الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد الشعراوي في الآية: قال رحمه الله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا}.إن من هؤلاء من يستمع إلى القرآن لا بهدف التفهم والهداية، ولكن بهدف تلمس أي سبيل للطعن في القرآن، فكأن قلوبهم مغلقة عن القدرة على الفهم وحسن الاستنباط وصولًا إلى الهداية، وهم يجادلون بهدف تأكيد كفرهم لا بنية صافية لاستبانة آفاق آيات الحق والوصول إلى الطريق القويم.ونعلم أن السورة كلها جاءت لتواجه قضية الأصنام والوثنية والشرك بالله، ونعلم أن المعجزة التي جاءت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي القرآن، وهو معجزة كلامية، تختلف عن المعجزات المرئية التي شاهدها المعاصرون لموسى عليه السلام: كشق البحر أو رؤية العصا وهي تصير حية تلقف كل ما ألقاه السحرة، أو معجزة عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص، فهذه كلها معجزات مرئية ومحددة بوقت، أما معجزة رسول الله فهي معجزة مسموعة ودائمة.إن السمع هو أول أدوات الإدراك للنفس البشرية. إنه أول آلة إدراك تنبه الإنسان، إنه آلة الإدراك الوحيدة التي تُستصحب وقت النوم وتؤدي مهمتها؛ لأن تصميمها يضم إمكانات مواصلة مهمتها وقت النوم. ونعلم أن الحق حينما أراد أن يقيم أهل الكهف مدة ثلاثمائة وتسع سنين ضرب على آذانهم حتى يكون نومهم سباتًا عميقًا، فهم في كهف في جبل، والجبل في صحارى تهب عليها الرياح والزوابع والأعاصير، فلو أن آذانهم على طبيعتها لما استراحوا في النوم الذي أراده الله لهم، ولذلك ضرب الله على آذانهم وقال سبحانه: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11].ومعجزة رسول الله- إذن- جاءت سمعية وأيضًا يمكن قراءتها. وحين يتلقى الإنسان بلاغًا فهو يتلقاه بسمعه، ويستطيع من بعد ذلك أن يقرأ هذا البلاغ ويتفقه فيه، ولا أحد يعرف القراءة إلا إذا سمع أصوات الحروف أولًا ثم رآها من بعد ذلك، لقد تميزت معجزته صلى الله عليه وسلم بسيد الأدلة في وسائل الإدراك الإنساني، وهو السمع، والحق يقول: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}.إن هناك فارقا بين يسمع ويستمع، فالذي يسمع هو الذي يسمع عرضًا، أما الذي يستمع فهو الذي يسمع عمدًا. والسامع دون عمد ليس له خيارًا ألاّ يسمع، إلا إذا سد أذنيه. أما الذي يستمع فهو الذي يقصد السمع. وهم كانوا يستمعون للقرآن لا بغرض اكتشاف آفاق الهداية ولكن بغرض الإصرار على الكفر وذلك بقصد تصيد المطاعن على القرآن.ويقول الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} والأكنة جمع كنان وهي الغطاء أو الغلاف. ويتابع الحق: {وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي جعلنا في آذانهم صممًا، كأنهم باختيارهم الكفر قد منعهم الله أن يفهموا القرآن، ونعلم أن جميع المعاصرين لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمعوا لرسول الله ومنهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر.ونعرف أن لكل فعل مستقبلًا. ويمكن للمستقبل أن يؤمن وبذلك يكون الفعل قد أتى ثمرته، وقد يكون المُستقبل مصرًا على موقفه السابق فلا يؤمن، وهنا يكون الفعل لم يؤت ثمرته، والفاعل واحد، لكن القابل مختلف. وكان بعض الكافرين يسمعون القرآن ثم يخرجون دون إيمان: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفًا أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16].إنهم ككفار يستمعون للقرآن، ثم ينصرفون ليقولوا في استهزاء للمؤمنين الذين علموا وآمنوا: أي كلام هذا الذي يقوله محمد؟ هؤلاء المستهزئون هم الذين ختم الله على قلوبهم بالكفر، وانصرفوا عن الهداية إلى الضلال. والمتكلم بكلام الله هو رسول الله مبلغًا عن الله، والسامع مختلف؛ فهناك سامع مؤمن يتأثر بما يسمع، وهناك سامع كافر لا تستطيع أذنه أن تنقل الوعي والإدراك بما سمع. لكن القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء، أما الذين لا يؤمنون به فآذانهم تصم عن الفهم وأعماقهم بلا بصيرة فلذلك لا يفهمون عن الله، وتجد نفس المؤمن تستشرف لأن تعلم ماذا في القرآن. أما الذي يريد أن يكون جبارًا في الأرض فهو لا يريد أن يلزم نفسه بالمنهج.