الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {وأنّهُ لّما قام عبْدُ الله يدْعُوهُ}يجوز الفتح؛ أي أوحى الله إليه أنه.ويجوز الكسر على الاستئناف.و{عبد الله} هنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلّي ببطن نخلة ويقرأ القرآن، حسْب ما تقدّم أوّل السورة.{يدْعُوهُ} أي يعبده.وقال ابن جُريج: {يدْعُوه} أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى.{كادُواْ يكُونُون عليْهِ لِبدا} قال الزبير بن العوّام: هم الجنّ حين استمعوا القرآن من النبيّ صلى الله عليه وسلم.أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون، حرصا على سماع القرآن.وقيل: كادوا يركبونه حرصا؛ قاله الضحاك.ابن عباس: رغبة في سماع الذكر.وروى بُرْد عن مكحول: أن الجنّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر.وعن ابن عباس أيضا: إن هذا من قول الجنّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود.وقيل: المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا، حردا على النبيّ صلى الله عليه وسلم.وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني {لّما قام عبْدُ الله} محمد بالعدوة تلبّدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليطفئوه، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره.واختار الطبريّ أن يكون المعنى: كادت العرب يجتمعون على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به.وقال مجاهد: قوله: {لِبدا} جماعات وهو من تلبُّد الشيء على الشيء أي تجمع، ومنه اللِّبْد الذي يفرش لتراكم صوفه، وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبّدته، وجمع اللِّبدة لِبد مثل قِربة وقِرب.ويقال للشّعر الذي على ظهر الأسد لِبدة وجمعها لِبد؛ قال زهير:يقال للجراد الكثير: لِبد.وفيه أربع لغات وقراءات؛ فتح الباء وكسر اللام، وهي قراءة العامة.وضم اللام وفتح الباء، وهي قراءة مجاهد وابن مُحيْصن وهشام عن أهل الشام، واحدتها لُبْدة.وبضم اللام والباء، وهي قراءة أبي حيْوة ومحمد بن السّميْقع وأبي الأشهب العُقيلي والجحْدري واحدها لبْد مثل سقْفٍ ورهْن ورُهُن.وبضم اللام وشدّ الباء وفتحها، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والأعرج والجحْدري أيضا واحدها لابِد؛ مثل راكِع ورُكّع، وساجِد وسُجّد.وقيل: اللُّبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم؛ ومنه قيل لنسر لقمان لُبد لدوامه وبقائه؛ وقال النابغة: القشيريّ: وقرئ {لُبُدا} بضم اللام والباء، وهو جمع لبِيد، وهو الجوْلق الصغير.وفي الصحاح: وقوله تعالى: {أهْلكْتُ مالا لُّبدا} [البلد: 6] أي جمّا.ويقال أيضا: الناس لُبد أي مجتمعون، واللُّبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح منزله.قال الشاعر: ويروى: اللّبِد.قال أبو عُبيد: وهو أشبه.والبزلاء: الرأي الجيّد.وفلان نهاض ببزلاء: إذا كان ممن يقوم بالأمور العظام؛ قال الشاعر: ولُبد: آخر نسور لقمان، وهو ينصرف؛ لأنه ليس بمعدول.وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أهلكوا خُيّر لقمان بين بقاء سبع بعرات سُمْر، مِن أظْبٍ عُفْرٍ، لا يمسها القطْر؛ أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النُّسور، وكان آخر نُسوره يسمى لُبدا، وقد ذكرته الشعراء؛ قال النابغة: واللّبِيد: الجُوالق الصغير؛ يقال: ألبدت القِربة جعلتها في لبيد.ولبِيد: اسم شاعر من بني عامر.قوله تعالى: {قُلْ إِنّمآ أدْعُو ربِّي} أي قال صلى الله عليه وسلم: {إِنّمآ أدْعُو ربِّي} {ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا} وكذا قرأ أكثر القراء {قال} على الخبر.