الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{أُفٍّ لَّكُمْ} تقدم الكلام على أف في [الإسراء: 23] {قَالُواْ حَرِّقُوهُ} لما غلبهم بالحجة رجعوا إلى تغلب عليه بالظلم قلنا {يا نار كُونِي بَرْدًا وسلاما} أي ذات برد وسلام، وجاءت العبارة هكذا للمبالغة، واختلف كيف بردت النار؟ فقيل: أزال الله عنها ما فيها من الحرّ، والإحراق، وقيل: دفع عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع ترك ذلك فيها، وقيل: خلق بينه وبينها حائلًا، ومعنى السلام هنا السلامة، وقد روي أنه لو لم يقل: {وسلاما} لهلك إبراهيم من البرد. وقد أضربنا عما ذكره الناس في قصة إبراهيم لعدم صحته، ولأن ألفاظ القرآن لا تقتضيه.{إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} هي الشام خرج إليها من العراق، وبركتها بخصبها وكثرة الأنبياء فيها {نَافِلَةً} أي عطية، والتنفيل العطاء، وقيل سماه: نافلة؛ لأنه عطاء بغير سؤال، فكأنه تبرع، وقيل: الهبة إسحاق، والنافلة يعقوب، لأنه سأل إسحاق بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} [الصافات: 100] فأعطى يعقوب زيادة على ما سأل، واختار بعضهم على هذا الوقف على إسحاق لبيان المعنى، وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي يرشدون الناس بإذننا.{وَلُوطًا} قيل: إنه انتصب بفعل مضمر يفسره {آتيناه}. والأظهر أنه انتصب بالعطف على موسى وهارون، أو إبراهيم وانتصب ونوحًا وداود وسليمان وما بعدهم بالعطف أيضًا، وقيل بفعل مضمر تقديره: اذكر {آتَيْنَاهُ حُكْمًا} أي حكمًا بين الناس: أو حكمة {مِنَ القرية} هي سدوم من أرض الشام {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنا} أي في الجنة أو في أهل رحمتنا.{نادى مِن قَبْلُ} أي دعا قبل إبراهيم ولوط {مِنَ الكرب} يعني من الغرق {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} تعدى نصرناه بمن لأنه مطاوع انتصر المتعدّي بمن، أو تضمن معنى نجيناه أو أجزناه.{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} كان داود نبيًّا ملكًا، وكان ابنه سليمان ابن أحد عشر عامًا {فِي الحرث} قيل: زرع، وقيل: كرم والحرث يقال فيهما {إِذْ نَفَشَتْ} رعت فيه بالليل {لِحُكْمِهِمْ} الضمير لداود وسليمان المتخاصمين، وقيل لداود وسليمان خاصة، على أن يكون أقل الجمع اثنان {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} تخاصم إلى {دَاوُدَ} رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فقضى {دَاوُدَ} بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، ووجه هذا الحكم أن قيمة الزرع كانت مثل قيمة الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب، فأخبراه بما حكم به أبوه، فدخل عليه فقال: يا نبيّ الله لو حكمت بغير هذا كان أرفق للجميع، قال وما هو؟ قال يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا أكمل الزرع ردت الغنم إلى صاحبها، والأرض بزرعها إلى ربها، فقال له داود: وفقت يا بنيّ، وقضى بينهما بذلك، ووجه حكم سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع، وواجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، ويحتمل أن يكون ذلك إصلاحًا لا حكمًا.واختلف الناس هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ فمن قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاط للأنبياء، وروي أن داود رجع عن حكمه لما تبين له أن الصواب خلافه، وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق الأنبياء، وعلى القول بالجواز اختلف، هل وقع أم لا؟ وظاهر قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}: أنه كان اجتهاد فخص الله به سليمان ففهم القضية، ومن قال: كان بوحي، جعل حكم سليمان ناسخًا لحكم داود.