفُ أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. وَعَنْهُ، وَعَنْ غَيْرِهِ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: الْأَلِفُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّامُ جِبْرِيلُ، وَالْمِيمُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى سَهْلٍ، وَجَعَلَ مَعْنَاهُ: اللَّهُ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْقُرْآنِ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَحْتَمِلُ الْقَسَمُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ فِيهِ مِنْ فَضِيلَةِ قِرَانِ اسْمِهِ بِاسْمِهِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] أَقْسَمَ بِقُوَّةِ قَلْبِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ حَمَلَ الْخِطَابَ، وَالْمُشَاهَدَةَ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ لِعُلُوِّ حَالِهِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي تَفْسِيرِ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النَّجْمِ: 1]: إِنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: النَّجْمُ قَلْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَوَى انْشَرَحَ مِنَ الْأَنْوَارِ، وَقَالَ: انْقَطَعَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الْفَجْرِ: 1- 2] الْفَجْرُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مِنْهُ تَفَجَّرَ الْإِيمَانُ.
قَالَ جَلَّ اسْمُهُ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضُّحَى 1: 2] السُّورَةُ. اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقِيلَ: كَانَ تَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَ اللَّيْلِ لِعُذْرٍ نَزَلَ بِهِ، فَتَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ فِي ذَلِكَ بِكَلَامٍ، وَقِيلَ: بَلْ تَكَلَّمَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عِنْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَضَمَّنَتْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَتَنْوِيهِهِ بِهِ، وَتَعْظِيمِهِ إِيَّاهُ سِتَّةَ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْقَسَمُ لَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ حَالِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضُّحَى: 1- 2]. أَيْ: وَرَبِّ الضُّحَى، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ دَرَجَاتِ الْمَبَرَّةِ. الثَّانِي: بَيَانُ مَكَانَتِهِ عِنْدَهُ، وَحُظْوَتِهِ لَدَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضُّحَى: 3]، أَيْ مَا تَرَكَكَ، وَمَا أَبْغَضَكَ، وَقِيلَ: مَا أَهْمَلَكَ بَعْدَ أَنِ اصْطَفَاكَ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضُّحَى: 4]، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَيْ مَآلُكَ فِي مَرْجِعِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِمَّا أَعْطَاكَ مِنْ كَرَامَةِ الدُّنْيَا. وَقَالَ سَهْلٌ: أَيِ ادَّخَرْتُ لَكَ مِنَ الشَّفَاعَةِ، وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا أَعْطَيْتُكَ فِي الدُّنْيَا. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحَى: 5]، وَهَذِهِ آيَةٌ جَامِعَةٌ لِوُجُوهِ الْكَرَامَةِ، وَأَنْوَاعِ السَّعَادَةِ، وَشَتَاتِ الْإِنْعَامِ فِي الدَّارَيْنِ، وَالزِّيَادَةِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: يُرْضِيهِ بِالْفَلَجِ فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: يُعْطِيهِ الْحَوْضَ، وَالشَّفَاعَةَ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ آيَةٌ فِي الْقُرْآنِ أَرْجَى مِنْهَا، وَلَا يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ النَّارَ. الْخَامِسُ: مَا عَدَّدَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَقَرَّرَهُ مِنْ آلَائِهِ قَبْلَهُ فِي بَقِيَّةِ السُّورَةِ، مِنْ هِدَايَتِهِ إِلَى مَا هَدَاهُ لَهُ، أَوْ هِدَايَةِ النَّاسِ بِهِ عَلَى اخْتِلَافِ التَّفَاسِيرِ، وَلَا مَالَ لَهُ، فَأَغْنَاهُ بِمَا آتَاهُ، أَوْ بِمَا جَعَلَهُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقَنَاعَةِ، وَالْغِنَى، وَيَتِيمًا فَحَدَبَ عَلَيْهِ عَمُّهُ، وَآوَاهُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: آوَاهُ إِلَى اللَّهِ، وَقِيلَ: يَتِيمًا: لَا مِثَالَ لَكَ، فَآوَاكَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَلَمْ يَجِدْكَ فَهَدَى بِكَ ضَالًّا، وَأَغْنَى بِكَ عَائِلًا، وَآوَى بِكَ يَتِيمًا؟ ذَكَّرَهُ بِهَذِهِ الْمِنَنِ، وَأَنَّهُ عَلَى الْمَعْلُومِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَمْ يُهْمِلْهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ، وَعَيْلَتِهِ، وَيُتْمِهِ، وَقَبْلَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَلَا وَدَّعَهُ، وَلَا قَلَاهُ، فَكَيْفَ بَعْدَ اخْتِصَاصِهِ، وَاصْطِفَائِهِ؟! السَّادِسُ: أَمَرَهُ بِإِظْهَارِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، وَشُكْرِ مَا شَرَّفَهُ بِنَشْرِهِ، وَإِشَادَةِ ذِكْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضُّحَى: 11]، فَإِنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ التَّحَدُّثَ بِهَا، وَهَذَا خَاصٌّ لَهُ، عَامٌّ لِأُمَّتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النَّجْمِ: 1] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النَّجْمِ: 18]. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ} بِأَقَاوِيلَ مَعْرُوفَةٍ، مِنْهَا النَّجْمُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهَا الْقُرْآنُ. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: هُوَ قَلْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطَّارِقِ: 1: 3] إِنَّ النَّجْمَ هُنَا أَيْضًا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَاهُ السُّلَمِيُّ. تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ فَضْلِهِ، وَشَرَفِهِ الْعِدِّ مَا يَقِفُ دُونَهُ الْعَدُّ، وَأَقْسَمَ جَلَّ اسْمُهُ عَلَى هِدَايَةِ الْمُصْطَفَى، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْهَوَى، وَصِدْقِهِ فِيمَا تَلَا، وَأَنَّهُ وَحْيٌ يُوحَى أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ جِبْرِيلُ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْقُوَى. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ فَضِيلَتِهِ بِقِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَانْتِهَائِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَتَصْدِيقِ بَصَرِهِ فِيمَا رَأَى، وَأَنَّهُ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَلَمَّا كَانَ مَا كَاشَفَهُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَرُوتِ، وَشَاهَدَهُ مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ لَا تُحِيطُ بِهِ الْعِبَارَاتُ، وَلَا تَسْتَقِلُّ بِحَمْلِ سَمَاعِ أَدْنَاهُ الْعُقُولُ رَمَزَ عَنْهُ تَعَالَى بِالْإِيمَاءِ، وَالْكِنَايَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْظِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النَّجْمُ 10]. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ يُسَمِّيهِ أَهْلُ النَّقْدِ وَالْبَلَاغَةِ بِالْوَحْيِ، وَالْإِشَارَةِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَبْلَغُ أَبْوَابِ الْإِيجَازِ، وَقَالَ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النَّجْمِ: 18] انْحَسَرَتِ الْأَفْهَامُ عَنْ تَفْصِيلِ مَا أَوْحَى، وَتَاهَتِ الْأَحْلَامُ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَزْكِيَةِ جُمْلَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِصْمَتِهَا مِنَ الْآفَاتِ فِي هَذَا الْمَسْرَى، فَزَكَّى فُؤَادَهُ، وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ: فَقَلْبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وَلِسَانَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النَّجْمِ: 3]. وَبَصَرَهُ بِقَوْلِهِ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النَّجْمِ: 17]. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} [التَّكْوِيرِ: 15: 16]- إِلَى قَوْلِهِ-: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التَّكْوِيرِ: 25]. لَا أُقْسِمُ: أَيْ أُقْسِمُ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، أَيْ كِرِيمٍ عِنْدَ مُرْسِلِهِ. ذِي قُوَّةٍ عَلَى تَبْلِيغِ مَا حَمَلَهُ مِنَ الْوَحْيِ، مَكِينٍ: أَيْ مُتَمَكِّنِ الْمَنْزِلَةِ مِنْ رَبِّهِ، رَفِيعِ الْمَحَلِّ عِنْدَهُ، مُطَاعٍ ثَمَّ: أَيْ فِي السَّمَاءِ. أَمِينٌ عَلَى الْوَحْيِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، وَغَيْرُهُ: الرَّسُولُ الْكَرِيمُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمِيعُ الْأَوْصَافِ بَعْدُ عَلَى هَذَا لَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ جِبْرِيلُ، فَتَرْجِعُ الْأَوْصَافُ إِلَيْهِ. وَلَقَدْ رَآهُ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: رَأَى رَبَّهُ، وَقِيلَ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ، أَيْ: بِمُتَّهَمٍ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّادِ فَمَعْنَاهُ: مَا هُوَ بِبَخِيلٍ بِالدُّعَاءِ بِهِ، وَالتَّذْكِيرِ بِحُكْمِهِ، وَبِعِلْمِهِ، وَهَذِهِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {ن وَالْقَلَمِ} [الْقَلَمِ: 1] الْآيَاتِ. أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَقْسَمَ بِهِ مِنْ عَظِيمِ قَسَمِهِ عَلَى تَنْزِيهِ الْمُصْطَفَى مِمَّا غَمَصَتْهُ الْكَفَرَةُ بِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، وَأُنْسِهِ، وَبَسْطِ أَمَلِهِ بِقَوْلِهِ مُحْسِنًا خِطَابَهُ: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [الْقَلَمِ: 2]، وَهَذِهِ نِهَايَةُ الْمَبَرَّةِ فِي الْمُخَاطَبَةِ، وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْآدَابِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ بِمَا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَعِيمٍ دَائِمٍ، وَثَوَابٍ غَيْرِ مُنْقَطِعٍ، لَا يَأْخُذُهُ عَدٌّ، وَلَا يَمُنُّ بِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ. ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا مَنَحَهُ مِنْ هِبَاتِهِ، وَهَدَاهُ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ تَتْمِيمًا لِلتَّمْجِيدِ بِحَرْفَيِ التَّوْكِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [الْقَلَمِ: 4] قِيلَ: الْقُرْآنُ وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ: الطَّبْعُ الْكَرِيمُ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَكَ هِمَّةٌ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ الْوَاسِطِيُّ: أَثْنَى عَلَيْهِ بِحُسْنِ قَبُولِهِ لِمَا أَسْدَاهُ إِلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَفَضَّلَهُ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ جَبَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْخُلُقِ، فَسُبْحَانَ اللَّطِيفِ الْكَرِيمِ، الْمُحْسِنِ الْجَوَادِ، الْحَمِيدِ الَّذِي يَسَّرَ لِلْخَيْرِ، وَهَدَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَى فَاعِلِهِ، وَجَازَاهُ عَلَيْهِ- سُبْحَانَهُ-، مَا أَغْمَرَ نَوَالَهُ، وَأَوْسَعَ إِفْضَالَهُ، ثُمَّ سَلَاهُ عَنْ قَوْلِهِمْ بَعْدَ هَذَا بِمَا وَعَدَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِمْ، وَتَوَعُّدِهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [الْقَلَمِ: 5]. ثُمَّ عَطَفَ بَعْدَ مَدْحِهِ عَلَى ذَمِّ عَدُوِّهِ، وَذِكْرِهِ سُوءَ خُلُقِهِ، وَعَدِّ مَعَايِبِهِ، مُتَوَلِّيًا ذَلِكَ بِفَضْلِهِ، وَمُنْتَصِرًا لِنَبِيِّهِ، فَذَكَرَ بِضْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الذَّمِّ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [الْقَلَمِ: 8]- إِلَى قَوْلِهِ-: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الْقَلَمِ: 15] ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ بِتَمَامِ شَقَائِهِ، وَخَاتِمَةِ بَوَارِهِ بِقَوْلِهِ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [الْقَلَمِ: 16]. فَكَانَتْ نُصْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ أَتَمَّ مِنْ نُصْرَتِهِ لِنَفْسِهِ، وَرَدُّهُ تَعَالَى عَلَى عَدُوِّهِ أَبْلَغُ مِنْ رَدِّهِ، وَأَثْبَتُ فِي دِيوَانِ مَجْدِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه 1- 2] قِيلَ: طه: اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ. وَقِيلَ: يَا إِنْسَانُ وَقِيلَ: هِيَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ لِمَعَانٍ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: أَرَادَ يَا طَاهِرُ، يَا هَادِي، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ مِنَ الْوَطْءِ، وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَرْضِ، أَيِ اعْتَمِدْ عَلَى الْأَرْضِ بِقَدَمَيْكَ، وَلَا تُتْعِبْ نَفْسَكَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى قَدَمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2]. نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّفُهُ مِنَ السَّهَرِ، وَالتَّعَبِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ. أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ إِجَازَةً، وَمِنْ أَصْلِهِ نَقَلْتُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَمَوِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُزَيْمٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: [كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ، وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {طه} [طه: 1] يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ، {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2]، وَلَا خَفَاءَ بِمَا فِي هَذَا كُلِّهِ مِنَ الْإِكْرَامِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَإِنْ جَعَلْنَا طه مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قِيلَ، أَوْ جُعِلَتْ قَسَمًا لِحَقِّ الْفَصْلِ بِمَا قَبْلَهُ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ نَمَطِ الشَّفَقَةِ، وَالْمَبَرَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الْكَهْفِ: 6]، أَيْ قَاتِلٌ نَفْسَكَ لِذَلِكَ غَضَبًا أَوْ غَيْظًا، أَوْ جَزَعًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيْضًا: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 