الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: {ألهاكم} أي شغلكم عما يجب عليكم الاشتغالُ به لأن اللهو شغل يصرف عن تحصيل أمر مهم.و{التكاثر}: تفاعل في الكثْر أي التباري في الإِكثار من شيء مرغوب في كثرته.فمنه تكاثر في الأموال، ومنه تكاثر في العَدد من الأولاد والأحلاف للاعتزاز بهم.وقد فسرت الآية بهما قال تعالى: {وقالوا نحن أكثر أموالًا وأولادًا وما نحن بمعذبين} [سبأ: 35].وقال الأعشى:روى مسلم عن عبد الله بن الشِّخِّير قال: «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {ألهاكم التكاثر} قال: يقول ابنُ آدم مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنَيْت أو لَبست فَأَبْلَيْت أو تصدقت فأمضَيْت». فهذا جارٍ مجرى التفسير لمعنى من معاني التكاثر اقتضاه حال الموعظة ساعتئذ وتحتمله الآية.والخطاب للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله: {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} وقوله: {لترون الجحيم} [التكاثر: 6] إلى آخر السورة، ولأن هذا ليس من خلق المسلمين يومئذ.والمراد بالخطاب: سادتُهم وأهلُ الثراء منهم لقوله: {ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم} [التكاثر: 8]، ولأن سادة المشركين هم الذين آثاروا ما هم فيه من النعمة على التهمّم بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتصدَّوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإِصغاء له.فلم يُذكَر المُلْهَى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه، والإِنصاف بتصديقه.وهذا الإِلهاء حصل منهم وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي.وإذا كان الخطاب للمشركين فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا الخلق مذموم عند الله، وأنه من خصال أهل الشرك فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك فيحذرون من أن يُلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لاهون عن الخير، قال تعالى يخاطب المؤمنين: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته} [الحديد: 20] الآية.وقوله: {حتى زرتم المقابر} غاية، فيحتمل أن يكون غاية لفعل {ألهاكم} كما في قوله تعالى: {قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [طه: 91]، أي دَام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر، أي استمرّ بكم طولَ حياتكم، فالغاية مستعملة في الإِحاطة بأزمان المغيَّا لا في تنهيته وحصول ضده لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها.ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها، أي قبورَ المقابر.وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولًا غير مستمر، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضًا بهم بأن حلولهم في القبور يعقبه خروج منها.والتعبير بالفعل الماضي في {زرتم} لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل:{أتى أمر اللَّه} [النحل: 1].ويحتمل أن تكون الغاية للمتكاثر بهِ الدالِّ عليه التكاثُر، أي بكل شيء حتى بالقبور تعدونها.وهذا يجري على ما رَوَى مقاتل والكلبي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة السادة منهم، كما تقدم في سبب نزولها آنفًا، فتكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي، أي زرتم المقابر لتَعُدُّوا القبور، والعرب يكنّون بالقبر عن صاحبه قال النابغة: وقال عصام بن عُبيد الزّمَّاني، أو همّام الرَّقَاشي: أي كنتُ أقربهم منكَ قبرًا، أي صاحبَ قبر.و{المقابر}: جمع مقبَرة بفتح الموحدة وبضمها.والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة.والتوبيخ الذي استُعمل فيه الخبر أُتبع بالوعيد على ذلك بعد الموت، وبحرف الزجر والإِبطال بقوله: {كلا سوف تعلمون} فأفاد {كلا} زجرًا وإبطالًا لإِنهاء التكاثر.و{سوف} لتحقيق حصول العلم.وحدف مفعول {تعلمون} لظهور أن المراد: تعلمون سوء مَغَبَّة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإِسلام.