فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {وأنّا ظننّا أنْ لنْ تقول الْإِنْسُ والْجِنُّ على اللّهِ كذِبا}.. أي وكان مما علمنا من استماعنا لهذا القرآن العجب- أننا كنا على ظن خاطئ فيما ظنناه من أن الإنس والجن لن تقول على اللّه كذبا، وأن تقوم فيهم تلك الدعوات المضللة، وهذه العقائد الباطلة، مع ما فيهم من عقول، وما بين أيديهم من الشواهد الناطقة، التي تشهد بوحدانية اللّه تعالى، وتفرده بالملك والعزة والسلطان.. ولقد بان لنا أن الإنس والجن قالوا على اللّه كذبا، فيما نسبوه إليه من الزوج والولد، وفيما جعلوا له من أنداد، وشركاء..
وذلك بعد أن استمعنا إلى آيات اللّه، وعرفنا طريق الحق الذي أضلّنا عنه المضلون، وأغوانا بالانصراف عنه المغوون، لقد كنا مخدوعين بهذا الظن الذي ظنناه في الجن والإنس من أنهم لن يفتروا على اللّه، ولن ينسبوا إليه ما لا يليق به..!
قوله تعالى: {وأنّهُ كان رِجالٌ مِن الْإِنْسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِن الْجِنِّ فزادُوهُمْ رهقا}..
الرهق: الإعياء، والضعف، والكلال، مما يعترى الإنسان من معاناة أمر صعب يحاوله، ثم لا يبلغ منه شيئا، لأنه يحاول أمرا محالا، أو قريبا من المحال.. ومنه قوله تعالى: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} (17: المدثر)..
والمعنى: أنه قد اتضح لنا مما سمعناه من هذا القرآن العجب، أن ما كان من استعانة بعض شياطين الإنس، بشياطين الجن، في اختلاق الأكاذيب، وتلفيق المفتريات على اللّه- اتضح لنا أن ذلك لم يزد العائذين بالجن، إلا ارتكاسا، وعجزا، عن الوصول إلى طريق الحق، وأن كل ما اختلفوا من أكاذيب، وما لفقوا من مفتريات، لم يمس جوهر الحقيقة، ولم يعمّ سبيل الحق عن طلابه، والساعين إليه، وأن هذه الأكاذيب، وتلك المفتريات إذا طلعت عليها شمس الحقيقة فرت من بين يديها، كما يفر ظلام الليل بين يدى أضواء الصبح! قوله تعالى: {وأنّهُمْ ظنُّوا كما ظننْتُمْ أنْ لنْ يبْعث اللّهُ أحدا}.
أي وأننا علمنا مما استمعنا إليه من هذا القرآن العجب، أن الإنس ظنوا كما ظننا نحن الجن، أن لن يبعث اللّه أحدا من رسله بعد موسى، وعيسى، عليهما السلام.. وهذا ظن باطل، فها هوذا رسول من عند اللّه، يتلو هذا القرآن العجب، فيبلّغ به رسالة اللّه.
وفى هذا الذي ينطق به الجن بعد أن آمنوا، تبكيت للمشركين، واستخفاف بعقولهم، واستخفاف لأحلامهم، وأنهم عموا عن هذا الهدى الذي طلعت شمسه في سمائهم، فلم يهتدوا به، وقد سبقهم إليه أبعد الخلق عنه، وهم الجن.
قوله تعالى: {وأنّا لمسْنا السّماء فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا وشُهُبا} ومن دلائل هذا الرسول الذي بعثه اللّه، ليس هذا القرآن وحسب.. بل إننا قبل أن نلتقى به في مجلس القرآن، شاهدنا إرهاصات عجيبة، تنبئ بأن حدثا عظيما قد حدث في هذا الوجود، وأن آثار هذا الحدث لابد أن يكون لها شأن بهذا العالم الأرضى، وما يعيش فيه من جن وإنس.. وذلك أننا لمسنا السماء، كما اعتدنا أن نلم بها من قبل، ونستطلع أنباءها، فوجدناها قد ملئت حرسا شديدا من الملائكة، وشهبا راصدة يرمون بها كل من يدنو من مشارف السماء.. وهذا أمر لابد أن يكون له ما بعده!! وها نحن أولاء قد عابنّا ما بعد هذا الأمر، في هذا الرسول، وفيما بين يديه من آيات اللّه..
قوله تعالى: {وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمْعِ فمنْ يسْتمِعِ الْآن يجِدْ لهُ شِهابا رصدا}.
