فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أي: عظيمًا منكرًا.
{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} استئناف لتجديد التعبير، وتأكيد التوبيخ، وتقرير لكون ما جاءت به فريًا. وهارون هو النبيّ الشهير، صلوات الله عليه يعنون أنها مثله في الصلاح. لأن الأخ والأخت يستعمل بمعنى المشابه كثيرًا.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا} منكرين لجوابها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} ولم يعهد تكليم عاقل لصبيّ في المهد. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)}.
لما اطمأنت مريم بسبب ما رأت من الآيات الخارقة للعادة التي تقدم ذكرها آنفًا- أتت به (أي بعيسى) قومها تحمله غير محتشمة ولا مكترثة بما يقولون، فقالوا لها: {يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}! قال مجاهد وقتادة وغير واحد: (فريًا) أي عظيمًا. وقال سعيد بن مسعدة: (فريًا) اي مختلفًا مفتعلًا. وقال أبو عبيدة والأخفش: (فريا) اي عجيبًا نادرًا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يفهم من الآيات القرآني أن مرادهم بقولهم {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أي منكرًا عظيمًا، لأن الفري فعيل من الفرية، يعنون به الزنى، لأن ولد الزنى كالشيء المفترى المختلق، لأن الزانية تدعي إلحاقه بمن ليس أباه. ويدل على أن مرادهم بقولهم (فريا) الزنى قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت، وجاءت بعيسى من ذلك الزنى (حاشاها وحاشاه من ذلك) هو المراد بقولهم لها: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} ويدل لذلك قوله تعالى بعده: {ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} والبغي الزانية كما تقدم. يعون كان أبواك عفيفين لا يفعلان الفاحشة، فمالك أنت ترتكبينها!! ومما يدل على أن ولد الزنى كالشيء المفترى قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] قال بعض العلماء: معنى قوله تعالى: {يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} أي ولا يأتين بولد زنى يقصدن إلحاقه برجل ليس أباه، هذا هو الظاهر الذي دل عليه القرآن في معنى الآية. وكل عمل أجاده عامله فقد فراه لغةن ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر:
قد أطعمتنى دقلا حوليا ** مسوسًا مدودًا حجريا

قد كنت تفرين به الفريا

يعنى تعملين به العمل العظيم. والظاهر أنه يقصد أنها تأكله أكلًا لما عظيمًا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {يا أخت هَارُونَ} ليس المراد به هارون بن عمران أخا موسى كما يظنه بعض الجهلة. وإنما هو رجل آخر صالح من بني إسرائيل يسمى هارون. والدليل على أنه ليس هارون أخا موسى ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحة: حدثنا أبو بكر بن شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو سعيد الأشج، ومحمد بن المثنى الغنزي. واللفظ لابن نمير قالوا: حدثنا ابن إدريس عن أبيه، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون {ياأخت هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: «إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين منهم» اهـ، هذا لفظ مسلم في الصحيح. وهو دليل على أنه رجل آخر غير هارون أخي موسى، ومعلوم أن هارون أخا موسى قبل مريم بزمن طويل. وقال ابن حجر في (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف) في قول الزمخشري: إنما عنوا هارون النَّبي ما نصه: لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند، ورواه الطبري عن السدي قوله وليس بصحيح. فإن عند مسلم والنسائي والترمذي عن المعيرة بن شعبة قال: بعثني النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي: أرأيتم شيئًا يقرؤونه {يا أخت هارون} وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين، فلم أدر ما أجيبهم؟ فقال لي النَّبي صلى الله عليه وسلم: «هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم» وروى الطبري من طريق ابن سرين: نبئت أن كعبًا قال: إن قوله تعالى: {ياأخت هَارُونَ} ليس بهارون أخي موسى، فقالت عائشة: كذبت؟ فقال لها: يا أم المؤمنين، إن كان النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم، وإلا فأنا أجد بينهم ستمائة سنة- انتهى كلام ابن حجر.
وقال صاحب الدر المنثور في قوله تعالى: {ياأخت هَارُونَ}: أخرج ابن أبي شيبة، وأحم د وعبد بن حميد، ومسلم والترمذي والنسائي، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن حبان والطبراني، وابن مردوية والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران.. إلى آخرا لحديث كما تقدم أنفًا. وبهدا الحديث الصحيح الذي رأيت إخراج هؤلاء الجماعة له، وقد قدمناه بلفظه عند مسلم في صحيحه- تعلم أن قول من قال: إن المراد هارون أخو موسى باطل سواء قيل إنها أخته، أو أن المراد بأنها أخته أنها من ذريته، كما يقال للرجل: يا أخا تميم، والمراد يا أخا بني تميم، لأنه من ذرية تميم. ومن هذا القبيل قوله: {واذكر أَخَا عَادٍ} [الأحقاف: 21]، لأن هودًا إنما قيل له أخو عاد لأنه من ذريته، فهو أخو بني عاد، وهم المراد بعاد في الآية لأن المراجد بها القبيلة لا الجد. وإذا حققت أن المراد بهارون في الآية غير هاورن أخي موسى، فاعلم أن بعض العلماء: قال: إن لها أخًا اسمه هارون. وبعضهم يقول: إن هارون المذكور رجل من قولها مشهور بالصلاح، وعلى هذا فالمراد بكونها أخته أنها تشبهه في العبادة والتقوى. وإطلاق اسم الأخ على النظير المشابه معروف في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله تعالى: {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} [الإسراء: 27] الآية، وقوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202]، ومنه في كلام العرب قوله:
وكل أخ يفارقه أخوه ** لعمر أبيك إلا الفرقدان