وقرأ حمزة وعاصم {قُلْ} على الأمر.وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك؛ فنزلت.قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا.وقيل: {لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا} أي كفرا {ولا رشدا} أي هدى، أي إنما عليّ التبليغ.وقيل: الضرّ: العذاب، والرّشد النعيم.وهو الأوّل بعينه.وقيل: الضر الموت، والرشد الحياة.قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لن يُجِيرنِي مِن الله أحدٌ} أي لا يدفع عذابه عني أحد إن استحفظته؛ وهذا لأنهم قالوا اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك.وروى أبو الْجوْزاء «عن ابن مسعود قال: انطلقت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ حتى أتى الحجُون فخطّ عليّ خطّا، ثم تقدّم إليهم فازدحموا عليه، فقال سيّدهم يقال له ورْدان: أنا أزْجُلهم عنك؛ فقال: {إِنِّي لن يُجِيرنِي مِن الله أحدٌ}» ذكره الماورديّ.قال: ويحتمل معنيين أحدهما لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد.الثاني لن يجيرني مما قدره الله تعالى عليّ أحد.{ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا} أي ملتجأ ألجأ إليه؛ قاله قتادة.وعنه: نصيرا ومولى.السُّديّ: حِرزا.الكلْبي: مدْخلا في الأرض مثل السّرب.وقيل: وليّا ولا مولى.وقيل؛ مذهبا ولا مسلكا.حكاه ابن شجرة، والمعنى واحد؛ ومنه قول الشاعر: {إِلاّ بلاغا مِّن الله ورِسالاتِهِ} فإن فيه الأمان والنجاة؛ قاله الحسن.وقال قتادة: {إِلاّ بلاغا مِّن الله} فذلك الذي أملكه بتوفيق الله، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما.فعلى هذا يكون مردودا إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} أي لا أملك لكم إلا أن أبلغكم.وقيل: هو استثناء منقطع من قوله: {لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} أي إِلا أن أبلغكم أي لكن أبلغكم ما أرسلت به؛ قاله الفراء.وقال الزجاج: هو منصوب على البدل من قوله: {مُلْتحدا} أي {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا} إلا أن أبلغ ما يأتيني من الله ورسالاته؛ أي ومن رسالاته التي أمرني بتبليغها.أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالته، فآخذ نفسي بما آمر به غيري.وقيل هو مصدر، و{لا} بمعنى لم، و(أن) للشرط.والمعنى لن أجد من دونه ملتحدا: أي إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا.قوله تعالى: {ومن يعْصِ الله ورسُولهُ} في التوحيد والعبادة.{فإِنّ لهُ نار جهنّم} كسرت إن لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء وقد تقدم.{خالِدِين فِيهآ} نصب على الحال، وجمع {خالِدِين} لأن المعنى لكل من فعل ذلك، فوحد أوّلا للفظ (من) ثم جمع للمعنى.وقوله: {أبدا} دليل على أن العصيان هنا هو الشرك.وقيل: هو المعاصي غير الشرك، ويكون معنى {خالِدِين فِيهآ أبدا} إلا أن أعفو أو تلحقهم شفاعة، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الإيمان يلحقهم العفو.وقد مضى هذا المعنى مبيّنا في سورة (النساء) وغيرها.قوله تعالى: {حتى إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون} {حتّى} هنا مبتدأ، أي {حتى إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون} من عذاب الآخرة، أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل ببدر {فسيعْلمُون} حينئذ {منْ أضْعفُ ناصِرا} أهم أم المؤمنون.{وأقلُّ عددا} معطوف. اهـ. .