أي وأننا كنا نصعّد في السماء، ونتخذ هناك مقاعد نستمع فيها إلى ما يجرى في الملأ الأعلى، وذلك قبل مبعث هذا النبي.. أمّا الآن فإن من يحاول أن يستمع منا، يجد شهابا رصدا برمى به قبل أن يبلغ المجلس الذي اعتاد أن يتخذه من قبل..
قوله تعالى: {وأنّا لا ندْرِي أشرٌّ أُرِيد بِمنْ فِي الْأرْضِ أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا} أي ولقد حرنا في تأويل هذا الحدث، وعجزنا عن أن نجد التعليل الصحيح له، وللأحداث التي تنجم عنه، وهل هذا شرّ يراد بمن في الأرض من جنّ وإنس، أم هو خير لهم.؟. إن الأيام هي التي ستأتى بتأويل هذا..
وها نحن أولاء نشهد عناد المشركين، وتصدّيهم لدعوة رسول اللّه، وتكذيبهم لما جاءهم به من عند اللّه، فهل سيمضون في طريقهم هذا، فتكون عاقبتهم أن يدمر اللّه عليهم كما دمر على المكذبين برسل اللّه قبلهم، أم أنهم سيراجعون أنفسهم، ويرجعون إلى عقولهم، فيؤمنون باللّه، ويهتدون بهذا النور الذي يحمله رسول اللّه إليهم؟ لا ندرى أشر أراد اللّه بالناس من هذه الرسالة، بإلزامهم الحجة، ثم إهلاكهم، أم أنه أراد لهم الهداية والرشاد، فيهتدوا ويرشدوا؟ إن الأمر لم ينته إلى نهايته بعد.. وسنرى ما يكون؟
قوله تعالى: {وأنّا مِنّا الصّالِحُون ومِنّا دُون ذلِك.. كُنّا طرائِق قِددا}.
وهنا يلتفت هؤلاء النفر من الجن إلى قومهم، وهل يتقبلون هذا الهدى الذي اهتدوا هم إليه، بعد استماعهم إلى آيات اللّه، التي تلاها عليهم رسول اللّه، أم أنهم يرفضونه كما رفضه هؤلاء المشركون من قريش؟ إنهم يتساءلون هذه التساؤلات قبل أن يبرحوا مجلس النبي، وفى قلوبهم الإيمان، وبين أيديهم الهدى.. ثم يحدّث بعضهم بعضا، بأن حال قومهم هي حال الناس من أبناء آدم، فيهم الصالحون، وفيهم الفاسدون، وفيهم من هم بين الصالحين، والفاسدين.. إنهم طرائق مختلفة.. لكل منهم طريقة كما أن الناس طرقهم..
والطرائق: جمع طريقة، وهى المتجه الذي يأخذه المرء في حياته، من استقامة أو عوج..
والقدد: جمع قدة، وهى القطعة من الشيء، أىّ قطعة، ومنه قوله تعالى: {وقدّتْ قمِيصهُ مِنْ دُبُرٍ} (25: يوسف) أي قطعته..
وقوله تعالى: {وأنّا ظننّا أنْ لنْ نُعْجِز اللّه فِي الْأرْضِ ولنْ نُعْجِزهُ هربا} أي وأننا بعد تطوافنا في الأرض وفى السماء، قد أيقنّا أننا بين يدى اللّه حيث كنا، وأننا تحت قهر سلطانه القائم على الوجود كله.. وأننا لن نخرج من سلطان اللّه، ولن نفر من القدر المقدور لنا، سواء انطلقنا في وجوه الأرض، أو صعدنا في أجواء السماء.. والظن هنا بمعنى اليقين.
قوله تعالى: {وأنّا لمّا سمِعْنا الْهُدى آمنّا بِهِ.. فمنْ يُؤْمِنْ بِربِّهِ فلا يخافُ بخْسا ولا رهقا}.
أي وهذا شأننا نحن من بين قومنا، وذلك أننا لما سمعنا الهدى- أي القرآن- آمنا به.. ومن يؤمن به فإنه لا يخاف بخسا، بنقص حسناته، ولا رهقا بمضاعفة سيئاته، بل سيجزى الجزاء الذي يقوم على ميزان العدل المطلق..
ومعنى نفى الخوف من البخس والرهق، هو أن المؤمن يلقى اللّه وبين يديه بشريات إيمانه، التي تملأ قلبه سكينة وأمنا، أما غير المؤمن فإنه يتوقع أن يسام سوء العذاب، وأن يلقى الهوان والنكال من كل وجه، فهو في مهب عواصف الخوف دائما.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أفمنْ يُلْقى فِي النّارِ خيْرٌ أمْ منْ يأْتِي آمِنا يوْم الْقِيامةِ} (40: فصلت).