3]، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 4]، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الْحِجْرِ: 94] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الْحِجْرِ: 97] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الْأَنْعَامِ: 10]. قَالَ مَكِّيٌّ: سَلَّاهُ بِمَا ذَكَرَ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ مَا يَلْقَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مَنْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ يَحِلُّ بِهِ مَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ التَّسْلِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فَاطِرٌ: 4]، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذَّارِيَاتِ: 52]. عَزَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَمَقَالَتِهَا لِأَنْبِيَائِهِمْ قَبْلَهُ، وَمِحْنَتِهِمْ بِهِمْ، وَسَلَّاهُ بِذَلِكَ مِنْ مِحْنَتِهِ بِمِثْلِهِ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَ ذَلِكَ، ثُمَّ طَيَّبَ نَفْسَهُ، وَأَبَانَ عُذْرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الذَّارِيَاتِ: 54]، أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذَّارِيَاتِ: 54]، أَيْ فِي أَدَاءِ مَا بَلَغْتَ، وَإِبْلَاغِ مَا حَمَلْتَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطُّورِ: 48]، أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ فَإِنَّكَ بِحَيْثُ نَرَاكَ، وَنَحْفَظُكَ. سَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آلُ عِمْرَانَ: 81].- إِلَى قَوْلِهِ-: {مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آلُ عِمْرَانَ: 81] قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ: اسْتَخَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلٍ لَمْ يُؤْتِهِ غَيْرَهُ، أَبَانَهُ بِهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ بِالْوَحْيِ، فَلَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا ذَكَرَ لَهُ مُحَمَّدًا، وَنَعَتَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُ إِنْ أَدْرَكَهُ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَقِيلَ: أَنْ يُبَيِّنَهُ لِقَوْمِهِ، وَيَأْخُذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَاءَكُمْ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُعَاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ بُعِثَ، وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَلِيَنْصُرَنَّهُ، وَيَأْخُذَ الْعَهْدَ بِذَلِكَ عَلَى قَوْمِهِ، وَنَحْوُهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ فِي آيٍ تَضَمَّنَتْ فَضْلَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَاحِدٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الْأَحْزَابِ: 7] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 163]. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ فِي كَلَامٍ بَكَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ، وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرَكَ فِي أَوَّلِهِمْ، فَقَالَ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الْأَحْزَابِ: 7] الْآيَةَ. بِأَبِي أَنْتَ، وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَطَاعُوكَ، وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا يُعَذَّبُونَ يَقُولُونَ: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ}. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ، وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ». فَلِذَلِكَ وَقَعَ ذِكْرُهُ مُقَدَّمًا هُنَا قَبْلَ نُوحٍ، وَغَيْرِهِ. قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: فِي هَذَا تَفْضِيلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ آخِرُهُمْ. الْمَعْنَى: أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، إِذْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ كَالذَّرِّ، وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الْبَقَرَةِ: 253] الْآيَةَ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ بُعِثَ إِلَى الْأَحْمَرِ، وَالْأَسْوَدِ، وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ، وَظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْمُعْجِزَاتُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُعْطِيَ فَضِيلَةً أَوْ كَرَامَةً إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْأَنْبِيَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ، وَخَاطَبَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَالرِّسَالَةِ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ} [الْأَحْزَابِ: 1] وَ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [الْمَائِدَةِ: 