وأكد الزجر والوعيد بقوله: {ثم كلا سوف تعلمون} فعطف عطفًا لفظيًّا بحرف التراخي أيضًا للإِشارة إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله، فهذا زجر ووعيد مماثل للأول لكن عطفه بحرف {ثم} اقتضى كونه أقوى من الأول لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله.فجملة: {ثم كلا سوف تعلمون} توكيد لفظي لجملة: {كلا سوف تعلمون} وعن ابن عباس: {كلا سوف تعلمون} ما ينزل بكم من عذاب في القبر: {ثم كلا سوف تعلمون} عند البعث أن ما وعدتم به صِدق، أي تُجعل كلَّ جملة مرادًا بها تهديد بشيء خاص.وهذا من مُسْتتبَعات التراكيب والتعويل على معونة القرائن بتقدير مفعول خاص لكلِّ من فِعلي {تعلمون}، وليس تكرير الجملة بمقتض ذلك في أصل الكلام.ومفاد التكرير حاصل على كل حال.{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)}أعيد الزجر ثالِثَ مرةٍ زيادة في إبطال ما هم عليه من اللهو عن التدبر في أقوال القرآن لعلهم يقلعون عن انكبابهم على التكاثر مما هم يتكاثرون فيه ولهوهم به عن النظر في دعوة الحق والتوحيد.وحذف مفعول {تعلمون} للوجه الذي تقدم في {كلا سوف تعلمون} وجواب {لو} محذوف.وجملة: {لو تعلمون علم اليقين} تهويل وإزعاج لأن حذف جواب {لو} يجعل النفوس تذهب في تقديره كلَّ مذهب مُمكن.والمعنى: لو تعلمون علم اليقين لتبيَّن لكم حالٌ مفظع عظيم، وهي بيان لما في {كلا} من الزجر.والمضارع في قوله: {لو تعلمون} مراد به زمن الحال.أي لو علمتم الآن علم اليقين لعلمتم أمرا عظيمًا.ولفعل الشرط مع {لو} أحوال كثيرة واعتبارات، فقد يقع بلفظ الماضي وقد يقع بلفظ المضارع وفي كليهما قد يكون استعماله في أصل معناه.وقد يكون منزّلًا منزلةَ غير معناه، وهو هنا مستعمل في معناه من الحال بدون تنزيل ولا تأويل.وإضافة {علم} إلى {اليقين} إضافةٌ بيانية فإن اليقين علم، أي لو علمتم علمًا مطابقًا للواقع لبان لكم شنيع ما أنتم فيه ولكن علمهم بأحوالهم جهل مركَّب من أوهام وتخيلات، وفي هذا نداء عليهم بالتقصير في اكتساب العلم الصحيح.وهذا خطاب للمشركين الذين لا يؤمنون بالجزاء وليس خطابًا للمسلمين لأن المسلمين يعلمون ذلك علم اليقين.واعلم أنَّ هذا المركب هو {علم اليقين} نقل في الاصطلاح العلمي فصار لقبًا لحالة من مدركات العقل وقد تقدم بيان ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وإنه لحق اليقين} في سورة الحاقة (51) فارجع إليه.{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)}استئناف بياني لأن ما سبقه من الزجر والردع المكرر ومن الوعيد المؤكّد على إجماله يثير في نفس السامع سؤالًا عما يُترقب من هذا الزجر والوعيد فكان قوله: {لترون الجحيم} جوابًا عما يجيش في نفس السامع.وليس قوله: {لترون الجحيم} جواب (لَوْ) على معنى: لو تعلمون علم اليقين لكنتم كمَن ترون الجحيم، أي لتروُنَّها بقلوبكم، لأن نظم الكلام صيغة قَسم بدليل قَرْنه بنون التوكيد، فليست هذه اللام لامَ جواب (لو) لأن جواب (لو) ممْتَنِعُ الوقوع فلا تقترن به نون التوكيد.والإِخبار عن رؤيتهم الجحيم كناية عن الوقوع فيها، فإن الوقوع في الشيء يستلزم رؤيتَه فيكنى بالرؤية عن الحضور كقول جَعْفر بن عُلْبة الحارثي: وأُكد ذلك بقوله: {ثم لترونها عين اليقين} قصدًا لتحقيق الوعيد بمعناه الكنائي.وقد عطف هذا التأكيد بـ: {ثم} التي هي للتراخي الرتبي على نحو ما قررنَاهُ آنفًا في قوله: {ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 4]، وليس هنالك رؤيتان تقع أحداهما بعد الأخرى بمُهلة.و{عينَ اليقين}: اليقين الذي لا يشوبه تردد.فلفظ عين مجاز عن حقيقة الشيء الخالصة غير الناقصة ولا المشابهة.وإضافة {عين} إلى {اليقين} بيانية كإضافة {حق} إلى {اليقين} في قوله تعالى: {إن هذا لهو حق اليقين} [الواقعة: 95].وانتصب {عين} على النيابة عن المفعول المطلق لأنه في المعنى صفة لمصدر محذوف، والتقدير.ثم لترونها رؤيةَ عين اليقين.وقرأه الجمهور: {لترون الجحيم} بفتح المثناة الفوقية، وقرأه ابن عامر والكسائي بضم المثناة من (أراه).