فجلع الفرقدين أخوين.
وكثيرًا ما تطلق العرب اسم الأخ على الصديق والصاحب، ومن إطلاقه على الصاحب قول القلاخ بن حزن:
أخا الحرب لباسا إليها جلالها ** وليس بولاج الخوالف أعقلا

فقوله: (أخا الحرب) يعنى صاحبها. ومنه قول الراعي وقيل لأبي ذؤيب:
عشية سعدي لو تراءت بدومة ** تجر دونه وحجيج

قلى دينه واهتاج للشوق إنها ** على النأي إخوان العزاء هيوج

فقوله: (إخوان العزاء) يعني أصحابا لصبر.
قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}.
معنى إشارتها إليه: أنهم يكلمونه فيخبرهم بحقيقة الأمر. والدلي على أن هذا هو مرادها بإشارتها إليه قوله تعالى بعده: {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيًّا} فالفعل الماضي الذي هو (كان) بمعنى الفعل الماضرع المقترت بالحال كما يدل عليه السياق. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}.
دلت الفاء على أنّ مريم جاءت أهلها عقب انتهاء الكلام الذي كلّمها ابنها.
وفي إنجيل لوقا: أنها بقيتْ في بيت لحم إلى انتهاء واحد وأربعين يومًا، وهي أيام التطهير من دم النّفاس، فعلى هذا يكون التّعقيب المستفاد من الفاء تعقيبًا عرفيًا مثل: تزوّج فوُلد له و{قَوْمَهَا}: أهل محلتها وجملة {تَحْمِلُهُ} حال من تاء {أتت} وهذه الحال للدلالة على أنها أتت معلنة به غير ساترة لأنها قد علمت أن الله سيبرئها ممّا يُتهم به مِثل من جاء في حالتها.
وجملة {قالُوا يامَرْيَم} مستأنفة استئنافًا بيانيًا وقال قومها هذه المقالة توبيخًا لها. وفَرِيّ: فعيل من فَرَى من ذوات الياء. ولهذا اللفظ عدّة إطلاقات، وأظهر محامله هنا أنه الشنيع في السوء، قاله مجاهد والسدّي، وهو جاءٍ من مادة افتَرى إذا كذب لأن المرأة تنسب ولدها الذي حملت به من زنى إلى زوجها كذبًا. ومنه قوله تعالى: {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} [الممتحنة: 12]. ومن أهل اللغة مَن قال: إن الفريّ والفرية مشتقان من الإفراء بالهمز، وهو قطع الجلد لإفساده أو لتحريقه، تفرقة بين أفرى وفَرى، وأن فرى المجرد للإصلاح. والأخت: مؤنث الأخ، اسم يضاف إلى اسم آخر، فيطلق حقيقة على ابنة أبوي ما أضيفت إلى اسمه أو ابنة أحد أبويه. ويطلق على من تكون من أبناء صاحب الاسم الذي تضاف إليه إذا كان اسم قبيلة كقولهم: يا أخا العرب، كما في حديث ضيف أبي بكر الصديق قوله لزوجه: (يا أخت بني فراس ما هذا؟)، فإذا لم يذكر لفظ (بني) مضافًا إلى اسم جد القبيلة كان مقدّرًا، قال سهل بن مالك الفزاري:
يا أخت خير البدو والحضارة ** كيف تَرَيْن في فتى فزارة