قال الألوسي: {وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا (19)}{وأنّهُ} بفتح الهمزة عند الجمهور على أنه عطف على {أنه استمع} [الجن: 1] كالذي قبله فهو من كلامه تعالى أي وأوحي إليّ أن الشان {لّما قام عبْدُ الله} أي النبي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {يدْعُوهُ} حال من عبد أي لما قام عابدا له عز وجل وذلك قيامه عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر بنخلة كما مر {كادُواْ} أي الجن كما قال ابن عباس والضحاك {يكُونُون عليْهِ لِبدا} متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما شاهدوا من عبادته وسمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا نظيره وهذا كالظاهر في أنهم كانوا كثيرين لا تسعة ونحوها وإيراده عليه الصلاة والسلام بلفظ العبد دون لفظ النبي أو الرسول أو الضمير اما لأنه مقول على لسانه صلى الله عليه وسلم لأنه أمر أن يقول أوحى كذا فجيء به على ما يقتضيه مقام العبودية والتواضع أو لأنه تعالى عدل عن ذلك تنبيها على أن العبادة من العبد لا تستبعد ونقل عليه الصلاة والسلام كلامه سبحانه كما هو رفعا لنفسه عن البين فلا وجود للأثر بعد العين وحيث كان هذا العدول منه جل وعلا إما لكذا أو لكذا لا أنه تصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمتنع كما قال بعض الأجلة الجمع بين الحسنيين وقال الحسن وقتادة ضمير كادوا لكفار قريش والعرب فيراد بالقيام القيام بالرسالة وبالتلبد التلبد للعداوة والمعنى وانه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو الله تعالى وحده ويذر ما كانوا يدعون من دونه كاد والتظاهر هم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين وجوز أن يكون الضمير على هذا للجن والانس وعن قتادة أيضا ما يقتضيه قال تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفؤه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويظهره على من ناواه وفي البحر أبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله تعالى منهم قاله الحسن وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام. اهـ.ولعمري أنه لا ينبغي القول بذلك ولا أظن له صحة بوجه من الوجوه.وقرأ نافع وأبو بكر كما قدمنا وابن هرمز وطلحة كما في البحر {وأنه} بكسر الهمزة وحمل على أن الجملة استئنافية من كلامه عز وجل وجوز أن تكون من كلام الجن معطوفة على جملة {أنا سمعنا} [الجن: 1] حكوا فيها لقومهم لما رجعوا إليهم ما رأوا من صلاته صلى الله عليه وسلم وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به وحكى ذلك عن ابن جبير وجوز نحو هذا على قراءة الفتح بناء على ما سمعت عن أبي حاتم أو بتقدير ونخبركم بأنه أو نحوه هذا وفي الكشف الوجه على تقديران يكون وان المساجد من جملة الموحى أن يكون {فلا تدعوا} [الجن: 18] خطابا للجن محكيا أن جعل قوله تعالى: {وأنه لما قام} على قراءة الكسر من مقول الجن لئلا ينفك النظم لو جعل ابتداء قصة ووحيا آخر منقطعا عن حكاية الجن وكذلك لو جعل ضمير {كادوا} للجن على قراءة الفتح أيضا والأصل أن المساجد لله فلا تدعوا أيها الجن مع الله أحدا فقيل قل يا محمد لمشركي مكة أوحي إليّ كذا وإذا كان كذلك فيجيء في ضمن الحكاية إثبات هذا الحكم بالنسبة إلى المخاطبين أيضا لاتحاد العلة وأما لو جعل خطابا عاما فالوجه أن يكون ضمير {كادوا} راجعا إلى المشركين أو إلى الجن والانس وأن يكون على قراءة الكسر جملة استئنافية ابتداء قصة منه جل شأنه في الاخبار عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تمهيد لما يأتي من بعد وتوكيد لما ذكر من قبل فكأنه قيل قل لمشركي مكة ما كان من حديث الجن وإيمان بعضهم وكفر آخرين منهم ليكون حكاية ذلك لطفا لهم