الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الآية وقيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق؛ عن السُّدِّي والحسن.مُقاتِل والضحّاك: خزائن الأرض.وهذا مجاز، عبّر عنها بما يتوصّل إليها به.وقيل: غير هذا مما يتضمنه معنى الحديث أي عنده الآجال ووقت انقضائها.وقيل: عواقب الأعمار وخواتم الأعمال؛ إلى غير هذا من الأقوال.والأوّل المختار. والله أعلم.الثانية: قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آيةٍ من كتابه إلا من اصطفى من عباده.فمن قال: إنه ينزّل الغَيْث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا.وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرّحِم فهو كافر؛ فإن لم يجزم وقال: إن النَّوْء ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدّره وسبق في علمه لم يكفر؛ إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته؛ لأنه ينزل متى شاء، مرّة بنَوْء كذا، ومرّة دون النَّوْء؛ قال الله تعالى: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب» على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله.قال ابن العربيّ: وكذلك قول الطبيب: إذا كان الثَّدْي الأيمن مسودّ الحَلَمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى؛ وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق.وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر.أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا رِيبة في كفره أيضا.فأمّا من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا: يؤدّب ولا يسجن.أمّا عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يُدرَك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله عنه من قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}.وأما أدبهم فلأنهم يُدخلون الشك على العامّة، إذ لا يدركون الفرق بين هذا وغيره؛ فيشوّشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدّبوا حتى يُسِروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلِنوا به.قلت: ومن هذا الباب (أيضا) ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عَرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» والعرّاف هو الحازر والمنجِّم الذي يدّعي علم الغيب.وهي من العِرافة وصاحبها عَرّاف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدّمات يدّعي معرفتها.وقد يعتضِد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزَّجْر والطرْق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك.وهذا الفنّ هو العِيَافة (بالياء).وكلّها ينطلق عليها اسم الكهانة؛ قاله القاضي عِيَاض.والكهانة: ادعاء علم الغيب.قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الكافي: من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسُّحْت والرّشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللّعِب والباطل كله.قال علماؤنا: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجّمين والكُهّان لاسيما بالديار المصرية؛ فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجِّمين، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدِّين فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرّافين فَبَهْرجوا عليهم بالمُحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال.وكل ذلك من الكبائر؛ لقوله عليه السلام: «لم تقبل له صلاة أربعين ليلة».فكيف بمن اتخذهم وأنفق عليهم معتمدا على أقوالهم.روى مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أناسٌ عن الكُهّان فقال: «إنهم ليسوا بشيء» فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدّثونا أحيانا بشيء فيكون حقًّا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجِنيّ فيُقرّها في أذن ولِيّه قَرّ الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة» قال الحُميدِيّ: ليس ليحيى بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح غير هذا وأخرجه البخاريّ أيضا من حديث أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الملائكة تنزل في العَنَان وهو السحاب فتذكر الأمر قُضِي في السماء فتَسْتَرِق الشياطينُ السمع فتسمعه فتوحِيه إلى الكُهّان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم» وسيأتي هذا المعنى في سبأ إن شاء الله تعالى.الثالثة: قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر} خصّهما بالذّكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر، أي يعلم ما يهلك في البر والبحر.ويقال: يعلم ما في البر من النبات والحبّ والنّوى، وما في البحر من الدواب ورزق ما فيها {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} روى يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِن زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم رِزق فلان ابن فلان» وذلك قوله في محكم كتابه: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.وحكى النقّاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها السّقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب يراد به الحيّ، واليابس يراد به الميت.قال ابن عطية: وهذا قول جارٍ على طريقة الرّموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه.وقيل: المعنى {وما تسقط من ورقة} أي من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء، ولا حبة إلا يعلم متى تنبت وكم تنبت ومن يأكلها، {وَظُلُمَاتِ الأَرْض} بطونها وهذا أصح؛ فإنه موافق للحديث وهو مقتضى الآية.والله الموفق للهداية.وقيل: {فِي ظُلُمَاتِ الأرض} يعني الصخرة التي هي أسفل الأرضِين السابعة.{وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} بالخفض عطفا على اللفظ.وقرأ ابن السَّمَيْقَع والحسن وغيرهما بالرفع فيهما عطفا على موضع {من ورقة}؛ ف {من} على هذا للتوكيد.{إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيانٍ يلحقه، تعالى عن ذلك.وقيل: كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي اعملوا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب. اهـ.
