الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مطلب عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم والآية المدنية وبحث في النسخ: وتدل هذه الآية على عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، لأن لفظ العالمين يشملها كما في الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1، وتدل على فضله على سائر الأنبياء، لأنه اتصف بجميع خصالهم من احتمال الأذى ومجاهدة النفس والصبر على البلاء والمحن وقتال البغاة وإظهار المعجزات والاتصاف بالزهد والوفاء بالعهد والوعد والصدق والإخبات والنبوة والرسالة والملك، ولهذا أمره اللّه أن يقتدي بهم جميعا إذ لم يترك خلة من خلالهم ولا خصلة من خصالهم ولا شيئا من أخلاقهم إلا اتصف بها وتأدب بتأديب ربه وزاد عليهم بالشّرف برؤية ربه وباخمس المذكورة بالحديث الصحيح الذي أثبتناه في الآية 159 من سورة الأعراف ج 1، وقد أسهبنا فيها البحث عن هذا فراجعها، وهذه الآية المدنية الثالثة، قال تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وما عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه {إِذْ قالُوا} أي اليهود {ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وحي ولا كتاب إلى أحد من خلقه، قال ابن عباس: قالت اليهود يا محمد أنزل اللّه عليك كتابا قال نعم فقالوا واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا فأنزل اللّه تكذيبا لهم وألزمهم الحجة بقوله: {قُلْ} لهم يا سيد الرسل {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} إليهم {وجعله نورا وهُدىً لِلنَّاسِ} من بني إسرائيل فمن بعدهم حتى بعثتك، فما هذا الإنكار والمكابرة والعناد وقل لهم يا محمد {تَجْعَلُونَهُ} أي ذلك الكتاب العظيم {قَراطِيسَ} متقطعة وأوراقا متفرقة تثبتون فيها ما يوافقكم منها فتظهرونه وهو معنى قوله تعالى: {تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} منه مما لا يوافقكم إظهاره مما فيه نعت محمد وما جاء به من الأحكام في القرآن المنزل عليه وما قصصناه فيه من القصص الموجودة في التوراة {وَعُلِّمْتُمْ} بسببه من أمور الدين والدنيا {ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} الأقدمون، وقد أنزلناه على نبيكم جملة واحدة حاويا على ذلك كله {قُلْ} يا أكمل الرسل لهؤلاء المتعنتين الذين فرقوا كتابهم بحسب أهوائهم إن القرآن الذي جئتكم به أنزله {اللَّهَ} الذي أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من بعده وقد كذبتم به أيضا وجحدتم نبوته {ثُمَّ ذَرْهُمْ} بعد أن تذكر لهم هذا {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 91} بالباطل ويستهزئون بالحق لأن اللّه طبع على قلوبهم فلا فائدة من إتعاب نفسك معهم، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا مبرر له لأنها عبارة عن تهديد ووعيد، وكل آية مقرونه بشيء من هذا لا يتصور نسخها، فرحم اللّه علماء الناسخ والمنسوخ كم تغالوا في النسخ حتى على ما هو في الحقيقة محكم، على أنه لا نسخ في كتاب اللّه هذا بالمعنى المراد من قبلهم وهو ناسخ لغيره من الكتب والصحف المتقدمة عليه، وباق حكمه ما بقي الملوان، وما يعبرون عنه بالنسخ عبارة عما فيه من آيات عامة ومطلقة قيدت وخصصت بآيات أخر، وما فيه من التدريج في الأحكام مما يوافق مصلحة الخلق في الحال والمستقبل، راجع ما بيناه في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ، وللبحث صلة في الآية 106 من سورة البقرة في ج 3، كما أننا ألمعنا إلى أن كل آية قيل إنها منسوخة بما يرد ذلك القيل عند تفسيرها واللّه ولي التوفيق، قال تعالى: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ} عليك يا محمد {مُبارَكٌ} ميمون لمن نمسك به وهو {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة والإنجيل والكتب والصحف الإلهية المشتملة على توحيده وتنزيهه والتبشير والإنذار {وَلِتُنْذِرَ به أُمَّ الْقُرى} أهل مكة من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه بدليل قوله: {وَمَنْ حَوْلَها} من