وأما حكم إفساد المواشي الزرع في شرعنا، فقال مالك والشافعي: يضمن أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك، وعلى هذا يدل حكم داود وسليمان، لأن النفش لا يكون إلا بالليل، وقال أبو حنيفة: لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار، لقول صلى الله عليه وسلم: «العجماء جرحها جبار» {آتَيْنَاه حُكْمًا وَعِلْمًا} قيل: يعني في هذه النازلة، وأن داود لم يخطىء فيها، ولَكِنه رجع إلى ما هو أرجح، ويدل على هذا القول أن كل مجتهد مصيب، وقيل: بل يعني حكمًا وعلمًا في غير هذه النازلة، وعلى هذا القول فإنه أخطأ فيها، وأن المصيب واحد من المجتهدين {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} كان هذا التسبيح قول سبحانه الله، وقيل: الصلاة معه إذا صلى، وقدم الجبال على الطير، لأن تسبيحها أغرب إذ هي جماد {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} أي قادرين على أن نفعل هذا.وقال ابن عطية: معناه كان ذلك في حقه لأجل أن داود استوجب ذلك مناصفة كذا! {صَنْعَةَ لَبُوسٍ} يعني دروع الحديد، وأول من صنعها داود عليه السلام، وقال ابن عطية اللبوس في اللغة: السلاح وقال الزمخشري: اللبوس اللباس {لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} أي لتقيكم في القتال وقرئ بالياء والتاء والنون، فالنون لله تعالى، والتاء للصنعة، والياء لداود أو للبوس {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} لفظ استفهام، ومعناه استدعاء إلى الشكر {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً} عطف الريح على الجبال والعاصفة هي الشديدة فإن قيل: كيف يقال عاصفة؟ وقال في [ص: 36] {رُخَاءً} أي لينة؟ فالجواب: أنها كانت في نفسها لينة طيبة، وكانت تسرع في جريها كالعاصف فجمعت الوصفين، وقيل: كانت رخاء في ذهابه، وعاصفة في رجوعه إلى وطنه، لأن عادة المسافرين الإسراع في الرجوع؛ وقيل: كانت تشتدّ إذا رفعت البساط وتلين إذا حملته {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني أرض الشام، وكانت مسكنة وموضع ملكه، فخص في الآية الرجوع إليها لأنه يدل على الانتقال منها {يَغُوصُونَ لَهُ} أي يدخلون في الماء ليستخرجوا له الجواهر من البحار {عَمَلًا دُونَ ذلك} أقل من الغوص كالبنيان والخدمة {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أي نحفظهم عن أن يزيغوا عن أمره، أو نحفظهم من إفساد ما صنعوه، وقيل: معناه عالمين بعددهم. اهـ.
.قال الخطيب الشربيني: {ولقد أتينا} بما لنا من العظمة {إبراهيم رشده} أي: صلاحه وهداه {من قبل} أي: من قبل موسى وهارون ومحمد صلى الله وسلم عليهم وقيل: من قبل استنبائه أو بلوغه حيث قال: إني وجهّت وجهي {وكنّا به} ظاهرًا وباطنًا {عالمين} بأنه أهل لما آتيناه لأنه جبلة خير جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق والخصال يدوم على الرشد ويترقى فيه إلى أعلى درجاته لما طبعناه عليه، وفي ذلك إشارة إلى أنه فعله تعالى باختيار وحكمة وأنه عالم بالجزئيات.وتعليق {إذ قال} أي: إبراهيم {لأبيه وقومه} بعالمين إشارة إلى أن قوله لما كان بإذن منا ورضا لنا نصرناه وهو وحده على قومه كلهم، ولو لم يكن يرضينا لمنعناه منه بنصر قومه عليه وتمكين النار منه، ثم ذكر مقول القول في قوله: منكرًا عليهم محقرًا لأصنامهم {ما هذه التماثيل} أي: الصور التي صنعتموها مماثلين بها ما فيه روح الله جاعلين لها ما لا يكون إلا لمن لا مثل له وهي الأصنام {التي أنتم لها} أي: لأجلها وحدها مع كثرة ما يشابهها وما هو أفضل منها {عاكفون} أي: مقيمون على عبادتها فإن قيل: هلا قال عليها عاكفون، كقوله تعالى: {يعكفون على أصنام لهم}؟أجيب: بأن اللام للاختصاص لا للتعدية، ولو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي على، ثم إنه تعالى ذكر جوابهم له بما لزم الاستفهام عن السؤال بأنهم {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} فاقتدينا بهم لا حجة لنا غير ذلك فانظر ما أقبح التقليد وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حتى استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم وهم معتقدون أنهم على شيء وجادّون في نصرة مذهبهم ومجادلون أهل الحق عن باطلهم وكفى أهل التقليد مسبة أن عبدة الأصنام منهم والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق.ولذا {قال} إبراهيم عليه السلام {لقد كنتم} وأكده بقوله: {أنتم} لأجل صحة العطف لأن الضمير المرفوع المتصل حكمه حكم جزء الفعل والعطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه: {اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة]. {وآباؤكم} أي: من قبلكم {في ضلال مبين} فبين أن المقلدين والمقلدين جميعًا منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة لاستناد الفريقين إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع لاستبعادهم أن يكون ماهم عليه ضلالًا بقوا متعجبين من تضليله إياهم.فلذا {قالوا} ظنًا منهم أنه لم يقل لهم ذلك على ظاهره {أجئتنا} في هذا الكلام {بالحق} الذي يطابقه الواقع {أم أنت من اللاعبين} أي: تقوله على وجه المزاح والملاعبة لا على وجه الجد.{قال} عليه السلام بانيًا على ما تقديره ليس كلامي لعبًا بل هو جد وهذه التماثيل ليست أربابًا {بل ربكم} أي: الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة {رب السموات والأرض} أي: مدبرهنّ القائم بمصالحهنّ {الذي فطرهنّ} أي: خلقهنّ على غير مثال سبق وأنتم وتماثيلكم بما فيهما من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجرّدة عن الهوى وقيل: الضمير في فطرهنّ للتماثيل قال الزمخشري: وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم {وأنا على ذلكم} أي: الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره {من الشاهدين} أي: الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس لا كما فعلتم أنتم حين اضطرّكم السؤال إلى الضلال، ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق أتبعه البرهان على إبطال الباطل بقوله: {وتاللّه} وهو قسم والأصل في القسم الباء الموحدة والواو بدل منها والتاء بدل من الواو وفيها مع كونها بدلًا زيادة على التأكيد التعجب {لأكيدن أصنامهم} أي: لأجتهدنّ في كسرها والتأكيد وما في التاء من التعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه لأنّ ذلك كان أمرًا مقنوطًا منه لصعوبته وتعذره ولعمري إنّ مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصًا في زمن نمروذ مع عتّوه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه، ولَكِن إذا الله سنى عقد شيء تيسرا، ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أي جزء تيسر له منه أسقط الجار فقال: {بعد أن تولّوا مدبرين} أي: بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم قال مجاهد وقتادة: إنما قال إبراهيم هذا سرًّا من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، وقال السدّي: كان لهم في كل سنة مجمع عيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي برجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهي في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعامًا فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا: إذا رجعنا وقد بركت الأصنام الآلهة عليه أكلنا منه فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: ألا تأكلون؟ فلما لم يجيبوه قال لهم مالكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضربًا باليمين وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله عز وجل: {فجعلهم جذاذًا} أي: فتاتًا وقرأ الكسائي بكسر الجيم والباقون بضمها {إلا كبيرًا لهم} فإنه لم يكسره ووضع الفأس في عنقه وقيل ربطه بيده وكانت اثنين وسبعين صنمًا بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد ورصاص وخشب وحجر وكان الصنم الكبير من الذهب مكللًا بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان {لعلهم} أي: هؤلاء