وحتى نعرف الفارق بين هذين اللونين من البشر، نجد المؤمن ينظر إلى الكون ويتأمله فيدرك أن له صانعًا حكيمًا، أما الكافر فبصيرته في عماء عن رؤية ذلك. وحين يستمع المؤمن إلى بلاغ من خالق الكون فهو يرهف السمع، أما الكافر فهو ينصرف عن ذلك.وكان صناديد قريش أمثال أبي جهل وأبي سفيان، والنضر بن الحارث، والوليد ابن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وحرب بن أمية، كل هؤلاء من صناديد قريس يجتمعون ويسأل الواحد منهم النضر قائلًا: يا نضر ما حكاية الكلام الذي يقوله محمد؟وكان النضر راوية للقصص التي يجمعها من أنحاء البلاد، فهو قد سافر إلى بلاد فارس والروم وجاب الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، فقال: والله ما أدري ما يقول محمد إلا أنه أساطير الأولين.ويتجادل النضر وأبو سفيان وأبو جهل مع رسول الله، وهذا الجدال دليل عدم فهم لما جاء من آيات القرآن. ولم يجعل الله الوقر على آذانهم قهرًا عنهم، بل بسبب كفرهم أولًا، فطبع الله على قلوبهم بكفرهم، واستقر مرض الكفر في قلوبهم وفضلوه على الإيمان فزادهم الله مرضًا، وقال فيهم الحق سبحانه: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حتى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الذين كفروا إِنْ هاذا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [الأنعام: 25].والأساطير هي جمع أسطورة، والأسطورة شيء يسطر ليتحدث به من العجائب والأحداث الوهمية.وكأن الحق سبحانه وتعالى يكشفهم أمام أنفسهم وهو يحاولون أن يجدوا ثغرة في القرآن فلا يجدون. وقال الله عنهم قولًا فصلًا: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].فهم يعلمون عظمة القرآن فكيف يقولون إنه أساطير الأولين؟ لقد كانوا من المعجبين بعظمة أسلوب القرآن الكريم فهم أمة بلاغة، ولكنهم يعلمون أن مطلوبات القرآن صعبة على أنفسهم. كما أنهم أرادوا أن يظلوا في السيادة والجبروت والقهر للغير، والقرآن إنما جاء ليساوي بين البشر جميعًا أمام الحق الواحد الأحد.لقد جاءت حوادث قسرية بإرادة الله لتكون سببًا للإيمان، مثلما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما علم أن أخته قد أسلمت فذهب إليها وضربها حتى أسال منها الدم. وإسالة الدم حركت فيه عاطفة الأخوة فأزالت صلف العناد، فأراد أن يقرأ الصحيفة التي بها بعض من آيات القرآن، وتلقى الأمر من أخته بأن يتطهر فتطهر وجلس يستمع، وبزوال صلفه وعناده وبتطهره صار ذهنه مستعدًا لفهم ما جاء بالقرآن، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إيمانه بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته الخاتمة. اهـ..سؤالان وجوابان: فإن قلت: هل تكون هذه الآية حجّة للذين قالوا من علمائنا: إنّ إعجاز القرآن بالصَّرْفة، أي أعجز الله المشركين عن معارضته بأن صرفهم عن محاولة المعارضة لتقوم الحجّة عليهم، فتكون الصرفة من جملة الأكنّة التي جعل الله على قلوبهم؟الجواب: لم يحتجّ بهذه الآية أصحاب تلك المقالة لأنّك قد علمت أنّ الأكنّة تخييل وأنّ الوقر استعارة وأنّ قول النضر (ما أدري ما أقول)، بُهتان ومكابرة، ولذلك قال الله تعالى: {وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها}.وكلمة {كلّ} هنا مستعملة في الكثرة مجازًا لتعذّر الحقيقة سواء كان التعذّر عقلًا كما في هذه الآية، وقوله تعالى: {فلا تميلوا كلّ الميل} [النساء: 129]، وذلك أنّ الآيات تنحصر أفرادها لأنّها أفراد مقدّرة تظهر عند تكوينها إذ هي من جنس عامّ؛ أم كان التعذّر عادة كقول النابغة:فإنّ العادة تحيل اجتماع جميع بقر الوحش في هذا الموضع.فيتعذّر أن يرى القوم كلّ أفراد ما يصحّ أن يكون آية، فلذلك كان المراد بـ {كلّ} معنى الكثرة الكثيرة، كما تقدّم في قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية} في سورة [البقرة: 145]. اهـ.فإن قيل: لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين، وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة، وما لا عيب على قائله؟