الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال سيد قطب: تعريف بسورة الفيل:تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة، عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير، ومحضن العقيدة الجديدة، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض، وإقرار الهدى والحق والخير فيها..وجملة ما تشير إليها الروايات المتعددة عن هذا الحادث، أن الحاكم الحبشي لليمن- في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها- وتسميه الروايات: (أبرهة)، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة، على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة، وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت، شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها كذلك. وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية.. ولكن العرب لم ينصرفوا عن بيتهم المقدس، فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت، وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر والأنساب. وكانت معتقداتهم- على تهافتها- أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم، وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب وتهافت كذلك.عندئذ صح عزم (أبرهة) على هدم الكعبة ليصرف الناس عنها؛ وقاد جيشا جرارا تصاحبه الفيلة، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم. فتسامع العرب به وبقصده. وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم. فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام، فأجابه إلى ذلك من أجابه. ثم عرض له فقاتله، ولكنه هزم وأخذه أبرهة أسيرا.ثم وقف له في الطريق كذلك نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير، فهزمهم كذلك وأسر نفيلا، الذي قبل أن يكون دليله في أرض العرب.حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف فقالوا له: إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة. وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للات! وبعثوا معه من يدله على الكعبة!فلما كان أبرهة بالمغمس بين الطائف ومكة، بعث قائدا من قواده حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم، فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها. فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله. ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.وبعث أبرهة رسولا إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد، ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت، فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم! فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك.. فلما كلم عبد المطلب فيما جاء به قال له: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة. هذا بيت الله الحرام. وبيت خليله إبراهيم عليه السلام.. فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه.. فانطلق معه إلى أبرهة..قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم. فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه، وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه. فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه. ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن يرد على الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني! أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل. وإن للبيت رب سيمنعه.قال: ما كان ليمتنع مني.قال: أنت وذاك!.. فرد عليه إبله.ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في شعف الجبال. ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه. وروي عن عبد المطلب أنه أنشد:فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له. فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا. وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة، فقالوا: خلأت القصواء أي حرنت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل..». وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب»، فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل.. ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة. كما يحكي عنهم القرآن الكريم.. وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات..وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير، وأشكالها، وأحجامها، وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها. كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة.ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى. وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات، فالطير هو كل ما يطير.قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم:وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة..قال عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب.وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث: إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام. وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله. فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين، وأصيب الجيش، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء.هذا أول ما اتفقت عليه الروايات، ويصح الاعتقاد به. وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح.فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه. وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير- الذي يسمونه الآن بالمكروب- لا يخرج عنها. وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها.. ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها.. فلله جند من كل شيء. وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته. فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت، أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه، قبل أن يدخل مكة. وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه- على وثنيتهم- حفظا لبيته، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وسلم وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه، ولا ذنب اقترفه.هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة. وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل، إن صحت روايته. ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل- وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما- ويهلك، بحيوان صغير لا يظهر للنظر، ولا يدرك بالبصر، حيث ساقه القدر. لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر!!.ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذ الإمام- صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم- أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو (العصف).. لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله، ولا أولى بتفسير الحادث. فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع. ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس، المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر، وغير المعهود المكشوف لعلمهم، فحققت قدره ذاك.إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه. وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون، وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل، فهذه الخوارق- كما يسمونها- هي من سنة الله. ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه!ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها- متى صحت الرواية- أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم. وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف. فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر.. إن طلوع الشمس وغروبها خارقة- وهي معهودة كل يوم- وإن ولادة كل طفل خارقة- وهي تقع كل لحظة، وإلا فليجرب من شاء أن يجرب! وإن تسليط طير- كائنا ما كان- يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض، في هذا الأوان، وأحداث هذا الوباء في الجيش، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت.. إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير. وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة.. هذه من تلك.. هذه خارقة وتلك خارقة على السواء..فأما في هذا الحادث بالذات، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة، وأن الله أرسل طيرا أبابيل غير معهودة- وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها!- تحمل حجارة غير معهودة، تفعل بالأجسام فعلا غير معهود..نحن أميل إلى هذا الاعتبار. لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة. ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب. فقد كان الله- سبحانه- يريد بهذا البيت أمرا. كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا؛ وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة، في أرض حرة طليقة، لا يهيمن عليها أحد من خارجها، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها. ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال، حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة، ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها.. فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود، بكل مقوماته وبكل أجزائه. ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ..وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده، فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة، ولا يشق الصدر عن القلب..وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني: {فجعلهم كعصف مأكول}.. إيحاء مباشرا قريبا.ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري. فهي لا تزيد على أن تقول: إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة. ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض.. ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل. وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله؟!إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام- رحمه الله- على رأسها في تلك الحقبة.. ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ، ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية.. فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة؛ كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها، كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها، وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها. فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل. ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير. كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية، وتدرك ثباتها واطرادها، وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام- وهي في صميمها العقلية القرآنية- فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة.ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة. من المبالغة في الاحتياط، والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله. فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده- كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي- رحمهم الله جميعا- شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه (المعقول)! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات.ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه، فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه، وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل. وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها- سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف- هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير. ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه- كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة.هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله. إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون. وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير..وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل، غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة، ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور!!!إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية، لعل هنا مكان تقريرها.. إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة. لا مقررات عامة.، ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص. بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا. فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية، ومنها نكون قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا؛ فإذا قررت لنا أمرا فهو المقرر كما قررته! ذلك أن ما نسميه (العقل) ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود، وتجاربنا البشرية المحدودة.وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها، إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري. وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله. والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا. ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها. ومن ثم لا يصلح أن يقال: إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلابد من تأويله- كما يرد كثيرا في مقررات أصحاب هذه المدرسة. وليس معنى هذا هو الإستسلام للخرافة. ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن. ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا، ويكف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى..ونعود من هذا الاستطراد إلى سورة الفيل، وإلى دلالة القصة..{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}.. وهو سؤال للتعجيب من الحادث، والتنبيه إلى دلالته العظيمة. فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم، حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ. يقولون حدث كذا عام الفيل، وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين، وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات.. والمشهور أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل ذاته. ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة!وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها، إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه، المقصود به ما وراء هذا التذكير..ثم أكمل القصة بعد هذا المطلع في صورة الاستفهام التقريري كذلك:{ألم يجعل كيدهم في تضليل}.. أي ألم يضل مكرهم فلا يبلغ هدفه وغايته، شأن من يضل الطريق فلا يصل إلى ما يبتغيه.. ولعله كان بهذا يذكر قريشا بنعمته عليهم في حماية هذا البيت وصيانته، في الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف: في وجه أصحاب الفيل الأقوياء. لعلهم بهذه الذكرى يستحون من جحود الله الذي تقدمت يده عليهم في ضعفهم وعجزهم، كما يطامنون من اغترارهم بقوتهم اليوم في مواجهة محمد صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه. فقد حطم الله الأقوياء حينما شاءوا الاعتداء على بيته وحرمته؛ فلعله يحطم الأقوياء الذين يقفون لرسوله ودعوته.فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بينه في صورة وصفية رائعة: {وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول}.. والأبابيل: الجماعات. وسجيل كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان: حجر وطين. أو حجارة ملوثة بالطين. والعصف: الجاف من ورق الشجر. ووصفه بأنه مأكول: أي فتيت طحين! حين تأكله الحشرات وتمزقه، أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه! وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير. ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصويرلحال هلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة.فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة..وأول ما توحي به أن الله- سبحانه- لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين، ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت، ويحمونه ويحتمون به. فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية. وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام، حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته، بحميتهم الجاهلية. ولعل هذه الملابسة ترجح ترجيحا قويا أن الأمر جرى في إهلاك المعتدين مجرى السنة الخارقة- لا السنة المألوفة المعهودة- فهذا أنسب وأقرب..ولقد كان من مقتضى هذا التدخل السافر من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام أن تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم، والتعجيب من موقفهم العنيد!كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب- أبرهة وجنوده- أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة. حتى والشرك يدنسه، والمشركون هم سدنته. ليبقي هذا البيت عتيقا من سلطان المتسلطين، مصونا من كيد الكائدين. وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة، لا يهيمن عليها سلطان، ولا يطغى فيها طاغية، ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد، ويقود البشرية ولا يقاد. وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام!ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية، ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة. فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون، سيحفظه إن شاء الله، ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين!والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض. بل لم يكن لهم كيان. قبل الإسلام. كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة. وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحيانا تقوم تحت حماية الفرس. وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربية تحت حماية الرومان.. ولم ينج إلا قلب الجزيرة من تحكم الأجانب فيه. ولكنه ظل في حالة بداوة أو في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية. وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة، ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة ولا مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة. وما حدث في عام الفيل كان مقياسا لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي.وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه. وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب. قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش، وتتولى قيادة البشرية، بعد أن تزيح القيادات الجاهلية المزيفة الضالة.. ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب! نسوا نعرة الجنس، وعصبية العنصر، وذكروا أنهم ومسلمون. مسلمون فقط. ورفعوا راية الإسلام، وراية الإسلاموحدها. وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة وبرا بالبشرية؛ ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية. حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهبا أرضيا يخضعون الناس لسلطانه. وخرجوا من أرضهم جهادا في سبيل الله وحده، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده، كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد: الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.عندئذ فقط كان للعرب وجود، وكانت لهم قوة، وكانت لهم قيادة.. ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله. وقد ظلت لهم قوتهم. وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة. حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم، وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم، لأن الله قد تركهم حيثما تركوه، ونسيهم مثلما نسوه!وما العرب بغير الإسلام؟ ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة؟ وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة؟ إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة. والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق، والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلا، إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها. والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية، وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة، فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة، ولم يعد لهم في التاريخ دور.. وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيدا إذا هم أرادوا الحياة، وأرادوا القوة، وأرادوا القيادة.. والله الهادي من الضلال. اهـ.
|