وقوله تعالى: {فلا يخافُ بخْسا ولا رهقا}- هو جواب الشرط، وقد اقترن بالفاء لوقوعه منفيا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وأنّا ظننّا أنْ لنْ تقول الْإِنْسُ والْجِنُّ على اللّهِ كذِبا (5)}
قرأ همزة {أن} بالكسر الجمهور وأبو جعفر، وقرأها بالفتح ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي وخلف.
فعلى قراءة كسر (إِن) هو من المحكي بالقول، ومعناه الاعتذار عما اقتضاه قولهم: {فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} [الجن: 2] من كونهم كانوا مشركين لجهلهم وأخذهم قول سفهائهم يحسبونهم لا يكذبون على الله.
والتأكيد بـ {إِن} لقصد تحقيق عذرهم فيما سلف من الإِشراك، وتأكيد المظنون بـ {لن} المفيدة لتأييد النفي يفيد أنهم كانوا متوغلين في حسن ظنهم بمن ضللوهم ويدل على أن الظن هنا بمعنى اليقين وهو يقين مخطئ.
وعلى قراءة الفتح هو عطف على المجرور بالباء في قوله: {فآمنا به} [الجن: 2] فالمعنى: وآمنا فإنما ظننا ذلك فأخطأنا في ظننا.
وفي هذه الآية إشارة إلى خطر التقليد في العقيدة، وأنها لا يجوز فيها الأخذ بحسن الظن بالمقلّد بفتح اللام بل يتعين النظر واتهام رأي المقلّد حتى ينهض دليله.
وقرأ الجمهور {تقول} بضم القاف وسكون الواو.
وقرأه يعقوب بفتح القاف والواو مشددة، من التقول وهو نسبة كلام إلى من لم يقله وهو في معنى الكذب وأصله تتقول بتاءين فعلى هذه القراءة يكون {كذبا} مصدرا مؤكدا لفعل {تقول} لأنه مرادفه.
{وأنّهُ كان رِجالٌ مِن الْإِنْسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِن الْجِنِّ فزادُوهُمْ رهقا (6)}
قرأ الجمهور همزة {وإنه} بالكسر.
وقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة عطفا على المجرور بالباء، والمقصود منه هو قوله: {فزادوهم رهقا} وأما قوله: {كان رجال من الإِنس} الخ، فهو تمهيد لما بعده.
وإطلاق الرجال على الجن على طريق التشبيه والمشاكلة لوقوعه مع رجال من الإِنس فإن الرجل اسم للذكر البالغ من بني آدم.
والتأكيد بـ (إن) مكسورة أو مفتوحة راجع إلى ما تفرع على خبرها من قولهم {فزادوهم رهقا}.
والعوذ: الالتجاء إلى ما ينجي من شيء يضر، قال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} [المؤمنون: 97]، فإذا حمل العوذ على حقيقته كان المعنى أنه كان رجال يلتجئون إلى الجن ليدفع الجن عنهم بعض الأضرار فوقع تفسير ذلك بما كان يفعله المشركون في الجاهلية إذا سار أحدهم في مكان قفر ووحش أو تعزب في الرعي كانوا يتوهمون أن الجن تسكن القفر ويخافون تعرض الجن والغيلان لهم وعبثها بهم في الليل فكان الخائف يصيح بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، فيخال أن الجني الذي بالوادي يمنعه، قالوا: وأول من سن ذلك لهم قوم من أهل اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا ذلك في العرب وهي أوهام وتخيلات.
وزعم أهل هذا التفسير أن معنى {فزادوهم رهقا} أن الجن كانوا يحتقرون الإِنس بهذا الخوف فكانوا يكثرون من التعرض لهم والتخيل إليهم فيزدادون بذلك مخافة. والرهق: الذل.
والذي أختاره في معنى الآية أن العوذ هنا هو الالتجاء إلى الشيء والالتفاف حوله.
وأن المراد أنه كان قوم من المشركين يعبدون الجن اتقاء شرها.
ومعنى {فزادوهم رهقا} فزادتهم عبادتهم إياهم ضلالا.
والرهق: يطلق على الإثم.
{وأنّهُمْ ظنُّوا كما ظننْتُمْ أنْ لنْ يبْعث اللّهُ أحدا (7)}
قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر همزة {وإنهم}.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة على اعتبار ما تقدم في قوله تعالى: {وإنه تعالى جدّ ربنا} [الجن: 3].