.من فوائد ابن كثير في الآية: قال رحمه الله:وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]».وفي حديث عمر رضي الله عنه أن جبريل حين تَبدَّى له في صورة أعرابي فسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له: «خمس لا يعلمهن إلا الله»، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية [لقمان: 34].وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي: يحيط علمه الكريم بجميع الموجودات، بَريها وبحريها لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وما أحسن ما قال الصّرْصَريّ:وقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} أي: ويعلم الحركات حتى من الجمادات، فما ظنك بالحيوانات، ولاسيما المكلفون منهم من جنهم وإنسهم، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الرَّبيع، حدثنا أبو الأحْوَص، عن سعيد بن مسروق، عن حسان النمري، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} قال: ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها، يكتب ما يسقط منها.وقوله: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال محمد بن إسحاق، عن يحيي بن النضر، عن أبيه، سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن ما لو أنهم ظهروا- يعني لكم- لم تروا معهم نورًا، على كل زاوية من زوايا الأرض خاتم من خواتيم الله، عَزَّ وجل، على كل خاتم مَلَك من الملائكة يبعث الله، عَزَّ وجل، إليه في كل يوم ملكا من عنده: أن احتفظ بما عندك.قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المِسوَر الزهري: حدثنا مالك بن سُعَيْر، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحَارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا مغْرَز إبرة إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها: رطوبتها إذا رطبت، ويَبَسها إذا يبست.وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني، عن مالك بن سعير، به.ثم قال ابن أبي حاتم: ذُكر عن أبي حذيفة، حدثنا سفيان، عن عمرو بن قيس، عن رجل عن وهي الدواة- وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلال أو حرام، أو عمل بر أو فجور وقرأ هذه الآية: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} إلى آخر الآية. اهـ. .من فوائد أبي حيان في الآية: قال رحمه الله:{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}.لما قال تعالى: {إن الحكم إلا لله} وقال: {هو أعلم بالظالمين} بعد قوله: {ما تستعجلون به} انتقل من خاص إلى عام وهو علم الله بجميع الأمور الغيبية، واستعارة للقدرة عليها المفاتح لما كانت سببًا للوصول إلى الشيء فاندرج في هذا العام ما استعجلوا وقوعه وغيره.والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهي الآية التي يفتح بها ما أغلق.قال الزهراوي: ومفتح أفصح من مفتاح ويحتمل أن يكون جمع مفتاح لأنه يجوز في مثل هذا أن لا يؤتى فيه بالياء قالوا: مصابح ومحارب وقراقر في جميع مصباح وقرقور.وقرأ ابن السميفع: مفاتيح بالياء وروي عن بعضهم مفتاح الغيب على التوحيد.وقيل: جمع مفتح بفتح الميم ويكون للمكان أي أماكن الغيب ومواضعها يفتح عن المغيبات ويؤيده ما روي عن ابن عباس إنها خزائن المطر والنبات ونزول العذاب.وقال السدي وغيره: خزائن الغيب.وروي عن ابن عمر عنه عليه السلام أنه قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله»، {إن الله عنده علم الساعة} إلى آخر السورة.وقيل: {مفاتح الغيب} الأمور التي يستدلّ بها على الغائب فتعلم حقيقته من قولك: فتحت على الإمام إذا عرّفته ما نسي.وقال أبو مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتح الغيب.وروي عن ابن عباس أنها خزائن غيب السموات والأرض من الأقدار والأرزاق.وقال عطاء: ما غاب من الثواب والعقاب وما تصير إليه الأمور.وقال الزجاج: الوصلة إلى علم الغيب إذا استعلم.وقيل: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال.وقيل: ما لم يكن هل يكون أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون وما لا يكون إن كان كيف يكون؟ و{لا يعلمها إلا هو} حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى الصوف أشياء من ادعاء علم المغيبات والاطلاع على علم عواقب أتباعهم وأنهم معهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها يخبرون بذلك على رؤوس المنابر ولا ينكر ذلك أحد هذا مع خلوهم عن العلوم يوهمون أنهم يعلمون الغيب.وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ومن زعم أن محمدًا يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وقد كثرت هذه الدّعاوى والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ عجزوا عن مدارك العقل والنقل وأعياهم طلاب العلوم:{ويعلم ما في البرّ والبحر} لما كان ذكره تعالى: {مفاتح الغيب} أمرًا معقولًا أخبر تعالى باستئثاره بعلمه واختصاصه به ذكر تعلق علمه بهذا المحسوس على سبيل العموم ثم ذكر علمه بالورقة والحبة والرطب واليابس على سبيل الخصوص، فتحصل إخباره تعالى بأنه عالم بالكليات والجزئيات مستأثر بعلمه وما نعلمه نحن وقدم {البر} لكثرة مشاهدتنا لما اشتمل عليه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن أو على سبيل الترقي إلى ما هو أعجب في الجملة، لأن ما فيه من أجناس الحيوانات أعجب وطوله وعرضه أعظم والبر مقابل البحر.وقيل: {البر} القفار {والبحر} المعروف فالمعنى ويعلم ما في البر من نبات ودواب وأحجار وأمدار وغير ذلك، وما في البحر من حيوان وجواهر وغير ذلك.
|