في الانتهاء عما كانوا فيه وحثا على الإيمان ثم قيل وانه لما قام عبد الله يدعوه ويوحده كاد الفريقان من كفرة الجن والانس يكونون عليه لبدا دلالة على عدم ارتداعهم مع هذه الدلائل الباهرة والآيات النيرة وما أحسن التقابل بين قوله تعالى: {وان المساجد} [الجن: 18] وبين هذا القول كأنهم نهوا كلهم عن الإشراك ودعوا إلى التوحيد فقابلوا ذلك بعداوة من يوحد الله سبحانه ويدعوه ولم يرضوا بالاباء وحده وهذا من خواص الكتاب الكريم وبديع أسلوبه إذا أخذ في قصة غب قصة جعلهما متناصفتين فيما سيق له الكلام وزاد عليه التآخي بينهما في تناسب خاتمة الأولى وفاتحة الثانية ولعل هذا الوجه من الوجاهة بمكان وأما لو فسر بما حكى عن الخليل ولأن المساجد لله فلا تدعوا إلخ فالوجه أن يكون استطردا ذكر عقيب وعيد المعرض والحمل على هذا على الأعضاء السبعة أظهر لأن فيه تذكيرا لكونه تعالى المنع بها عليهم وتنبيها على أن الحكمة في خلقها خدمة المعبود من حيث العدول عن لفظ الأعضاء وأسمائها الخاصة إلى المساجد ودلالة على أن ذلك ينافي الإشراك وحينئذ لا يبقى اشكال في ارتباط ما بعده بما قبله على القراءتين والأوجه والله تعالى أعلم. اهـ. فتأمل.واللبد بكسر اللام وفتح الباء كما قرأ الجمهور جمع لبدة بالكسر نحو كسرة وكسر وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ويقال للجراد ومنه كما قال الجبائي قول عبد مناف بن ربع الهذلي:وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر بخلاف عنه {لبدا} بضم اللام جمع لبدة كزبرة وزبر وعن ابن محيصن أيضا تسكين الباء وضم اللام وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو بضمتين جمع لبد كرهن ورهن أو جمع لبود كصبور وصبر وقرأ الحسن والجحدري أيضا بخلاف عنهما {لبدا} بضم اللام وتشديد الباء جمع لابد وأبو رجاء بكسرها وشد الباء المفتوحة {قُلْ إِنّما ادعوا} اعبد ربِّي {ولا أشرِكُ بهِ} في العبادة.{أحدا} فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الإطباق على عداوتي وقرأ الأكثرون {قل} على أنه حكاية منه تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم للمتراكمين عليه أو حكاية عن الجن له عند رجوعهم إلى قومهم فلا تغفل.وقراءة الأمر وهي قراءة عاصم وحمزة وأبي عمرو بخلاف عنه اظهروا وفق لقوله سبحانه: {قُلْ إِنّى لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} أي ولا نفعا تعبيرا باسم السبب عن المسبب والمعنى لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم إنما الضار والنافع هو الله عز وجل أو لا أملك لكم غيا ولا رشدا على أن الضر مراد به الغي تعبير باسم السبب عن السبب ويدل عليه قراءة أبي {غيا} بدل {ضرا} والمعنى لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد إنما القادر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى وجوز أن يكون في الآية الاحتباك والأصل لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر وقرأ الأعرج {رشدا} بضمتين:{قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى مِن الله أحدٌ} إن أرادني سبحانه بسوء {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا} أي معدلا ومنحرفا وقال الكلبي مدخلا في الأرض وقال السدى حرزا وأصله المدخل من اللحد والمراد ملجأ يركن إليه وأنشدوا: وجوز فيه الراغب كونه اسم مكان وكونه مصدرا وهذا على ما قيل بيان لعجزه عليه الصلاة والسلام عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه صلى الله عليه وسلم عن شؤون غيره وقيل في الكلام حذف وهو قالوا اترك ما تدعوا إليه ونحن نجيرك فقيل له قل إني لن يجيرني إلخ وقيل هو جواب لقول وردان سيد الجن وقد ازدحموا عليه أنا أرحلهم عنك فقال: {إني لن يجيرني} إلخ ذكره الماوردي والقولان ليسا بشيء.