والمعنى: أن رجالا من الإِنس ظنّوا أن الله لا يبعث أحدا، أو وأنا آمنا بأنهم ظنّوا كما ظننتم الخ، أي آمنا بأنهم أخطأوا في ظنهم.
والتأكيد بـ (إن) المكسورة أو المفتوحة للاهتمام بالخبر لغايته.
والبعث يحتمل بعث الرسل ويحتمل بعث الأموات للحشر، أي حصل لهم مثلما حصل لكم من إنكار الحشر ومن إنكار إرسال الرسل.
والإِخبار عن هذا فيه تعريض بالمشركين بأن فساد اعتقادهم تجاوز عالم الإِنس إلى عالم الجن.
وجملة {كما ظننتم} معترضة بين {ظنوا} ومعموله، فيجوز أن تكون من القول المحكي يقول الجن بعضهم لبعض يُشبّهون كفارهم بكفار الإِنس.
ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى المخاطب به المشركون الذي أمر رسوله بأن يقوله لهم، وهذا الوجه يتعين إذا جعلنا القول في قوله تعالى: {فقالوا إنا سمعنا} [الجن: 1] عبارة عما جال في نفوسهم على أحد الوجهين السابقين هنالك.
و{أنْ} من قوله: {أن لن يبعث} مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف.
وجملة {لن يبعث الله أحدا} خبره.
والتعبير بحرف تأبيد النفي للدلالة على أنهم كانوا غير مترددين في إحالة وقوع البعث.
{وأنّا لمسْنا السّماء فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا وشُهُبا (8)}
قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر الهمزة.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة عطفا على المجرور بالباء فيكون من عطفه على المجرور بالباء هو قوله: {فمن يستمع الآن يجدْ له شهابا رصدا} والتأكيد بـ (إنّ) في قولهم: {وإنّا لمسنا السماء} لغرابة الخبر باعتبار ما يليه من قوله: {وإنّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} إلخ.
واللمس: حقيقته الجس باليد، ويطلق مجازا على اختبار أمر لأن إحساس اليد أقوى إحساس، فشبه به الاختيار على طريق الاستعارة كما أطلق مُرادفه وهو المس على الاختبار في قول يزيد بن الحكم الكلابي:
مسسنا من الآباءِ شيئا فكلُّنا ** إلى نسب في قومه غير واضع

أي اختبرنا نسب آبائنا وآبائكم فكنا جميعا كرام الآباء.
و{ملئت}: مستعمل في معنى كثُر فيها.
وحقيقة الملء عمْر فراغ المكان أو الإِناء بما يحل فيه، فأطلق هنا على كثرة الشهب والحُراس على وجه الاستعارة.
والحرس: اسم جمع للحُرّاس ولا واحد له من لفظه مثل خدم، وإنما يعرف الواحد منه بالحرسِيِّ.
ووصف بشديد وهو مفرد نظرا إلى لفظ حرس كما يقال: السلف الصالح، ولو نُظر إلى ما يتضمنه من الآحاد لجاز أن يقال: شِداد.
والطوائف من الحرس أحراس.
والشهب: جمع شهاب وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم فتسقط في الجو أو في الأرض أو البحر وتكون مُضاءة عند انفصالها ثم يزول ضوؤها ببعدها عن مقابلة شعاع الشمس وتسمى الواحد منها عند علماء الهيئة نيْزكا باسم الرمح القصير، وقد تقدم الكلام عليها في أول سورة الصافات.
والمعنى: إننا اختبرنا حال السماء لاستراق السمع فوجدناها كثيرة الحراس من الملائكة وكثيرة الشهب للرّجم، فليس في الآية ما يؤخذ منه أن الشهب لم تكن قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم كما ظنه الجاحظ فإن العرب ذكروا تساقط الشهب في بعض شعرهم في الجاهلية.
كما قال في (الكشاف) وذكر شواهده من الشعر الجاهلي.
نعم يؤخذ منها أن الشهب تكاثرت في مدة الرسالة المحمدية حفظا للقرآن من دسائس الشياطين كما دل عليه قوله عقبه {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} وسيأتي بيان ذلك.
وهذا الكلام توطئة وتمهيد لقولهم بعده: {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} إلى آخره، إذ المقصود أن يخبروا من لا خبر عنده من نوعهم بأنهم قد تبينوا سبب شدة حراسة السماء وكثرة الشهب، وأما نفس الحراسة وكثرة الشهب فإن المخبرين (بفتح الباء) يشاهدونه.