أطرافها الأربع فتشمل جميع المدن والقرى التي على وجه الأرض لأنها لابد وأن تكون بجبهة من أطرافها بعدت أو قربت، لذلك فلا دليل فيها لمن زعم أن رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم خاصة بالعرب الذين في مكة وجوارها، وإنما سميت أما لأنها قبلة أهل الأرض أجمع فعلا لأمة الإجابة وبالقوة لغيرهم لأن الكل أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم، وهذا تأييد للرد على اليهود بأنه إذا كان اللّه تعالى أنزل التوراة على موسى ولا سبيل لإنكارها، فلم لا يجوز إنزال القرآن على محمد وكلاهما مرسل من اللّه؟ وفي إنكارهم إنزال القرآن إنكار الإنجيل أيضا لأنهم ينفون نزول شيء بعد التوراة من قبل اللّه على أحد من رسله وقد كفروا بعيسى عليه السلام فضلا عن إنكار كتابه، قاتلهم اللّه وغضب عليهم ولعنهم في الدنيا والآخرة.قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} البعث بعد الموت والحساب والجزاء والثواب والعقاب {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي القرآن لأن أصل الدين الخوف من العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن بالله: {وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ 94} خص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان، فمن حافظ عليها فهو على غيرها أحفظ، وهذه الآية المدنية الرابعة قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} كهؤلاء اليهود المنكرين نزول القرآن والإنجيل على محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ومن هؤلاء الظالمين مالك بن الصيف وأضرابه من اليهود {أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} من اللّه بشرع وحاشا اللّه القائل: {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي الذين ادعيا النبوة في زمنه صلّى اللّه عليه وسلم وعموم الآية يشمل كل من تجرأ على ادعاء النبوة بعده أيضا إلى يوم القيامة لأن اللّه تعالى ختم النّبيين به فكل ادعاء وقع أو يقع في هذا الشأن فهو زور وبهتان وإفك {وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ} أي أنه قادر على مثل ذلك، وهؤلاء كالذين قالوا كذبا {لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا} الآية 31 من الأنفال في ج 3، ومثله الطاعن في نبوته صلّى اللّه عليه وسلم كعبد اللّه بن أبي سرح الذي أملى عليه صلّى اللّه عليه وسلم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ} الآية 14 من سورة المؤمنين الآتية، فعجب من ذلك وقال إنه وقع في قلبه لزيادة تفكره فيها {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} فأجراها على لسانه فقال له صلّى اللّه عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت، فشك وقال إن كان محمد صادقا فقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذبا فقد قلت كما قال، فارتد ولحق بمكة.وهذه الحادثة وقعت في المدينة بدليل قوله املى وقوله صلّى اللّه عليه وسلم هكذا نزلت، أي قبل لا ان نزولها بمكة، بل كان نزولها بالمدينة قبل إملائها عليه، وإلا لتلاها حضرة الرسول أولا، ثم أملاها عليه دفعة واحدة، ويؤكد هذا قوله ولحق بمكة، فيكون هذا سببا لنزول هذه الآية، وذلك أن مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة الملقب بالكذاب ادعى النبوة باليمامة وزعم أن اللّه أوحى إليه، وكان صاحب نيرجات وكهانة، والأسود العنسي عبهلة بن كعب ذو الخمار ادعى النبوة باليمن وتبعه جماعة من قومه، وأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أرسل إليهما وأمر بقتلهما فقتل الأسود فيروز الديلمي قبل وفات النبي صلّى اللّه عليه وسلم بيومين، وقد أخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلم أصحابه بقتله قبل ورود خبره، وقال لهم فاز فيروز، وأما مسيلمة فقتله وحسني قاتل حمزة بن عبد المطلب في خلافة أبي بكر رضي اللّه عنهم، وكان يقول قتلت خير الناس وأنا كافر يعني حمرة، وقتلت شرّ الناس وأنا مؤمن يعني مسيلمة، وكل هذا يؤيد أن هذه الآية مدنية