وقوله تعالى: {إِلاّ بلاغا مِّن الله} استثناء من مفعول {لا أملك} [الجن: 21] كما يشير إليه كلام قتادة وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة فلا اعتراض بكثرة الفصل المبعدة لذلك فإن كان المعنى لا أملك أن أضركم ولا أنفعكم كان استثناء متصلا كأنه قيل لا أملك شيئا إلا بلاغا وان كان المعنى لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد كان منقطعا أو من باب. كما في الكشف وظاهر كلام بعض الأجلة أنه اما استثناء متصل من {رشدا} فإن الإبلاغ ارشاد ونفع والاستثناء من المعطوف دون المعطوف عليه جائز واما استثناء منقطع من {ملتحدا} قال الرازي لأن البلاغ من الله تعالى لا يكون داخلا تحت قوله سبحانه: {من دونه ملتحدا} لأنه لا يكون من دون الله سبحانه بل منه جل وعلا وباعانته وتوفيقه وفي البحر قال الحسن هو استثناء منقطع أي لن يجيرني أحد لكن ان بلغت رحمتي بذلك والإجارة مستعارة للبلاغ اذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته سبحانه وقيل هو على هذا المعنى استثناء متصل والمعنى لن أجد شيئا أميل إليه واعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني فيجوز نصبه على الاستثناء من {ملتحدا} أو على البدل وهو الوجه لأن قبله نفيا وعلى البدل خرجه الزجاج انتهى.والأظهر ما تقدم وقيل أن الا مركبة من أن الشرطية ولا النافية والمعنى أن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب فهو كقولك إلا قياما فقعودا وظاهره ان المصدر سد مسد الشرط كمعمول كان ولهم في حذف جملة الشرط مع بقاء الاداة كلام والظاهر أن اطراد حذفه مشروط ببقاء لا كما في قوله: ما لم يسد مسده شيء من معمول أو مفسر كان أحد من المشركين استجارك والناس مجزيون بأعمالهم أن خيرا فخير وهذا الوجه خلاف المتبادر كما لا يخفى.وقوله تعالى: {ورسالاته} عطف على {بلاغا} و{من الله} متعلق بمحذوف وقع صفة له أي بلاغا كائنا من الله وليس بصلة له لأنه يستعمل بعن كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» والمعنى على ما علمت أولا في الاستثناء لا أملك لكم إلا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني عز وجل بها وفي الكشف في الكلام إضمار أي بلاغ رسالاته وأصل الكلام الإبلاغ رسالات الله فعدل إلى المنزل ليدل على التبليغين مبالغة وان كلا من المعنيين أعني كونه من الله تعالى وكونه بلاغ رسالاته يقتضي التشمر لذلك انتهى.وفي عبارة الكشاف رمز ما إليه لكن قيل عليه لا ينبغي تقدير المضاف فيه أعني بلاغ فإنه يكون العطف حينئذ من عطف الشيء على نفسه إلا أن يوجه بأن البلاغ من الله تعالى فيما أخذه عنه سبحانه بغير واسطة والبلاغ للرسالات فيما هو بها وهو بعيد غاية البعد فافهم واستظهر أبو حيان عطفه على الاسم الجليل فقال الظاهر عطف {رسالاته} على {الله} أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته وظاهره جعل من بمعنى عن وقد تقدم منه أنها لابتداء الغاية وقرئ {قال لا أملك} أي قال عبد الله للمشركين أو للجن وجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم هذا ووجه ارتباط الآية بما قبلها قيل بناء على أن التلبد للعداوة أنهم لما تلبدوا عليه صلى الله عليه وسلم متظاهرين للعداوة قيل له عليه الصلاة والسلام {قُلْ إِنّى لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} [الجن: 21] أي ما أردت الا نفعكم وقابلتموني بالإساءة وليس في استطاعتي النفع الذي أردت ولا الضر الذي