الضلال {إليه} أي: إبراهيم {يرجعون} عند إلزامه بالسؤال فتقوم عليهم الحجة فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال {قالوا من فعل هذا} الفعل الفاحش {بآلهتنا إنه لمن الظالمين} حيث وضع الإهانة في غير موضعها فإنّ الآلهة حقها الإكرام لا الإهانة والانتقام {قالوا} أي: الذين سمعوا قول إبراهيم وتالله لأكيدنّ أصنامكم {سمعنا فتى} أي: شابًا من الشباب {يذكرهم} أي: يعيبهم ويسبهم {يقال له إبراهيم} أي: هو الذي نظنّ أنه صنع هذا، فلما بلغ ذلك نمروذ الجبار وأشراف قومه {قالوا فأتوا به} إلى بيت الأصنام {على أعين الناس} أي: جهرة والناس ينظرون إليه نظر الإخفاء معه حتى كأنه ماش على أبصارهم متمكن منها تمكن الراكب على المركوب {لعلهم يشهدون} عليه بأنه الذي فعل بالآلهة هذا الفعل كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، وقيل معناه: لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به، فلما أتوا به {قالوا} منكرين عليه {أأنت فعلت هذا} الفعل الفاحش {بآلهتنا يا إبراهيم}.تنبيه:هنا همزتان مفتوحتان من كلمة فالقرّاء الجميع على تحقيق الأولى، وأمّا الثانية فيسهلها نافع وابن كثير وأبو عمرو، وهشام بخلاف عنه وأدخل بينهما ألفًا قالون وأبو عمرو والباقون بتحقيقهما وعدم الإدخال بينهما.ثم {قال} إبراهيم متهكمًا بهم وملزمًا بالحجة {بل فعله كبيرهم} غيرة أن يعبد معه من هو دونه وتقييده بقوله: {هذا} إشارة إلى الذي تركه من غير كسر، ولما أخبرهم ولم يكن أحد رآه حتى يشهد على فعله وكانوا قد أحلوهم بعبادتهم ووضع الطعام لهم محل من يعقل تسبب عنه أمرهم بسؤالهم فقال: {فاسألوهم} أي: عن الفاعل ليخبروكم به وقوله: {إن كانوا ينطقون} أي: على زعمكم أنهم آلهة يضرّون وينفعون فيه تقديم جواب الشرط أي: فإن قدروا على النطق أمكنت عنهم القدرة وإلا فلا، فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك. روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله إني سقيم وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة: هذه أختي»، وقال في حديث الشفاعة، ويذكر كذباته أي: إنه لم يتكلم بكلمات صورتها صورة الكذب وإن كان حقًّا في الباطن إلا هذه الكلمات، وقيل في قوله: {إن سقيم} أي: سأسقم، وقيل سقيم القلب أي: مغتم بضلالتكم، وقوله لسارة هذه أختي أي: في الدين وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله: {بل فعله} ويقول: معناه بل فعله من فعله، وقوله: {كبيرهم هذا} مبتدأ وخبر قال البغوي: وهذه التأويلات لنفي الكذب، والأولى هو الأول للحديث فيه، ويجوز أن يكون الله تعالى قد أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم كما أذن ليوسف عليه السلام حتى نادى مناديه فقال: {أيتها العير إنكم لسارقون} [يوسف].ولم يكونوا سرقوا، وقال الرازي: الحديث محمول على المعاريض، فإن فيها مندوحة عن الكذب، أي: تسمية المعاريض كذبًا لما أشبهت صورتها صورته، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمزة، وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وبعدها همزة مفتوحة، وقيل: الوقف على {بل فعله} ثم يبتدىء بقوله: {كبيرهم هذا}.ولما اضطرّهم الدليل أن يحققوا أنهم على محض الباطل {فرجعوا إلى أنفسهم} بالتفكر {فقالوا} أي: بعضهم لبعض {إنكم أنتم الظالمون} لكونكم وضعتم العبادة في غير موضعها إلا إبراهيم، فإنه أصاب بإهانتها.{ثم نكسوا على رؤوسهم} أي: انقلبوا غير مستحبين مما يلزمهم من الإقرار بالسفه إلى المجادلة له بعدما استقاموا بالمراجعة من قولهم نكس المريض إذا عاد إلى حاله الأول، شبّه عودهم إلى الباطل بصورة جعل أسفل الشيء مستعليًّا على أعلاهـ. ثم إنهم قالوا في مجادلتهم عن شركائهم والله {لقد علمت} يا إبراهيم {ما هؤلاء} لا صحيحهم ولا جريحهم {ينطقون} أي: فكيف تأمرنا بسؤالهم؟ ولما تسبب عن قولهم هذا إقرارهم بأنهم لا فائدة فيهم اتجه لإبراهيم عليه السلام الحجة عليهم.
|