الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{يَا يحيى} على تقدير القول. {خُذِ الكتاب} التوراة. {بِقُوَّةٍ} بجد واستظهار بالتوفيق. {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيًّا} يعني الحكمة وفهم التوراة، وقيل النبوة أحكم الله عقله في صباه واستنبأه.{وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا} ورحمة منا عليه أو رحمة وتعطفًا في قلبه على أبوييه وغيرهما عطف على الحكم. {وزكواة} وطهارة من الذنوب أو صدقة أي تصدق الله به على أبويه، أو مكنه ووفقه للتصديق على الناس. {وَكَانَ تَقِيّا} مطيعًا متجنبًا عن المعاصي.{وَبَرًّا بوالديه} وبارًا بهما. {وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} عاقًا أو عاصي ربه.{وسلام عَلَيْهِ} من الله. {يَوْمَ وُلِدَ} من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم. {وَيَوْمَ يَمُوتُ} من عذاب القبر. {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًا} من عذاب النار وهو القيامة.{واذكر في الكتاب} في القرآن. {مَرْيَمَ} يعني قصتها. {إِذِ انتبذت} اعتزلت، بدل من {مَرْيَمَ} بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها، أو بدل الكل لأن المراد ب {مَرْيَمَ} قصتها وبالظرف الأمر الواقع فيه وهما واحد، أو ظرف لمضاف مقدر وقيل {إِذْ} بمعنى أن المصدرية كقولك: أكرمتك إذ لم تكرمني فتكون بدلًا لا محالة. {مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًا} شرقي بيت المقدس، أو شرقي دارها، ولذلك اتخذ النصارى المشرق قبلة ومكانًا ظرف أو مفعول لأن {انتبذت} متضمن معنى أتت.{فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَابًا} سترًا. {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} قيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض متحجبة بشيء يسترها وكانت تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت وتعود إليه إذا طهرت فبينما هي في مغتسلها أتاها جبريل عليه السلام متمثلًا بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه، ولعله لتهييج شهوتها به فتنحدر نطفتها إلى رحمها.{قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ} من غاية عفافها. {إِن كُنتَ تَقِيًّا} تتقي الله وتحتفل بالاستعاذة، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فإني عائذة منك، أو فتتعظ بتعويذي أو فلا تتعرض لي، ويجوز أن يكون للمبالغة أي إن كنت تقيًا متورعًا فإني أتعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك.{قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} الذي استعذت به. {لأَهَبَ لَكِ غلاما} أي لأكون سببًا في هبته بالنفخ في الدرع، ويجوز أن يكون حكاية لقول الله تعالى، ويؤيده قراءة أبي عمرو والأكثر عن نافع ويعقوب بالياء. {زَكِيًّا} طاهرًا من الذنوب أو ناميًا على الخير أي مترقيًا من سن إلى سن على الخير والصلاح.{قَالَتْ أنى يَكُونُ لِى غلام وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} ولم يباشر فيَّ رجل بالحلال، فإن هذه الكنايات إنما تطلق فيه، أما الزنا فإنما يقال فيه خبث بها وفجر ونحو ذلك ويعضده عطف قوله: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} عليه وهو فعول من البغي قلبت واوه ياء وأدغمت ثم كسرت الغين اتباعًا ولذلك لم تلحقه التاء، أو فعيل بمعنى فاعل ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة، أو للنسب كطالق.{قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ} أي ونفعل ذلك لنجعله آية أو لنبين به قدرتنا ولنجعله، وقيل عطف على ليهب على طريقة الالتفات. {ءَايَةً لِلنَّاسِ} علامة لهم وبرهانًا على كمال قدرتنا. {وَرَحْمَةً مِّنَّا} على العباد يهتدون بإرشاده. {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} أي تعلق به قضاء الله في الأزل، أو قدر وسطر في اللوح أو كان أمرًا حقيقًا بأن يقضى ويفعل لكونه آية ورحمة.{فَحَمَلَتْهُ} بأن نفخ في درعها فدخلت النفخة في جوفها وكان مدة حملها سبعة أشهر، وقيل ستة، وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره، وقيل ساعة كما حملته نبذته وسنها ثلاث عشرة سنة، وقيل عشر سنين وقد حاضت حيضتين. {فانتبذت بِهِ} فاعتزلت وهو في بطنها كقوله:
والجار والمجرور في موضع الحال. {مَكَانًا قَصِيًّا} بعيدًا من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار.{فَأَجَاءَهَا المخاض} فألجأها المخاض، بالكسر وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج. {إلى جِذْعِ النخلة} لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة، وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها. {قَالَتْ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هذا} استحياء من الناس ومخافة لومهم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر {مت} من مات يموت. {وَكُنتُ نَسْيًا} ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب ونظيره الذبح لما يذبح، وقرأ حمزة وحفص بالفتح وهو لغة فيه أو مصدر سمي به، وقرئ به وبالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته. {مَّنْسِيًّا} منسي الذكر بحيث لا يخطر ببالهم وقرئ بكسر الميم على الاتباع.{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} عيسى، وقيل جبريل كان يقبل الولد، وقيل تحتها أسفل من مكانها. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وروح {من تحتها} بالكسر والجر على أن في نادى ضمير أحدهما، وقيل الضمير في تحتها النخلة. {أَلاَّ تَحْزَنِى} أي لا تحزني أو بأن لا تحزني. {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} جدولًا. هكذا روي مرفوعًا، وقيل سريًا من السرو وهو عيسى عليه الصلاة والسلام.{وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} وأميليه إليك، والباء مزيدة للتأكيد أو افعلي الهز والأمالة به، أو {هزي} الثمرة بهزه والهز تحريك بجذب ودفع. {تساقط عَلَيْكِ} تتساقط فأدغمت التاء الثانية في السين وحذفها حمزة، وقرأ يعقوب بالياء وحفص {تساقط} من ساقطت بمعنى أسقطت، وقرئ {تتساقط} و{تسقط} و{يسقط} فالتاء للنخلة والياء للجذع. {رُطَبًا جَنِيًّا} تمييز أو مفعول. روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء، فهزتها فجعل الله تعالى لها رأسًا وخوصًا ورطبًا. وتسليتها بذلك لما فيه من المعجزات الدالة على براءة ساحتها فإن مثلها لا يتصور لمن يرتكب الفواحش، والمنبهة لمن رآها على أن من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل، وأنه ليس ببدع من شأنها مع ما فيه من الشراب والطعام ولذلك رتب عليه الأمرين فقال: {فَكُلِى واشربى} أي من الرطب وماء السرى أو من الرطب وعصيره. {وَقَرِّي عَيْنًا} وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنك، وقرئ {وقَرى} بالكسر وهو لغة نجد، واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره، أو من الفرقان دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين للمحبوب وسخنتها للمكروه. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَدًا} فإن تري آدميًا، وقرئ {ترئن} على لغة من يقول لبأت بالحج لتآخ بين الهمزة وحرف اللين. {فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا} صمتًا وقد قرىء به، أو صيامًا وكانوا لا يتكلمون في صيامهم. {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيًّا} بعد أن أخبرتكم بنذري وإنما أكلم الملائكة وأناجي ربي. وقيل أخبرتهم بنذرها بالإِشارة وأمرها بذلك لكراهة المجادلة والاكتفاء بكلام عيسى عليه الصلاة والسلام فإنه قاطع في قطع الطاعن.{فَأَتَتْ بِهِ} أي مع ولدها. {قَوْمَهَا} راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس. {تَحْمِلُهُ} حاملة إياه. {قَالُواْ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أي بديعًا منكرًا من فري الجلد.{يَآ أُخْتَ هارون} يعنون هرون النبي عليه الصلاة والسلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة، وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة. وقيل هو رجل طالح أو صالح كان في زمانهم شبهوها به تهكمًا أو لما رأوا قبل من صلاحها أو شتموها به. {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} تقرير لأن ما جاءت به فري، وتنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أي كلموه ليجيبكم. {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ في المهد صَبِيًّا} ولم نعهد صبيًا في المهد كلمه عاقل، و{كَانَ} زائدة والظرف صلة من.