وقوله: {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} إلخ قرأه بكسر الهمزة الذين قرأوا بالكسر قوله: {وإنّا لمسنا السماء} وبفتح الهمزة الذين قرأوا بالفتح وهذا من تمام قولهم: {وإنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا}.
وإنما أعيد معه كلمة {وإنا} للدلالة على أن الخبر الذي تضمنه هو المقصود وأن ما قبله كالتوطئة له فإعادة {وإنا} توكيد لفظي.
وحقيقة القعود الجلوس وهو ضد القيام، أي هو جعل النصف الأسفل مباشرا للْارض مستقرًّا عليها وانتصاب النصف الأعلى.
وهو هنا مجاز في ملازمة المكان زمنا طويلا لأن ملازمة المكان من لوازم القعود ومنه قوله تعالى: {واقْعدوا لهم كل مرصد} [التوبة: 5].
والمقاعد: جمع مقعد وهو مفعل للمكان الذي يقع فيه القعود، وأطلق هنا على مكان الملازمة فإن القعود يطلق على ملازمة الحصول كما في قول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا

واللام في قوله: {للسمع} لام العلة أي لأجل السمع، أي لأن نسمع ما يجري في العالم العلوي من تصاريف الملائكة بالتكوين والتصريف، ولعل الجن منساقون إلى ذلك بالجبلة كما تنساق الشياطين إلى الوسوسة، وضمير {منها} للسماء.
و(من) تبعيضية، أي من ساحاتها وهو متعلق بـ {نقعد}، وليس المجرور حالا من {مقاعد} مقدّما على صاحبه لأن السياق في الكلام على حالهم في السماء فالعناية بمتعلق فعل القعود أولى، ونظيره قول كعب:
يمشي القراد عليها ثم يزلقه ** مِنْها لبان وأقرب زهاليل

فقوله (منها) متعلق بفعل (يُزلقه) وليس حالا من (لبان).
وأعلم أنه قد جرى على قوله تعالى: {مقاعد للسمع} مبحث في مباحِث فصاحة الكلمات نسبه ابن الأثير في (المثل السائر) إلى ابن سنان الخفاجي فقال: إنه قد يجيء من الكلام ما معه قرينُهُ فأوجب قبحه كقول الرضي في رثاء الصابي:
أعزِزْ عليّ بأن أراك وقد خلا ** عن جانبيْك مقاعِدُ العُوّاد

فإن إيراد هذه اللفظة (أي مقاعد) في هذا الموضع صحيح إلاّ أنه يوافق ما يُكره ذكره لاسيما وقد أضافه إلى من يُحتمل إضافته (أي ما يكره) إليه وهم العُواد.
ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا.
قال ابن الأثير: هذه اللفظة المعيبة في شعر الرضي قد جاءت في القرآن فجاءت حسنة مرضية في قوله تعالى: {تُبوِّئ المؤمنين مقاعد للقتال} [آل عمران: 121] وقوله: {وأنّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع}، ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافتها إليه ولو قال الشاعر بدلا من مقاعد العُواد مقاعد الزيارة لزالت تلك الهجنة اهـ.
وأقول: إن لمصطلحات الناس في استعمال الكلمات أثرا في وقع الكلمات عند الأفهام.
والفاء التي فرعت {من يستمع الآن يجِدْ له شهابا رصدا} تفريع على محذوف دل عليه فعل {كنا} وترتب الشرط وجزائه عليه وتقديرُه: كنا نقعد منها (أي من السماء) مقاعد للسمع فنستمع أشياء فمن يستمعْ الآن لا يتمكّن من السماع.
وكلمة {الآن} مقابل كلمة {كنا}، أي كان ذلك ثم انقضى.
وجيء بصيغة الشرط وجوابه في التفريع لأن الغرض تحذير إخوانهم من التعرض للاستماع لأن المستمع يتعرض لأذى الشهب.
والجنُّ لا تنكف عن ذلك لأنهم منساقون إليه بالطبع مع ما ينالهم من أذى الرجم والاحتراق، شأن انسياق المخلوقات إلى ما خُلقت له مثل تهافت الفراش على النار، لاحتمال ضعف القوة المفكرة في الجن بحيث يغلب عليها الشهوة، ونحن نرى البشر يقتحمون الأخطار والمهالك تبعا للهوى مثل مغامرات الهُواة في البحار والجبال والثلوج.
ووقع {شهابا} في سياق الشرط يفيد العموم لأن سياق الشرط بمنزلة سياق النفي في إفادة عموم النكرة.