فعنه جوابان.أحدهما: أنهم نسبوه إلى أنه ليس بوحي من الله.والثاني: أنهم عابوه بالإِشكال والغموض، استراحة منهم إلى البهت والباطل.فعلى الجواب الأول تكون {أساطير} من التسطير، وعلى الثاني تكون بمعنى الترهات، وقد شرحنا معنى التُّرَّهات. اهـ. .فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْك}.راعى لفظ مَنْ فأفرد، ولو رَاعَى المعنى لجمع، كقوله في موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ} [يونس: 42].وقوله: {على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} إلى آخره، حمل على معناها قوله: {وَجَعلْنَا} جعل هنا يحتمل أن يكون للتَّصْييرِ، فيتعدّى لاثنين، أوَّلُهُمَا: {أكنَّة} والثاني: الجار قبله، فيتعلّق بمحذوف، أي: صيَّرنا الأكِنَّة مستقرّة على قلوبهم، ويحتمل أن يكون بمعنى خلق، فيتعدى لواحد، ويكنون الجار قبله حالًا فيتعلق بمحذوف؛ لأنه لو تأخر لوقع صفة لـ {أكِنَّة}.ويحتمل أن يكون بمعنى ألقى فتتعلّق على بهان كقولك: ألقيتُ على زيد كذا {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39].وهذه الجملة تحتمل وجهين:أظهرهما: أنها مُسْتأنَفَةٌ سيقت للإخبار بما تضَّمنَتْهُ من الخَتْمِ على قلوبهم وسمعهم.حال كونه مَجْعُولًا على قلبه كنانٌ، وفي أذنه وقرٌ، فعلى الأول يكون قد عطف جملة فعلية على اسمية، وعلى الثاني: تكون الواو للحال، وقد مضمرة بعدها عند مَنْ يُقَدِّرَها قبل الماضي الواقع حالًا.والأكِنَّةُ: جمع كِنَان، وهو الوعَاءُ الجامع.قال الشاعر:وقال بعضهم: الكِنُّ- بالكَسْرِ- ما يُحْفَظُ فيه الشَّيء، وبالفتح المصدر.يقال: كَننْتهُ كِنًّا، أي: جعلته في كِنِّ، وجُمِعَ على أكنان قال تبارك وتعالى: {مِّنَ الجبال أَكْنَانًا} [النحل: 81].والكِنَانُ: الغِطَاءُ السَّاتِرُ، والفعل من هذه المادة يُسْتعمل ثلاثيًا ورُبَاعيًّا، يقال: كَنَنْتُ الشَّيء، وأكنَنْتُه كنَّا وإكنانًا، إلاَّ أن الراغب فَرَّق بين فَعَلَ وأفْعل، فقال: وخُصَّ كننت بما يستُر من بيت، أو ثوب، أو غير ذلك من الأجسام، قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُون} [الصفات: 49] وأكننت بما يستر في النفس، قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235].ويشهد لما قال قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 77- 78] وقوله تعالى: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [القصص: 69].وكِنَان يُجمع على أكِنَّة في القِلٌّةِ والكَثْرَةِ لتضعيفه، وذلك أن فَعالًا وفِعالًا بفتح الفاء وكسرها يُجْمَعُ في القِلَّةِ على أفْعِلة كأحمرة وأقْذِلَة، وفي الكَثْرَةِ على فُعُل كحُمُر، وقُذُل، إلاَّ أن يكون مُضاعفًا كبَتَات وكِنَان، أو معتل اللام كخباء وقباء، فيلتزم جمعه على أفْعِلَة، ولا يجوز على فُعل إلاَّ في قليلٍ من الكلام كقولهم: غُنُن، وحُجُج في جمع عِنان وحجاج.قال القرطبي: والأكِنَّةُ: الأغْطِية مثل: الأسنَّة والسَّنَان، والأعنَّة والعِنَان، كَنَنْتُ الشيء في كِنَّةٍ إذا صُنْتهُ فيه، وأكْنَنْت الشَّيء أخْفَيْتُهُ، والكِنَانَةُ معروفة، والكَنَّة- بفتح الكاف والنون- امرأة أبيك، ويقال: امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنة.قوله: {أنْ يَفْقَهُوهُ} في مَحَلِّ نَصْبٍ على المفعول من أجْلِهِ، وفيه تأويلان سَبَقَا.أحدهما: كَرَاهَةَ أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين.والثاني: حَذْفُ لا، أي: أن لا يَفْقَهُوهُ، وهو رأيُ الكوفيين.قوله: {وَقْرًا} عطفٌ على {أكِنَّة} فَيَنْتَسِبُ انْتَصَابَهُ، أي: وجعلنا في آذانهم وقرأ و{في آذانهم} كقوله: {عَلَى قُلُوبِهِمْ}.وقد تقدَّمَ أنَّ جَعَل يحتمل معاني ثلاثة، فيكون هذا الجار مبنيًّا عليها من كونه مفعولًا ثانيًا قُدِّمَ، أو متعلّقًا بها نفسها أو حالًا.والجمهور على فتح الواو من {وَقرًا}.وقرأ طَلحةُ بن مُصَرفٍ بكسرها، والفرق بين الوَقْر والوِقْر أنَّ المفتوح هو الثِّقَلُ في الأذُنِ، يُقال منه: وَقَرتْ أذنه يفتح القاف وكسرها، والمُضارع تَقِرُ وتَوْقَر، بحسب الفعلين كتعد وتَوْجَل.
|