أكافئكم به إنما ذان إلى الله تعالى وفيه تهديد عظيم وتوكيل إلى الله جل وعلا وأنه سبحانه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه وسوء صنيعهم ثم فيه مبالغة من حيث أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم هذا فإن الذي يستطيعه عليه الصلاة والسلام هو التبليغ ولا يدع المستطاع ولهذا قال: {إلا بلاغا} وجعله بدلا من {ملتحدا} شديد الطباق على هذا والشرط قريب منه وأما ان كان الخطاب للجن والتلبد للتعجب فالوجه أنهم لما تلبدوا لذلك قيل له عليه الصلاة والسلام قل لهم ما لكم ازدحمتم على متعجبين مني ومن تطامن أصحابي على العبادة أني ليس إلى النفع والضر إنما أنا مبلغ عن الضار النافع فاقبلوا أنتم مثلنا على العبادة ولا تقبلوا على التعجب فإن العجب ممن يعرض عن المنعم المنتقم الضار النافع ولعل اعتبار قوة الارتباط يقتضي أولوية كون التلبد كان للعداوة ومعصية الرسول عليه الصلاة والسلام {ومن يعْصِ الله ورسُولهُ} أي في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه فلا يصح استدلال المعتزلة ونحوهم بالآية على تخليد العصاة في النار وجوز أن يراد بالرسول رسول الملائكة عليهم السلام دون رسول البشر فالمراد بعصيانه أن لا يبلغ المرسل إليه ما وصل إليه كما وصل وهو خلاف الظاهر {فإِنّ لهُ نار جهنّم خالدين فِيها} أي في النار أو في جهنم وجمع خالدين باعتبار معنى من كما أن الافراد قبل باعتبار لفظها ولو روعي هنا أيضا لقيل خالدا.{أبدا} بلا نهاية وقرأ طلحة {فأن} بفتح الهمزة على أن التقدير كما قال ابن الأنباري وغيره فجزاءه أن له إلخ وقد نص النحاة على أن أن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر فقول ابن مجاهد ما قرأ به أحد وهو لحن لأنه بعد فاء الشرط ناشئ من قلة تتبعه وضعفه في النحو وقوله تعالى: {حتى إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون فسيعْلمُون منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا}جملة شرطية مقرونة بحتى الابتدائية وهي وان لم تكن جارة فيها معنى الغاية فمدخولها غاية لمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار لانصاره عليه الصلاة والسلام واستقلالهم لعدده كأنه قيل لا يزالون يستضعفون ويستهزؤون {حتى إذا رأوا ما يوعدون} من فنون العذاب في الآخرة تبين لهم أن المستضعف من هو ويدل على ذلك أيضا جواب الشرط وكذا ما قيل على ما قيل لأن قوله سبحانه: {قل إنما أدعو ربي} [الجن: 20] تعريض بالمشركين كيفما قدر بل السورة الكريمة من مفتتحها مسوقة للتعريض بحال مشركي مكة وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه عليه الصلاة والسلام وتعبير لهم بقصور نظرهم من الجن مع ادعائهم الفطانة وقلة انصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء ويجوز جعل ذلك غاية لقوله تعالى: {يكونون عليه لبدا} [الجن: 19] أن فسر بالتلبد على العداوة ولا مانع من تخلل أمور غير أجنبية بين الغاية والمغيا فقول أبي حيان أنه بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة ليس بشيء كجعله إياه غاية لما تضمنته الجملة قبل يعني {فإن له نار جهنم} [الجن: 23] من الحكم بكينونة النار له ومثل ذلك ما قيل من أنه غاية لمحذوف والتقدير دعهم حتى إذا رأوا إلخ والظاهر أن {من} استفهامية كما أشرنا إليه وهي مبتدأ و{أضعف} خبر والجملة في موضع نصب بما قلبها وقد علق عن العمل لمكان الاستفهام وجوز كونها موصولة في موضع نصب بيعلمون و{أضعف} خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لمن والتقدير فسيعرفون الذي هو أضعف وحسن حذف صدر الصلة طولها بالتمييز. اهـ.
|