والرصد: اسم جمع راصد وهو الحافظ للشيء وهو وصف ل {شهابا}، أي شهبا راصدة، ووصفها بالرصْد استعارة شبهت بالحراس الراصدين.
وهذا إشارة إلى انقراض الكهانة إذ الكاهن يتلقى من الجني أنباء مجملة بما يتلقفه الجنيّ من خبر الغيب تلقف اختطاف ناقصا فيكمله الكاهن بحدْسه بما يناسب مجاري أحوال قومه وبلده.
وفي الحديث «فيزيد على تلك الكلمة مائة كذْبة».
وأما اتصال نفوس الكهان بالنفوس الشيطانية فيجوز أن يكون من تناسببٍ بين النفوس، ومعظمُه أوهام.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: «ليسوا بشيء».
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: «كان الجن يستمعون الوحي (أي وحي الله إلى الملائكة بتصاريف الأمور) فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنعوا، فقالوا: ما هذا إلاّ لأمر حدث فضربوا في الأرض يتحسسون السبب فلما وجدوا رسول الله قائما يصلي بمكة قالوا: هذا الذي حدث في الأرض فقالوا لقومهم: {إنا سمعنا قرآنا عجبا} [الجن: 1] الآية وأنزل على نبيئه {قُل أوحي إليّه أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1] وإنما أوحي إليّه قول الجن» اهـ.
ولعل كيفية حدوث رجم الجن بالشهب كان بطريقة تصريف الوحي إلى الملائكة في مجارٍ تمُرّ على مواقع انقضاض الشهب حتى إذا اتصلت قوى الوحي بموقع أحد الشهب انفصل الشهاب بقوّة ما يغطه من الوحي فسقط مع مجرى الوحي ليحرسه من اقتراب المسترِق حتى يبلغ إلى الملك الموحى إليه فلا يجد في طريقه قوة شيطانية أو جنية إلاّ أحرقها وبخرها فهلكت أو استطيرت وبذلك بطلت الكهانة وكان ذلك من خصائص الرسالة المحمدية.
{وأنّا لا ندْرِي أشرٌّ أُرِيد بِمنْ فِي الْأرْضِ أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا (10)}
قرأه الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة وهو ظاهر المعنى، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور بالباء كما تقدم فيكون المعنى: وآمنا بأنا انتفى علمنا بما يراد بالذين في الأرض، أي الناس، أي لأنهم كانوا يسترقون علم ذلك فلما حرست السماء انقطع علمهم بذلك.
هذا توجيه القراءة بفتح همزة {أنا} ومحاولة غير هذا تكلف.
وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم: {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} [الجن: 9] إلخ لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة ومما يُخْبِرُهُمْ به مما يريد إعلامهم به فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئا من ذلك فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحى به إليه والذي يحمله إليه.
فحاصل المعنى: إنا الآن لا ندري ماذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء.
وهذا تمهيد لما سيقولونه من قوله: {وإنا منا الصالحون} [الجن: 11] ثم قولهم: {وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض} [الجن: 12] ثم قولهم: {وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به} إلى قوله: {فكانوا لجهنم حطبا} [الجن: 13 15].
ومفعول {ندري} هو ما دل عليه الاستفهام بعده من قوله: {أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} وهو الذي علّق فعل {ندري} عن العمل، والاستفهام حقيقي وعادة المعربين لمثله أن يقدروا مفعولا يستخلص من الاستفهام تقديره: لا ندري جواب هذا الاستفهام، وذلك تقديرُ معنى لا تقديرُ إعراب.
هذا هو تفسير الآية على المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9].
وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ماذا أراد الله بهذه الشهب، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به} [الجن: 1، 2] وقولهم: {فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 9] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيرا بهذا الدّين وبصرف الجن عن استراق السمع.
وتكرير (إنّ) واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضا لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء.
والرشد: إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير، فلهذا الاعتبار جعل مقابلا للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابله أسند إليه بقوله: {أم أراد بهم ربهم رشدا} جريا على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه.
{وأنّا مِنّا الصّالِحُون ومِنّا دُون ذلِك كُنّا طرائِق قِددا (11)}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن.
وقراءة فتح الهمزة عطف على المجرور بالباء، أي آمنا بأنا منّا الصالحون، أي أيقنّا بذلك وكنا في جهالة عن ذلك.
ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليسوا بصالحين، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإِفساد بل ألهموا وقالوا: {منا الصالحون}، ثم تلطفوا فقالوا: {ومنا دون ذلك}، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يُعنى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإِرشاد إلى الخير.
