فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{إِنَّ هَذِهِ} أي: علة التوحيد والاستسلام لمعبود واحد لا شريك له: {أُمَّتُكُمْ} أي: ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها. والخطاب للناس كافة: {أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: غير مختلفة. بل هي ملة واحدة. أي: أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد. كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام} [آل عِمْرَان: 19]، {وَأَنَا رَبُّكُمْ} أي: لا إله لكم غيري: {فَاعْبُدُونِ} أي: ولا تشركوا بي شيئًا.
تنبيه:
قلنا: إن الأمة هنا بمعنى الملة، وهو الدين المجتمع عليه، كما في قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23]، أي: على دين يجتمع عليه. والأمة بهذا المعنى هو ما رجحه كثير من المفسرين في هذه الآية، وفي آية: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51- 52]، وتطلق الأمة بمعنى الجماعة. كما هي في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي: جماعة [الأعراف: 181]. وكما في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عِمْرَان: 104]، ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقًا، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع، يعتبرون بها واحدًا، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة. وتطلق الأمة بمعنى السنين كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8]، وفي قوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، وبمعنى الإمام الذي يقتدى به، كما في قوله: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120]، وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عِمْرَان: 110]، وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة، على ما ذكرنا. وإنما خصصه العرف تخصيصًا. كذا حققه العلامة محمد عبده رحمه الله في تفسير آية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213].
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي: تفرق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به، ودعاهم إليه، فصاروا فيه أحزابًا ومللًا.
قال الزمخشري رحمه الله: والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات. كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه، إلى آخرين، ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله؟ والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا، كما يتورع الجماعة الشيء ويقتسمونه. فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلًا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقًا وأحزابًا شتى. ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة، إليه يرجعون. فهو محاسبهم ومجازيهم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي: فمن عمل من هؤلاء، الذين تفرقوا في دينهم، بما أمر الله به من العمل الصالح، وأطاعه في أمره ونهيه، وهو مقر بوحدانية الله، مصدق وعده ووعيده، متبرئ من الأنداد والآلهة، فلا كفران لسعيه، بل يشكر الله عمله هذا، ويثيبه ثواب أهل طاعته. وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ} أي: لسعيه المشكور: {كَاتِبُونَ} أي: مثبتوه في صحيفة أعماله، ولا نضيعه.
تنبيه:
الكفران مصدر من: كفر فلان النعمة كُفرًا وكفرانًا وأوثر لا كفران على لا نكفر للمبالغة. لأن نفي الجنس مستلزم له وأبلغ في التنزيه بعمومه. وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به. والآية كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}.
قد قدمنا معاني الأمة في القرآن في سورة هود. والمراد بالأمة هنا: الشريعة والملة. والمعنى: وأن هذه شريعتكم شريعة واحدة، وهي توحيد الله على الوجه الأكمل من جميع الجهات، وامتثال أمره، واجتناب نهيه بإخلاص في ذلك. على حسب ما شرعه لخلقه {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} أي وحدي. والمعنى دينكم واحد وربكم واحد، فلم تختلفون {وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} المعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه. فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب. تمثيلًا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقًا شتىاهـ.
وظاهر الآية أن تقطع متعدية إلى المفعول ومفعولها أمرهم ومعنى تقطعوه. أنهم جعلوه قطعًا كما ذكرنا. وقال القرطبي قال الأزهري: {وتقطعوا أَمْرَهُمْ} أي تفرقوا في أمرهم فنصب أمرهم بحذف في ومن إطلاق الأمة بمعنى الشريعة والدين كما في هذه الآية: قوله تعالى عن الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي على شريعة وملة ودين. ومن ذلك قول نابغة ذبيان:
حلفت فلم أترك في نفسك ريبة ** وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

ومعنى قوله: وهل يأثمن ذو أمة.. إلخ أن صاحب الدين لا يرتكب الإثم طائعًا.
وما ذكره جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: من أن الدين واحد والرب واحد فلا داعي للاختلاف. وأنهم مع ذلك اختلفوا وصاروا فرقًا أوضحه في سورة {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] وزاد أن كل حزب من الأحزاب المختلفة فرحون بما عندهم. وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} [المؤمنون: 51- 54]. وقوله في هذه الآية {زُبُرًا} أي قطعًا كزبر الحديد والفضة، أي قطعها. وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] أي كل فرقة من هؤلاء الفرق الضالين المختلفين المتقطعين دينهم قطعًا فرحون بباطلهم، مطمئنون إليه، معتقدون أنه هو الحق.
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع: أن ما فرحوا به، واطمأنّوا إليه باطل، كما قال تعالى في سورة المؤمن: {فَلَمَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 83- 84]، وقال: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّ هذه} هَذِه اسم أن وخبرها {أُمَّتُكُمْ}. وقوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} حال كما هو ظاهر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}.
{إنّ} مكسورة الهمزة عند جميع القراء، فهي ابتداء كلام.