وأمَّا {لترونها} فلم يختلف القراء في قراءته بفتح المثناة.وأشار في (الكشاف) إلى أن هذه الآيات المفتتحة بقوله: {كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 3] والمنتهية بقوله: {عين اليقين}، اشتملت على وجوه من تقوية الإِنذار والزجر، فافتتحت بحرف الردع والتنبيه، وجيء بعده بحرف {ثم} الدال على أن الإِنذار الثاني أبلغ من الأول.وكرر حرف الردع والتنبيه، وحُذف جواب {لو تعلمون} [التكاثر: 5] لما في حذفه من مبالغة التهويل، وأُتي بلام القسم لتوكيد الوعيد.وأكد هذا القسم بقسم آخر، فهذه ستة وجوه.وأقول زيادة على ذلك: إن في قوله: {عين اليقين} تأكيدين للرؤية بأنها يقين وأن اليقين حقيقة.والقول في إضافة {عين اليقين} كالقول في إضافة {علم اليقين} [التكاثر: 5] المذكور آنفًا.{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}أعقب التوبيخ والوعيد على لهوهم بالتكاثر عن النظر في دعوة الإِسلام من حيث إن التكاثر صدهم عن قبول ما ينجيهم، بتهديدٍ وتخويف من مؤاخذتهم على ما في التكاثر من نعيم تمتعوا به في الدنيا ولم يشكروا الله عليه بقوله تعالى: {ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم}، أي عن النعيم الذي خولتموه في الدنيا فلم تشكروا الله عليه وكان به بَطركُم.وعطف هذا الكلام بحرف {ثم} الدال على التراخي الرتبي في عطفه الجُملَ من أجل أن الحساب على النعيم الذي هو نعمة من الله أشدّ عليهم لأنهم ما كانوا يترقبونه، لأن تلبسهم بالإِشراك وهُم في نعيم أشد كفرانًا للذي أنعم عليهم.و{النعيم}: اسم لما يلذّ لإِنسان مما ليس ملازمًا له، فالصحة وسلامة الحواس وسلامة الإِدراك والنوم واليقظة ليست من النعيم، وشرب الماء وأكل الطعام والتلذّذ بالمسموعات وبما فيه فخر وبرؤية المحاسن، تعد من النعيم.والنعيم أخص من النعمة بكسر النون ومرادف للنَّعمة بفتح النون.وتقدم النعيم عند قوله تعالى: {لهم فيها نعيم مقيم} في سورة براءة (21).والخطاب موجه إلى المشركين على نسق الخطابات السابقة.والجملة المضاف إليها (إذ) من قوله: {يومئذ} محذوفة دل عليها قوله: {لترون الجحيم} [التكاثر: 6] أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب.وهذا السؤال عن النعيم الموجه إلى المشركين هو غير السؤال الذي يُسأله كل منعَم عليه فيما صرف فيه النعمة، فإن النعمة لما لم تكن خاصة بالمشركين خلافًا للتكاثر كان السؤال عنها حقيقًا بكل منعَم عليه وإن اختلفت أحوال الجزاء المترتب على هذا السؤال.ويؤيده ما ورد في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر فقاما معه فأتى رجلًا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته. إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرمُ أضيافًا مني فانطلق فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتَمر ورُطب وأخذ المدية فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لتُسألنَّ عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة» الحديث.فهذا سؤال عن النعيم ثبت بالسنة وهو غير الذي جاء في هذه الآية.والأنصاري هو أبو الهيثم بن التَّيِّهان واسمه مالك.ومعنى الحديث: لتُسألن عن شكر تلك النعمة، أراد تذكيرهم بالشكر في كل نعمة.وسؤال المؤمنين سؤال لترتيب الثواب على الشكر أو لأجل المؤاخذة بالنعيم الحرام.وذكر القرطبي عن الحسن: لا يُسأل عن النعيم إلا أهل النار، وروي «أن أبا بكر لما نَزَلَتْ هذه الآية قال: يا رسول الله أرأيتَ أكلة أكلتُها معك في بيت أبي الهيثم بن التيِّهان من خبز شعير ولحم وبُسر قد ذَنَّب وماء عذب، أنخاف أن يكون هذا من النعيم الذي نُسأل عنه؟ فقال عليه السلام: ذلك للكُفار» ثم قرأ: {وهل يُجازَى إلا الكفور} [سبأ: 17].قال القشيري: والجمع بين الأخبار أن الكلَّ يسألون، ولكن سؤال الكافر سؤال توبيخ لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر.والجملة المضاف إليها (إذ) من قوله: {يومئذ} محذوفة دلّ عليها قوله: {لترون الجحيم} [التكاثر: 6] أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب. اهـ.
|