62]، وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصَّافَّاتِ: 83] إِنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ إِنَّ مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لَإِبْرَاهِيمَ، أَيْ عَلَى دِينِهِ، وَمِنْهَاجِهِ، وَأَجَازَهُ الْفَرَّاءُ، وَحَكَاهُ عَنْهُ مَكِّيٌّ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الْأَنْفَالِ: 33]، أَيْ مَا كُنْتَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَبَقِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَزَلَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الْأَنْفَالِ: 33]، وَهَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا} [الْفَتْحِ: 25] الْآيَةَ. فَلَمَّا هَاجَرَ الْمُؤْمِنُونَ نَزَلَتْ: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الْأَنْفَالِ: 34] وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ مَا يُظْهِرُ مَكَانَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَرْأَتِهِ الْعَذَابَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ ثُمَّ كَوْنِ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَمَّا خَلَتْ مَكَّةُ مِنْهُمْ عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِتَسْلِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَغَلَبَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَحَكَّمَ فِيهِمْ سُيُوفَهُمْ، وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ، وَدِيَارَهُمْ، وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا تَأْوِيلٌ آخَرُ. حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ، وَالصَّيْرَفِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى ابْنُ زَوْجِ الْحُرَّةِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السَّنْجِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الْأَنْفَالِ: 33] فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيكُمْ الِاسْتِغْفَارَ». وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 107]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَمَانٌ لِأَصْحَابِي». قِيلَ: مِنَ الْبِدَعِ، وَقِيلَ: مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَالْفِتَنِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَمَانُ الْأَعْظَمُ مَا عَاشَ، وَمَا دَامَتْ سُنَّتُهُ بَاقِيَةً فَهُوَ بَاقٍ، فَإِذَا أُمِيتَتْ سُنَّتُهُ فَانْتَظِرِ الْبَلَاءَ، وَالْفِتَنَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الْأَحْزَابِ: 56] الْآيَةَ أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَضْلَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ بِصَلَاةِ مَلَائِكَتِهِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ بِالصَّلَاةِ، وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» عَلَى هَذَا، أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَأَمْرِهِ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالصَّلَاةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ [اسْتِغْفَارٌ]، وَمِنَّا لَهُ دُعَاءٌ، وَمِنَ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- رَحْمَةٌ، وَقِيلَ: يُصَلُّونَ: يُبَارِكُونَ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَلِمَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بَيْنَ لَفْظِ الصَّلَاةِ، وَالْبَرَكَةَ، وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَذِكْرَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَفْسِيرِ حُرُوفِ {كهيعص} [مَرْيَمَ: 1] أَنَّ الْكَافَ مِنْ [كَافٍ]، أَيْ كِفَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزُّمَرِ: 36] الْآيَةَ، وَالْهَاءَ هِدَايَتُهُ لَهُ، قَالَ: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الْفَتْحِ: 2] {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} [الْأَنْفَالِ: 62]، وَالْعَيْنَ عِصْمَتُهُ لَهُ قَالَ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67]، وَالصَّادَ: صَلَاتُهُ عَلَيْهِ، قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الْأَحْزَابِ: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} [التَّحْرِيمِ: 4] الْآيَةَ، مَوْلَاهُ أَيْ، وَلِيُّهُ، وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ: قِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَقِيلَ: عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَقِيلَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الْفَتْحِ: 1] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الْفَتْحِ: 10]. تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ فَضْلِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَكَرِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنِعْمَتِهِ لَدَيْهِ مَا يَقْصُرُ الْوَصْفُ عَنْ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ، فَابْتَدَأَ- جَلَّ جَلَالُهُ- بِإِعْلَامِهِ بِمَا قَضَاهُ لَهُ مِنَ الْقَضَاءِ الْبَيِّنِ بِظُهُورِهِ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ، وَشَرِيعَتِهِ، وَأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ غُفْرَانَ مَا وَقَعَ، وَمَا لَمْ يَقَعْ، أَيْ أَنَّكَ مَغْفُورٌ لَكَ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: جَعَلَ اللَّهُ الْمِنَّةَ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ، وَكُلٌّ مِنْ عِنْدِهِ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مِنَّةً بَعْدَ مِنَّةٍ، وَفَضْلًا بَعْدَ فَضْلٍ. ثُمَّ قَالَ: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ: قِيلَ بِخُضُوعِ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْكَ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَالطَّائِفِ، وَقِيلَ: يَرْفَعُ ذِكْرَكَ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْصُرُكَ، وَيَغْفِرُ لَكَ، فَأَعْلَمَهُ بِتَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ بِخُضُوعِ مُتَكَبِّرِي عَدُوِّهِ لَهُ، وَفَتْحِ أَهَمِّ الْبِلَادِ عَلَيْهِ، وَأَحَبِّهَا لَهُ، وَرَفْعِ ذِكْرِهِ، وَهِدَايَتِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُبَلِّغَ الْجَنَّةَ، وَالسَّعَادَةَ، وَنَصْرِهِ النَّصْرَ الْعَزِيزَ، وَمِنَّتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّكِينَةِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ الَّتِي جَعَلَهَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَبِشَارَتِهِمْ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بَعْدُ، وَفَوْزِهِمُ الْعَظِيمِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَالسَّتْرِ لِذُنُوبِهِمْ، وَهَلَاكِ عَدُوِّهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، وَلَعْنِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَسُوءِ مُنْقَلَبِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الْفَتْحِ: 8] الْآيَةَ شَاهِدًا لَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، وَمُبَشِّرًا لِأُمَّتِهِ بِالثَّوَابِ، وَقِيلَ: بِالْمَغْفِرَةِ، وَمُنْذِرًا عَدُوَّهُ بِالْعَذَابِ، وَقِيلَ: مُحَذِّرًا مِنَ الضَّلَالَاتِ لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ثُمَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَيُعَزِّرُوهُ، وَيُجِلُّونَهُ، وَقِيلَ: يَنْصُرُونَهُ، وَقِيلَ: يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ، وَيُوَقِّرُوهُ، أَيْ يُعَظِّمُونَهُ، وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: يُعَزِّزُوهُ [الْفَتْحِ: 9] بِزَاءَيْنِ: مِنَ الْعِزِّ، وَالْأَكْثَرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ: " وَيُسَبِّحُوهُ " [الْفَتْحِ: 8]، فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ جُمِعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نِعَمٌ مُخْتَلِفَةٌ، مِنَ الْفَتْحِ الْمُبِينِ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ الْإِجَابَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ، وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الْمَحَبَّةِ، وَتَمَامِ النِّعْمَةِ، وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الِاخْتِصَاصِ، وَالْهِدَايَةِ، وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الْوِلَايَةِ، فَالْمَغْفِرَةُ تَبْرِئَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ، وَتَمَامُ النِّعْمَةِ إِبْلَاغُ الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ، وَالْهِدَايَةُ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ جَعَلَهُ حَبِيبَهُ، وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ، وَنَسَخَ بِهِ شَرَائِعَ غَيْرِهِ، وَعَرَّجَ بِهِ إِلَى الْمَحَلِّ الْأَعْلَى، وَحَفِظَهُ فِي الْمِعْرَاجِ حَتَّى مَا زَاغَ الْبَصَرُ، وَمَا طَغَى، وَبَعَثَهُ إِلَى الْأَحْمَرِ، وَالْأَسْوَدِ، وَأَحَلَّ لَهُ، وَلِأُمَّتِهِ الْغَنَائِمَ، وَجَعَلَهُ شَفِيعًا مُشَفَّعًا، وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، وَقَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِهِ، وَرِضَاهُ بِرِضَاهُ، وَجَعَلَهُ أَحَدَ رُكْنَيِ التَّوْحِيدِ. ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الْفَتْحِ: 10] يَعْنِي بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ أَيْ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّاكَ. {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الْفَتْحِ: 10]، يُرِيدُ عِنْدَ الْبَيْعَةِ. قِيلَ: قُوَّةُ اللَّهِ، وَقِيلَ: ثَوَابُهُ، وَقِيلَ: مِنَّتُهُ، وَقِيلَ: عَقْدُهُ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، وَتَجْنِيسٌ فِي الْكَلَامِ، وَتَأْكِيدٌ لِعَقْدِ بَيْعَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَعِظَمِ شَأْنِ الْمُبَايِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الْأَنْفَالِ: 17]، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي بَابِ الْمَجَازِ، وَهَذَا فِي بَابِ الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ، وَالرَّامِيَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ خَالِقُ فِعْلِهِ، وَرَمْيِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَمُسَبِّبُهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ تَوْصِيلُ تِلْكَ الرَّمْيَةِ حَيْثُ وَصَلَتْ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَمْلَأْ عَيْنَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ حَقِيقَةً، وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْأُخْرَى إِنَّهَا عَلَى الْمَجَازِ الْعَرَبِيِّ، وَمُقَابَلَةِ اللَّفْظِ، وَمُنَاسَبَتِهِ، أَيْ مَا قَتَلْتُمُوهُمْ، وَمَا رَمَيْتَهُمْ أَنْتَ إِذْ رَمَيْتَ وُجُوهَهُمْ بِالْحَصْبَاءِ، وَالتُّرَابِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى قُلُوبَهُمْ بِالْجَزَعِ، أَيْ أَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّمْيِ كَانَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، فَهُوَ الْقَاتِلُ، وَالرَّامِي بِالْمَعْنَى، وَأَنْتَ بِالِاسْمِ.
مِنْ كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَمَكَانَتِهِ عِنْدَهُ، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ سِوَى مَا انْتَظَمَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ: مِنْ ذَلِكَ مَا قَصَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ فِي سُورَةِ: سُبْحَانَ وَالنَّجْمِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ مِنْ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ، وَقُرْبِهِ، وَمُشَاهَدَتِهِ مَا شَاهَدَ مِنَ الْعَجَائِبِ، وَمِنْ ذَلِكَ عِصْمَتُهُ مِنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الْأَنْفَالِ: 30] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التَّوْبَةِ: 40]، وَمَا رَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ أَذَاهُمْ بَعْدَ تَحَرِّيِهِمْ لَهُلْكِهِ، وَخُلُوصِهِمْ نَجِيًّا فِي أَمْرِهِ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِمْ، وَذُهُولِهِمْ عَنْ طَلَبِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ آيَاتٍ، وَنُزُولِ السَّكِينَةِ عَلَيْهِ، وَقِصَّةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ حَسَبَ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ فِي قِصَّةِ الْغَارِ، وَحَدِيثِ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الْكَوْثَرِ: 1- 2] أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَعْطَاهُ، وَالْكَوْثَرُ حَوْضُهُ، وَقِيلَ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَقِيلَ: الشَّفَاعَةُ، وَقِيلَ: الْمُعْجِزَاتُ الْكَثِيرَةُ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الْمَعْرِفَةُ. ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ عَدُوَّهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الْكَوْثَرِ: 3] أَيْ عَدُوَّكَ، وَمُبْغِضَكَ، وَالْأَبْتَرُ: الْحَقِيرُ الذَّلِيلُ، أَوِ الْمُفْرَدُ الْوَحِيدُ، أَوِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الْحِجْرِ: 7 8]. وَقِيلَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي السُّوَرُ الطِّوَالُ الْأُوَلُ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ: أُمُّ الْقُرْآنِ وَقِيلَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي: أُمُّ الْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ: سَائِرُهُ، وَقِيلَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي: مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَبُشْرَى، وَإِنْذَارٍ، وَضَرْبِ مَثَلٍ، وَإِعْدَادِ نِعَمٍ، وَآتَيْنَاكَ نَبَأَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ أُمُّ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقِيلَ: بَلِ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَاهَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَخَرَهَا لَهُ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ مَثَانِيَ: لِأَنَّ الْقَصَصَ تُثْنَى فِيهِ، وَقِيلَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي: أَكْرَمْنَاكَ بِسَبْعِ كَرَامَاتٍ: الْهَدْيُ، وَالنُّبُوَّةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالشَّفَاعَةُ، وَالْوِلَايَةُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالسَّكِينَةُ. وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} [النَّحْلِ: 44] الْآيَةَ، وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سَبَأٍ: 28]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي} [الْأَعْرَافِ: 158] الْآيَةَ قَالَ الْقَاضِي- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَهَذِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إِبْرَاهِيمَ: 4]، فَخَصَّهُمْ بِقَوْمِهِمْ، وَبَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ، وَالْأَسْوَدِ» وَقَالَ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الْأَحْزَابِ: 6]. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: أَيْ مَا أَنْفَذَهُ فِيهِمْ مِنْ أَمْرٍ فَهُوَ مَاضٍ عَلَيْهِمْ كَمَا يَمْضِي حُكْمُ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ، وَقِيلَ: اتِّبَاعُ أَمْرِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِ رَأْيِ النَّفْسِ، وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، أَيْ هُنَّ فِي الْحُرْمَةِ كَالْأُمَّهَاتِ، حُرِّمَ نِكَاحُهُنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ، تَكْرِمَةً لَهُ، وَخُصُوصِيَّةً، وَلِأَنَّهُنَّ لَهُ أَزْوَاجٌ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ قُرِئَ: وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَلَا يُقْرَأُ بِهِ الْآنَ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُصْحَفَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النِّسَاءِ: 113] الْآيَةَ. قِيلَ: فَضْلُهُ الْعَظِيمُ بِالنُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: بِمَا سَبَقَ لَهُ فِي الْأَزَلِ، وَأَشَارَ الْوَاسِطِيُّ إِلَى أَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى احْتِمَالِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَمْ يَحْتَمِلْهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الباب الثَّانِي: فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا وَقِرَانِهِ جَمِيعَ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فِيهِ نَسَقًا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَتْ خِصَالُ الْكَمَالِ وَالْجَمَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ. الْفَصْلُ الثَّانِي: إِذَا قُلْتَ أَكْرَمَكَ اللَّهُ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَأَمَّا نَظَافَةُ جِسْمِهِ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ: وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ. الْفَصْلُ الْخَامِسُ: وَأَمَّا فَصَاحَةُ لِسَانِهِ. الْفَصْلُ السَّادِسُ: وَأَمَّا شَرَفُ نَسَبِهِ. الْفَصْلُ السَّابِعُ: وَأَمَّا مَا تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ ضُرُوبٍ. الْفَصْلُ الثَّامِنُ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَتَّفِقُ الْمَدْحُ بِكَثْرَتِهِ. الْفَصْلُ التَّاسِعُ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ. الْفَصْلُ الْعَاشِرُ: وَأَمَّا الْخِصَالُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ. الْفَصْلُ الْحَادِي عَشَرَ: فِي بَيَانِ أُصُولِ الْأَخْلَاقِ وَتَحَقُّقِ وَصْفِ النَّبِيِّ بِهَا. الْفَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ: وَأَمَّا الْحَمْلُ وَالِاحْتِمَالُ وَالْعَفْوُ مَعَ الْقُدْرَةِ. الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: وَأَمَّا الْجُودُ وَالْكَرَمُ. الْفَصْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: وَأَمَّا الشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ. الْفَصْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: وَأَمَّا الْحَيَاءُ وَالْإِغْضَاءُ. الْفَصْلُ السَّادِسَ عَشَرَ: وَأَمَّا حُسْنُ عِشْرَتِهِ. الْفَصْلُ السَّابِعَ عَشَرَ: وَأَمَّا الشَّفَقَةُ. الْفَصْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: وَأَمَّا خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَفَاءِ. الْفَصْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: وَأَمَّا تَوَاضُعُهُ. الْفَصْلُ الْعِشْرُونَ: وَأَمَّا عَدْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْفَصْلُ الْوَاحِدُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَمَّا وَقَارُهُ. الْفَصْلُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: وَأَمَّا زُهْدُهُ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَمَّا خَوْفُهُ رَبَّهُ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ. الْفَصْلُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: قَدْ أَتَيْنَاكَ. الْفَصْلُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: فِي تَفْسِيرِ غَرِيبِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمُشْكِلِهِ.
|