الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الكامل الإحسان إليكما {تكذبان} أبنعمة ما جعل لكم من الفواكه أم غيرها؟.ثم زاد في وصفهنّ بقوله تعالى: {حور} جمع حوراء وهي الشديدة سواد العين الشديدة بياضها {مقصورات} والمقصورات المحبوسات المستورات {في الخيام} وهي الحجال، فلسن بالطوّافات في الطرق؛ قاله ابن عباس، والنساء تمدح بملازمتهنّ البيوت كما قال قيس بن الأسلت:
ويقال امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة بمعنى واحد، قال كثير عزة: والخيام: جمع خيمة، وهي: أربعة أعواد تنصب وتسقف بشيء من نبات الأرض، وجمعها خيم، كتمرة وتمر، وتجمع الخيم على خيام فهو جمع الجمع؛ وأمّا ما يتخذ من شعر أو وبر أو نحوه فيقال له: خباء، وقد يطلق عليه خيمة تجوّزًا. وقال عمر: الخيمة درة مجوّفة. وقاله ابن عباس قال: وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وفي الحديث: «أنّ في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها: ستون ميلًا؛ في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون». وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي: قال: بلغنا أن سحابة أمطرت من العرش فخلقن أي: الحور العين من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلًا وليس لها باب، حتى إذا دخل وليّ الله تعالى بالخيمة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم وليّ الله أنّ أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصرها الله عن أبصار المخلوقين. وقال مجاهد: معناه قصرن أطرافهنّ وأنفسهنّ على أزواجهنّ فلا يبغين بدلًا. وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحًا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها».فائدة:اختلفوا أيما أكثر حسنًا وأتم جمالًا، الحور أم الآدميات؛ فقيل: الحور لما ذكر في وصفهنّ في القرآن والسنة، ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الجنازة: «وأبدله زوجًا خيرًا من زوجه». وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف روي ذلك مرفوعًا. وقيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين، يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن البصري، قال ابن عادل: والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، إنما هنّ مخلوقات في الجنة لأنّ الله تعالى قال: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ} وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات ا. ه. لكن مرّ أنه لم يطمثهن بعد إنشائهن خلقًا آخر وعلى هذا لا دليل في ذلك.{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} الذي صوركم فأحسن صوركم {تكذبان} أبهذه النعم أم بغيرها؟.{لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ} كحور الجنتين الأوليين وضميرهم في قبلهم لأصحاب الجنتين.{فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} الذي جعل لكم في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {تكذبان} أبهذه النعم أم بغيرها.{متكئين} أي لهم ما ذكر حالة الاتكاء والعامل في الحال محذوف، أي: ينعمون متكئين {على رفرف} أي: ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج لينة ووسائد عظيمة، ورياض باهرة، وبسط لها أطراف فاضلة، وهو جمع رفرفة، لأن الله تعالى وصفه بالجمع بقوله: {خضر} ووصفه بذلك لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأبهجها، وقال الجوهري: هو ثياب خضر تتخذ منها المحابس الواحدة رفرفة واشتقاقه من رف الطائر أي: ارتفع في الهواء ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطيران؛ وقيل: الرفرف طرف الفسطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد؛ وفي الخبر في وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فرفع الرفرف، فرأينا وجهه كأنه ورقة»، أي: رفع طرف الفسطاط وقال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول: الرفرف أعظم خطرًا من الفرش فذكر في الأولين {متكئين على فرش بطائنها من استبرق} وقال هنا: {متكئين على رفرف خضر} فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به أي طار به حيثما يريد كالمرجاح. وروي في حديث المعراج أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى، جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى سند العرش فذكر أنه قال طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربي. أي: في محل تنزلات رحمة ربي ثم لما جاء الانصراف تناوله فطار به خفضا ورفعًا يهوي به، حتى أداه إلى جبريل عليه السلام؛ فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور من الدنوّ والقرب؛ كما أنّ البراق دابة تركبها الأنبياء عليهم السلام مخصوصة بذلك، وهذا الرفرف الذي سخر لأهل الجنتين الدائبتين هو متكؤهما وفرشهما يرفرف بالوليّ على حافات تلك الأنهار حيث يشاء إلى خيام أزواجه.وقوله تعالى: {وعبقريّ} منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجنّ فينسبون إليه كل شيء عجب؛ قال في القاموس: عبقر موضع كثير الجنّ وقرية ثيابها في غاية الحسن، والعبقري الكامل من كل شيء؛ وقال الخليل: هو كلّ جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم؛ وقال قطرب ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختي ا. ه. والمراد به: الجنس، ولذلك قال تعالى: {حسان} حملًا على المعنى أي هي في غاية من كمال الصنعة وحسن المنظر لا توصف.{فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} المحسن الواحد الذي لا محسن غيره ولا إحسان إلا منه {تكذبان} أبشيء من هذه النعم أم بغيرها.