واتفقت القراءات المشهورة على رفع {أمتُكم}. والأظهر أن الجملة محكية بقول محذوف يدل عليه السياق. وحذف القول في مثله شائع في القرآن. والخطاب للأنبياء المذكورين في الآيات السابقة. والوجه حينئذ أن يكون القول المحذوف مصوغًا في صيغة اسم الفاعل منصوبًا على الحال. والتقدير: قائلين لهم إن هذه أمتكم إلى آخره. والمقول محكي بالمعنى، أي قائلين لكلّ واحد من رسلنا وأنبيائنا المذكورين ما تضمنته جملة {إن هذه أمتكم}. فصيغة الجمع مراد بها التوزيع، وهي طريقة شائعة في الإخبار عن الجماعات.
ومنه قولهم: رَكب القوم دَوَابهم، فتكون هذه الآية جارية على أسلوب نظيرها في سورة المؤمنين.
وفيه ما يزيد هذه توضيحًا فإنه ورد هنالك ذِكر عدة من الأنبياء تفصيلًا وإجمالًا، كما ذُكروا في هذه السورة.
ثم عقب بقوله تعالى: {يأ أيّها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51] وأَنّ بفتح الهمزة وبكسرها {هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 52]، فظاهر العطف يقتضي دخول قوله تعالى: {وإنّ هذه أمتكم أمة واحدة} في الكلام المخاطب به الرسل، والتأكيد عن هذا الوجه لمجرد الاهتمام بالخبر ليتلقاه الأنبياء بقوة عزم، أو روعي فيه حال الأمم الذين يبلغهم ذلك لأن الإخبار باتحاد الحال المختلفة غريب قد يثير تردّدًا في المراد منه فقد يحمل على المجاز فأكد برفع ذلك.
وهو وإن كان خطابًا للرسل فإن مما يقصد منه تبليغَ ذلك لأتباعهم ليعلموا أن دين الله واحد، وذلك عون على قبول كل أمة لما جاء به رسولها لأنه معضود بشهادة مَن قبله من الرسل.
ويجوز أن تكون الجملة استئنافًا والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أي أن هذه الملة، وهي الإسلام، هي ملة واحدة لسائر الرسل، أي أصولها واحدة كقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا} [الشورى: 13] الآية. والتأكيد على هذا لردّ إنكار من ينكر ذلك مثل المشركين.
والإشارة بقوله تعالى: {هذه} إلى ما يفسره الخبر في قوله تعالى: {أُمتكم} كقوله تعالى: {قال هذا فراق بيني وبينك} [الكهف: 78].
فالإشارة إلى الحالة التي هم عليها يعني في أمور الدين كما هو شأن حال الأنبياء والرسل.
فما أفادته الإشارة من التمييز للمشار إليه مقصود منه جميع مَا عَليه الرسل من أصول الشرائع وهو التوحيد والعمل الصالح.
والأمة هنا بمعنى الملة كقوله تعالى: {قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22]، وقال النابغة:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبَة ** وهل يأثَمَنْ ذو أُمة وهو طائع

وأصل الأمة: الجماعة التي حالها واحد، فأطلقت على ما تكون عليه الجماعة من الدين بقرينة أن الأمم ليست واحدة.
و{أمة واحدة} حال من {أمتكم} مؤكدة لما أفادته الإشارة التي هي العامل في صاحب الحال.
وأفادت التمييز والتشخيص لحال الشرائع التي عليها الرسل أو التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى كونها واحدة أنها توحّد الله تعالى فليس دونه إله.
وهذا حال شرائع التوحيد وبخلافها أديان الشرك فإنها لتعدد آلهتها تتشعب إلى عدة أديان لأن لكل صنم عبادة وأتباعًا وإن كان يجمعها وصف الشرك فذلك جنس عام وقد أوما إلى هذا قوله تعالى: {وأنا ربكم}، أي لا غيري. وسيأتي بسط القول في عَربية هذا التركيب في تفسير سورة المؤمنين.
وأفاد قوله تعالى: {وأنا ربكم} الحصر، أي أنا لا غيري بقرينة السياق والعطف على {أمة واحدة}، إذ المعنى: وأنا ربكم ربًا واحدًا، ولذلك فرع عليه الأمر بعبادته، أي فاعبدون دون غيري.
وهذا الأمر مراعى فيه ابتداءً حال السامعين من أمم الرسل، فالمراد من العبادة التوحيد بالعبادة والمحافظة عليها.
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)}.
عطف على جملة {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92] أي أعرضوا عن قولنا.
و{تقطّعوا} وضمائر الغيبة عائدة إلى مفهوم من المقام وهم الذين مِن الشأن التحدّثُ عنهم في القرآن المكي بمثل هذه المذام، وهم المشركون. ومثل هذه الضمائر المرادِ منها المشركون كثير في القرآن. ويجوز أن تكون الضمائر عائدة إلى أمم الرسل.
فعلى الوجه الأول الذي قدمناه في ضمائر الخطاب في قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء: 92] يكون الكلام انتقالًا من الحكاية عن الرسل إلى الحكاية عن حال أممهم في حياتهم أو الذين جاءوا بعدهم مثل اليهود والنصارى إذ نقضوا وصايا أنبيائهم.