يريد يا أخت أفضل قبائل العرب من بدوها وحضرها.
فقوله تعالى: {يا أُخْتَ هارُونَ} يحتمل أن يكون على حقيقته، فيكون لمريم أخ اسمه هارون كان صالحًا في قومه، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ، أي ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك، وهذا أظهر الوجهين.
ففي (صحيح مسلم) وغيره عن المغيرة ابن شعبة قال: «بعثني رسول الله إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تَقرؤون {ياأُخْتَ هارُونَ} ومُوسى قبلَ عيسى بكذا وكذا؟ قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، فلما قدمتُ على رسول الله ذكرت ذلك له، فقال: ألم يعلموا أنهم كانوا يُسمُّون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم» اهـ.
ففي هذا تجهيل لأهل نجران أن طعنوا في القرآن على توهم أن ليس في القوم من اسمه هارون إلاّ هارون الرسول أخا موسى.
ويحتمل أن معنى {ياأُخْتَ هارُونَ} أنها إحدى النساء من ذريّة هارون أخي موسى، كقول أبي بكر: يا أخت بني فراس. وقد كانت مريم من ذرية هارون أخي موسى من سبط لاوي.
ففي إنجيل لوقا كان كاهن اسمه زكرياء من فرقة أبِيّا وامرأتُه من بنات هارون واسمها إليصابات، وإليصابات زوجة زكرياء نسيبة مريم، أي ابنة عمّها، وما وقع للمفسرين في نسب مريم أنها من نسل سليمان بن داوود خطأ.
ولعل قومها تكلموا باللفظين فحكاه القرآن بما يصلح لهما على وجه الإيجاز.
وليس في هذا الاحتمال ما ينافي حديث المغيرة بن شعبة.
والسّوْء بفتح السين وسكون الواو: مصدر ساءه، إذا أضرّ به وأفسد بعض حاله، فإضافة اسممٍ إليه تفيد أنه من شؤونه وأفعاله وأنه هو مصدر له.
فمعنى {امْرَأَ سَوْءٍ} رَجلَ عمل مفسد. ومعنى البغي تقدّم قريبًا.
وعنوا بهذا الكلام الكناية عن كونها أتت بأمر ليس من شأن أهلها، أي أتت بسوء ليس من شأن أبيها وبغاء ليس من شأن أمّها، وخالفت سيرة أبويها فكانت امرأة سوء وكانت بغيًا؛ وما كان أبوها امرأ سوء ولا كانت أمها بغيًا فكانت مبتكرة الفواحش في أهلها.
وهم أرادوا ذمّها فأتوا بكلام صريحه ثناء على أبويها مقتض أن شأنها أن تكون مِثل أبويها.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)}.
أي أشارت إليه إشارة دلّت على أنها تُحيلهم عليه ليسألوه عن قصته، أو أشارت إلى أن يسمعوا منه الجواب عن توبيخهم إياها وقد فهموا ذلك من إشارتها.
ولما كانت إشارتها بمنزلة مراجعة كلام حكى حِوارهم الواقع عقب الإشارة بجملة القول مفصولةً غير معطوفة.
والاستفهام: إنكار؛ أنكروا أن يكلموا من ليس من شأنه أن يتكلم، وأنكروا أن تحيلهم على مكالمته، أي كيف نترقب منه الجواب أو كيف نلقي عليه السؤال، لأن الحالتين تقتضيان التكلم.
وزيادة فعل الكون في {مَن كَان في المَهدِ} للدلالة على تمكن المظروفية في المهد من هذا الذي أحيلوا على مكالمته، وذلك مبالغة منهم في الإنكار، وتعجب من استخفافها بهم.
ففعل (كان) زائد للتوكيد، ولذلك جاء بصيغة المضي لأن (كان) الزائدة تكون بصيغة الماضي غالبًا.
وقوله: {في المَهْدِ} خبر مَن الموصولة. و{صَبِيًّا} حال من اسم الموصول. و(المَهْدِ) فراش الصبي وما يمهد لوضعه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}.