و{دون}: اسم بمعنى (تحت)، وهو ضد فوق ولذلك كثر نصبه على الظرفية المكانية، أي في مكان منحط عن الصالحين.
والتقدير: ومنا فريق في مرتبة دونهم.
وظرفية {دون} مجازية.
ووقع الظرف هنا ظرفا مستقرًّا في محل الصفة لموصوف محذوف تقديره: فريق، كقوله تعالى: {وما منا إلاّ له مقام معلوم} [الصافات: 164] ويطّرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بحرف (مِن) مقدممٍ عليه وكانت الصفة ظرفا كما هنا، أو جملة كقول العرب: مِنّا ظعن ومِنّا أقام.
وقوله: {كنا طرائق قِددا} تشبيه بليغ، شبه تخالف الأحوال والعقائد بالطرائق تفضي كل واحدة منها إلى مكان لا تفضي إليه الأخرى.
و{طرائق}: جمع طريقة، والطريقة هي الطريق، ولعلها تختص بالطريق الواسع الواضح لأنّ التاء للتأكيد مثل دار ودارة، ومثل مقام ومقامة، ولذلك شبه بها أفلاك الكواكب في قوله تعالى: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} [المؤمنون: 17] ووصفت بالمثلى في قوله: {ويذْهبا بطريقتكم المُثلى} [طه: 63].
ووصف {طرائق} بـ {قِددا} وهو اسم جمع قِدّة بكسر القاف وتشديد الدال والقدة: القطعة من جلد ونحوه المقطوعة طولا كالسير، شبهت الطرائق في كثرتها بالقِدد المقتطعة من الجلد يقطعها صانع حبال القِدّ كانوا يقيدون بها الأسرى.
والمعنى: أنهم يدعون إخوتهم إلى وحدة الاعتقاد باقتفاء هدى الإِسلام، فالخبر مستعمل في التعريض بذم الاختلاف بين القوم وأن على القوم أن يتحدوا ويتطلبوا الحق ليكون اتحادهم على الحق.
وليس المقصود منه فائدة الخبر لأن المخاطبين يعلمون ذلك، والتوكيد بـ (إنّ) متوجه إلى المعنى التعريضي.
{وأنّا ظننّا أنْ لنْ نُعْجِز اللّه فِي الْأرْضِ ولنْ نُعْجِزهُ هربا (12)}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر همزة {وإنا}.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور في قوله: {فآمنا به} [الجن: 2].
والتقدير: وءامنا بأن لن نعجز الله في الأرض.
وذكر فعل {ظننا} تأكيد لفظي لفعل {آمنا} المقدر بحرف العطف، لأن الإِيمان يقين وأُطلق الظن هنا على اليقين وهو إطلاق كثير.
لما كان شأن الصلاح أن يكون مرضيا عند الله تعالى وشأن ضده بعكس ذلك كما قال تعالى: {والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] أعقبوا لتعريض الإِقلاع عن ضد الصلاح بما يقتضي أن الله قد أعد لغير الصالحين عقابا فأيقنوا أن عقاب الله لا يُفْلِت منه أحدٌ استحقه.
وقدموه على الأمر بالإِيمان الذي في قوله: {وإنّا لمّا سمعنا الهُدى} [الجن: 13] الآية، لأن درْء المفاسد مقدم على جلب المصالح والتخلية مقدمة على التحْلية، وقد استفادوا علم ذلك مما سمعوا من القرآن ولم يكونوا يعلمون ذلك من قبل إذ لم يكونوا مخاطبين بتعليم في أصول العقائد، فلما ألهمهم الله لاستماع القرآن وعلموا أصول العقائد حذروا إخوانهم اعتقاد الشرك ووصف الله بما لا يليق به لأن الاعتقاد الباطل لا يقره الإِدراك المستقيم بعد تنبيهه لبطلانه، وقد جعل الله هذا النفر من الجن نذيرا لإِخوانهم ومرشدا إلى الحق الذي أرشدهم إليه القرآن، وهذا لا يقتضي أن الجن مكلفون بشرائع الإِسلام.
وأما قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإِنس لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179] الآية فقد أشار إلى أن عقابهم على الكفر والإِشراك، أو أريد بالجن الشياطين فإن الشياطين من جنس الجن.
والإِعجاز: جعل الغير عاجزا أي غير قادر عن أمر بذكر مع ما يدل على العجز وهو هنا كناية عن الإِفلات والنجاة كقول إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر أن الأرض رحْب فسيحة ** فهل تُعْجِزنِّي بُقعة من بِقاعها

أي لا تفوتني ولا تخرج عن مُكْنتي.