وعلى الوجه الثاني تكون ضمائر الغيبة التفاتًا.
ثم يجوز أن تكون الواو عاطفة قصة على قصة لمناسبة واضحة كما عطف نظيرها بالفاء في سورة المؤمنين. ويجوز كونها للحال، أي أمَرنا الرسل بملة الإسلام، وهي الملة الواحدة، فكان من ضلال المشركين أن تقطعوا أمرهم وخالفوا الرسل وعدلوا عن دين التوحيد وهو شريعة إبراهيم أصلهم. ويؤيد هذا الوجه أن نظير هذه الآية في سورة المؤمنين جاء فيه العطف بفاء التفريع.
والتقطع: مطاوع قَطّع، أي تفرقوا. وأسند التقطع إليهم لأنهم جعلوا أنفسهم فرقًا فعبدوا آلهة متعددة واتخذت كل قبيلة لنفسها إلهًا من الأصنام مع الله، فشبه فعلهم ذلك بالتقطع.
وفي جمهرة الأنساب لابن حزم: كان الحُصين بن عبيد الخُراعي، وهو والد عمران بن حُصين لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله: «يا حصين ما تعبد؟ قال: عشرة آلهة، قال: ما هم وأين هم؟ قال: تسعة في الأرض وواحد في السماء قال: فمَن لحاجتك؟ قال: الذي في السماء، قال: فمن لِطلْبَتِكَ؟ قال: الذي في السماء، قال: فمن لكذا؟ فمن لكذا؟ كُلّ ذلك يقول: الذي في السماء، قال رسول الله: فالغ التسعة».
وفي كتاب الدعوات: من سنن الترمذي: أنه قال: «سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء».
والأمر: الحال.
والمراد به الدين كما دل عليه قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم في} [سورة الأنعام: 159].
ولمّا ضُمن {تقطعوا} معنى توزّعوا عُدّي إلى {دينهم} فنصبَه، والأصل: تقطعوا في دينهم وتوزعوه. وزيادة {بينهم} لإفادة إنهم تعاونوا وتظاهروا على تقطّع أمرهم. فربّ قبيلة اتخذت صنمًا لم تكن تعبُدهُ قبيلة أخرى ثم سوّلوا لجيرتهم وأحلافهم أن يعبدوه فألحقوه بآلهتهم. وهكذا حتى كان في الكعبة عدة أصنام وتماثيل لأن الكعبة مقصودة لجميع قبائل العرب.
وقد روي أن عَمرو بن لُحيَ الملقب بخزاعة هو الذي نقل الأصنام إلى العرب.
وجملة {كل إلينا راجعون} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لجواب سؤال يجيش في نفس سامع قوله تعالى: {وتقطعوا أمرهم} وهو معرفة عاقبة هذا التقطع. وتنوين {كلٌّ} عوض عن المضاف إليه، أي كلّهم، أي أصحاب ضمائر الغيبة وهم المشركون. والكلام يفيد تعريضًا بالتهديد. ودلّ على ذلك التفريع في قوله تعالى: {فمن يعمل من الصالحات} [الأنبياء: 94] إلى آخره.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
فُرّع على الوعيد المعرض به في قوله تعالى: {كل إلينا راجعون} [الأنبياء: 94] تفريعٌ بديع من بيان صفة ما توعدوا به، وذلك من قوله تعالى: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء: 97] الآيات. وقدم وَعد المؤمنين بجزاء أعمالهم الصالحة اهتمامًا به، ولوقوعه عقب الوعيد تعجيلًا لمسرة المؤمنين قبل أن يسمعوا قوارع تفصيل الوعيد، فليس هو مقصودًا من التفريع، ولَكِنه يشبه الاستطراد تنويهًا بالمؤمنين كما سيُعتَنى بهم عقب تفصيل وعيد الكافرين بقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء: 101] إلى آخر السورة.
والكفران مصدر أصله عدم الاعتراف بالإحسان، ضد الشكران.
واستعمل هنا في حرمان الجزاء على العمل الصالح على طريقة المجاز لأن الاعتراف بالخير يستلزم الجزاء عليه عُرفًا كقوله تعالى: {وما تفعلوا من خير فلن تكفروه} [آل عمران: 115] فالمعنى: أنهم يُعطَون جزاء أعمالهم الصالحة.
وأكد ذلك بقوله: {وإنا له كاتبون} مؤكدًا بحرف التأكيد للاهتمام به. والكتابة كناية عن تحققه وعدم إضاعته لأن الاعتناء بإيقاع الشيء يستلزم الحفظ عن إهماله وعن إنكاره، ومن وسائل ذلك كتابته ليذكر ولو طالت المدة. وهذا لزوم عرفي.
قال الحارث بن حلزة:
وهَل يَنقض ما في المهارق الأهواء

وذلك مع كون الكتابة مستعملة في معناها الأصلي كما جاءت بذلك الظواهر من الكتاب والسنة. اهـ.