الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}.دَخَلْتَ الدنيا بخرقةٍ، وخَرَجْتَ منها بخرقة، أَلاَ وتلك الخرقة أيضًا (...)، وما دخلت إلا بوصف التجرد، ولا خرجتَ إلا بحكم التفرد. ثم الأثقالُ والأوزارُ، والأحمالُ والأوضارُ لا يأتي عليها حَصْرٌ ولا مقدار؛ فلا ما لكم أغني عنكم ولا حالكم يَرْفُعُ منكم، ولا لكم شفيعٌ يخاطبنا فيكم؛ فقد تَقَطَّعَ بَيْنُكم، وتَفرَّق وَصْلُكم، وتبدَّد شملُكم، وتلاشى ظنُّكم، وخانكم- في التحقيق- وسعُكم. اهـ..قال في روح البيان: اعلم أن للإنسان أعداء أربعة هي: المال والأهل والأولاد والأصدقاء، وهي لا تدخل في القبر مع الميت فيبقى فريدًا وحيدًا منهم، وأصدقاء أربعة هي: كلمة الشهادة والصلاة والصوم وذكر الله هي تدخل في القبر وتشفع عند الله تعالى فتصحب الميت فلا يبقى وحيدًا.فعلى العاقل أن يتفكر في تجرده وتفرده فيسعى في تحصيل لباس له هو التقوى ومصاحب هو العمل الصالح، وفي الحديث: «إن عمل الإنسان يدفن معه في قبره، فإن كان العمل كريمًا أكرم صاحبه، وإن كان لئيمًا أسلمه، وإن كان عملًا صالحًا آنس صاحبه وبشره ووسع عليه قبره ونوره وحماه من الشدائد والأهوال والعذاب والوبال، وإن كان عملًا سيئًا فزع صاحبه وروّعه وأظلم عليه قبره وضيقه وعذبه وخلّى بينه وبين الشدائد والأهوال والعذاب والوبال».قال اليافعي: وقد سمعت عن بعض الصالحين في بعض بلاد اليمن أنه لما دفن بعض الموتى وانصرف الناس سمع في القبر صوتًا ودقًّا عنيفًا ثم خرج من القبر كلب أسود فقال له الشيخ الصالح ويحك ايش أنت؟ فقال: أنا عمل الميت فقال: فهذا الضرب فيك أم فيه؟ قال: بل فيّ وجدت عنده سورة يس وأخواتها فحالت بيني وبينه وضربت وطردت فانظر إنه لما قوي عمله الصالح غلب على عمله الطالح وطرده عنه بكرم الله تعالى ولو كان عمله القبيح أقوى لغلب عليه وأفزعه وعذب. اهـ..من فوائد السمرقندي في الآية: قال رحمه الله:قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} يعني: في الآخرة {فرادى} لا ولد لكم ولا مال.الفرادى جمع فرد، يعني: ليس معكم من دنياكم شيء.{كَمَا خلقناكم} يعني: أعطيناكم من المال والولد {وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ} في الدنيا.{وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ} يعني: آلهتكم {الذين زَعَمْتُمْ} في الدنيا {أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} يعني: قلتم لي شريك ولكم شفعاء عند الله.{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص {بَيْنِكُمْ} بالنصب وقرأ الباقون {بَيْنِكُمْ} بالضم فمن قرأ بالضمّ جعل البَيْن اسمًا، يعني: تقطع وصْلُكم ومودتكم.ومن قرأ بالنصب فمعناه لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم، فيصير نصبًا بالظرف كما تقول: أصبحت بينكم أي فيما بينكم.{وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} يعني: اشتغل عنكم ما كنتم تعبدون وتزعمون أنها شفعاؤكم. اهـ..من فوائد الثعلبي في الآية: قال رحمه الله:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} هذا خبر من اللّه تعالى أنه يقول للكفار يوم القيامة: ولقد جئتمونا فرادى وجدانا لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم ولا حشم.قال الحسن: ولقد جئتمونا فرادى كل واحدة على حدة.وقال ابن كيسان: مفردين من المعبودين، وفرادى جمع فردان مثل سكران وسكارى، وكسلان وكسالى. ويقال أيضًا في واحد فرد بجزم الراء وفرِد بكسرها وفرَد بالفتح وأفرد وجمعها أفراد مثل أحاد وفريد وفردان مثل قضيب وقضبان وكثيب وكثبان.وقرأ الأعرج: فردى بغير ألف مثل كسرى وكسلى {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} عراة حفاة غرلًا بهم {وَتَرَكْتُمْ} وخلفتم {مَّا خَوَّلْنَاكُمْ} أعطيناكم ومكنّاكم من الأموال والأولاد والخدم {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} خلف ظهوركم في الدنيا.روى محمد بن كعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملئت ما بين السماء والأرض فيقول الجبار جل جلاله: وعزّتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأجساد وإنما يدخل في الخياشم كما يدخل السم في اللديغ ثم يشق عليكم الأرض وأنا أول من يشق عنه الأرض فينسلون عنهم سراعًا إلى ربكم على سن ثلاثين مهطعين إلى الداعي فيوقفون في موقف منه سبعين عامًا حفاة عراة غرلًا بهم لا يناظر إليكم فلا يقضي بينكم فتبكي الخلائق حتى ينقطع الدمع ويجف العرق».وقال القرضي: قرأت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قول اللّه عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فقالت: يا رسول اللّه وأسوتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض».{وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} وذلك إن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء اللّه وشفعاؤهم عنده {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}.قرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، والكسائي: بينكم نصبًا.وقرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد: وهي قراءة أبي موسى الأشعري على معنى لقد تقطع ما بينكم وكذلك هو في قراءة عبد اللّه وقرأ الباقون: بالرفع على معنى لقد تقطع وصلكم فالبين من الأضداد يكفي وصلًا وهجرًا وأنشد:. اهـ. .من فوائد ابن كثير في الآية: قال رحمه الله:وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: يقال لهم يوم معادهم هذا، كما قال: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48]، أي: كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه، فهذا يوم البعث.وقوله: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} أي: من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله، عَزَّ وجل، له أين ما جمعت؟ فيقول يا رب، جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول: فأين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا، وتلا هذه الآية: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} رواه ابن أبي حاتم.وقوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدار الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أن تلك تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب، وانزاح الضلال، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب، عَزَّ وجل، على رءوس الخلائق: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] وقيل لهم {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 92، 93]؛ ولهذا قال هاهنا: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} أي: في العبادة، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.ثم قال تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قُرئ بالرفع، أي شملكم، وقُرئ بالنصب، أي: لقد انقطع ما بينكم من الوُصُلات والأسباب والوسائل {وَضَلَّ عَنْكُمْ} أي: وذهب عنكم {مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} من رجاء الأصنام، كما قال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167]، وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقال: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25]، وقال: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} الآية [القصص: 64]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 22- 24]، والآيات في هذا كثيرة جدا. اهـ..من فوائد صاحب المنار في الآيتين: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}.هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ وَعِيدِ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَادَّعَى الْوَحْيَ أَوِ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، قَفَّى بِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْوَحْيِ مِنْ شُئُونِهِ تَعَالَى وَمُتَعَلِّقِ صِفَاتِهِ، وَمِنَ الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِيهِ وَإِثْبَاتِ كَوْنِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْكَرُوا إِنْزَالَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ بَشَرٌ. كَالتَّوْرَاةِ الَّتِي يَعْتَرِفُونَ بِإِنْزَالِهَا عَلَى مُوسَى وَهُوَ بَشَرٌ، عَلَى أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ؛ وَلِذَلِكَ خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، وَجُعِلَ مُكَمِّلًا وَخَاتِمًا لِلْأَدْيَانِ. وَهَذَا الْوَعِيدُ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِصِدْقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَعَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَمَا يَتْبَعُهَا وَيَسْتَلْزِمُهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِاللهِ وَخَشْيَةً لَهُ، وَإِيمَانًا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ- وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ- مِمَّنْ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِهَذَا الْجَزَاءِ، وَهُوَ مُنْتَهَى الظُّلْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ؟ قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ الِاخْتِلَاقُ عَلَيْهِ بِالْحِكَايَةِ عَنْهُ وَالْعَزْوِ إِلَيْهِ، أَوْ بِاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لَهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ اللَّفْظِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْآيَةَ 21) وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي أَوَاخِرِهَا {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 144 وَهُوَ فِيمَنْ يَدَّعِي الْوَحْيَ كَذِبًا. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْكَهْفِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّفِّ، وَأَشْبَهُ مَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ بِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا آيَةُ يُونُسَ؛ فَإِنَّهَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْقُرْآنِ. قَالَ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} 10: 15- 17 وَقَدْ فَسَّرَ الألوسي افْتِرَاءَ الْكَذِبِ هُنَا بِإِنْكَارِ الْوَحْيِ، وَهُوَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَالْمَعْنَى لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا.{أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} جَعَلَ بَعْضُهُمْ {أَوْ} هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} 11: 87 وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:فَيَكُونُ الْعَطْفُ فِيهِ لِتَفْسِيرِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ، وَنُعَقِّبُ بِأَنَّ التَّفْسِيرَ لَا يَأْتِي بِأَوْ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ أَوِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، فَإِنَّ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ يَشْمَلُ كُلَّ قَوْلٍ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ ادِّعَاءُ الْوَحْيِ، وَمِنْهُ ادِّعَاءُ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ آيَةُ الْأَنْعَامِ (144) وَهِيَ الثَّالِثَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَسَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، كَأَنْ يُرَادَ بِالِافْتِرَاءِ ادِّعَاءُ النُّبُوَّةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَحْيِ، وَبِالثَّانِي ادِّعَاءُ الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَإِنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَظْهَرُ. قَالُوا: نَزَلَ هَذَا فِي الَّذِينَ ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ مِنَ الْعَرَبِ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ تَخْصِيصُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ حُكْمِهِ مَنْ ذُكِرَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ ادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، فَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ ادَّعَى النُّبُوَّةَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَفِي أَثْنَاءِ مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِمَرَضِهِ وَثَبَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ بِالْيَمَنِ، وَمُسَيْلِمَةُ بِالْيَمَامَةِ، وَطُلَيْحَةُ فِي بَنِي أَسَدٍ فَادَّعَوُا النُّبُوَّةَ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي تَارِيخِهِ، وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَعِيدِ فَرْضُ وُقُوعِ الذَّنْبِ أَوْ تَوَقُّعِهِ، وَنَاهِيكَ بِوَعِيدِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ جَلَّ وَعَزَّ.{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ} أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ أَوِ ادَّعَى الْوَحْيَ مِنْهُ، وَمِمَّنِ ادَّعَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْزَالِ مِثْلِ مَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ، كَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} 8: 31 وَهُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَدْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَإِنَّهُ شِعْرٌ لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَهُ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَخِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ أَسْلَمَ وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ «سَمِيعًا عَلِيمًا» كَتَبَ هُوَ «عَلِيمًا حَكِيمًا» وَالْعَكْسُ، فَشَكَّ وَكَفَرَ وَقَالَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُوحَى إِلَيْهِ فَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ اللهُ يُنْزِلُهُ فَقَدْ أَنْزَلْتُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ. وَهَذَا تَمْثِيلُ رِوَايَةِ السُّدِّيِّ لِمَا كَانَ يُغَيِّرُهُ مِنْ عِبَارَةِ الْوَحْيِ، وَعِبَارَةُ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ يُمْلِي عَلَيْهِ «عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فَيَكْتُبُ «غَفُورٌ رَحِيمٌ» وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ بَاطِلَتَانِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ {سَمِيعًا عَلِيمًا} وَلَا {عَلِيمًا حَكِيمًا} وَلَا {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إِلَّا فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} مِنْهَا وَثِنْتَيْنِ بَعْدَهَا مَدَنِيَّاتٌ (كَمَا فِي الْإِتْقَانِ) وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمْلَى عَلَيْهِ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} 23: 12- فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} 14 عَجِبَ عَبْدُ اللهِ مِنْ تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَكَذَا أَنْزِلَتْ عَلَيَّ» فَشَكَّ حِينَئِذٍ وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَلَئِنْ كَانَ كَاذِبًا لَقَدْ قُلْتُ كَمَا قَالَ. وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ. وَيُقَالُ فِيهَا مِثْلُ مَا قِيلَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ حَيْثُ التَّارِيخِ، فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الْأَنْعَامَ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَّ بَيْنَهُمَا 18 سُورَةً مَكِّيَّةً، وَمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَدِينَةِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَالرِّوَايَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ ذَلِكَ، فَكَانَ مِمَّا وَافَقَ فِيهِ خَاطِرُهُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ جَائِزٌ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْكَشْفِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ النَّفْسِ الْيَوْمَ بِقِرَاءَةِ الْخَوَاطِرِ. وَرَوَوْا مِثْلَهُ أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ مُعَاذٌ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَعْدٍ لَمَّا ارْتَدَّ كَانَ يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَعَلَّهُ قَالَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَاتِ عَنْهُ كَذِبًا وَافْتِرَاءً؛ فَإِنَّ السُّوَرَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي عَهْدِ كِتَابَتِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا عَلِمْتَ. وَقَدْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ فِي الْقُرْآنِ تَصَرُّفًا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَشَكَّ فِي الْوَحْيِ لِأَجْلِهِ لَمَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ.
|