كما ذكرنا أول السورة وهو الصحيح، لأن هذه الحوادث أي قول مالك ابن الصيفي وادعاء مسيلمة والأسود كلها وقعت في المدينة، ومن قال إن هذه الآية نزلت بمكة لم يحقق عن تاريخ هذه الحوادث ومحلها، ولم يقف على أن هذه الآية مستثناة من هذه السورة فقال إنها مكية، ولما لم ير بدا من نفي أسباب نزولها قال إنها من الإخبار بالغيب، وليس بشيء، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سوارين من ذهب، فكبرا علي وأهمّاني، فأوحى اللّه إلي ان انفخهما فنفختهما فطارا- وفي رواية انفحهما بالحاء لا بالخاء من النفخ وهو الرمي والدفع والرمح تقول نفحت الدابة برجلها أي رمحت ورفست، والمعنى قريب من الأول- فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة»، والمعنى لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم خطأ ولا أجهل فعلا ولا أقل عقلا ممن اختلق شيئا من الأشياء الثلاثة المذكورة في هذه الآية، وهي عامة في كل من يزعم هذا الزعم إلى يوم القيامة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، قال تعالى: {وَلَوْ تَرى} يا سيد الرسل {إِذِ الظَّالِمُونَ}.أمثال هؤلاء وغيرهم {فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ} سكراته وشدائده حين نزع أرواحهم {وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ} إليهم يقولون لهم توبيخا وتقريعا هلموا {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} من أجسادكم قسرا، وهذا القول عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال، وإلا فلا حاجة لهذا القول ولو كان بأيديهم منه شيء ما فعلوه، لأن روح الكافر ثمينة عنده فلو قدر على تأخيرها أو عدم إخراجها من جسده لحظة واحدة بما يملك في الدنيا لفعل، ثم قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ} المهانة والمذلة وقت الإماتة {بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} من أمثال الأقوال المتقدمة من الإنكار والتكذيب والجحود والإشراك {وَ} بما {كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ 93} عن قبولها وتأنفون من سماعها بدلا من أن تصدقوها وتؤمنوا بها، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، انتهت الآية المدنية الرابعة.قال تعالى مخاطبا جميع خلقه في موقف الحشر يذكرهم أن حالتهم هذه أول يوم ورودهم الآخرة تشبه حالتهم أول يوم قدومهم إلى الدنيا بقوله عز قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى} وحدانا لا مال معكم ولا ولد ولا لباس ولا نشب {كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} في الدنيا إذ جئتم إليها كذلك، لأن هذا الخطاب بعد البعث وهو خلق ثان {وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ} أعطيناكم في الدنيا من الأموال والأولاد والخدم والسلطة والجاه وملكناكم العقارات ومكناكم من استغلال ما في الدنيا {وَراءَ ظُهُورِكُمْ} أبقيتم كل ذلك في الدنيا الكائنة الآن وراءكم، لأن ما الدنيا لا يكون للآخرة {وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ} من الملائكة والإنس والكواكب والأصنام {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} وأنتم في الدنيا {أَنَّهُمْ فِيكُمْ} في استبعادكم {شُرَكاءُ} معنا وكنا أخبرناكم على لسان رسلنا أنهم ليسوا بشيء وأنهم من خلقنا ومن صنع أيديكم الذي هو أيضا من خلقنا {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بالنصب أي تقطع الوصل بينكم على إضمار الفاعل، وقرئ بضم النون على أنه فاعل بمعنى وصلكم، لأن البين من أسماء الأضداد فيكون بمعنى الهجر وبمعنى الوصل قال:فقد جاء بمعنى الوصل وبمعنى الهجر فيه {وَضَلَّ عَنْكُمْ} غاب وضاع وبطل {ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 94} فيهم في الدنيا من الشفاعة والنفع وزعم هنا نعى في الباطل وقد تستعمل في الحق، قال فيه: وقد مر في الآيتين 80/ 95 من سورة مريم في ج 2 ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية 57 من سورة الكهف الآتية فراجعها، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة غرلا». خلقا قال تعالى: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية 104 من سورة الأنبياء الآتية.