و{صَبِيًّا} حال من المستكن فيه أو تامة أو دائمة كقوله تعالى: {وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} أو بمعنى صار.{قَالَ إِنّى عَبْدُ الله} أنطقه الله تعالى به أولًا لأنه أول المقامات والرد على من يزعم ربوبيته. {ءَاتَانِىَ الكتاب} الإِنجيل. {وَجَعَلَنِى نَبِيًّا}.{وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا} نفاعًا معلمًا للخير، والتعبير بلفظ الماضي إما باعتبار ما سبق في قضائه، أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع وقيل أكمل الله عقله واستنبأه طفلًا. {أَيْنَمَا كُنتُ} حيث كنت. {وَأَوْصَانِى} وأمرني. {بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ} زكاة المال إن ملكته أو تطهير النفس عن الرذائل. {مَا دُمْتُ حَيًّا}.{وَبَرًّا بِوَالِدَتِى} وبارًا بها عطف على {مُبَارَكًا}، وقرئ بالكسر على أنه مصدر وصف به أو منصوب بفعل دل عليه أوصاني، أي وكلفني برًا ويؤيده القراءة بالكسر والجر عطفًا على {الصلاة}. {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا} عند الله من فرط تكبره.{والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} كما هو على يحيى والتعريف للعهد والأظهر أنه للجنس والتعريض باللعن على أعدائه، فإنه لما جعل جنس السلام على نفسه عرض بأن ضده عليهم كقوله تعالى: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى. اهـ. .قال الخازن: {كهيعص}.قال ابن عباس؛ هو اسم من أسماء الله تعالى، وقيل اسم القرآن، وقيل للسورة ويل هو قسم أقسم الله تعالى به.عن ابن عباس قال؛ الكاف من كريم وكبير، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، وقيل معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده.{ذكر} أي هذا الذي نتلو عليك ذكر {رحمة ربك عبده زكريا} قيل معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته {إذ نادى} اي دعا {ربه} في المحراب {نداء خفيًا} أي دعاء سرًا من قيامه في جوف الليل، وقيل راعى سنة الله في إخفاء دعائه لأن الجهر والإسرار عند الله تعالى سيان، ولكن الإخفاء أولى، وقيل خفت صوته لضعفه سقوط الأضراس {واشتعل الرأس} أي ابيض الشعر {شيبًا} أي شمطًا {ولم أكن بدعائك رب شقيًا} أي عودتني الإجابة فما مضى ولم تخيبني، وقيل معناه لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ولم اشق بترك الإيمان {وإني خفت الموالي من ورائي} أي من بعد موتي والموالي هم بنو العم وقيل العصبة وقيل الكلالة وقيل جميع الورثة {وكانت امرأتي عاقرًا} أي لا تلد {فهب لي من لدنك وليًا} أي أعطني من عندك ولدًا مرضيًا {يرثني ويرث من آل يعقوب} أي وليًا ذا رشاد، وقيل أراد به يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والعلم، وقيل أراد به الحبورة، لأن زكريا كان رأس الأحبار، والأولى أن يحمل على ميراث غير المال لأن الأنبياء لم يرثوا المال وإنما يورثون العلم، ويبعد عن زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يشفق على ماله أن يرثه بنو عمه، وإنما خاف أن يضيع بنو عمه دين الله ويغيروا أحكامه، وذلك لما أن شاهد من بني إسرائيل تبديل الدين وقتل الأنبياء.فسأل ربه ولدًا صالحًا يأمنه على أمته ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع وهذا قول ابن عباس {واجعله رب رضيًا} أي برًا تقيًا مرضيًا.قوله تعالى: {يا زكريا} المعنى استجاب الله له دعائه فقال يا زكريا {إنا نبشرك بغلام} أي بولد ذكر {اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميًا} أي لم يسم أحد قبله يحيى وقيل معناه لم نجعل له شبهًا مثلًا، وذلك لأنه لم يعص الله ولم يهم بمعصية قط وقال ابن عباس: لم تلد العواقر مثله ولدًا، قيل لم يرد الله تعالى بذلك اجتماع الفضائل كلها ليحيى، وإنما أراد بعضها لأن الخليل والكليم كانا قبله وهما أفضل منه {قال رب أنى يكون لي} أي من أين يكون لي {غلام وكانت امرأتي عاقرًا} أي وامرأتي عاقر {وقد بلغت من الكبر عتيًا} أي يأسًا يريد بذلك نحول الجسم ودقة العظام ونحول الجلد {قال كذلك قال ربك هو علي هين} أي يسير {وقد خلقتك من قبل} أي من قبل يحيى {ولم تك شيئًا وقال رب اجعل لي آية} أي دلالة على حمل امرأتي {قال آيتك} أي علامتك {أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويًا} أي صحيحًا سليمًا من غير بأس ولا خرس، وقيل ثلاث ليال متتابعات والأول أصح قيل إنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس فإذا أراد ذكر الله انطلق لسانه.