وذِكْر {في الأرض} يؤذن بأن المراد بالهرب في قوله: {ولن نعجزه هربا} الهربُ من الرجم بالشهب، أي لا تطمعوا أن تسترقوا السمع فإن رجم الشهب في السماء لا يخطئكم، فابتدأوا الإِنذار من عذاب الدنيا استنزالا لقومهم.
ويجوز أن يكون {نعجز} الأول بمعنى مغالب كقوله تعالى: {فما هم بمعجزين} [النحل: 46] أي لا يغلبون قدرتنا، ويكون {في الأرض} مقصودا به تعميم الأمكنة كقوله تعالى: {وما أنتم بمعجزين في الأرض} [الشورى: 31]، أي في مكان كنتم.
والمراد: أنا لا نغلب الله بالقوة.
ويكون {نعجز} الثاني، بمعنى الإِفلات ولذلك بُيّن بـ {هربا}، والهرب مجاز في الانفلات مما أراد الله إلحاقه بهم من الرجم والاحتراق.
والظن هنا مستعمل في اليقين بقرينة تأكيد المظنون بحرف {لن} الدال على تأبيد النفي وتأكيده.
{وأنّا لمّا سمِعْنا الْهُدى آمنّا بِهِ فمنْ يُؤْمِنْ بِربِّهِ فلا يخافُ بخْسا ولا رهقا (13)}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور في قوله: {فآمنا به} [الجن: 2].
والمقصود بالعطف قوله: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا}، وأما جملة {لما سمعنا الهدى ءامنّا به} فتوطئة لذلك.
بعد أن ذكروا قومهم بعذاب الله في الدنيا أو اطمأنوا بتذكُّر ذلك في نفوسهم، عادوا إلى ترغيبهم في الإِيمان بالله وحده، وتحذيرهم من الكفر بطريق المفهوم.
وأريد بالهدى القرآن إذ هو المسموع لهم ووصفوه بالهدى للمبالغة في أنه هاد.
ومعنى {يؤمن بربه} أي بوجوده وانفراده بالإِلهية كما يشعر به إحضار اسمه بعنوان الرب إذ الرب هو الخالق فما لا يخلق لا يعبد.
وجملة {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} يجوز أن تكون من القول المحكي عن الجن.
ويجوز أن تكون كلاما من الله موجها للمشركين وهي معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
والبخس: الغبن في الأجر ونحوه.
والرهق: الإِهانة، أي لا يخشى أن يبخس في الجزاء على إيمانه ولا أن يهان.
وفهم منه أن من لا يؤمن يُهان بالعذاب.
والخلاف في كسر همزة {إنا} وفتحها كالخلاف في التي قبلها.
وجملة {فلا يخاف بخسا ولا رهقا} جواب لِشرط (من) جعلت بصورة الجملة الاسمية فقرنت بالفاء مع أن ما بعد الفاء فعل، وشأن جواب الشرط أن لا يقترن بالفاء إلاّ إذا كان غير صالح لأن يكون فعل الشرط فكان اقترانه بالفاء وهو فعل مضارع مشيرا إلى إرادة جعله خبر مبتدأ محذوف بحيث تكون الجملة اسمية، والاسمية تقترن بالفاء إذا وقعت جواب شرط، فكان التقدير هنا: فهو لا يخاف ليكون دالا على تحقيق سلامته من خوف البخس والرهق، وليدل عل اختصاصه بذلك دون غيره الذي لا يؤمن بربه، فتقدير المسند إليه قبل الخبر الفعلي يقتضي التخصيص تارة والتقوي أخرى وقد يجتمعان كما تقدم في قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15].
واجتمعا هنا كما أشار إليه في (الكشاف) بقوله: فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره.
وكلام (الكشاف) اقتصر على بيان مزية الجملة الاسمية وهو يقتضي توجيه العدول عن جزم الفعل لأجل ذلك.
وقد نقول: إن العدول عن تجريد الفعل من الفاء وعن جزمه لدفع إيهام أن تكون {لا} ناهية، فهذا العدول صراحة في إرادة الوعد دون احتمال إرادة النهي.
وفي (شرح الدماميني على التسهيل): أن جواب الشرط إذا كان فعلا منفيا بـ (لا) يجوز الاقتران بالفاء وتركه.
ولم أره لغيره وكلام (الكشاف) يقتضي أن الاقتران بالفاء واجب إلاّ إذا قصدت مزية أخرى. اهـ.