ورويا عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: تحشر الناس حفاة عراة عزلا، قالت عائشة فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك.وفي رواية الطبري عنها قالت واسوءتاه إن النساء والرجال يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض. .مطلب الدلائل على قدرة اللّه ومنافع الخلق فيها ومعنى المستقر والمستودع وأصل الخلقة: ثم شرع جل شأنه يعدد دلائل وجوده وكمال عظمته وقدرته وجليل حكمته بقوله عز قوله: {إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ} شاقه عن النبات لأن الحبة حينما تزرع يخرج من شقها الأعلى النبات الصاعد في الهواء الذي يصير فيه السنبل ومن شقها الأسفل العروق التي تغوص في الأرض ولولا ذلك لما ثبت نبات {وَالنَّوى} عن النخل وشبهه هكذا أيضا، وهو جل خلقه {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كالإنسان من النطفة والفرخ من البيضة {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} كالنطفة من الإنسان والبيضة من الدجاجة عكس الجملة المعطوفة عليها، لأن مخرج معطوف على خالق وهو بيان له، لأن خلق الحب اليابس وإخراج الحنطة والشعير والذرة والعدس وغيرها منه، وفلق النوى اليابس وإخراج الرطب والخوخ والمشمش والاجاص وغيرها منه من جنس إخراج الفرخ من البيضة والبيضة من الدجاجة، لأن النّامي من النبات في حكم النامي من الحيوان، فسبحان من أخرج من الحب والنوى نباتا وأشجارا صاعدات في الهواء وعروفا وجذورا ضارية هاوية في الأرض، وخلق من نطفة صغيرة حيوانا عظيما، مما يدل على كمال قدرته وعظيم حكمته، وتنبيها للغافل على أن القصد معرفته بصفاته وأفعاله وأنه مبدع الأشياء وخالقها وصانع العجائب وبارئها لا عن مثال سابق، وأنه هو وحده المستحق للعبادة المنزه عن الشريك والمثيل تعالى اللّه عما يصفه الكفرة {ذلِكُمُ} أيها الناس الفعّال لذلك، الخلاق لكل ما هنالك {اللَّهَ} الذي لا إله غيره {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 95} وتصرفون الحق إلى الباطل والصدق إلى الكذب، فتعبدون الأوثان وتتركون الملك الديان، وفي هذه الآية دليل على البعث بعد الموت باعتبار ما يشاهدونه من خلقه ليعلمهم فيه أن الذي يخلق هذه الأشياء العظيمة من تلك الأشياء التافهة قادر على بعثهم بعد موتهم، وإنما جاء بهذا الدليل والأدلة الآتية تنبيها على أن المقصود والأصل من كل بحث عقلي أو نقلي هو معرفة اللّه تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله، وهذا الدليل الثاني المبين بقوله: {فالِقُ الْإِصْباحِ} بكسر الهمزة جمع صبح بضم الصاد، أي مظهر نورها من سواد الليل وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح بفتح الصاد قال امرؤ القيس:بكسر الهمزة على الأول وقال الآخر: على الثاني والأول أولى لأنه أكثر استعمالا {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} لخلقه وراحة لهم من كدّ المعيشة إلى النوم {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} جعلهما {حُسْبانًا} معينا لا ينخرم على مر العصور {ذلِكَ} العلم بالحساب الحاصل من سيرها {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الغالب عليهما الذي سخرهما قهرا {الْعَلِيمِ 96} بما يؤول إليه أمرهما وما ينشأ عنه من منافع للعباد والدليل الثالث قوله عز قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها} إلى الطرق التي تقصدونها {فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فإذا ضللتم الجهة المطلوبة وتحيرتم ونظرتم إليها عرفتم القبلة من الشمال والشرق من الغرب فتستدلون على ما أنتم ذاهبون إليه {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} الدالة على وحدانيتنا ومنافع خلقنا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 97} أن ذلك مما يستدل به على كمال القدرة ورأفة الرب بخلقه.
|