قوله: {فخرج على قومه من المحراب} أي من الموضع الذي كان يصلي فيه وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه حتى يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون، إذ خرج إليهم زكريا متغيرًا لونه فأنكروا ذلك عليه، وقالوا له ما لك {فأوحى} أي فأوما وأشار {إليهم} وقيل كتب لهم في الأرض {أن سبحوا} أي صلوا لله {بكرة وعشيا} المعنى أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيًا فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقت حمل امرأته ومنع من الكلام خرج إليهم فأمرهم بالصلاة إشارة.قوله: {يا يحيى} فيه إضمار ومعناه وهبنا له يحيى وقلنا له يا يحيى {خذ الكتاب} أي التوراة {بقوة} أي بجد واجتهاد {وآتيناه الحكم} قال ابن عباس: يعني النبوة {صبيًا} وهو ابن ثلاث سنين وذلك أن الله تعالى حكم عقله وأوحى إليه، فإن قلت كيف يصح حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا.قلت لأن أصل النبوة مبني على خرق العادات، إذا ثبت هذا فلا تمنع صيرورة الصبي نبيًا، وقيل أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير وعن بعض السلف قال من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو من أوتي الحكم صبيًا {وحنانًا من لدنًا} أي رحمة من عندنا قال الحطيئة يخاطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:أي ترحم علي {وزكاة} قال ابن عباس: يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقيل هي العمل الصالح، ومعنى الآية وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا على العباد ليدعوهم إلى طاعة ربهم وعملًا صالحًا في أخلاصه {وكان تقيًا} أي مسلمًا مخلصًا مطيعًا، وكان من تقواه إنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها قط {وبرًا بوالديه} أي بارًا لطيفًا بهما محسنًا إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى أعظم من بر الوالدين يدل عليه قوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا} الآية {ولم يكن جبارًا} الجبار المتكبر وقيل الذي يقتل ويضرب على الغضب، وقيل الجبار الذي لا يرى لأحد على نفسه حقًا وهو التعظيم بنفسه يرى أن لا يلزمه قضاء لأحد {عصيًا} قيل هو أبلغ من المعاصي والمراد وصف يحيى بالتواضع ولين الجانب وهو من صفات المؤمنين {وسلام عليه يوم ولد ويوم يوم يموت ويوم يبعث حيًا} معناه وأمان له من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وأمان له يوم يموت من عذاب القبر ويوم يبعث حيًا من عذاب يوم القيامة، وقيل أوحش ما يكون الخلق في ثلاث مواطن يوم يولد لأنه يرى نفسه خارجًا من مكان قد كان فيه، ويوم يموت لأنه يرى قومًا ما شاهدهم قط، ويوم يبعث لأنه يرى مشهدًا عظيمًا فأكرم الله تعالى يحيى في هذه المواطن كلها فخصه بالسلامة فيها.قوله: {واذكر في الكتاب} أي في القرآن {مريم إذا انتبذت} أي تنحت واعتزلت {من أهلها} أي من قومها {مكانًا شرقيًا} أي مكانًا في الدار ما يلي المشرق، وكان ذلك اليوم شاتيًا شديد البرد فجلست في مشرقه تفلي رأسها وقيل إن مريم كانت قد طهرت من الحيض فذهبت تغتسل، قيل ولهذا المعنى اتخذت النصارة المشرق قبلة {فاتخذت} أي فضربت {من دونهم حجابًا} قال ابن عباس أي سترًا وقيل جلست وراء جدار، وقيل إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينما هي تغتسل من الحيض قد تجردت، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه سوي الخلق فذلك.قوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا} يعني جبريل {فتمثل لها بشرًا سويًا} أي سوي الخلق لم ينقص من الصورة الآدمية شيئًا، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه، وقيل المراد من الروح روح عيسى جاءت في صورة بشر فحملت به والقول الأول أصح، فلما رأت مريم جبريل عليه السلام يقصد نحوها بادرته من بعيد {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا} أي مؤمنًا مطيعًا لله تعالى، دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وروعها.
|