ونعجب للسيدة مريم، فبدلَ أن تخجل مما حدث وتستتر بوليدها عن أعيُن الناس، أو تنتقل به إلى مكان آخر في فيافي الأرض إذا بها تحمله، وتذهب به، وتبادر به قومها، وما كانت لتفعل ذلك وتتجرأ عليه إلا لثقتها في الحجة التي معها، والتي ستوافيها على يد وليدها.
لذلك لما سأل بعض المستشرقين الإمام محمد عبده رحمه الله في باريس: بأيِّ وجه قابلتْ عائشة قومها بعد حديث الإفْكِ؟ سبحان الله إنهم يعلمون أنه إفْكٌ وباطل، لكنهم يرددونه كأنهم لا يفهمون.
فأجاب الشيخ رحمه الله ببساطة: بالوجه الذي قابلتْ به مريم قومها وهي تحمل وليدها. أي: بوجه الواثق من البراءة، المطمئن إلى تأييد الله، وأنه سبحانه لن يُسْلِمها أبدًا؛ لذلك لما نزلتْ براءة عائشة في كتاب الله قالوا لها: اشكري النبي، فقالت: بل أشكر الله الذي برأني من فوق سبع سموات.
فلما رآها القوم على هذه الحال قالوا فيها قولًا غليظًا: {يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] فريًا: الفَرْيُ للجلد: تقطيعه، والأمر الفري: الذي يقطع معتادًا عند الناس فليس له مثيل، أو من الفِرْية وهو تعمد الكذب.
ثم قالوا لها: {يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ}.
قولهم لمريم: {ياأخت هَارُونَ} [مريم: 28] هذا كلام جارح وتقريع ومبالغة منهم في تعييرها، فنسبوها إلى هارون الذي سُمِّي على اسم النبي، فأنتِ من بيت صلاح ونشأت في طاعة الله، فكيف يصدر منك هذا الفعل؟ كما ترى أنت سيدة محجبة يصدر منها في الشارع عمل لا يتناسب ومظهرها فتلومها على هذا السلوك الذي لا يُتصوّر من مثلها.
وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: 28] الرجل السوء هو الذي إنْ صحبْتَه أصابك منه سوء، ونالك بالأذى {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] قلنا: إن البَغيَّ: هي المرأة التي تبغي الرجال وتدعوهم إليها، فالمراد: من أين لك هذه الصفة، وأنت من أسرة خَيِّرة صالحة؟
وفي هذا دليل على أن نَضْج الأُسَرِ يؤثر في الأبناء، فحين نُكوِّن الأسرة المؤمنة والبيت الملتزم بشرع الله، وحين نحتضن الأبناء ونحوطهم بالعناية والرعاية، فسوف نستقبل جيلًا مؤمنًا واعيًا نافعًا لنفسه ولمجتمعه.
إذن: فقولهم: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] اتهام صريح لمريم، وتأكيد على أنها وقعتْ في محظور وكأنهم مصرون على رَمْيها بالفاحشة. ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ}.
أي: حين قال القوم ما قالوا أشارتْ إلى الوليد وهي واثقة أنه سيتكلم، مطمئنة إلى أنها لا تحمل دليل الجريمة، بل دليل البراءة.
فلما أشارتْ إليه تقول لقومها: اسألوه، تعجَّبُوا: {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيًّا} [مريم: 29] ونلاحظ في قولهم أنهم لم يستبعدوا أنْ يتكلّمَ الوليد، فلم يقولوا: كيف يتكلم مَنْ كان في المهد صبيًا؟ بل قالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ} [مريم: 29] أي: نحن، فاستبعدوا أنْ يكلموه، فكأنهم يطعنون في أنفسهم وفي قدرتهم على فَهْم الوليد إنْ كلَّمهم.
والمهد: هو المكان الممهد المعَدّ لنوم الطفل، لأن الوليد لا يقدر أن يبعد الأذى عن نفسه، فالكبير مثلًا يستطيع أنْ يُمهد لنفسه مكان نومه، وأن يُخرِج منه ما يُؤرِّق نومه وراحته، وعنده وَعْي، فإذا آلمه شيء في نومه يستطيع أنْ يتحلَّل من الحالة التي هو عليها، وينظر ماذا يؤلمه. اهـ.