ولما دلّ ما ذكر في هذه السورة من النعم على إحاطة مبدعها بأوصاف الكمال وختم نعم الدنيا بقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وفيه إشارة إلى أنّ الباقي هو الله تعالى وأنّ الدنيا فانية ختم نعيم الآخرة بقوله عز من قائل: {تبارك} قال ابن برّجان: تفاعل من البركة ولا يكاد يذكره جل ذكره إلا عند أمر معجب ا. ه. ومعناه ثبت ثباتًا لا تسع العقول وصفه.ولما كان تعظيم الاسم أبلغ في تعظيم المسمى قال تعالى: {اسم ربك} أي: المحسن إليك بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهرًا له وصار خلقًا لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف؛ وقيل: لفظ اسم زائد وجرى عليه الجلال المحلي والأوّل أولى.{ذي الجلال} أي: العظمة الباهرة {والإكرام} قال القرطبي: كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: {الرحمن} فافتتح بهذا الاسم فوصف خلق الإنسان والجنّ، وخلق السموات والأرض وصنعه؛ وأنه تعالى كل يوم هو في شان، ووصف تدبيره فيهم؛ ثم وصف يوم القيامة، وأهوالها، وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان.ثم قال في آخر الصفة {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} أي: هذا لاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أنّ هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء والأرض والخليقة والجنة والنار فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه فقال تعالى: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} أي: جليل في ذاته كريم في أفعاله وقرأ ابن عامر: بالواو رفعًا صفة للاسم والباقون بالياء خفضًا صفة لرب، فإنه هو الموصوف بذلك. روى الثعلبي عن علي أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره». وما رواه البيضاوي تبعًا للزمخشري: من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه» حديث موضوع. اهـ. .قال الشوكاني في الآيات السابقة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)}.لما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم، فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} مقامه سبحانه هو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب، كما في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} [المطففين: 6] فالمقام مصدر بمعنى القيام، وقيل: المعنى خاف قيام ربه عليه، وهو إشرافه على أحواله، واطلاعه على أفعاله وأقواله، كما في قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] قال مجاهد، والنخعي: هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر الله، فيدعها من خوفه.واختلف في الجنتين، فقال مقاتل: يعني: جنة عدن، وجنة النعيم، وقيل: إحداهما التي خلقت له والأخرى ورثها.وقيل: إحداهما منزله والأخرى منزل أزواجه.وقيل: إحداهما أسافل القصور والأخرى أعاليها.وقيل: جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجنيّ، وقيل: جنة لفعل الطاعة وأخرى لترك المعصية، وقيل: جنة للعقيدة التي يعتقدها وأخرى للعمل الذي يعمله، وقيل: جنة بالعمل وجنة بالتفضل، وقيل: جنة روحانية وجنة جسمانية، وقيل: جنة لخوفه من ربه وجنة لتركه شهوته، وقال الفرّاء: إنما هي جنة واحدة، والتثنية لأجل موافقة الآي.قال النحاس: وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله، فإن الله يقول: {جَنَّتَانِ} ويصفهما بقوله: {فيهما} إلخ.{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإن من جملتها من هذه النعم العظيمة، وهي إعطاء الخائف من مقام ربه جنتين متصفتين بالصفات الجليلة العظيمة {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} هذه صفة للجنتين، وما بينهما اعتراض، والأفنان: الأغصان، واحدها: فنن، وهو الغصن المستقيم طولًا، وبهذا قال مجاهد، وعكرمة، وعطية، وغيرهم.وقال الزجاج: الأفنان: الألوان واحدها فنّ، وهو الضرب من كل شيء، وبه قال عطاء، وسعيد بن جبير، وجمع عطاء بين القولين، فقال: في كلّ غصن فنون من الفاكهة، ومن إطلاق الفنن على الغصن قول النابغة:وقول الآخر: وقيل: معنى {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}: ذواتا فضل وسعة على ما سواهما، قاله قتادة، وقيل: الأفنان: ظلّ الأغصان على الحيطان، روي هذا عن مجاهد، وعكرمة.{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإن كل واحد منها ليس بمحل للتكذيب، ولا بموضع للإنكار.{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} هذا أيضًا صفة أخرى لجنتان، أي: في كل واحدة منهما عين جارية.قال الحسن: إحداهما السلسبيل والأخرى التسنيم.وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين، قيل: كلّ واحدة منهما مثل الدنيا أضعافًا مضاعفة.{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإن من جملتها هذه النعمة الكائنة في الجنة لأهل السعادة.{فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} هذا صفة ثالثة لجنتان، والزوجان: الصنفان والنوعان، والمعنى: أن في الجنتين من كلّ نوع يتفكه به ضربين يستلذ بكلّ نوع من أنواعه، قيل: أحد الصنفين رطب، والآخر يابس لا يقصر أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإن في مجرّد تعداد هذه النعم، ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير، والترهيب عن فعل الشرّ ما لا يخفى على من يفهم، وذلك نعمة عظمى، ومنّة كبرى، فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه؟! {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} انتصاب {متكئين} على الحال من فاعل قوله: {وَلِمَنْ خَافَ} وإنما جمع، حملًا على معنى من، وقيل: عاملها محذوف، والتقدير: يتنعمون متكئين، وقيل: منصوب على المدح، والفرش جمع فرش، والبطائن: هي التي تحت الظهائر، وهي جمع بطانة.
|